إلى دجلة ومعصوم وأحمد، بكل المرارة، وأيضاً بكل الحب..

هنا في مقهى الهاشمية في مدينة أورفا التركية تجد «مين ما بدّك، ومثل ما بدك». سوريون أكراد وعرب وتركمان وآشوريون ويزيديون، حسكاويون وديريّون، وأكثرية رقاوية، وأيضا أتراك. علمانيون وإسلاميون، دواعشٌ ونصرة وأحرار شام وبِكِكي، مثقفون وإعلاميون، وأيضاً أشخاصٌ من جماعة النظام. وحتى من الشهداء الأحياء، والشهداء الأحياء مصطلحٌ يُطلق على بعض الثوار الذين يريدون أن يتخلّصوا من ملاحقة تنظيم الدولة، فقاموا بفبركة قصص عن استشهادهم.

هنا في المقهى تجد أيضاً منظمات، وجامعي معلومات، وأيضاً مخابراتٌ من كل الدنيا. وهناك في تلك الزاوية تجد طالبي الهجرة غير القانونية إلى أوربا، وسماسرة تهريب البشر.

أجلسُ في إحدى زوايا المقهى بانتظار مضيفيّ. وَصَلَ أحمد أولاً حاملاً بيده علبةً من مخملٍ أحمر، وأحمد سوري عربي، يعمل مدرساً للغة الفرنسية، وهو في الثلاثين من عمره. وبعد دقائق وَصَلَ معصوم ودجلة، وهما أخوان سوريان كرديان، وجيران أحمد في حارة الجسر بمدينة تل أبيض، الحارة ذات الأغلبية الكردية. نشأ الثلاثة سوية، وتربوا سوية، ودرسوا سوية.

كالعادة، كلما التقى سوريون كان الشأن العام، والمقارنة بين الـ«هنا» والـ«هناك» محور الأحاديث، على الرغم خصوصية لقاء اليوم.

بدأوا باسترجاع ذكرياتهم عن بدايات تهجيرهم، واستلم أحمد دفّة الحديث أولاً:

لأن تل أبيض الآن هي محور الحدث، سأنقل لكَ أحداثاً كنتُ شاهداً مجبراً عليها كما كثيرين. بَدأَت الأحداثُ يوم 12/7/2013 في مدرسة قرية اليابسة (4 كم غربي تل أبيض)، وهي قريةٌ سكانها كرد بالكامل. اعتقلت قوات الحزب (يقصد هنا القوات العسكرية للحزب الديمقراطي PYD ) خلف الذياب الحلوس «أبو مصعب»، أمير تنظيم الدولة في تل أبيض، الذي كان يتفاوض مع أحد القادة العسكريين للحزب يدعى شيار، وهو «قنديلي» (اسم يُطلق على المقاتلين الكرد القادمين من جبال قنديل).

هنا تُروى روايتان عن عملية اعتقال أبو مصعب، وعن مفاوضاته، وعن معنى وجوده  لوحده في قرية اليابسة أصلاً.

تقول الرواية الأولى: تقدمت قواتُ الحزب سريعاً من تل الدكل 15 كم غربي تل أبيض إلى قرية اليابسة المذكورة قبل قليل، وترافق هذا التقدم مع نشر قناصين في حارة الليل، وحي الجسر في تل أبيض. قَتلَ هولاء القناصون عنصرين من تنظيم الدولة أمام منزل محمد عزت، وهو أحد مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردي. أحد القتيلين يدعى أحمد العكال، والثاني لا أذكر اسمه. سَرَت شائعةٌ في المدينة أن الحزب الديمقراطي PYD سيأخذ تل أبيض خلال  ساعتين، ما جعل أبو مصعب يتصل بشيار، الذي تربطه به علاقاتٌ وتَنسيقٌ مسبق. يتفق أبو مصعب وشيار على موعد ومكان اللقاء، ويصرّ أبو مصعب على الذهاب وحده للتفاوض.

الرواية الثانية ليست بعيدة عن الأولى، ولكن كَثُرتِ الأقاويلُ التي ترى أنّ في الأمر «إنّ». تقول الرواية الثانية: إن الحزب والتنظيم كانا على اتفاقٍ مسبق، وأنهما، عبر القنديلي وأبو مصعب اتفقا على خلط الأوراق، ولكلٍ منهما غاياته. وقتها كان هناك تسريبات أن مسؤولين من تنظيم الدولة والحزب الديمقراطي الكردي يُعِدّان شيئاً ما. الحزب للجغرافيا، والتنظيم للجيش الحر وحركة أحرار الشام، الفصيل الأقوى في المنطقة في  ذلك الوقت.

تمَّ اللقاء في قرية اليابسة في الموعد المحدد، ظهيرة يوم 12/7/2013، ولا تنسَ أنَ أبو مصعب كان وحيداً بلا مرافقين ولا صحبة! كان خمسةٌ من قادة الحزب موجودين برئاسة شيار.

سرى خبرُ إلقاء القبض على أبو مصعب، وحَشَد تنظيم الدولة قواته في قرية الطويحينة (3كم غربي تل أبيض) والمقابلة لقرية اليابسة. جمّعونا وحشدونا  كدرعٍ بشري، ثلاث وستون مدنياً كردياً تم اعتقالهم من الشوارع ومن بيوتهم، وأخذوني معهم من بيتي لأن بيتنا كما أسلفت في حارة  ذات غالبية كردية. لم أقل لهم أنني عربي، ولم أحاول، ولا فكرت أن أحاول. أردتُ أن أكون مع أبناء حارتي وإخوتي.

وُجِّهَت مدافعُ الدبابات باتجاه مدرسة اليابسة، ووُزِّعَت قوات مناصري الدولة من الكتائب المحلية في تشكيلٍ قتالي. وحضر أبو أنس التونسي وأبو ياسر العراقي ومصطفى العمر، الملقب بـ «التمساح»، وهم الصف الأول من أمنيي التنظيم في تل أبيض. وكانوا يسحبون شخصاً معصوب العينين، ومكبّلَ اليدين للخلف. فكّوا قيده، ورفعوا العصابة عن عينيه، فعرفناه، إنه علاء اسماعيل شيخو الذي يُعدُّ والده أحد أهم أمنيي حزب الـPYD في تل أبيض. أعطوه هاتفاً خليوياً، و طلبوا منه أن يتحدث مع شيار باللغة الكردية، وكان أكثر من سلاح مصوباً إلى رأسه، وطبعاً أنا أفهم الكردية وأتكلمها.

قال علاء في الهاتف لشيّار: التنظيم اعتقل أربعمئة شخص من كرد تل أبيض، وسيقوم بإعدامهم إذا لم تفرجوا عن أبو مصعب. تمام… تمام. ما إن أنهى علاء جملته الأخيرة حتى جرَّه أبو ياسر العراقي بعد أن شدَّ وثاقه مرة أخرى، وتمتم هو وأبو أنس والتمساح بحديثٍ على جنب،  وغادر، وهنا نادى أبو أنس التونسي على أبو مصعب على القبضة اللاسلكية:

– أبو مصعب، أبو مصعب!

– معاك شيخ!

-إننا نحتسبك عند الله شهيداً.. تشهّد على روحك، سوف نقوم بقصف المدرسة بالدبابات الآن!

صَمَتَ الجميع، وجاء صوت أبو مصعب من الطرف الآخر: أيّ شهادة شيخ، الله يرضى عليك! طوّل بالك شيخ، ما زلنا نتفاوض!

نادى أبو أنس التونسي مرةً أخرى: أبو مصعب معاكم خمس دقائق تنهون القصة، وبعدها سوف نقوم بالرمي، ونحتسبك عند الله شهيداً!

مرةً أخرى أصاغ الجميع السمع، وجاء صوت أبو مصعب: شيخ أنا لا أريد أن أكون شهيداً، مو وقتها… طولة البال من الرحمن شيخي!

وفعلاً تم إطلاق سراح أبو مصعب، وسراح أكثرنا، على أن نغادر المدينة مباشرةً.

بدأ معصوم حديثه: أنا من عائلةٍ بسيطة، أربع بنات وأنا أخوهنَّ الوحيد، وأمي وأبي. عائلتي عاشت هنا مثل كل الناس قبل حتى أن يولد حافظ أسد أو أوجلان أو البغدادي، سُجنت عام 2004 عند الأمن العسكري رغم صغر سني أثناء أحداث قامشلو دون أن أعرف السبب، على الرغم من أن تل أبيض لم يحدث فيها انتفاضة. أعمل في مجال الحدادة واللحام، ربما لا تعرف أنني أنا الذي صنّعت أكثر قواعد الرشاشات الثقيلة للجيش الحر عندما دخل تل أبيض لأول مرة، وتربطني بهم علاقات جيدة، مثلهم مثل كل جيراني من أرمن وتركمان وعرب، وهذا ليس كلامي وحدي، والدليل المناسبة التي نحضرها اليوم، وأشار إلى دجلة وأحمد.

«أنا كمان بدي أحكي جزء من القصة، مو بس إنتو ياشرقيين ماتعطوا حق للمرأة في الكلام!»، قالتها دجلة، طالبة السنة الثالثة في كلية الآداب مازحةً، ثم تابعت:

كان أبي وأمي يتوضآن لصلاة العشاء، وكنا جمعياً في «الحوش» عندما نُودي في كل جوامع المدينة، وفي التوقيت نفسه: «إلى كل الكرد، بأمر من الدولة الإسلامية في العراق والشام. معكم حتى صلاة الصبح للخروج من المدينة!»، كُرِرَ النداء ثلاث مرات، وقعت المنشفة من يدي قبل أن أعطيها لوالدي الذي أنهى وضوءه تواً.

تبادلنا نظرات الذهول، ولكن أبي أخذ زمام المبادرة وهو يمد سجادته لصلاة العشاء: اللي مايخاف من الله خاف منو! جهزوا أموركم بسرعة فهؤلاء الوحوش يفعلون ما يقولون!

ركضتُ خلف أمي إلى غرفتها، حيث فَتَحتْ صندوقها الخشبي بمفتاح يتدلى من حزامها، وطلبت مني أن أنزع ثوبي. لفّت على بطني حزاماً مطاطياً وَضَعت به أوراقنا الثبوتية وحجة البيت وحجة محل أخي وأساورها الذهبية التي تحتفظ بها من يوم عرسها. ألبستني أكثر من ثوب، ووضعت ثياباً لها ولوالدي في حقيبة كبيرة، وطلبت مني ومن أخي معصوم الذي كان يجلس على الدرج حاضناً وجهه بكفيه أن نستعجل.

بدأ إطلاق نارٍ كثيفٍ جعل أخي يتعجّل ويرتبك، أما أبي فَلم ينهِ صلاته الطويلة عادةً، كان عناصر التنظيم يطلقون النار في الهواء ومن كل أنواع الأسلحة، ويركلون أبواب البيوت والمحلات لإرهاب الناس واستعجالهم بالخروج، واختلط صوت الرصاص مع الصراخ والعويل وبكاء الاطفال.

«يا ملاحدة! يا كفار! يا مرتدين، إلى جبالكم، هيا هيا من هنا!»، كان مشهداً رهيباً، استمرت الإهانات وانهمار الرصاص والبكاء في سيمفونية رعبٍ لا يمكن تخيلها.

دسَّ أبي مفاتيح البيت وغُرَفه بيد أبو أحمد، وبنظرة واحدة تفاهم جارا العمر. أوصت أمي أم أحمد أن تسقي زريعات الريحان. ركبنا مع والدي صندوقَ شاحنة أخي، وانطلقنا في رتلٍ كبير تودّعنا دموعُ جيراننا الذين بقوا.

في اليوم التالي، يقول أحمد، فتح أبي بيتَ أبو معصوم وطلب مني ومن أختي، وهي أرملة شهيد استشهد بقصف براميل النظام في الرقة أن نسكن البيت، وحذَّرنا من أن نستخدم أي غرفةٍ أو غرضٍ غير الغرفة التي فتحها هو بيده. وظل يردد مرات ومرات: هذه أمانة، والجبال لاتحتملها، وأهل هذا البيت أهلنا!

بعد قليل بدأت حملة تفتيشٍ وتعفيشٍ ممنهجة بقيادة التمساح، أولاً لمحلات الكرد بالسوق. يرافقه مجموعة من عناصر التنظيم، ومعهم أيضاً لصوصٌ من أهالي المدينة تعمَّد التنظيم إشراكهم في حملته.

لماذا؟

شوف..لا يوجد مجتمع كامل أو أفلاطوني، وفي كل مجتمع يوجد الخيّر والسيء، وبحسب السلطة التي تحكمه وأهدافها. إما أن تُظهر الخيرين وتجعلهم يسودون، أو أن تُظهر السيئين وتطلق أيديهم ليعيثوا فساداً وخراباً، وهذا ماطبَّقه التنظيم في تل أبيض، وأنت تعرف أن السيئين كانوا موجودين و…كثيرين!

يوم 23/7/2013 جاءت دورية إلى بيت أبو معصوم، ولكنني رفضت دخولهم البيت، فَلم يحاولوا أكثر معي، وتابعوا تعفيش بقية البيوت.

ذهب أبي وقدَّم شكوى إلى شرعييّّهم، ووعدوه بأن يسلموه البيت بشكلٍ رسمي، وطلبوا منه أن يتصل بي لكي يسلموني البيت رسمياً، وما إن وصلت حتى اعتقلوني وطردوا والدي. تسعة أيام في الاعتقال، رأيت فيها النجوم في عز الظهر. وتضاحكَ: وفي عز العصر أيضاً، لكنني لم أرها في الليل أبداً!

عندما خرجت، كانوا قد نهبوا البيت كاملاً، وكانت زرعات الريحان قد يبست. لا أحد يعرف كم شخصاً اعتقل، كم شخصاً ذهب إلى جوف الهوتة، ولكن الجميع يعرفون أن تل ابيض فقدت كثيراً من سوريتها.

ثلاثة أيام، وجاؤوا يسألون عني مرة أخرى، فهربتُ وعبرتُ الحدود ليلاً إلى تركيا.

يسرح معصوم بفكره، ويقول كمن يكلم نفسه: أوقفتنا جميع الحواجز، وكانوا يطلقون فوقنا الرصاص ويدقّقون في هوياتنا ويعتقلون كثيراً من الشباب، كان نهرٌ من السيارات يمتد لكيلومترات. أخيراً وصلنا إلى بيت عمتي في كوباني/عين العرب. هناك انهارَ والدي وأجهش بالبكاء. احترم الجميع بكاءه، وكانت أول مرةٍ أرى دموع والدي.

تقول دجلة: حاولتْ عمتي مراراً أن تقنع أبي بأن تخطبني لابنها، ولكن أبي كان يصدّها دائماً ويقول: أعطيت كلمتي لأبو أحمد. هل تريدين يا أختي كسر كلمتي؟ وحتى بنات عمتي اللواتي لا يعرفن العربية يستغربن خطبتي لشخص من «دائيش». تعذبتُ كثيراً معهن حتى أقنعتهن أن ليس كل العرب داعش!

عندما تقدمت قوات بركان الفرات من غرب تل أبيض، وقوات الحماية من الجهة الشرقية، عقدنا العزم أنْ نقيم عرسنا في أول يوم تتحرر المدينة ويطرد منها الدواعش، ولكن القصص التي بدأت تنتشر عن ممارسات القوات المهاجمة جعلتنا نتريث.

يكمل أحمد: ومع ذلك، وبسبب حماستي الزائدة وتلهفي وغيابي لما يقارب السنتين، قررت العودة الفورية مهما يكن الثمن. دَخلت قوات الحماية تل أبيض يوم 15/6/2015، وعُدتُ أنا إلى تل أبيض في 18/6/2015 من النقطة ذاتها التي عبرتها قبل سنتين. كان بيتنا كما عهدته ولكن لا روح فيه، والحارة كأنها حارة أشباح، وفي الشارع الرئيسي الخالي أصلاً من أهله يتجوّل أناسٌ أغراب، وحتى اللغة غريبة، فهي ليست كالكردية التي أعرفها. واسم مدينتي صار اسماً آخر، تماماً مثلما غيرت داعش اسم عين العرب/كوباني إلى «عين الإسلام». أحسست أن فرحتي وبهجتي في طرد داعش تغيض وتختفي، يحسبون أنهم بتغيير الاسم يغيرون روح المكان!

في صباح اليوم التالي حضرت إلى حارتنا قوة مسلحة يقودها اسماعيل شيخو، والد علاء الذي خابر شيار أثناء اعتقال أبو مصعب. أخرجتنا القوة خارج منازلنا، و«عفّشوه» أمام أعيننا. خمسة بيوت لعرب الحيّ. وكانوا يصرخون بنا: يا دواعش! يا مجرمين! إلى خلافتكم، إلى صحرائكم!

سمعت مثل هذا الكلام قبلاً، ولكنني لم أكن احتجّ خوفاً ورعباً. والآن قررت الاحتجاج، فعفشوني مع أغراض البيت، وسجنت لمدة ثلاثة أيام. وأيضا كانت نجوم النهار هي الحاضرة على حساب نجوم الليل، ومرةً أخرى من تل فندر غربي تل أبيض عبرت إلى تركيا. إنهم يتشابهون، كلهم يتشابهون.

تقول دجلة: أنا ومعصوم وأنت وكل هولاء (وأشارت بيدها إلى الموجودين في المقهى جميعاً)، سيأتي يوم ونرجع إلى سوريتنا التي حلمنا بها.

تحدثنا كثيراً، وانضمّ إلينا كثيرٌ من الأصدقاء، وتوسعت حلقتنا، وانضمت طاولات أخرى إلى طاولتنا، وانتابني شعورٌ أن شيئاً ما سيحدث.

يبدو أن أحمد ودجلة ومعصوم قد أعدوا لمشهدٍ تكرره الحياة كثيراً: فجأة، أخرج أحمد علبة المخمل الحمراء، فتحها، وألبس دجلة خاتم الخطبة وسط بهجة وابتسامات الحاضرين الذين باغتتهم المناسبة، وشتّتتْ مشاعرهم هنا وهناك. ساد صمتٌ وابتساماتٌ لثوانٍ، قبل أن ينفجر الجميع بالصخب والتهاني.