في الرابعة صباحاً، كانت سيارة البيجو التي أجاد الرجل شرشَحَتها تنطلق مسرعةً على طريق اللاذقية دمشق حين لاح أول حاجز عسكري على الطريق. التفت إليَّ الرجل الذي تعهد تأمين خروجي من سورية وقال بابتسامة خفيفة: «ارتفع الأدرينالين؟»، وانفجرَ بضحكةٍ واثقة قبل أن يستعيد وجهُهُ ملامح الجديّة التامة مع عناصر الحاجز. يمد لهم بطاقته باطمئنان، فيسمحون له بالمرور دون أن يكترثوا بي. وقبل أن ينطلق مجدداً، يخرج رأسه من السيارة ليمسح وجوه بقية عناصر الحاجز ويقول بجدية ونبرة من يردد شعاراً: «الله محيي الشباب». تبتعد السيارة عن الحاجز فيتمتم الرجل كأنه يكلم نفسه: «مو حرام؟ وين آخرتها مع هالولد؟»، يفاجئني قوله وأفكر «هل يقصد..؟»، بسرعة يلتفت إليَّ كَمَن داهمته فكرةٌ ويقول بصوت مرتفع: «أخي المنطقة تلات حصص، ما إلنا فيها شي. حصة لإيران وحصة لتركيا وحصة لإسرائيل والسلام». وحين لم يجد بي رغبة للحديث، راح يدندن بصوت منخفض: «اطلبني ع الموت بلبيك».
إلى جانب كولبةٍ صغيرة يوقف الرجل سيارته، يلقي «صباح الخير» ويطلب فنجانيّ قهوة. يأخذ قطعة بسكويت من كرتونة معروضة أمام الكولبة ويقدمها لي ضاحكاً: «ستحتاج إلى الطاقة». لم تَرُق لي هذه الجملة، تسببت بتشاؤمي. كان القلق يعيث فساداً في رأسي طوال الوقت ويلجمني عن الكلام، غير أني حاولت التملص من قلقي، فسألته، وأنا أشرب القهوة معه مسنودين كلانا إلى السيارة، لماذا لا يستخدم سيارة أفضل من هذه. «لهذه السيارة محركٌ ممتاز، أعتني به جيداً وهذا هو المهم، ولكن يجب أن يبقى شكلها الخارجي هكذا كي لا يطمع بها أحد من أولاد الشرموطة الذين نمرُّ بهم على الطريق في كل مكان» قال. ثم أضاف: «السيارة الحديثة تقتلني، أما هذه فهي السيارة المناسبة للسفر هذه الأيام، من سيطمع بسيارةٍ ذات دهانٍ مقبع وزجاجٍ مكسور ومرايا جانبية مثبتة بلاصقٍ شفاف؟».
مرة أخرى نقترب من حاجزٍ عسكري، يُخفِّفُ الرجل السرعة ويُخرِجُ من جيب قميصه عدة بطاقات ليختار البطاقة الأنسب. «ما عاد تعرف الحاجز لأي فرع تابع» تمتم وهو مشغول باختيار البطاقة. كان المرور سهلاً، لم يكترث أحدٌ بي ولم يطلب أحدٌ هويتي، فقط اقترب عنصران من السيارة بعد أن دقّقا النظر في بطاقة الرجل وألقيا نظرة على من وما في السيارة، ثم: «الله محيي الشباب»، وتابعنا طريقنا. دمشق تقترب وتصبح مهمة قلبي أكثر صعوبة، زوجتي وطفلاي الآن على طريق بيروت، وأنا على طريق دمشق للحصول على موافقة سفرٍ ولو لمرة واحدة كي ألتحق بهم هناك، بعد أن اقتربت مني أفواه الزنازين تشتهي ما تَرَكَت لي من سنواتٍ في عمري.
دائماً ممنوعٌ من السفر، لم يُسمح لي من قبلُ بالسفر حتى إلى السعودية لتنفيذ عقد عملٍ كطبيب. قالوا في اللاذقية عليك مراجعة دمشق. المراجعة روتينية، قال لي أصحاب التجارب من أصدقائي الممنوعين من السفر مثلي. راجعتُ ذلك المبنى الذي يشبه الهرمَ المقلوب في كفرسوسة، أمشي بقدمين تسيران إلى الأمام ورأسٍ يريد الرجوع إلى الخلف من هول ذاك المبنى الذي يثير القشعريرة في نفوس السوريين، مبنى المخابرات العامة أو «أمن الدولة». ولكن عبثاً. بمراجعة وبدون مراجعة الأمر سيان. هكذا هو الحال في الجمهورية الوراثية السورية، يمنعونك من العمل في المشافي، ويمنعونك من السفر للعمل في الخارج. هكذا هو الحال، عليك أن تتعلم كيف تمارس العبودية وتسميها حريةً، ذاك اشتقاقٌ آثمٌ من فكرة الألوهية نفسها، وتلك هي الخيمياء السحرية التي تحيل الوطن إلى منفى.
«المرور من حرستا محفوف بالخطر، لا بأس من المرور عن طريق التل وإن طالت المسافة قليلاً»، فكَّر الرجل بصوتٍ عال. لاحَ أمامنا رتلٌ طويلٌ من السيارات، «إنه حاجز الفرقة الرابعة» قال. تدبَّر أمره مع الحاجز رغم غياب الضابط الذي تربطه به علاقة وكان يأمل وجوده على الحاجز.
نصل إلى كفرسوسة، الهرم المقلوب الأحمر مرة أخرى. «اتكل ع الله»، قال الرجل بعد أن ركن سيارته قرب الدوّار وأراح مقعده إلى الخلف أكثر كي يستلقي من تعب الطريق. شربتُ بلعة ماء من عبوة بلاستيكية سخَّنتها الشمس، ومشيت. بعد سنواتٍ طويلة تخللتها ثلاث سنوات من انتفاضة السوريين ضد أسياد هذا الرعب المجسد على شكل هرم مقلوب، والأهم أن هذه السنوات الثلاث تضمنت تفجيراً استهدف هذا المبنى بالذات، طرأت تغيراتٌ كثيرة لدواعي أمن «أمن الدولة». كتلٌ اسمنتية تمنع مرور السيارات، كولبات حراسة وتفتيش تغطي مئات الأمتار قبل الوصول إلى المبنى، كاميرات مراقبة ظاهرة في كل مكان ..الخ. في التاسعة صباحاً أدخلُ ذاك الصرح الذي كان عناصره يهنئون بعضهم بعضاً بفوز رئيسهم في الانتخابات، مستبدلين كلمة صباح الخير بعبارة «مبروك النصر». أدخلُ عبر ممراتٍ ضيقة تصنعها الكتل الإسمنتية. وفي السابعة مساء أخرج من صرح الإذلال ذاك بعد «معالجةٍ» طويلة قوامها الانتظار والإشعار بانعدام القيمة. «هذه هي بلدك» قالها الرجل حين لاحظ الإرهاق والقلق على وجهي. ربما أراد مواساتي غير أن حرف الكاف ذاك سقط في أذني كشتيمة.
إذا استثنينا غنيمة الإياب، لم أخرج سوى بوعدِ إرسال برقيةٍ إلى قسم الهجرة والجوازات في المرجة تسمح لي بالسفر لمرة واحدة. تنفست أخبار عائلتي التي كانت قد دخلت لبنان.اتجهت إلى مبنى الهجرة والجوازات. كان الموظف المسؤول عن استلام البرقيات مشغولاً بإصلاح مروحة أرضية وهو في قميص شيال أسود، كان ضحوكاً وطيباً ومتعاطفاً. «لا تقلق أخي، وعد مني مجرد ما وصلت البرقية بحولها فوراً لمبنى الهجرة والجوازات ع الحدود»، قالها بلهجة شامية أصيلة، وتابع: «إذا ما بتحب نشرب كاسة شاي سوا، اتكل على الله وسافر، لبين ما توصل ع الحدود بتكون وصلت البرقية بإذن الله».
مشيتُ على نصيحته، وصلت الحدود ولكن البرقية لم تصل. الوقت الذي كسبناه على الطريق بفضل شطارة السائق بالدخول وسط سيارات موكبٍ يحتفل «بفوز الرئيس» ويرفع أعلام حزب الله، مما ساعدنا على المرور عبر الحواجز دون توقف، خسرنا أضعافه في انتظار برقيةٍ قد لا تصل.
لأول مرةٍ أرى بيروت، وكان حظي أن تكون رؤيتي الأولى لبيروت في منتصف الليل. لم أكن يوماً مغرماً بالازدحام وضجيج المدن الكبيرة، مع ذلك كان شعوري وسط زحمة بيروت وأصواتها وأضوائها وشوارعها الضيقة شبيهاً بشعوري حين خَطَوتُ خارج سجن تدمر العسكري المشؤوم. كما كانت عصا العقوبات والجوع والبرد والضرب العشوائي الذي يمكن أن يتسبب بعطبٍ دائم، مرفوعةً دائماً فوق رأسي في سجن تدمر، كذلك كانت عصا الاستدعاءات الأمنية والاعتقال وشتى صنوف التمييز السلبي مرفوعة دائماً فوق رأسي ورأس أسرتي في سجن «سوريا الأسد».
بعد كل ذلك، يبقى هناك كثيرٌ من ألم الضمير الذي يحتاج إلى كتاباتٍ أخرى.