أُجبِر السوريون على أن يعيشوا كما لا يستحقون، كما لا يستحقّ أحد. كان عليهم أن يبنوا لأنفسهم هوامشاً تسمح لهم بممارسة حياة يعلمون أنّ لا قيمة لها عند حكامهم، ولا عند حكّام العالم. لم يمت السوريون بكثرةٍ فحسب، بل واجهتهم ميتاتٌ كثيرة، من القنص إلى القصف، والموت تحت التعذيب، والموت جوعاً تحت الحصار.. والموت غرقاً في البحار، أو اختناقاً في البرادات الصناعيّة. ميتاتٌ بأنواعٍ كثيرة، ولكن أيضاً شَهِدوا موتاً متعدد الأزمنة: بعضهم، كالمغيّبين القسرّيين، يموتون ويعودون للحياة مرّاتٍ عديدة في اليوم، في قلوب وعقول أحبائهم؛ وبعضهم الآخر، معتقلون ومخطوفون قضوا شهداءً تحت التعذيب أو بسبب ظروف الاعتقال، يموتون كلَّ مرةٍ يصل لذويهم خبرٌ عنهم، بين الحيرة في يقين الخبر ومصداقيته من عدمها، وكلّ مرة تصلهم وثائقهم أو أغراضهم على يد الأجهزة الأمنية أو على يد سماسرة اقتصاد الاعتقال. ليس هذا موتاً كاملاً، فالأهل محرومون من الوداع الأخير والقبر والدفن والعزاء، وهي الطقوس التي تُساعدهم على تلقّي الصدمة واستيعابها في نفوسهم، وتفتح لهم شبكات المواساة والتضامن المجتمعية، لتعينهم على تحمّل مصابهم وتحميهم من الإحساس بالوحدة الخانقة.
يعود أهل الفقيد وأحبابه إلى حاضرهم تدريجياً، مع بقاء صدمة الفقد خلفهم بالتدريج نفسه. يصبح الفقيد ماضياً، ماضٍ لا يُنسى، وأيضاً لا يُغتفر.. ماضٍ يعود المرء إليه عبر ذكريات يقوم بترتيبها وتوضيبها ومسح الغبار عنها مراتٍ ومرات. يختلط الماضي بالحاضر بقسوة وألم حين لا يكون الموت مدفوناً باكتمال عناصره، وحين يكون قادراً على إرجاع الصدمة، والعودة بالأحباب إلى درجة الصفر. تلك كانت معاناة أهالي عددٍ كبير ممن ظهرت صور أحبابهم شهداءَ تحت التعذيب ضمن تسريبات «قيصر» حين نُشرت قبل أشهر، إذ كان بينهم من يعلم أن ابنه أو أخاه أو صديقه قد استشهد تحت التعذيب منذ أشهر، وأحياناً منذ سنة أو أكثر، لكن رؤية صورته كانت موتاً جديداً.
لم يُنتهك حقّ السوريين بألا يُقتلوا فحسب، بل عانوا أيضاً من حيفِ ألا يكون موتهم لحظياً، وألا يكون موتهم كاملاً ومدفوناً. الموت قاسٍ لمرّة واحدة، ومُجرمٌ إن تكرّر أكثر من مرّة.
*****
حمود الموسى شابٌ من الرقة، لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره بعد. كان حمّود طالباً في السنة الأولى في كلّية الحقوق في الحسكة (التابعة لجامعة الفرات) حين اندلعت الثورة، وسُرعان ما انخرط في النشاط الإعلامي والمدني في الرقة. اعتُقل حمّود على يد أجهزة النظام الأمنية لفترةٍ وجيزة نهاية عام 2012 بتهمة التظاهر، وخرج من الاعتقال بكفالةٍ ماليّة.
بقي حمّود في الرقة بعد خروج النظام منها أوائل آذار عام 2013، وشهد مراحل سيطرة الكتائب المسلّحة عليها، ثم ظهور داعش ونموّها التدريجي حتى سيطرتها الكاملة على المدينة بعد معركةٍ طاحنة مع الفصائل الأخرى في بداية عام 2014. قبل تلك المعركة بأسابيع قليلة كان حمّود قد قرَّر، أسوةً بعددٍ كبير من الناشطين الشباب في المدينة، الخروج منها نحو تركيا. كانت داعش قد بدأت بخنق الحراك المدني منذ بداية صيف عام 2013، حيث خطفت عدداً من الناشطين البارزين في الحراك الثوري في المدينة مثل ابراهيم الغازي وفراس الحاج صالح، كما كانت قد خطفت الأب باولو دالوليو بعد أن وصل زائراً إلى المدينة في نهاية تموز واستُقبل بمظاهرةٍ حاشدة، ثم أُشيرَ إلى داعش كمسؤولةٍ عن تصفية الناشط مهند حاج عبيد، المعروف بين ناشطي الثورة باسم «مهند حبايبنا»، في تشرين الأول.
في مدينة غازي عينتاب، التمركز الأهم للسوريين في الجنوب التركي، ساهم حمّود في إطلاق حملة الرقة تُذبح بصمت الإعلاميّة، وتفرّغ للعمل فيها. تحوّلت الحملة إلى موقع إخباري، باللغتين العربية والانكليزية، يُعنى بشؤون الرقة ومعاناة أهلها من ممارسات داعش الإجرامية على الأرض، ومن قصف النظام لها من السماء، وحققت رواجاً كبيراً خلال أشهرٍ، إذ يصل عدد متابعيها على الفيسبوك إلى أكثر من 67000 متابع، وعلى تويتر إلى أكثر من 23000 متابع، ولقيت الأخبار التي تنشرها حضوراً في وسائل الإعلام العربية والدولية. في صفحة «من نحن» على موقعها على الانترنت، تُقدِّم الحملة نفسها على أنها «صفحة إعلامية مدنية مستقلة، لا تتبع لأي جهة عسكرية أو سياسية»، وتُعرِّف عن عملها بأنه «فَضحُ وتسليط الأضواء على واقع محافظة الرقّة، التي تقع الآن تحت ظلم تنظيم داعش والنظام معاً، واللذان يمارسان بحق أهلها الجرائم والانتهاكات بشكل دوري».
في السادس من نيسان الماضي، علِم حمّود أن والده، محمد الموسى، قد اقتيد على يد عناصر داعش من محل الموبايلات الذي كان يديره في شارع الوادي، وسط مدينة الرقة، إلى أحد مراكز الاعتقال التابعة للتنظيم. محمد الموسى من مواليد عام 1966، وكان يعمل موظفاً في المركز الثقافي في مزرعةِ يعرب في ريف الرقّة. خلال الثورة، كان بيته قد تحوّل، على يد ابنه الناشط، إلى غرفة إعلامية تتابع النشاطات الثورية في المدينة، كما يُشهد له أنه ساعد عدداً كبيراً من المتظاهرين على الهروب من عناصر الأمن والشبيحة. شارع الوادي، حيث كانت تُقيم العائلة، وحيث كان الوالد قد فتح محلاً لبيع أجهزة الموبايل، كان أحد نقاط التظاهر الرئيسية في المدينة، خصوصاً في قسمه الشمالي.
كما يحدث عادةً عند احتجاز داعش لأحد أهالي المدينة، قدَّمت مكاتب التنظيم معلوماتٍ متضاربة للمراجعين من أقرباء ووسطاء حاولوا الاستفسار عن مصير محمد الموسى، ففي حين أخبرهم مكتب العشائر أنَّ لا تُهم خطيرة بحقّه، مطمئناً بأنه سيخرج بعد أيام قليلة عقب انتهاء التحقيق معه، أفاد المكتب الأمني بالضد، مُشيراً إلى أن المُحتجز هو «عميلٌ للتحالف»، وأن على السائلين عنه أن ينسوه تماماً. بدأ الابتزاز الداعشي بعد أيامٍ قليلة، ويرويه حمّود: «بعد انتهاء التحقيقات المزعومة تواصل معي أحدهم على الواتس أب، وعرَّف عن نفسه بأنه أبو قتادة، مسؤول التواصل في التنظيم. ملخص الحديث الذي دار بيننا هو أنه عرض عليّ مقايضة حياة والدي مقابل تسليمه ثلاثة مراسلين لحملة الرقّة تُذبح بصمت، وبعد رفضي لهذا العرض، أعادَ الاتصالَ بعد خمسة أيام وعرض عليّ مجدداً مقايضة حياة والدي بتسليمه ثلاثة نشطاء يعملون لصالح جهة مقرّبة منّا، ورفضت العرض الثاني أيضاً. حينها أخبرني أبو قتادة أن عليّ أن أترقّب مشاهدة والدي في إصدار». تُسمّي داعش مقاطع الفيديو التي تنشرها على الانترنت إصدارات، ولكلّ إصدار عنوان، وكأنه فيلم سينمائي قصير.
اعتبر حمّود الرسالة الأخيرة التي تلقّاها من أبو قتادة إخطاراً باستشهاد والده، الذي كان قد مرَّ على خطفه سبعة وسبعون يوماً حين أتت رسالة أبو قتادة الأخيرة. أقامت العائلة عزاءً باستشهاد الوالد. لكن الكابوس لم ينتهِ هنا. يقول حمّود: «كنا نحاول أن نخرج من هذه الصدمة بالتدريج، لكن سرعان ما عادت داعش، عن طريق جيش الخلافة الالكتروني، بإرسال الرسائل عبر تويتر تتهمني بخيانة المسلمين. وبعدها بأيام ظهر الإصدار الأول ليُعيد جرحنا إلى نقطة البداية».
يقصد حمّود بالإصدار الأول مقطع فيديو بعنوان «هم العدو فاحذروهم» نشرته داعش على الانترنت في السادس من تموز الماضي. يحتوي الفيديو، وسط إفراطٍ في المؤثرات الصوتية والبصرية والضوئية الهولييودية، ما يُفترض أنها اعترافات بُشر السعدو وحسين حبيب، وهما ناشطان ثوريان في أوائل العشرينات من عمرهما، بالقيام بتصوير مقرّات داعش ومناطق مختلفة من المدينة لصالح حملة الرقة تُذبح بصمت، وأيضاً بتوزيع منشورات كفريّة. في نهاية الفيديو، وبعد إظهار تنفيذ حكم الإعدام بالشابين بالرصاص، يظهر محمد الموسى، والد حمّود الموسى، وقد أُلبس بدوره الزيّ البرتقالي، للحظاتٍ وجيزةٍ كافية ليقول في وجه الكاميرا «أنا محمد الموسى الجاسم».
أثار هذا الإصدار ألماً كبيراً في أوساط أهل الرقة، وخصوصاً الناشطين الثوريين بينهم. أولاً لأنه يُظهر إعدام زميلين في مقتبل العمر بطريقة وحشية، يُزيدها إسفافاً كمية المؤثرات التقنية التي استُخدمت في إنتاج التسجيل، وكأن القَتلة يتمرّغون بسعادةٍ وتفننٍ في دماء ضحاياهم، وأيضاً لأنه بدا واضحاً أن الإصدار يستهدف حمّود الموسى، عبر إظهار والده في نهاية التسجيل بعد أن تمّ ذكر اسمه ضمن المقطع على أنه مصدر الكاميرات الخفية التي استخدمها الشابان في عملهما. إعدام بُشر السعدو كان له وقعٌ إضافي أيضاً، حيث أنه لم يكن أول شهداء عائلته، فشقيقه محمد كان قد استُشهد أواسط أيار عام 2013. كان «حمودي السعدو» ناشطاً ثورياً محبوباً، وتطوّع بعد خروج النظام من الرقة كمُسعفٍ في إحدى المجموعات الطبية التي تشكّلت ضمن الجهود لإنشاء جسم دفاعٍ مدني في المدينة، واستُشهد على يد عنصرٍ تابع لكتيبة أحمد ياسين التابعة للواء أمناء الرقة أثناء قيام الكتيبة باقتحام أحد المنازل بحثاً عن مطلوبين. ادّعت الكتيبة أن القتل حصل بالخطأ، ووعدت بمحاسبة القاتل، لكن ظروف القتل لم تتضّح أبداً، وسرعان ما انحلّت الكتيبة مع انحلال لواء أمناء الرقة خلال الأسابيع التالية.
بعد هذا الإصدار الأول بدأ العزاء من جديد، وعادت محاولات التأقلم مع فكرة استشهاد الأب إلى نقطة الصفر، مع إحساسٍ ثقيل ومؤلم بأنه ما زال للكابوس بقيّة. «انتهى إصدار الموت هذا، وبدأت حرب الأعصاب»، يقول حمّود.
دامت حرب الأعصاب هذه حوالي أربعين يوماً، تحديداً حتى الخامس عشر من آب الماضي، حين نشرت داعش الإصدار الخاص بإعدام محمد الموسى. يقول حمّود عن هذه المحطة الأخيرة: «قبل نشر الإصدار الثاني بثلاثة أيام، بدأت الحسابات الموالية لداعش على شبكات التواصل الاجتماعي بترويج صورة لوالدي، مقتطعة من الإصدار الأول، وقد كُتب عليها «هم العدو فاحذرهم 2» في إشارةٍ منهم لقرب صدور الجزء الثاني من الإصدار. في تلك الليالي الثلاث حاولت أن أفعل أيّ شيء لنسيان تلك الصورة. في اليوم الثالث، فاجأتني رسالةٌ من صديقي تسألني إن كنت قد شاهدت الإصدار الجديد، فسألته حينها، بقلبٍ ميّت، إن كان أبي موجوداً في الإصدار، وعندما أكّد لي ذلك سألته دون وعيٍ عن نوع الإعدام، فأخبرني بأنه استُشهد كسابقيه بطلقة في الرأس».
حمّل حمّود الفيديو وشاهده. ربما كان يحاول إغلاق دائرة الموت لمرّة واحدة وإلى الأبد. لم أسأله عن سبب مشاهدته الفيديو، أو إن كان قد احتار قبل اتخاذ قرار مشاهدته، فَرِوايته لتلك اللحظة سبقت السؤال، ونَفَت معناه: «بعد تحميل الإصدار ومشاهدته للمرّة الأولى، انزاح عن قلبي كل ما حصل خلال فترة اعتقال والدي حين نطق بالشهادة هو ومن معه قبل قتلهم. تحوَّل الحزن إلى فرح.. والدي اليوم شهيدٌ أفتخر به».
لا شكَّ أن في داخل حمّود كمٌّ هائل من القوّة والعزيمة ساعدته على مواجهة دائرة الموت هذه، وأعانته على اجتياز مراحلها البطيئة والثقيلة والمؤلمة. لم يتوقف عن العمل أبداً، بل اعتبر أن المشهد الأخير لوالده على قيد الحياة رسالةٌ له تدفعه للاستمرار والثبات: «كانت الشهادة على شفتيه رسالةٌ بألا تستسلم.. تابع طريقك. كنت أعتقد أن استشهاد والدي سيكون الضربة التي ستنهي حياتي، لكن نُطق الشهادة أعاد لي حياتي من جديد»، مُنهياً روايته لقصته بالتأكيد: «عدتُ أصلب من قبل، أقوى من قبل!».