لم تكن المرأة الخمسينية المُنمّشةُ الوجه تحسُّ بنا، فقد كانت في ملكوتٍ بعيد، وكأنها تتحدث إلى أحدٍ آخر غير موجود. وقعتْ كأسٌ من النافذة على الأرض بفعل انغلاق درفة النافذة الزجاجيّة، ولم تخرج عن إطار ضوء الشمس حيث تسبح آلاف الذرات: «دايما أشوفهن، أنتم ما تشوفونهن يابا!».

هكذا كانت بداية لقائي مع «جميلة» العراقية، القادمة من رحم معاناة «بني آدميات»، كما تقول، وتضيف إنهن موجودات هناك في «الثقب الأسود».

عَملتُ كاتبة نفوس في السجل المدني في الموصل لمدة 33 سنة، «ما صار بي نصيب، وما تجوزت». عندما دخل تنظيم الدولة إلى الموصل في حزيران عام 2014، نَزحتُ مع زميلة عمل أيزيدية إلى قرية كوجو (25 كم جنوبي سنجار)، هناك عِشتُ معهم شهرين تقريباً، ولكن القَدرَ أبى إلا أن يرسم لي ولأهالي المنطقة مصيراً قاسياً ومؤلماً.

حاصرت قوات داعش قرية كوجو لمدة عشرة أيام، واشترطت لفك الحصار أن يُعلِن أهل القرية إسلامهم. كان رجال القرية ومختارها في حالة اجتماعٍ دائم لمناقشة التطورات وإرسال المفاوضين، وقرَّروا في النهاية بأكثريتهم رفضَ طلبِ داعش، واقترحوا حلاً بديلاً هو ترك أموالهم وممتلكاتهم على أن يسمحوا بالخروج الآمن لأهالي القرية بثيابهم فقط. توترت الأمور، وقرَّرت مجموعةٌ من الأهالي الخروج، وكانت معهم أربعة عشر عائلة، جلُّها نساءٌ وأطفال. كان ذلك ظهر يوم 13 آب 2014. سَقَت الأمهاتُ أطفالهن منوماً مع الحليب، ولم يكن معنا سوى هاتفين خليويين أخفتهن فتياتٌ داخل صدورهن، وثيابنا التي نلبسها، والماء الذي حمله الشباب.

رافقنا تِسعةُ شُبَّانٍ ليدلّونا على الطريق. دخلنا قناة ريّ جافة يغطي جوانبها نبات الزل والبردي. كانت درجة الحرارة والرطوبة لا تطاق، وكانت أيدي الأمهات على أفواه أطفالهن خوفاً من أن يستيقظوا ويبدأوا بالصراخ. مشينا ربما نصف ساعةٍ عندما ظهر عناصر التنظيم، أحاطوا بنا من كل اتجاه، أخرجونا من القناة، وفصلوا الشباب عنا. نادوا بقبضات اللاسلكي على سيارات، وسريعاً ما حضرت. أَمرونا بالصعود إلى الشاحنة، وأعادوا الشباب إلى القناة بعد أن طلبوا من الفتية أن ينزعوا قمصانهم، وأن يرفعوا أيديهم للأعلى، وكلُّ من له شعرٌ تحت إبطه أنزلوه في قناة الري. أخذوا خمس فتيةٍ صغار لأن شعراً نبت تحت آباطهم. ألحقوهم بالشباب، وعندما تحركت بنا السيارات سمعنا إطلاق نار كثيف من قلب القناة.

سارتْ بنا الشاحنات حوالي نصف ساعة، ثم توقفت في مكان يكتظ بـ«خلقٍ» كثيرين كانوا قد أتوا بهم قبلنا. أركبونا في باصات بيضاء كبيرة مكتوبٌ عليها بخط أزرق «حج»، وكان كلُّ قائد مجموعة حريصاً على أن يكون أسراه معاً في باص واحد، وكان هناك شخص مكلّف بتسجيل الأعداد واسم قائد المجموعة، سُجّلت مجموعتنا تحت اسم «أبو القعقاع الحضرمي». كان مجموعنا واحداً وستين طفلاً وامرأة وفتاة، وأُلحق بمجموعتنا ستّ نساء من قرية الحاتمية.

تحتبس الكلمات على طرف لسانها: «رفضوا أن يعطونا الماء»، والباصات دون «برادي» أو تكييف.

وصلنا قبل الغروب إلى مطار تلعفر، وهناك كان كل قائد مجموعه ينتظر أسراه، حيث تم فصل الأطفال الذكور الذين تتجاوز أعمارهم ثماني سنوات، وأخذوهم إلى مكان آخر، وحصلت مناحةٌ وبكاء وعويل أسكتوها بالرصاص، والله العظيم بالرصاص. وقُتلت أمٌّ تدعى «وردة»، قتلتْ وهي تحضن ولدها وهم يحاولون أن يفصلوه عنها. ثم فصلوا كل الإناث اللواتي تتجاوز أعمارهنَّ الستين، وهكذا بقينا ستاً وثلاثين أنثى، بيننا صغيراتٌ طبعاً، وسبعة أطفال ذكور دون ثماني سنوات. بتنا ليلتنا في مطار تلعفر، وفي الصباح جاء باصٌ شبيه بباصنا الأول. طلبوا منا الوقوف، وبدأوا  بتفتيشنا، وصادروا كل الذهب والمال، وكذلك الهاتفين الخلويين، وصورونا منفردين وأعطونا أرقاماً، وهنا، هنا، سمعتُ أول مرةٍ كلمة «سبايا»، وكانت الساعة بحدود العاشرة من صباح 14 آب 2014.

سارَ الباص بنا تُرافقنا سيارة «بيك أب» أمامنا، وسيارة مثلها مركّب عليها رشاش خلفنا، في طريقٍ مقفر لا نعرف وجهتنا، أو إلى أين سيأخذوننا. توقفنا مرتين في الطريق لقضاء الحاجة، كانوا يصرّون أن يكون المكان لا ساتر له، وأجبرونا على التبول أمامهم. اخترعنا طريقة لستر التي تتبول، نقف ثلاثةً أو أربعةً كحائط صدٍ لمن تقضي حاجتها، وكانت المشكلة الأكبر عند من كنَّ يلبسن بنطالاً.

أعطوا كلاً منا وجبةً واحدة، هي عبارة عن سندويشة وقنينة ماء تغلي من حرارة الجو.

دخلنا مساءً مدينة كبيرة فيها أضواء وشوارع عريضة تتوسطها أشجار نخيل، جال بنا الباص إلى أن دخل بناءً له سورٌ حديدي، وأمامه ساحةٌ واسعة، وكان الأطفال فرحين يتقافزون من نافذة لأخرى. توقف الباص وأحاطت بنا مجموعة من الملثمين الذين خفرونا إلى داخل البناء، ثم نزلوا بنا درجاً بطابق واحدٍ تحت الأرض، كانت الغرف على الطرف الأيسر. أدخلونا قاعةً كبيرة جدارها الأمامي عبارةٌ عن قضبانٍ حديدية، وفي زاويتها فُرشٌ كثيرة وأغطية. أغلقوا الباب الحديدي المكشوف على رواق طويل أمامه، ورحلوا. بدأنا باستكشاف الصالة، كان في عمق الصالة بابٌ آخر يفضي إلى مطبخ صغيرٍ وثلاث دورات مياه، كان هذا كنزاً كبيراً في تلك اللحظات.

نام الجميع من التعب. كنت و«غُلشا»، صديقتي الإيزيدية، حريصتين على المناوبة بيننا، نغطي هذه ونوقظ تلك على بكاء طفلها، وجاء ملثمون عدة مراتٍ ليتفرجوا علينا من وراء القضبان، وكأننا حيواناتٌ في قفص، يتمتمون فيما بينهم، ثم ينصرفون. لا أعرف كيف نمت، وصحوتُ على صوت أحد الملثمين ينادي علينا «يا سبايا، يا سبايا»، وهو يسحب بندقيته على قضبان الحديد لتصدر صوتاً قوياً. كان قد أحضر كميةً من الصابون والشامبو والفُوَط النسائية، وكذلك حفاضات الأطفال.

طَلَب من الجميع الاستحمام خلال ساعتين، وأغلق الباب خلفه. استحمَّت بعض النساء، ورفضت بعضهن الأخريات ذلك، وساعدنا الأمهات على غسل أطفالهنّ، ثم جيء لنا بطعام، وكان واضحاً أن أحداً أكل منه قبلنا. عافت الفتيات الأصغر سناً الأكل، حاولنا أنا والنساء الأكبر عمراً أن نسيطر على التذمر ورفض الطعام، وأغرينا الأطفال بأن يأكلوا، ونجحنا.

سمعنا صوت أذان لم نعرف لأي وقت من أوقات الصلاة عندما دخلت علينا ثلاث نساء مقنعات، يحملن بنادق. إحداهن تحمل كاميرا، والأخريات يحملن دفاتر وأوراقاً، بالإضافة إلى خمسة حرّاس. طلبت منهم إحدى النساء المقنعات أن يغلقوا الباب الخارجي آخر الممر الطويل، وأن لا يسمحوا لأحد بالدخول سوى «أبو عبدالله الأمني»، كما طلبت منهم أن يحضروا طاولةً وخمسة كراسي. وما إن أُغلق الباب بعد أن أحضروا الكراسي حتى خلعت الثلاثة عباءاتهن، فإذ بهن نسوةٌ مثلنا! واحدة منهن كانت تتحزّم بحزام ناسف. ساد لدينا شعور بالارتياح، فهنّ نسوة، ومن المفترض أن لديهن أطفالاً وعائلات. نظرت الرئيسة إلينا بينما كانت أنظارنا شاخصة باتجاهها، وما إن سمحت بالحديث حتى انطلقنا جميعاً نلغط بشرح قصتنا، ونتقدم بحماسٍ وهيبة تجاههن، وفجأةً أطلقت إحداهن طلقةً في الهواء أجبرتنا على التراجع ونحن نتعثر ببعضنا بعضاً، وبالأطفال. ثم أمرتنا الرئيسة أن نركع على ركبنا، وتحدثت بعربيةٍ فصحى مكسرة، كان واضحاً أنها لم تكن عربية. سألتنا إن كنا نتحدث العربية، فانبريتُ أنا وقلت لها إن الغالبية لا يتحدثنّ العربية. قالت: وأي لغة تتحدثون أيها الكافرون؟ قلت: «الكردية، ولكن يمكنني أن أترجم لهن، وأنا أتكلم الإنكليزية كذلك». تحدثت معي بالانكليزية، وشرحتُ لها، بناءً على طلبها، قصتنا من أولها حتى اللحظة.

طلبت من الجميع أن يصطففنّ كلٌ مع عائلتها، بدايةً من الأكبر عمراً إلى الأصغر، وتم التصوير والتسجيل على هذا الأساس. ولأنّ لا عائلة لي اصطففتُ وحدي، وتفاجأت «أم ليث»، الرئيسة، أنني مسلمة سنيّة. سألت من أتى بك؟ وهل أنت زوجة أحد الصحوات وووو… أكثرت عليّ الأسئلة التي تخلط بها العربية مع الإنكليزية. جاوبتها بإنكليزية واضحة، واستمعت إليّ جيداً، وأصدرت حكمها بأنني سبيّة مثل السبايا الأخريات. ساعدها بإصدار فتواها أبو عبدالله الأمني، الذي كان قد حضر قبل قليل: «من ساعد الكفار ولو ببرية قلم فهو منهم»، ومع ذلك اعتمدوني مترجمة.

صُنّفت الإناث حسب المجموعات العمرية، من 12 إلى 18سنة مجموعة، من 19 إلى 25 مجموعة، من 26 إلى 30 مجموعة، من 31 إلى 40 مجموعة، من 41 إلى 50 مجموعة، ومن 51 فما فوق مجموعة.

تم تصويرنا حسب المجموعات، وأعطونا أيضاً أرقاماً، ثم صورونا واحدةً واحدة، وأيضاً الأطفال، وتم فصل الإناث ما دون 12 سنة والأطفال من 3 إلى 8 سنوات. لك أن تتخيل ما حدث وهم يأخذون الأطفال من أحضان أمهاتهم! لن تتخيل ولا يمكن لأحد أن يتخيل أن هناك أناساً بهذه القسوة. لم ترقَّ قلوبهم لبكاء الأمهات، ولا لصراخ الأطفال الذين لا ذنب لهم بكل ما يحصل بين الكبار. أخرجوا الأطفال وذهب الجميع، وبقي الصمت والألم والكثير من البكاء والقهر… تعرف شو يعني قهر؟

هززتُ رأسي بالإيجاب، ولكنها لم تكترث، وتابعت:

خسرنا أربع طفلات أكبر من خمس سنوات وأقل من اثنتي عشر سنة، وستة أطفال أكبر من ثلاث سنوات وأصغر من ثمانية. وبقي لدينا أربعة أطفال ذكور ما دون الثلاث سنوات، وأربع طفلات ما دون الخمس سنوات.

لا نعرف الوقت إلا من الأذان، هذا أذان الصبح، هذا الظهر، وهكذا، كانت حساباتي مبنيةً حسب الفاصل الطويل بعد صلاة العشاء. إن كانت حساباتي صحيحة، فنحن قضينا ثمانية أيام. لم يأتنا فيها أحدٌ سوى من يجلب لنا الطعام، أو من يتفرج علينا في قفص القرود هذا.

عند أذان ظهر اليوم الثامن، جاءت أم ليث بثلاث نساء تركتهن معنا، وذهبت، كنّ سوريات من دير الزور.

بعد يومين أخذوني وحدي إلى مكتبٍ كبير، وطلبوا مني أن أقول للنساء إنهنّ في الرقة، وإنهنّ سبايا، وسيتم توزيعهنّ وبيعهنّ لأمراء ومقاتلين في التنظيم ممن منّ الله عليهم بفتح منطقة سنجار، وتخليصها وأهلها من الشرك والكفر والعياذ بالله، وإن هؤلاء سيدخلونهنّ دين الإسلام، وبهذا سيعتقونهنّ من النار إذا كنّ صالحات!

في صباح اليوم التالي حَضَرت أم ليث وخمسة نسوة أخريات وأبو عبد الله الأمني، وقمن بتقسيم الفتيات إلى عذراواتٍ ومتزوجات، والملاحظ أن أم ليث ورفيقاتها لم يلبسن عباءاتهن عند حضور أبو عبد الله، ولم تخجل أم ليث من طرح الأسئلة الخصوصية التي طرحتها علينا تحت الضوء الساطع الذي رُكِّبَ أمام الطاولة، والتي لم تجاوب على أسئلتها كانت مرافقات أم ليث تَجلدنها.

هل أنت عذراء؟

هل سبق أن مارست الجنس؟

متى موعد دورتك الشهرية؟

هل تشكين من أي مرض تناسلي؟

سيتم تغيير اسمك فأي اسم تختارين (هنا قائمة فيها أسماء أنثوية إسلامية)؟

هذه الأسئلة للعازبات، والأسئلة الأخرى للمتزوجات:

متى كان آخر موعد دورةٍ شهرية لك؟

كم مرة ولدت؟

كم مرة كنت تجامعين زوجك في الأسبوع؟

ما الأشغال التي تتقنينها؟

سيتم تغيير اسمك، فأي اسم تختارين؟

هل تشكين من أي مرض تناسلي؟

تمّت إعادة تسمية من كنّ يحملن أسماء «غريبة»، لا تتوافق مع معايير أم ليث وأبو عبد الله، وطلب من كل واحدة أن تحفظ اسمها، ولم تردَّ مطلقاً على استفسارات النساء عن أطفالهن.

بعد أذان صبحٍ حضرت أم ليث ومرافقاتها، طلبت مني أن أترجم، وأمرت أن نصطفّ حسب التقسيمات السابقة. بعدها بقليلٍ جاءت جوقةٌ من الملثمين، أخرجوا بدايةً الفتيات العذراوات إلى الممر الطويل، وبدأت الجوقة «بمعاينة البضاعة». كنّ ست فتيات أزاحوا بدايةً أغطية رؤوسهن، وكانت أم ليث تسوق بضاعتها، وكان واضحاً أن أحداً مهمّاً كان بين الجوقة، ظهر هذا من خلال تصرفات أم ليث وأبو عبد الله الأمني. لن أنسى، والله لن أنسى، نظرات البنات الصغيرات وهنّ يلتفتن إلينا، بينما يجرونهن، كانت إحداهن بعمر ثلاث عشرة سنة، تصور ثلاثة عشر سنة! لم يكتفوا بالقتل والخطف والتهجير بل لاحقوهنّ إلى لحم أجسادهن، أتعرف القهر؟ القهر هناك وهناك فقط.

 أثناء نزوح الأيزيديين من منطقة سنجار في آب 2014 / Reuters.
أثناء نزوح الأيزيديين من منطقة سنجار في آب 2014 / Reuters.

كانت دموع زميلي تسابقُ دموع جميلة، وهو يتفجر بمسبّات طالت الجميع، الجميع دون استثناء.

بعد آذان عِشاء آخر، تلاه آذان صبح، ثم آذان ظُهر تكرر المشهد السابق. أخرجوا النساء المتزوجات اللواتي لا أطفال عندهن، ولا يحملن أجنةً في أرحامهن، وكنّ ثلاث. كانت «الجوقة» أقل عدداً، وأيضاً أقل اهتماماً، وكانت أم ليث أيضاً أقل استعراضاً وارتباكاً. وتكرر مشهد العيون التي تطلب النجدة، دون إجابة.

تسعُ مرات أذَّن المؤذن دون أن يمر بنا أحد، سوى من يجلب لنا الطعام أو يتفرج على قفص القرود.

أكثر ما كان يبعث الألم، غير فراق من فارقنا، هو طلبات الأطفال الذين حولوا زاوية الفرش إلى مكان للعب، وأكثر ما يحزّ بالنفس كلمة «bav»، وهي تعني بابا… تعرف شو يعني قهر!

في وقت ما من ذلك الليل أو النهار، اختلطت الأمور علينا. جاء حارسان مع إحدى مرافقات أم ليث، واصطحبوني إلى المكتب الذي سبق وأن أخذوني إليه. اكتشفتُ أن الوقت كان عصراً، وهناك أفهموني أنه سيتم نقلنا إلى مكانٍ آخر، ويجب أن أحضِّر الجميع لذلك. أجلسوني معهم، أي والله معهم! وكنتُ أقرب جسدياً إلى أحدهم كما لم أكن في أي مرةٍ  سابقة! كانوا يتحدثون عن الوضع الجديد وما يحتاجه من منشآت ثابتة، وأماكن لإسكان السبايا، وأيضاً شقق جديدة لعناصر التنظيم الذين يأخذون السبايا، وصالات عرضهن، وميكروباصاتٍ للنقل، وتحدثوا عن الأسعار الجديدة التي صدرتْ. لم يقدموا لي القهوة المرّة في الفنجان نفسه الذي أداروه على الجميع، بل أعطوني القهوة المرة بكأس بلاستيكي، أخّ كم كنتُ أحتاج إلى سيجارة! تراوحتْ أسعارنا بين ورقة وعشرين ورقة، والورقة هي المائة دولار، وذلك حسب العمر والجمال. عندما عدت كانت هناك تسع نساء جديدات، ثماني أيزيديات ومسيحيةٌ واحدة.

جاءت أم ليث ومرافقاتها، وسجَّلن وصوَّرن الوافدات الجديدات، ثم ذهبن.

كان مساء بعد ثلاث أذانات عشاء من آخر توقيت لنا، أي وحسب توقيتنا السابع من أيلول. فُتح البابُ، وطُلِبَ منا أن نقف بخطٍ مستقيم، كان هناك باصٌ كبير أصفر اللون يقف مباشرة عند الباب. رأينا النجوم والله رأيناها، على الرغم من أنها لحظة قصيرة مابين الباب وباب الباص. رأينا النجوم!

عبرنا جسراً كبيراً، ثم دخلنا بين صفي أشجارٍ متناسقة مسافةً ليست طويلة، وهناك أنزلونا. هنا هواء ونجوم ونقيق ضفادع، أدخلونا مبنىً له قاعة كبيرة، ثم نزلنا إلى القبو. كان القبو كله صالةً واحدة، وكان واضحاً أن المطبخ والحمامات أقيمت حديثاً. وكان الباب أكثر سماكةً، والشبابيك صغيرةٌ مستطيلة الشكل لا تتعدى 30 سم عرضاً و50 سم طولاً، وتبدأ من أعلى الجدار تحت السقف مباشرة.

حاولنا أن نسمع أي صوت أذان كي نحصي أيامنا، ولكن لا صوت هنا سوى نقيق الضفادع، ومنه اخترعنا تقويمنا الجديد، فالضفادع تنقّ في الليل ولا تنق نهاراً.

انقطع النقيقُ، وكان أول زائر لنا أم ليث وجلاداتها وأربعة رجال. ألقوا عند الباب جسداً آدمياً ملفوفاً كما الكفن بعباءة سوداء، أخذوا اثنتين من النساء السوريات الثلاث وخرجوا. ما إن أُغلق الباب حتى فتحنا الكفن الأسود، ذُهِلَ الجميع، كانت «هيفين» الفتاة الأكثر مرحاً، كان شعرها حليقاً تماماً كما الجنود، عيناها جاحظتان ومرعوبتان، وكانت شبه عارية… تعرف شو يعني قهر؟ كان جسدها مغطىً بحروقٍ من نايلون مُذاب! وكدمات وجروح في كل مكان، وجرح سكينٍ بشكل دائري حول فرجها. أدخلناها الحمام ولكنها طردتنا، اتركوني لحالي! اتركوني لحالي! بعد ساعة تقريباً دخلنا عليها فرأيناها تسبح في بركة دم، وكان سيخ «دبو المازوت» لمدفأة الحمام مغروزاً في قلبها مباشرة.

هذا هو القهر، قالت جميلة وهي تلف سيجارة من تبغ في كيس بلاستيكي أسود، صمتت طويلاً وهي تمج سيجارتها، احترمنا صمتها.

تعرفون.. حتى نساؤهم كانوا يعتبرونهن سبايا! كان أكثر من واحد من «المهاجرين» (صرت أفرّق بينهم وبين «الأنصار») يسجن زوجته المحلية معنا لعدة أيام، مهدداً إياها بأن يبيعها كسبيّة من باب التأديب.

تتابعت أيامنا حسب توقيت النقيق، يأخذونهن ثم يعيدون بعضهن، والله اخجل من آدميتي!

تسألني ماذا حصل للفتيات؟ إليك حكاية «أمشا» التي كانت من نصيب «أبو جرير»، وهذا كل ما أعرفه عنه وفق روايتها: «أقلني بسيارة بيك أب أبيض، بعد أن دفع عشر ورقات، وبعد أن خاض مشادة مع الشخص الذي يجلس وراء المكتب، وكان الخلاف إنه لا يجوز لأبي جرير أن يشتري أكثر من ثلاث سبايا حسب التعليمات، ولكن أبا جرير أصرَّ أن المهاجرين يحق لهم أكثر من ثلاث، وقّع ورقةً وجرّني وراءه إلى السيارة.

في الشوارع التي اخترقتها السيارة، كانت النسوة اللواتي يمشين في الأسواق يلفّهن السواد، وكلّهن يتشابهن. أخذني إلى بنايةٍ صفراء في شارع عريض، صعد بي ثلاثة أدراج وأدخلني إلى بيت. ما إن أغلق الباب حتى بدأت أتوسل إليه أن يتركني، وأقول إن لي أهل، وإن لي حياة هناك. لم يرد عليّ ولا بكلمة وهو يدور من غرفةٍ إلى غرفة. شغّل التكييف، ونقل أضواءً مركبة على حوامل إلى غرفة أخرى. أخرج من الخزانة كيساً وألقاه في وجهي، وأشار بيده: هناك الحمام. هذه هي الكلمة الأولى التي قالها قبل أن يبدأ بجرّي من شعري إلى الحمام، وهناك مزّق ثيابي، كانت تلك المرة الأولى التي يراني فيها رجلٌ عاريةً.

كنت ألبّط بيدي ورجلي، وأحاول أن أعضّه، لكنه كان قوياً جداً. حملني كطفلٍ وألقاني بالمغطس الذي تصطفّ على أطرافه علبٌ وقناني كثيرة. هنا أيضاً أضوية مركبةٌ على حوامل، وكاميرتان، واحدة موجهة على المرآة الكبيرة التي تحتل الحائط المقابل كله، والأخرى على المغطس. خلط أنواعاً كثيرة من الشامبو إلى درجة أن الرغوة غطَّت حتى أرضية الحمام. حاولتُ أن أغرق نفسي عندما خرج قليلاً، لكنه عاد بسوطٍ نال به من جسد العاري في كل مكان، ثم لفّني بمنشفة وحملني إلى غرفة ذات سرير عريض، وهنا أيضاً كانت أكثر من كاميرا واحدة معلقة بالسقف. فوق السرير تماماً، وواحدة على حافة السرير من جهة الرأس، وأخرى على حافة السرير من الجهة الثانية. ألقاني وسط السرير، وألبسني ثياباً داخلية من الكيس، ثيابٌ أشبه بثياب الرقص، وبدأ يصلي، بعد أن أغلق الباب والستائر وقيدني بقيدٍ حديدي إلى السرير. أنهى صلاته، وبدأ بضبط الكاميرات، وهو يتمتم بأغنية «راب» ويتراقص، متنقلاً بين الكاميرات وأجهزة الإضاءة. نزع ثيابه قطعة قطعة، وأيضاً كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها رجلاً عارياً.

فكَّ القيد عن يدي، فضربته على عينه، ورفسته على ما بين رجليه، ولكنه لم يهتم كثيراً، وتابع دندنته للراب وتمايله، ربط يديّ كل واحدة إلى جانبٍ من السرير، وكذلك ساقي، واعتلاني. أُغمي علي، وكنت أصحو أحياناً، وأحسّ أن أنفاسه وأسنانه هي التي تغتصبني أكثر مما اغتصبني بين ساقي. لا أعرف كم كان قد مضى عندما استيقظت، رأيته يمشط عارياً أمام المرآة والماء يسيل منه. كان دمي يغطي أغطية السرير وساقي، حملني مرة أخرى كخرقةٍ وألقاني في المغطس. ثلاثة أيام وهو يصلي، ويجلدني، ويصورني، ويقذف في جوفي. في اليوم الرابع سقاني كأس ماء وراقبني وأنا أتخدّر وأغيب، سمعت فقط صوت الباب الخارجي وهو يغلق».

ما رح تعرف شو يعني قهر، هكذا استمرت حياتها معه لمدة أكثر من سبعين نقيق ضفادع. أعادها محطمة النفس والجسد، مدمنةً على المخدرات، وتحمل جنيناً في بطنها.

كان العشاء الذي قدمته لنا جميلة قد برد، ولم يمد أحد منّا يده. أخذت تحملُ الصحون وترصفها في برادٍ صغير في زاوية غرفتها الصغيرة.

«هل تعبتِ؟»، قلت لها.

لا يابا، التعب هناك!

بعد عدة أيام حسب توقيتنا الضفدعي، جاؤوا ليأخذوها مرة أخرى. تبرعتُ بنفسي، وواحدةٌ أخرى  تبرعت أيضاً بنفسها بدلاً عنها، أي والله العظيم تبرعنا بحالنا. ولكنهم رفضوا وقالوا سنأخذها إلى الطبيبة من أجل الحمل، ولكنهم أخذوها ولم يعيدوها.

عرفتُ أن هناك أكثر من مكان لاحتجاز السبايا، عرفت ذلك عندما أجبرونا على التبرع بالدم ولأكثر من مرة. وأنا أتبرع بالدم في إحدى المرات، لمحتُ إنسانية عند إحدى الممرضات وشيئاً من الشعور بالذنب، لأنها حاولت كثيراً إلى أن نجحت في وضع الإبرة داخل وريدي، وكانت تدير ظهرها للحراس عندما قالت لي إنها تعذبت أيضاً مع بنتٍ في مركز «بنك البريمو». سألتها عن المركز، فقالت هناك خمس مراكز غير هذا.

في وقتٍ ما من روزنامة نقيق الضفادع، دعوني صباحاً إلى مكتب بالطابق الأعلى. كانوا ثلاثة رجال وامرأتين، طلبوا مني الجلوس، وقالوا لي: «ألا يوجد أحدٌ من أهلك يمكن أن تتواصلي معه ليشتريك؟» تشجعتُ وقلت: «لكنني مسلمة سنية، ولا يجوز شرعاً سبيي». ضحكوا باستهزاء من أنني أتكلم عن الشرع، وكان من غير الممكن إلا أن أبتلع الإهانة وأجاريهم الابتسام.

طرق الباب وأدخلوا «غزالة»، المرأة المسيحية الوحيدة ضمن مجموعتنا. أعطوني ورقه بيدي كي أعطيها لها، فلا يجوز كما قال صاحب الكرش الكبيرة لأحد مرافقيه أن يعطيها لها مباشرةً، وطلب مني أن أترجم لها نصاً من مجلة بالانكليزية، ملونة، حُدد القسم المطلوب مني ترجمته بقلم أسود. أتذكر الكلمات وبإمكانك أن تبحث عن المجلة وتتأكد بنفسك: «أتباع الديانات السماوية مثل المسيحية واليهودية لديهم خياران: دفع الجزية أو اعتناق الإسلام، ولكن هذا لاينطبق على الإيزيديين» (الكلام وارد بالعربية في مجلة دابق، عدد تشرين الأول 2014). لقد دفع أهلك الجزية، وسنوصلك إليهم اليوم.

أنا أيضاً أعطوني ورقتين من فئة المائة دولار، وكتاب عتق، وخيّروني أن يوصلوني المكان الذي أريد، وكنت قد عرفت أن غزالة سيأخذونها إلى منطقة تُسمى تل أبيض، ومن هناك إلى تركيا حيث أهلها ينتظرون، فقلتُ لهم: «مثلها».

وفعلاً أوصلونا إلى تل أبيض، وعبرنا الحدود، وها أنا ذا. ولكنني سأرجع إلى هناك، هنا لا أحد يحتاجني. هناك يحتجنني، وأيضاً عندي عذاب ضمير لأنني فرحت بحريتي وفكرت بأنانية، فكرتُ بنفسي.

قلت لها، ولكني سأنشر هذا الكلام، وأنت تريدين أن تعودي إلى هناك، وسيعرفون.

فليعرفوا، وليعرف الناس! ورفضت أن تضيف أي كلمة أخرى.

سنتواصل أستاذ، قالتها جازمةً، وهي تمدّ يدها مودعةً.