تقدّم اسبانيا أحد أسوأ النماذج فيما يخص التعامل مع آثار حربها الأهلية (1936-1939) وديكتاتورية فرانكو التي أعقبتها (1939-1975)، فرغم أن هذا العام ستمر الذكرى الأربعين لوفاة فرانكو وبداية التحوّل الديمقراطي في اسبانيا، أربعة عقود انتقلت فيها اسبانيا من دولة محكومة بنظام عسكريتاري قومي-كاثوليكي إلى ملكية دستورية برلمانية وعضوة في الاتحاد الأوروبي وفي منطقة اليورو، إلا أن مسألة ضحايا الحرب الأهلية والديكتاتورية ما زالت راهنة، أكان على مستوى العدد الهائل من المفقودين (أكثر من 130 ألف مفقود خلال الحرب وديكتاتورية فرانكو) والقبور الجماعية (اسبانيا تحوي أكثر من 2500 قبر جماعي، وهي الدولة الثانية في العالم بعدد القبور الجماعية، وتفوقها كمبوديا فقط)، أو عدم العمل بجدية على مسح آثار الديكتاتورية الرمزيّة من المجال العام (أسماء شوارع، نصب تذكارية..الخ)، أو حتى إلغاء الأحكام القضائية التعسفية من الأرشيف القضائي.

أسباب هذا الواقع كثيرة ومتراكمة، وظروف انتقال اسبانيا إلى الديمقراطية أول هذه الأسباب وأهمها. لم تصبح اسبانيا دولة ديمقراطية نتيجة ثورة (مثل البرتغال) أو نتيجة انهيار النظام الحاكم (مثل دول أوروبا الشرقية)، بل أن «الانفتاح» بدأ بشكل خجول مع السنوات الأخيرة لعهد فرانكو، وتسارع باتجاه تغيير بطئ ومرحلي باتجاه النظام الديمقراطي بعد وفاة الديكتاتور، على يد خوان كارلوس الأول، ملك اسبانيا السابق الذي عيّنه فرانكو وريثاً للحكم، وأدولفو سواريث، رئيس الوزراء الذي قاد التحوّل نحو الديمقراطية قادماً من منصب سابق كأمين عام للحركة القوميّة، الـ «حزب الواحد» لنظام فرانكو. وقد كان هناك توافق سياسي بين القطاع الإصلاحي من نظام فرانكو والمعارضة، ممثلة بالحزبين الاشتراكي والشيوعي والأحزاب القومية الكتلانية والباسكية، على الخطو بحذر في التحوّل الديمقراطي، خوفاً من القطاعات المتشددة من النظام السابق المتحالفة مع قيادات الجيش. كما أن الوضع الأمني نتيجة الصراع مع المنظمات الإرهابية التي نشطت ما بين منتصف عقدي السبعينات والثمانينات، وعلى رأسها «إيتا»، كان مبرراً لعدم المس بالأجهزة الأمنية. قيادات أجهزة أمن فرانكو وعناصرها، وبعضهم مشاهير لوحشيتهم مع المعتقلين السياسيين، لم يُحاسبوا، بل استمروا على رأس عملهم، ثم ذهبوا إلى بيوتهم متقاعدين.

خطاب المرحلة الانتقالية الاسبانية بُني على أفكار «التسامح والتصالح» انطلاقاً من «النسيان» و«طي صفحة الماضي». ولم يؤخذ بعين الاعتبار أن هناك ضحايا لم يُعوّضوا، مادياً ومعنوياً ورمزياً؛ وجناة، على شكل نظام ديكتاتوري قمعي ككل وأيضاً كأفراد فاعلين فيه، لم يُحاسبوا.

المقال المُترجم أدناه، لخوسي ماريّا بيدرينيو، الرئيس السابق لـ «منتدى الذاكرة التاريخية»، أقدم وأهم المنظمات الفاعلة في مجال استعادة الذاكرة التاريخية، ونُشر في عدد صيف 2004 من مجلة بويبلوس (شعوب)، ويقدّم فيه تعريفه لمعنى استعادة الذاكرة التاريخية، والعوامل والشروط الضرورية للعمل في هذا المجال. عاشت السنوات الأولى من عقد الألفين عودة النقاش حول الذاكرة التاريخية، وتصاعد السجال حولها خلال حكم الحزب الاشتراكي بقيادة خوسي لويس رودريغث ثاباتيرو (2004-2011) حتى تحوّل إلى موضوع أساسي في الاستقطاب السياسي، وسبباً في إحدى أكبر الأزمات القضائية في تاريخ اسبانيا الديمقراطيةفي هذا الصدد بالإمكان الإطلاع على مقال «لجنة الحقيقة في اسبانيا» لـ فيكتور أروغانتي.، قبل أن ينطفئ مجدداً بفعل الأزمة الاقتصادية التي عصفت باسبانيا اعتباراً من عام 2008.

*****

في السنوات الأخيرة، شاعَ الحديث في اسبانيا عن «استعادة الذاكرة التاريخية»، وإن بقي الحديث ضمن أفكار بدائيةٍ وغائمة. يتوقّع غالبية سامعي هذا المصطلح أنه يحيل إلى أمورٍ لها علاقة بالحرب الأهلية وديكتاتورية فرانكو، فهذا ما يُصدَّرُ عبر تغطية وسائل الإعلام للنشاطات المتعلّقة بهذا الشأن، وما تنشره من آراء مُنحازةٍ ومُستقطبة لأخصائيين في مجالات شتى، تُساهم بدورها في قلّة وضوح المفهوم. نجد، عبر هذا التعامل الإعلامي، أن موضوع الذاكرة التاريخية يتم اختزاله إلى مطالبات واحتجاجات نوستالجيّة وخاصة بالفاعلين في حقبة الحرب الأهلية والديكتاتورية وعائلاتهم، وهي فتراتٌ زمنية لا تُقدَّم فقط على أنها يجب أن تُنسى، بل يتم عرض الخوض فيها كعمل تاريخي لا علاقة له بزمننا الراهن.

لقد جرى العمل على المساواة بين قتلى «الطرفين»، دون التعمُّق في تفاصيل أسباب النزاع، ودون دراسة الوضع السياسي الداخلي والدولي، ودون تفحّص المبادئ والقيم التي كان يدافع عنها الطرفان. ساهمت هذه الممارسات بإرخاء المزيد من الظلام حول المسألة، وجرى تضليل المجتمع الإسباني بدل وضع الحقائق أمامه وتوضيحها. على المستوى الثقافي، نجد أن الدراسات الرصينة تختلط بإصدارات وكتب خُطَّت بأسلوب انتهازي، وبمقاربات علميّة عديمة الترابط ومعزولة، ما يدفع للتعامل مع الذاكرة التاريخية وكأنها شيء يُعرض في المتاحف، وبعيدٌ عن الواقع الاجتماعي الراهن.

تحوّلت استعادة الذاكرة التاريخية في مجتمعنا إلى مجرد مطالباتٍ بقضايا شخصية بالنسبة للبعض، وعنواناً تجارياً يبيع كثيراً من الكتب والإصدارات للبعض الآخر، وأداةً لإشباع الفضول العلمي لبعضٍ ثالث، وحتى وسيلةً لكسب الأصوات الانتخابية للبعض الرابع. مآلُ الاتفاق البرلماني الذي تم إقراره في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2002 خيرُ برهان على هذا الواقع، حيث لم يُترجم هذا الاتفاق إلى أفعال، باستثناء بعض الاستثناءات القليلة والمعزولة، كما لم يُجدِ نفعاً أن تتفق كل الكتل البرلمانية المعارضة على إقامة حفل تكريمي لضحايا ديكتاتورية فرانكو في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2003. لا نقصدُ بهذا الكلام رفض أن يكون لمفهوم استعادة الذاكرة التاريخية استخدامٌ أداتي، بل نعتقد بضرورة وجود مقاربة إيديولوجيّة قادرة على كسر الديناميكيات التي حبست هذا الاستخدام الأداتي ضمن القيم الفردانية، ومنطق السوق القائم على الإيديولوجيا النيوليبرالية. سنتحدث، إذاً، عن مفهوم الذاكرة التاريخية واستخداماته الممكنة كأداة لترسيخ الديمقراطيّة، وكعاملٍ مساعدٍ في محاربة الإفلات من العقاب، وكعنصرٍ إيديولوجي في بناء وهيكلة المجتمعات.

مفهوم الذاكرة التاريخية

ثمةَ مقولةٌ تُستخدم خطأً لمحاولة اختصار محتوى مفهوم الذاكرة التاريخية، وهي «الشعب الذي لا يعرف ماضيه محكومٌ عليه بتكراره»، ولكي تتمكّن هذه الجملة من اختصار المفهوم بشكل أفضل، يجب أن تُعاد صياغتها بالشكل التالي «الشعب الذي لا يعرف ماضيه لا يقدر على فهم واقعه، وبالتالي يعجز عن السيطرة عليه، ما يعني أن آخرين سيُسيطرون على هذا الواقع بدلاً منه». تظهر السيطرة على الواقع في الأبعاد الثقافية- الإيديولوجيّة، وفي السياسة والاقتصاد. ويؤدي ضعف المعرفة بالتاريخ إلى عجز عن فهم العمليات التاريخية التي أدّت إلى الوقائع التي نعيشها اليوم، ما يولّد، بدوره، قصوراً ديمقراطياّ عميقاً. يعتاش هذا القصور الديمقراطي، يوماً بعد يوم، على مجتمعٍ ضعيفِ التسييس وقليل المشاركة في الحياة العامة. نعيش في ديمقراطيةٍ منخفضة المستوى، وأحد الأسباب الرئيسية لانخفاض المستوى الديمقراطي في اسبانيا هو أن الديمقراطية هنا قامت على النسيان. لا نكتب تاريخنا وفق السيناريو الخاص بنا، بل حسب سيناريو الذين دفعوا (ويدفعون) باتجاه النسيان. لسنا، في الحقيقة، مالكي حاضرنا، وذلك لأننا نعاني من ضعفٍ في معرفة تاريخنا.

بإمكاننا القول، لو أردنا تعريف مفهوم استعادة الذاكرة التاريخية باختصار، أنه حراكٌ اجتماعي-ثقافي منبثق عن المجتمع المدني، يسعى للكشف، برصانة، عن تاريخ النضال ضد ديكتاتورية فرانكو والتعريف بالمساهمين بهذا النضال، بغية تحقيق العدالة واستعادة مُثلٍ ومرجعياتٍ في النضال من أجل حقوق الإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية. حين نتحدّث عن «عدالةٍ» هنا نقصد الاعتراف والتعويض، دون أي معانٍ انتقامية ممكنة. وتأتي ضرورة هذا التوضيح من الاتهام بالميول الانتقامية الذي تتعرّض له حركة استعادة الذاكرة التاريخية من قبل بعض الأوساط. هناك فرقٌ واضح بين الانتقام، وإيجاد الحقيقة وإحقاق العدل. عدا ذلك، هناك حاجةٌ ملحّة لبناء الحقيقة التاريخية، فوحده الطرف المنتصر في الحرب الأهلية استطاع السيطرة على وسائل الإعلام والنشر، ووحده أيضاً تمتّع بالدعم المؤسساتي اللازم لفرض «حقيقته». لقد فرض نظام فرانكو «لجنة الحقيقة» الخاصة به ضمن «القضية العامّة» عملية قضائية أطلقها نظام فرانكو عام 1940 لتجريم خصومه المهزومين في الحرب الأهلية وإصدار الأحكام ضدهم (م). التي شنّها فور انتهاء الحرب الأهلية، ولم يُسمح للطرف الآخر، المهزوم، الوصولُ إلى موارد المعرفة و ووسائل التعريف عن حقيقة وطبيعة وحجم القمع الذي تعرّض له المدافعون عن الشرعية الجمهوريةيقصد الكاتب هنا الجمهورية الاسبانيّة الثانية (1931-1939)، التي بدأت بعد مغادرة الملك ألفونسو الثالث عشر اسبانيا إثر أزمة سياسية عميقة، وانتهت مع حسم فرانكو الحرب الأهلية لصالحه، الحرب التي بدأت عند قيادة فرانكو تمرّداً ضد الجمهورية (م).، كما مُنعوا، بطبيعة الحال، من الوصول إلى العدالة.

لكن هذا التعريف لا يدخل عميقاً في صلب المسألة، ويحتاج لتفكيك الموضوع كي يتمكّن القارئ من الإحاطة بكامل أبعاده. في المقاربة الأولى رأينا وجوب التعامل مع موضوع الذاكرة من كلّ جوانبه، وفي المقاربة الثانية سنميّز العوامل المتضافرة في قضية الذاكرة، وهذه العوامل هي إنسانية؛ وثقافية؛ وسياسية.

العوامل الإنسانية

بدرايةٍ ووعيٍ أو من دونهما، البشر هم الذين يبنون التاريخ، وهم أيضاً الذين يتحمّلون نتائج التاريخ الذي يبنونه. حين نتحدّث عن الحرب الأهلية والديكتاتورية فإننا نتحدث عن أناس اغتيلوا، أو سُجنوا، أو لوحقوا، أو تعرّضوا للإهانة. لقد مرّ زمنٌ طويل الآن، ونعيش في نظام حرّياتٍ منذ سبعة وعشرين عاماً، صحيحٌ أنه نظام حرّيات غير مثالي، لكنه نظام حرّياتٍ في نهاية الأمر. رغم ذلك، لم يتم التعامل مع هؤلاء الضحايا كما يستحقّون، بل وجدوا أنفسهم حبيسي الصمت وعدم الاعتراف بهم بعد عقودٍ من تَحمُّلهم ويلات القمع، ويجب أن يكون التعامل الصحيح مع الضحايا ضمن الصفحة الأولى من المسائل العالقة في اسبانيا. فالاعتراف والتكريم، والعمل من أجل استعادة جثامين الذين تم تغييبهم واغتيالهم للاطلاع على مثال عن الجهود لاستعادة جثامين المُغيّبين، مراجعة «برفيكتو دي ديوس، الدفن المؤجل» لـ باتريثيا رافائيل.، وإجلاء الحقيقة أمام أعين الأهالي، ودعم الأهالي نفسياً والاعتراف بعذابهم مجتمعياً ومؤسساتياً، ووضع العدالة بمتناول يدهم على المستويين الأخلاقي والمادي، هي مهماتٌ أساسية في صلب العمل لاستعادة الذاكرة التاريخية.

ما زال الخوف مالكاً لنفوسِ كثيرٍ من عائلات الضحايا، وخاصةً في المناطق الريفية. خوفٌ عميق يجعل بعضهم يُنكر الحقيقة ويرفضها. لقد شهدنا حالات عديدة لمناضلين تم اغتيالهم، وتمكّننا من توثيق نضالهم وانخراطهم في الصراع من أجل الشرعية الجمهورية، ورغم ذلك واجهنا رفضَ أهاليهم وإنكارهم لهذه الوقائع. عاينَّا بشكلٍ مباشر وجود خوفٍ تمت برمجته من قبل نظام فرانكو من أجل إلحاق الهزيمة بثقافة ونفسية الشعب الإسباني بأكمله. عندما تجد عائلاتِ ضحايا ناضلوا ضد الديكتاتورية، وتعرضوا للقمع والتنكيل بسبب ذلك، يخجلون من هذه الحقيقة، أو يحاولون نزع السياسة عنها، ألا نكون أمام الانتصار الإيديولوجي لنظام فرانكو؟

العناية بالضحايا الذين ما زالوا على قيد الحياة (معتقلون سياسيون، مقاتلون سابقون، عسكريون موالون للجمهورية أُجبروا على الخروج إلى المنفى..) هي أيضاً مادةٌ أساسية ضمن العمل لاستعادة الذاكرة التاريخية. كيف يمكن لمجتمع أن يدّعي الدفاعَ عن الحريات والديمقراطية، حين يُعاقب أولئك الذين ناضلوا من أجل هذه المبادئ في أزمنة سابقة بمرارةِ الصمت والخذلان؟ إن استعادة الذاكرة التاريخية، عند العمل في هذا الحقل، تساهم بفعالية في استعادة كرامة هؤلاء الناس، وعبر هذا تُستعاد كرامتنا كمجتمع.

لكن، ورغم أهمية العامل الإنساني، فإنه لا يكفي لوحده للإحاطة بكامل أبعاد الذاكرة التاريخية. فلو توقّفنا عند العامل الإنساني وحده، ولم نتقدّم باتجاه التعاطي مع القضية من وجهة نظرٍ ثقافية، سنكون قد توقفنا عند معالجة مسائل ذاكرةٍ خاصةٍ بالضحايا، ومن وجهة نظر إنسانيّة بحتة.

الجانب الثقافي

فيما يخص الجوانب الثقافية للعمل من أجل استعادة الذاكرة التاريخية، نجد البحث التاريخي والعلمي في المقام الأول. ليست هذه عواملَ معزولة، بل إنها تعمل كأدوات متلاقية مع غيرها من العوامل.

ليس بالإمكان وضع الحقيقة بمتناول يد أهالي الضحايا، ويد المجتمع الإسباني ككل، دون امتلاك معرفة رصينة بالوقائع. بالتالي، يصبح عمل المؤرخين والموثقين وخبراء الحفريات الأثرية وعلماء الإناسة والاجتماع أداةً لمعرفة الحقيقة وامتلاكها. في المقام الثاني، وسائطُ النشر لتعميم المعرفة: الكتب والإصدارات المطبوعة، الأفلام الوثائقية، المعارض، المحاضرات وجلسات الحوار حول الوقائع التاريخية. أخيراً، في المقام الثالث، نجد الإبداع الثقافي والفني: الرواية، الفيلم الروائي، المسرح، الشعر، الفن التشكيلي، النحت.. الخ.