لا ينافسُ الأوضاع المفرطة في لا عدالتها في إقليمنا الشرق أوسطي، غير الإنتاج الواسع لسرديات المظلومية. اليهود مظلومون، والعرب مظلومون والكرد مظلومون، والشيعة مظلومون والسنة مظلومون، والعلويون مظلومون والمسيحيون مظلومون. كلنا مظلومون، فمن هم الظالمون؟
ستقول هذه المقالة إن سرديات المظلومية ليست شهاداتٍ أمينةً حول الظلم، إن الظالمية والمظلومية أوضاعٌ وعلاقاتٌ وعملياتٌ يُعَبَّر عنها بلغة السياسة والاقتصاد والحقوق، وليس بلغة الهويات والأصول. وإننا نُخطِئ أقلّ إذا تشكَّكنا أكثر في عدالة الجماعات، وفي صوابِ ما تقول عن نفسها وعن غيرها. الاعتقاد أن جماعتنا على حقٍ هو مقياسٌ لتبعيتنا وافتقارنا إلى الاستقلال الأخلاقي، وليس مقياساً لخيرية الجماعة؛ ونكون على حقٍ أكثر بقدر ما نشك في سرديات جماعتنا عن الحق والباطل.
الظلم والمظلومية
لا مجالَ لنكران أن هناك مظالم حقيقية تستهدف جماعاتٍ على نحو تمييزي، فتُنكَر عليها حقوقٌ سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، أو كلها. هذا واقعٍ متواتر في إقليمنا وفي العالم، لكن سرديات المظلومية ليست تقاريرَ صادقةً عن هذه المظالم. السرديات استحضار لمرويات اضطهادٍ من ماضٍ قريب أو بعيد، تُنتَج بالضبط حين تكون الجماعات أو مجموعات منها صاعدةً، ومن قبل القطاعات الأفضل تنظيماً فيها، وذلك تسويغاً لمطالب خاصة، أو تبريراً لأوضاعٍ امتيازية راهنة. ولا تَخترعُ سرديات المظلومية المظالمَ الواقعةَ على الجماعات، لكنها تضفي عليها طابعاً نسقيّاً، وتجعلها استهدافاً متكرراً أو مستمراً لجماعةٍ خيّرةٍ بريئة، على يد جماعةٍ أخرى معتدية، ظُلمها نسقيٌّ بدوره، وينبعُ من تكوينها ذاته. لا توجد سردية المظلومية الخاصة بأي جماعة منفصلةً عن سردية ظالميةٍ موجهة ضد جماعةٍ مقابلة، يُفتَرَض أنها موحدةٌ ومتجانسة. ولا تبدو الظالمية والمظلومية من وقائع السياسة والصراع الاجتماعي، بل من وقائع الطبائع والماهيات والأصول.
لكن هذا بالذات ما يجعل من سرديات المظلومية كلاماً في السياسة، فلا هي من نصابِ المعرفة الاجتماعية، ولا هي استقصاءٌ لوقائع التاريخ، وليست كذلك بياناً حقوقياً.
سردياتُ المظلومية من أوجه بناء الجماعات، وضمِّ أعضائها إلى صدرها ولأْمِ شقوقها في سياقٍ من تنافسها على السلطة والنفوذ والموارد، والأرض، وعلى خلفية تراجع مؤسسات الحداثة السياسية، الدولة والحزب والمجموعات الطوعية والفرد، وفشل تكوّن شرعيةٍ دولية بأدنى درجة من الجدية لهذا المفهوم. ولأن السرديات بانيةٌ للجماعات، فليسَ هناك جماعاتٌ غير مظلومةٍ في عين نفسها، أو بالأحرى في عين نُخَبِها القائدة. السرديات تنتجها نخبٌ في سياقٍ مزدوج: الصراعُ على القيادة ضمن الجماعات، والصراعُ مع جماعاتٍ أخرى على السلطة والنفوذ والامتياز. لا يجب أن يُفهَم من ذلك أن الظلم روايةٌ ذاتيةٌ بالمطلق، القصد أن الجماعات نتاجٌ لسردياتِ المظلومية (والتفوق)، وليست هي المنتجةُ لها، أما تقريرُ الظلم الحقيقي فلا يمرّ عبر سرديات المظلومية، بل بالأحرى عبر نقدها وتفكيكها، على ما سيقال لاحقاً.
وافتراضُ وحدةِ الجماعة الظالمة هو مقومٌ ماهويٌ لسردية الظالمية المرافقة لسردية المظلومية: حين يتعلق الأمر بنا، باضطهادنا نحن ومعاداتنا نحن والكيد لنا، لن تجد فروقاً بينهم، كلّهم مثل بعض! يُعاشُ تفرقنا المفترض بشقاءٍ وبؤس، مقابل توحدهم المفترض ضدنا. وتشتق الظالمية والمظلومية معاً من تكوين الجماعات وهوياتها: ظلمهم لنا ينبع من كيانهم وهويتهم، ونحن مستهدفون استهدافاً يتصل بكياننا وهويتنا.
سوق المظلوميات
في سياقاتنا الحالية، يبدو أن سرديات المظلومية تفترضُ ثلاثةَ أشياء. أولاً، أوضاعُ نِزاعٍ جماعية، بحيث تجد نُخب الجماعات في بناء سرديات عما لحق بالجماعات من ظلمٍ وتمييز، ما يعزز شرعيتها (النخب) في التنافسِ على الموارد المادية والرمزية والسياسية ضمن الجماعات وفي تنافسها مع بعضها؛ وثانياً حقلٌ لتداولِ السرديات وتقابلها وصراعها، محلي وعالمي في آن، وهو ما تتيحه اليوم ثورة وسائل الاتصال، وخاصةً الفسحات المتسعة كل يومٍ لما يسمى «التواصل الاجتماعي»، وهي في الواقع، في إطار اجتماعنا الجمعوي الراهن على الأقل، فسحاتٌ لتداول السرديات والانفصالات النفسية والاجتماعية، واستعراض التماهيات المتباعدة والمتعاكسة، لكن الحقل العالمي لتداول السرديات، إن عبر المنظمات الدولية أو وسائل الإعلام أو الفضاءات العامة في الدول المركزية، أعظم أثراً على مستوى النخب؛ ثالثاً تَمركُز تصور الشرعية حول العدالة كعدم تمييز، وهو ما يقتضيه الوضع السياسي والحقوقي العالمي الراهن، الذي يمكن تعريفه بالسلب أكثر من الإيجاب: أزمة الدولة الوطنية التي توفّر عدالةً متساويةً للأفراد من حيث المبدأ.
لكن هل كان الأمر دوماً كذلك، فلم توجد جماعاتٌ دون سردياتِ مظلومية؟ يبدو لي أن الأمر حديثٌ نسبياً، يعود إلى جيل أو أكثر بقليل، مزامناً صعودَ المذاهب الحضاروية والثقافوية، وسياسة الهوية، على حساب إيديولوجيات وسياسات العمل (التحرر الوطني، البناء الوطني، الاشتراكية) وتغيير الواقع، التي كانت مهيمنةً حتى ثمانينات القرن العشرين. قبل ذلك كانت نُخَب الجماعة تسعى إلى التشارك في قيمٍ عالمية، أي إلى الاختلاط بغيرها وتسويغ تطلعاتها بالمشاركة في مُتاحٍ عالمي، قد يُسمّى «ركب الحضارة» أو «مسيرة التاريخ»، أو نظاماً عالمياُ جديداً أكثر عدالة. اليوم تتجه الجماعات نحو التوكيد الذاتي والانفصال عن غيرها، ويرتفع مطلب الهوية وسياستها على حساب السياسات الاجتماعية العابرة للجماعات. يبدو الأمر عودةً إلى زمن الروابط العضوية الطبيعية والموروثة، على حساب الروابط الصنعية التطوعية والاختيارية، مع تحول الأمم إلى ما يشبه عشائرَ كبرى، تُقصي أو تُهمِّش «المَوالي» ضمنها. أزمة الدولة- الأمة في العالم يعبِّر عنها اليوم انهيار مزيدٍ من الدول، وتسوير مزيدٍ منها نفسها ضد خارج بربري، مُصدّرٍ للبشر، من «الدول الفاشلة». ظاهرة الدول الفاشلة ذاتها ظهرت وقت انتهت الحرب الباردة، حين أخذ المنتصرون يهنئون أنفسهم على النصر، تاركين مسارح صراعاتهم السابقة للخراب. كانت تلك أخطر لحظةٍ في تاريخ العالم منذ زمن بعيد، لأنه كان يستحيل في تلك اللحظة بالذات التفكير في أن ما يحتاجه العالم هو بالضبط … ثورة.
البرنامج الوراثي المُدَوَّن في بنية المعسكر المنتصر أملى البحث عن عدوّ، وبما أنه لم يكن هناك عدوٌّ في شكل كتلة إيديولوجية عسكرية متماسكة، صار يجري تصور العدوّ في صورةٍ «حضارية» أو «ثقافية» أو «دينية». الجماعاتية الصاعدة اليوم عمرها ربع قرن، أو أزيد قليلاً.
سرديات شرق أوسطية
في الإقليم الشرق أوسطي تحضر بقوةٍ سرديات مظلومية متعددة اليوم، يمكن دوماً إضافة المزيد منها كلما نظرنا عن كثبٍ إلى الجماعات الأهلية في الإقليم. وبحكم شروط ظهور السرديات المشار إليها فوق، فإن سرديات المظلومية كلها حديثة، وإن استعارت لغةً ورموزاً قديمة.
أحدثُها السردية السنية التي لا يكاد يتجاوز عمرها جيلاً واحداً. لقيت هذه السردية المشرقية رفداً قوياً من احتلال العراق وتهميش السنيين العراقيين، ثم رفداً آخر من اغتيال رفيق الحريري في لبنان، واستنفر تحطيمُ بيئاتٍ سنيةٍ خلال الثورة السورية ذاكرةً أقدم قليلاً تعود إلى مذبحة حماة عام 1982، وأحياناً إلى بدايات الزمن البعثي.
وعند قطاعٍ من متداولي هذه السردية، الإسلاميين السياسيين والعسكريين بخاصة، يحضر في الخلفية كاتالوغٌ واسعٌ من حال مسلمي الشيشان في روسيا، ومذابح الصرب ضد مسلمي البوسنة، وكذلك الاحتلال الأميركي لأفغانستان وسجن غوانتانامو، وطبعاً حال الفلسطينيين. وقد يحال إلى ذاكرة أقدم، تستعيد تجربة الاستعمار الغربي وتفكيك السلطنة العثمانية وإلغاء «الخلافة». وفي صيغها العسكرية، «القاعدة» بخاصة، تتوجه السردية السنية ضد «التحالف اليهودي الصليبي»، لكنها في سورية والعراق، وبقدر ما في لبنان، من عُدّة الصراع السني الشيعي. السرديات مرةً أخرى ليست تقارير أمينةً عن الواقع، ولا هي تبالي بالاتساق الداخلي. إنها روايات درامية مُضخمة، مُنسقة، وهي من وظائف الهوية وبناء الجماعة، وليست من نصابِ المعرفة الاجتماعية أو التاريخية أو الحقوقية.
السردية الشيعية حديثةٌ بدورها، وإن يكن لها تراثٌ عريقٌ من «مظلومية آل البيت». يلزمُ القول فوراً إن هذه ليست تلك بحال، وإن سَوَّغت المظلومية الشيعية المعاصرة نفسها بمظلومية آل البيت المؤسّسة للعقيدة الشيعية، واستعارت رموزها وذاكرتها ومخيلتها ومعادَها المفترض. قد تبدو عناصر السردية الشيعية أقدم من السنيّة، وموجهةً بصورةٍ أساسية ضد سلطات سنية (أحفاد معاوية أو يزيد…، الحسين الشهيد، زينب السبيّة)، لكن هذه هي الكنانة الرمزية لسردية المظلومية الشيعية ومنبع قداستها، أما السردية ذاتها فتتصل بصراعات اليوم، وتطلعاتِ نُخَبٍ شيعية في مجتمعات معاصرة. تنسب هذه السردية نفسها إلى مظلومية آل البيت من باب «اختراع تقليد» عريق (إريك هوبسباوم)، وليس لأية صلة بين أوضاع الشيعة اليوم، وبين صراعٍ جرى بين علي ومعاوية أو بين الحسين ويزيد قبل 1400 سنة. في السردية الشيعية الظالمُ سنيٌّ أساساً، أو «ناصبي».
لم تستصلح سرديةُ المظلومية العلوية في سورية رموزَ ولغةَ المظلومية الشيعية الأقدم، بحكم الموقع الطرفي للعلويين ضمن الإطار الشيعي، ولوضعٍ خاصٍ جداً لسردية المظلومية العلوية: أخذت بالظهور بينما الأسرة الأسدية، العلوية المنبت، تحكم سورية، وعبَّرت عن نفسها بلغة اجتماعية مستمدة من الوضع الاجتماعي للعلويين في الكيان السوري الحديث قبل الحكم البعثي، وهي تُركِّز على الفقر والهامشية والاضطهاد، وإن أحالت كذلك على مذابح مفترضةٍ أقدم. وتتوجه هذه السردية لتبرير أوضاعٍ راهنة، وطبعاً توحيد الجماعة. وهي ليست سردية النظام، الذي يروج، بالأحرى، سردية وطنيةً سورية اليوم، وقبلها لسرديةٍ قومية عربية. سردية المظلومية العلوية سرديةٌ متنحية لمثقفين عضويين يستحضرون هامشية العلويين القديمة وفقرهم الأحدث، لتسويغ الوضع الحالي. الظالم سنيٌّ في هذه السردية أيضاً. اليوم، وبفعل الحماية الإيرانية للنظام، والفواجع الكبيرة التي أصابت الجماعة العلوية بخسارة عشرات الألوف أو أكثر من شبابها، من المحتمل أن تُطوِّر سردية المظلومية العلوية، على مضض، عناصر شيعية أكثر، كانت متنحيةً حتى وقتٍ قريب.
السردية الرابعة هي السردية الكردية. وعناصرها سليلةُ عصر القوميات، وعمر أقدمها يقلُّ عن قرن. وينبغي تفريقها عن الإيديولوجية القومية الكردية التي تسوِّغ نفسها بتطلعاتٍ عامةٍ إلى دولةٍ وحقِّ تقرير المصير والمساواةِ مع الغير. هذه تعود في سورية إلى أزيدَ من نصف قرن بقليل، لكنها منذ جيلٍ واحد فحسب، أي مع انتهاء «التقدم» عالمياً، تحولت إلى سردية مظلومية. وتربط هذه السردية بين عناصر قومية وإحالاتٍ إلى أوضاع الكرد في أربعة بلدان شرق ـ أوسطية، يعانون من التمييز فيها، وبين تطلعاتٍ إلى أوضاع أكثر عدالةً أو إلى كيان خاص، لكنها تربطها بعناصر حضاريةٍ كثيرة، قديمة: استمرارٌ تاريخي كردي، أقربه إلينا صلاح الدين والأيوبيين الذي حرروا القدس للعرب، وحديثة: تماهٍ بالحداثة وبتوقعاتِ الطبقات الوسطى الغربية. وفي سورية اليوم، الظالم هو العربي، وهو متهم نسقياً بأنه داعشي. وعلى نطاق سوريٍ تركي، الظالم الأكبر تركي.
وظهرت عناصر السردية الفلسطينية كوجهٍ من وجوه صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينات القرن العشرين، وإن تكن بطبيعة الحال استحضرت عناصر أقدم، أبرزها النكبة، والكفاح الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني. السردية الفلسطينية موجهةٌ ضد إسرائيل اليهودية أساساً، وبقدرٍ ما ضد الامبريالية الغربية، لكن من موضوعاتها الثابتة أيضاً الشعور بالخذلان من طرف الدول العربية. ويبدو لي أن فرادة عدوّ الفلسطينيين، من حيث القوى ومن حيث الحصانة ومن حيث المساهمة في تشكيل العالم الحديث، تضع الفلسطينيين في وضع بالغ السوء، منقسمين على أنفسهم، ولا يصدرون خطاباً موحداً أو متقارباً: سردية حماس الإسلامية لا توحِّد، ولا يبدو أن لدى سلطة عباس كلامٌ يمكن تبينه، والشتات مشتت.
الصيغة الأقدم لسرديات المظلومية في الشرق الأوسط هي سردية الجماعة الأحدث، السردية اليهودية، التي سَوَّغت إقامة إسرائيل في فلسطين، واتسع إنتاجها وتعميمها العالمي بعد إقامة هذا الكيان التوسعي. الإنتاج الجماعي الواسع لخطاب الهولوكوست في الغرب تلا حرب 1967، ولم يسبقها. لكن عناصر سردية المظلومية اليهودية أسبق من الهولوكوست، وتعود إلى عصر القوميات الأوربي، وبصورة واضحة في الربع أو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وبينما يشغل الهولوكوست موقعاً خاصاً ضمن السردية اليهودية، فإنها موجهة نحو تسويغ إسرائيل الحالية وامتيازات اليهود غير العادلة ضد الفلسطنيين. والإرهاب من العناصر المهمة لهذه السردية، مع مماهاته بكل أشكال كفاح الفلسطنيين ومع نسبته إلى كيانهم ذاته (وينسب في الغرب إلى كيان ممارسيّ الإرهاب عموماً، ولا يشرح بالإنسانيات، وهذا أيضاً علامة على التحول نحو زمن السرديات والهويات). ومن أوجه سردية المظلومية اليهودية اليوم مفهوم «الإرهاب»، وتفسيره بهوية أعداء إسرائيل لا بأية اعتبارات سياسية واجتماعية.
السردية اليهودية موجهة ضد العالم عموماً، بما فيه الغرب، ومعاداة السامية حجر الزاوية في هذه السردية. ويبدو لي أن هذه السردية هي النموذج المبكر الذي بنيت على غراره السرديات الأخرى. وطلب السلطة والاستثناء والأرض، والمطالبة باستثناء قانونيٍ دائم، أي بخروجٍ دائمٍ على العدالة، يجري تأسيسه على عدالةٍ جوهرية دائمة لليهود بوصفهم مظلومي العالم الدائمين. هذا النموذج تتطلع إليه كل الجماعات الأخرى في إقليمنا. الكل يريدون أن يكونوا إسرائيليين (أقوياء، محصنون، توسعيون)، وهم سائرون على هذا الدرب.
أفعال الجماعات
في كل حال السرديات بناءات خطابية حديثة، تستحضر مظالم قديمة قليلاً أو كثيراً لتبرير تطلعاتٍ أو امتيازاتٍ محققة راهنة، تسعى وراءها نُخَب الجماعات. منتجو السرديات ليس الجماعات، بل نخبٌ منها تتوسل توحيد الجماعة كاستراتيجة للسيطرة داخلها، وللتنافس مع نخبٍ أخرى. وتنجح السرديات فعلاً في صيغة بعينها من صيغ توحيد الجماعات: تواطؤها مع الأكثر عدوانية في صفوفها ضد«ـهم». لا يشارك جميع أو أكثر أفراد الجماعة في أسوأ أفعالها، بل إن من يقومون بالأسوأ هم قلةٌ غالباً، لكن الجماعات لا تعترض إلا قليلاً، وصوتها في الاعتراض على المعترضين على أسوأ تصرفاتِ محسوبينَ عليها، أعلى من صوتها في الاعتراض على تلك التصرفات الأسوأ. يمكن للمرء أن يغرف الأمثلة غرفاً من حوله، أمثلةٌ إسرائيلية وشيعية وسنية وعلوية وكردية.
ليس من أفعال الجماعات القتل أو التعذيب أو الاغتصاب أو المجازر الجماعية، هذه أفعال أفرادٍ أو أفعال مجموعات. لكن الجماعات هي الفاعل الوحيد لأفعالٍ تخصُّها دون غيرها: التواطؤ، التعصب، الانقياد، الامتثال، السكوت والتسكيت. الجماعات ليست مسؤولة بالمعنى القانوني عن الأفعال الأولى، لكنها مسؤولة عنها بالمعنى الأخلاقي والثقافي. العرب مسؤولون، ثقافياً وأخلاقياً، عن جرائم ارتبكها عربٌ بحق غير عرب (القوميون العرب أكثر من غيرهم، ومسؤوليتهم سياسية أيضاً)، والمسلمون مسؤولون ثقافياً وأخلاقياً عن جرائم مسلمين بحق غير مسلمين أو أي مسلمين غير نمطيين (مسؤولية الإسلاميين أكبر، وهي سياسية أيضاً)، واليهود مسؤولون ثقافياً وأخلاقياً عن أي جرائم ارتكبها يهودٌ بحق غير اليهود أو اليهود غير النمطيين (مسؤولية الصهيونيين منهم أكبر، وهي مسؤولية سياسية أيضاً). ولا يرتفع هذا الضرب من المسؤولية إلا إذا ظهر في أوساط هذه الجماعات من يدينون جرائم جماعتهم دون قيد أو شرط، ودون أن يتعرضوا للتسكيت والاضطهاد من قبل الجماعة.
وفي السرديات كلها تناقضٌ مُكوِّن يتمثل في أنها ما كانت لتظهر إلا في حقلٍ مفتوحٍ لتداول الخطابات الجمعية، يفترض هو ذاته محكمةً ضمنية ميزانها هو المساواة بين الجماعات، وهذا في الوقت الذي تندرج فيه السرديات في أوضاعٍ صراعية، وتعمل على تسويغ أفضليات وامتيازات في مواجهة الظالمين. بعبارةٍ أخرى، تصور العدالة بين الجماعات هو ما يجعل سرديات المظلومية ممكنة، لكن سرديات المظلومية هي ما تجعل العدالة غير ممكنة.
في الحالات الست، ليست سرديات المظلومية شكاوى حزينة من ظلم قديمٍ أو راهن، بل هي خطاباتٌ تبرِّر تطلعاتٍ خاصة الآن، وتسعى لتوحيد الجماعات خلفها. وهي موجهة إما لدعم شرعية مطالب راهنة (السرديتان الفلسطينية والكردية)، أو لطلب استثناء خاص للجماعة المظلومة، وحجب الظلم الواقعي الممارس من قبل رافعي رايتها على غيرهم (السرديات السنية والعلوية والشيعية واليهودية)، وللجمع بين الأمرين غالباً (الجميع). يقال: نحن مظلومون، نحن ضحايا، والمضمر أننا لا يمكن أن نكون ظالمين. وهذا لا ينال من التيقظ الواجب لمواجهة ما قد نمارس من عدوانٍ واضطهادٍ لغيرنا، بل هو مُصمَّم لتبريره. فما تقوم به سرديات المظلومية ليس رفع النقاب عن الظلم والمظلومين، بل بالأحرى إسداله عليهما، سواء الظلم الذي توقعه جماعتنا «المظلومة» على جماعة «الظالمين»، أو أكثر الظلم الذي قد يقع على الأضعف داخل جماعتنا المظلومة نفسها. ليست سردياتُ المظلومية سردياتِ المظلومين، وليس من ينتجها هم المظلومون، بل نُخَبٌ تتطلع إلى السيطرة ضمن الجماعات عبر استثمار ظلمٍ واقعٍ أو مُنقَضٍ. قد يقوم بهذه الوظيفة النوعية مثقفون عضويون للجماعات، لكنهم وكلاء لنُخبِ السلطة داخل جماعاتهم من جهة، وأدواتٌ في صراع الجماعات من جهة ثانية.
أسوأ مدراس العدالة
ولأن سردية المظلومية مناسبةٌ لحجب الظلم، الواقع داخل جماعتنا بخاصة، ولأنها كلام النخب وليست أصوات المظلومين، فإن الفكر التحرري والنقدي مدعوٌ لهتكها في كل وقت، وعدم مجاملة أصحابها بذريعة أن هناك مظالم حقيقية. المظالم حقيقية، لكن سرديات المظلومية هي تسخير هذه المظالم في تنافس النُخب وليس في كفاح المظلومين. وهي من جهةٍ أخرى تعمل دوماً في سياقٍ يغذي شوفينيةَ وأنانيةَ الجماعات، وتدمير علاقاتها بالجماعات المجاورة لها (السرديات موجهة ضد جماعات مجاورة دوماً، وحصراً).
في كل حال، يُنسب العدلُ إلى الجماعات، ومثله الظلم، وليس إلى الأفراد أو إلى فئاتٍ مخصوصةٍ بمواقع اجتماعيةٍ أو سياسية ضمن الجماعات، أو عابرة للجماعات. ونسبة العدل إلى جماعتنا هو ما يجعل سرديات المظلومية مناسبةً جداً للأكثر عدواناً وظلماً من جماعتنا، وأسوأ للأعدل بيننا. الأعدل بين اليهود هم من تصدوا لسردية المظلومية اليهودية ولـ«صناعة الهولوكوست» (عنوان كتاب لنورمان فنكلستين)، وليسوا هم الأكثر حماساً في ترويج هذه السردية. هؤلاء، الأكثر تماهياً بسردية المظلومية اليهودية، هم اليهود الأكثر عنصريةً وعدوانيةً بحق الفلسطينيين. وهو ما ينطبق مبدئياً على الجماعات الأخرى، وإن لم تكن دوماً في وضع إسرائيليٍ حيال غيرها. أسوأ الإسلاميين وأسوأ الكرد وأسوأ الشيعة وأسوأ العلويين هم الأشد تماهياً بسردية المظلومية الخاصة بجماعتهم واعتناقاً لها. العادل منّا، أيا يكن تعريفـ«نا»، هو الأكثر تشككاً في سردية جماعته، وهو من يعترض على مظالمنا بحق غيرنا، وكذلك بحق أضعفنا، وليس «البطل» الذي يغوي كلما غوت غزيّته، ولا يرشد إلا أن رشدت.
في كل حال، سردياتُ المظلومية أقلُّ ملاءمةً لمقاومة الظلم منها لإيقاع الظلم، وأقل ملاءمةً للضعفاء منها للأقوياء. ولكونها أصلح لرصِّ أجساد الجماعات وتسويغ تطلعاتها الخاصة منها لمقاومة الظلم، فإن المظلومية أسوأ مدرسةٍ للعدالة، هذا إن لم تكن مدرسة للعدوان والاضطهاد بضميرٍ مرتاح، طالما أن من يُضطهد هو منهم وليس منّا، أو هو من عوامنا لا من نخبتنا. فإذا كان إقليمنا الشرق أوسطي مشتهراً بالجرائم والمجازر، فلأن أكثر نخبه تعلمت العدالة في أسوأ مدارسها: المظلومية، قبل أن تتكرس لترويجها. هذه مدرسة للهوية والتمييز والانفصال وعدم الإحساس بالغير، وليست مدرسةً للعدالة والتضامن والشراكة.
ولا يقتصر ضحايا الاجتماع القائم على سرديات المظلومية على منسوبين إلى جماعات أخرى، بل هم في صورة محتمةٍ الأعدلُ داخل جماعتنا، والأكثرُ اختلاطاً وتجسيداً للاختلاط بمن هم من غيرها. اليهودي المنشق «كاره لنفسه»، والعربي غير القومي خائن، والمسلم غير المستهلك لسردية المظلومية كافرٌ أو علماني، والكردي الذي لا يروج السردية الجمعية مستعرب، وهكذا. باختصار، سرديات المظلومية أسوأ للعادلين بيننا، وأحسنُ للظالمين.
سرديات التفوق
وبقدر ما أن سرديات المظلومية تظهر عموماً مع صعود الجماعات وفي سياق تسويغ الصعود، فإنها تترافق دوماً مع سرديات تفوق: نحن أرفع شأناً (أخلاقاً، عقلاً، حداثةً، عدالةً، وطنيةً، ديناً…) من غيرنا! ومثل سرديات المظلومية، سرديات التفوق موجهةٌ أيضاً نحو توحيد الجماعة كاستراتيجية لتنافس النُخَب وصعودها. وبما هي كذلك فإنها تقتضي أن يخضع عامة الجماعة لسادتها، لكبارها وحكمائها. سرديات المظلومية والتفوق لا تندرج ضمن علاقات القوة بين الجماعات فقط، وإنما هي لا تنفصل عن علاقات القوة والسيطرة ضمن الجماعات أيضاً.
ولأن السرديات استراتيجيات هوية، فإن الجماعات المظلومة هي نفسها الجماعات المتفوقة. لدينا سرديات تفوقٍ شيعية وعلوية وسنية وكردية ويهودية وفلسطينية، تستحضر خصائص وميزات مختلفة، حقيقية أو مختلقة، مُهوّلة دوماً، لكنها ليست تقريراتٍ أمينةً لإنجازٍ حقيقيٍ ذا قيمةٍ عامة، بقدر ما هي خطاباتٌ تسوِّغ الامتيازات والاستثناءات. ومثلما أن سرديات المظلومية هي مدارس للظلم بالفعل، فكذلك سرديات التفوق: من هم هؤلاء المنحطون الذين يجب أن نحترمهم ونراعي الإنسانية فيهم؟ لن يكون أي عدوانٍ عليهم وإذلالٍ لهم مبالغاً فيه ما داموا فوق تخلفهم أو انحطاطهم ظالمون لنا معتدون علينا!
ولعله من المناسب هنا إبراز قضيتين بخصوص السرديات. أولاهما أنه حتى حين تتوسل سرديات المظلومية لغةً «اجتماعية»، تتكلم على الفقر والحرمان والهامشية والتمييز، فإنها موظفةٌ لبناء الأسوار الهوياتية التي تفصل الجماعات عن جماعات مماثلة، وليس لتوحيدها وتقريبها من بعضها؛ والقضية الثانية عكس هذه، وهي تفيد أن بناء الجماعات وضم «الأولاد» كلهم بحنان إلى صدرها، مثلما تفعل الأمهات، لا يقع أبداً خارج علاقات الامتياز والاستغلال، وأن توحيد الجماعات ورصَّ أجسادها لا قيمة له من وجهة نظر النُخَب، إلا بقدر ما يتيحه من سيطرةٍ داخل الجماعات، ومواقعَ أفضل للتحكم بالموارد في مواجهة جماعاتٍ أخرى.
عندنا واحدٌ كبير!
من وجهة نظر المعرفة التاريخية، السرديات حكايات أطفال، الأخيار فيها أخيار الجوهر، فلا يفعلون إلا الخير، وإن فعلوا الشر فاضطراراً، أما الأشرار فشرهم قديم، ينبع من كيانهم ذاته. ومن وجهة نظر السياسة، هذا رفض للنضج ومقاومة لتحمل المسؤولية. الجماعات التي لا تقاوم سرديات المظلومية الخاصة بها، وسرديات التفوق أيضاً، هي جماعات تقاوم أن تنضج لتصير جماعات تاريخية تتحمل مسؤوليتها في العالم.
ولعل اقتران سرديات المظلومية بذلك التوكيد الخاص على استحقاق الخلود أو الأبدية، مؤشرٌ إضافي على مقاومة النضج ورفض التاريخ. إسرائيل «وجِدَت لتبقى»، والحكم الأسدي باقٍ «إلى الأبد»، وداعش «باقية وتتمدد»، و«الشعب الكردي» مقيمٌ على «أرضه التاريخية» (مع تضمين «التاريخية» دلالةً لا لزوم لها: القدم السحيق). ويقترن بذلك أيضاً التكرُّس لتثبيت الأوضاع القائمة، والحيلولة دون تغيرها. إسرائيل المتفوقة والمكفولةُ التفوق على الفلسطنيين ومجمل محيطها العربي، تشكِّل النموذج الذي تحاكيه الدولة الأسدية في التعامل مع محيطها السوري العام. وهو أيضاً النموذج الذي تنضبط به داعش في التعامل مع المناكيد الواقعين تحت حكمها.
وبينما تشكل إسرائيل «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط الاستبدادي والمتخلف، يشكل النظام الأسدي واحة العلمانية، على ما صار متكلموه يقولون فعلا بعد الثورة عليه، وستوصف هذه بأنها ثورة التكفيريين والإرهابيين، كما يقول هؤلاء المتكلمون أنفسهم. وداعش هي «الدولة الإسلامية»، فلا يواجهها غير معسكر الكفر. ويجري إبراز مساهمة مقاتلاتٍ كرديات في سياق توكيد «الحداثة»، وليس المساواة والعدالة بين الجنسين، والتماهي بالطبقة الوسطى الغربية وليس الشراكة مع الجوار، وكعنصرٍ تفاخري في «حداثةٍ فالوسية» إن حاكينا مفهوم غسان الحاج عن الديمقراطية الفالوسية أو القضيبية: نحن عندنا ديمقراطية، أنتم ليس عندكم! مقابل: نعيش حياة ديمقراطية. كتابه: (Alter- Politics: Critical Anthropology and the Radical Imagination).
يمكن التكلم على إسلامٌ فالوسي (نحن لدينا إسلامٌ أكثر، كلام يمكن أن يقوله «داعشيٌ» لمجاهدٍ من «جبهة النصرة» مثلاً)، وعلمانيةٌ فالوسية (نحن علمانيون، طائفتنا علمانية، وليست مثل طائفتكم!) ونسويةُ فالوسية (نساؤنا متحررات، ونساؤكم محجبات!). في كل حال، هذه صيغ امتلاك مناسبة لبناء الهويات، وتكبير قضبان الجماعات في مواجهة بعضها: نحن عندنا واحدٌ كبير! سرديات التفوق هي إعلان امتلاك قضبانٍ كبيرة.
الجماعات والجنون
قد نلاحظ أن ثنائي المظلومية والتفوق ذو بنية بارانوئية، مثل ثنائي «جنون الاضطهاد» و«جنون العظمة» المكونان للبارانويا. يمكن القول إن سرديات التفوق وسرديات المظلومية وجهان لجنون الجماعات، أو لاضطراباتها النفسية العميقة. ويبدو لي أن البارانويا لا تنفصل عن هاجس الهوية، ولهما البنية ذاتها. الهوية عمليةٌ ديناميكية متوجهة نحو التماثل مع الذات والتمايز عن الغير، في المآل الأقصى التجانس الداخلي الذي لا فرق فيه، مقابل الانفصال المطلق عن خارج غريب.
أما الاضطراب النفسي الموافقِ لطلب المشاركة فهو الفصام، أعني العيش في عالمين وبشخصيتين، عالم عام نتطلع إلى الانخراط فيه، وعالم خاص نشعر بالألفة داخله. الفصام اضطرابٌ نفسي «علماني»، أما البارانويا فهي الاضطراب الديني، يترافق مع عبادة الجماعات لنفسها.
ونظرية المؤامرة، بما هي توجّسٌ لا يزول من الاضطهاد، تشعر به جماعةٌ لا تشك بأهميتها الخاصة، هي أحد وجوه المناخ الاجتماعي والنفسي الخاص بالجماعات. ومثلما أن سردية المظلومية ليست تقريراً أميناً عن ظلمٍ حقيقي، فإن نظرية المؤامرة أيضاً ليست تقريراً واقعياً عن تآمر (لا تخلو منه علاقات الدول والتشكيلات السياسية)، وإنما هي من عناصر سياسة الهوية أيضاً، وتكوّن الجماعات.
أي جماعات؟ لعله صار مناسباً القول إن الجماعات التي تركن إلى سرديات المظلومية والتفوق، ولا تطور تفكيراً وسياساتٍ نقديةً مضادة، تظهر الظلم داخل جماعتنا، والعدل والشراكة مع من هم غيرنا، وتبرز أيضا الميزات الإيجابية عند غيرها، بقدر ما تبرز عيوبنا ومثالبنا، هذه الجماعات تنقلب إلى جماعات عضوية، عشائر أو طوائف لا تصلح، وإن تكن بالملايين وعشرات الملايين، أُطُراً للتطور الثقافي والأخلاقي والسياسي. ويبدو أن هذا هو الاتجاه المرجَّح لتطور الجماعات كلها في العالم اليوم.
من أجل عالمٍ بلا سرديات
إن كانت المناقشة أعلاه قريبةً من الصواب، فإن عالم السرديات وزمنها هما عالمُ وزمنُ انحدارٍ سياسيٍ وأخلاقيٍ كبير، وإن التحرر الإنساني يقتضي مواجهة هذا العالم والعمل على تغييره. وهذا جهدٌ كبير يمكن أن يجري على مستويين: مستوىً أول لمواجهة السرديات ذاتها، ومستوىً آخر يطال عالم الجماعات المتكونة حول السرديات.
أول ما يلزم لمواجهة سرديات المظلوميات والظلم النامي في كنفها، هو فكُّ الارتباط بين السرديات والهويات، وبين الظلم والعدالة. من الجماعات ما تكون موضع تمييز، وفي الجماعات من يمارسون عدلاً وظلماً، لكن ليس هناك جماعات ينبع العدل أو الظلم من تكوينها. ينبع الظلم والعدل من أوضاع في التاريخ للمجتمعات والجماعات.
يتعيّن التنبه، ثانياً، إلى أن من شأن نقد سرديات المظلومية وتفكيكها أن يقويها، بالأحرى، إذا تجاهلَ وقائع الظلم والتمييز الفعلية. ومما يمكن أن يُسهم في تقويض السرديات دون السكوت على الظلم، هو التعبير عما يقع علينا من ظلمٍ بلغةٍ عالمية، هي اللغة نفسها التي يُشرَح فيها أي ظلمٍ آخر، واستناداً إلى مبادئ العدالة نفسها.
خلافاً للمظلوميات، الظلم يُشرَح بلغة الاجتماعيات لا بلغة الهويات والأصول. ووفقاً للغة الاجتماعيات يظهر الظالمون في صورة أفرادٍ ومجموعات وليس جماعات، في صورة روابط صنعية وليس في صورة كيانات أهلية أو طبيعية. نتكلم هنا على طبقة أو نخبة أو حزب، وليس على جماعة دينية أو إثنية أو اعتقادية. وليس أشد أخطار مماهاة الظلم بالجماعات بداهةً، أنها (المماهاة) تُمهِّد لإبادة هذه الجماعات، بما فيها الأطفال والنساء والمُسِنّون.
فإذا كانت لغة الهوية تقول نحن الحق والعدل وهم الباطل والظلم، فإن لغة الاجتماعيات تقول إن الظلم والعدل علاقات، وإن العادلين هم من لا يكفون عن تعديل أنفسهم، والظالمين هم من يظنون أنهم عادلون في كل حال.
العدالة تقتضي بالقدر نفسه مقاومة الفخر أو سرديات التفوق. هذه عاطفةٌ غير كريمة في كل أشكالها، وهي حين تخصُّ الجماعات تكون أقبح مما حين تخص الأفراد. وبتكوينها ذاته، ليست سردياتُ التفوق وثائقَ نزيهة عن إنجاز ذي قيمة إنسانية عامة، بقدر ما هي تأسيسٌ للامتياز وسعيٌ وراء مكانةٍ خاصة.
في المقام الثالث، يلزم العمل على مواجهة السرديات بالتاريخ، بالوقائع المفصلة، بالمعلومات الأكثر موثوقية، بما في ذلك مقاومة الاعتقاد بأنه ليس هناك شيء خارج السرديات، بأن هناك تأويلات فقط لا حقائق، وبأن التشكك الواجب في مفهوم الموضوعية الصلبة إن جاز التعبير، يفتحُ الباب للقول إن كل الأقوال والتقريرات متماثلةٌ ومتساويةٌ في شرعيتها المعرفية والأخلاقية، أقوالٌ تؤول في النهاية إلى اعتبار القوة فيصلاً في العلاقة بين الجماعات، وتصدر في أصلها النتشوي أصلاً عن ذلك. يمكن ويجب الدفاعُ عن تصور ليِّنٍ وديناميكي للموضوعية، تصور بين- ذاتي يقوم على الاشتراك وإمكانية التفاهم.
وأول التاريخ الذي يتعين مواجهة السرديات به هو تاريخها هي، وبخاصة تشكُلُها من عناصر متناثرة، قبل حبكها في رواية أكثر تماسكاً، واقترانها بأوضاع صعودِ الجماعات، وكونها ليست خطاباً للمظلومين أنفسهم، ولا هي سجلات للمظالم الفعلية الواقعة عليهم.
في المقام الرابع السرديات غير متسقة كما سبق القول، تجمع أشتاتاً من الوقائع والتقديرات، وتسكت على ما يخالفها. لا تقول سردية المظلومية السنية أن الأميركيين تدخلو ضد الصرب (متأخرين) وحموا المسلمين، ولا تقول إن الناطقين باسم المظلومية السنية قتلوا من السنيين أكثر من غيرهم. وتصمت السردية الكردية على أي تضامنٍ من جهة عربٍ مع الكرد، لأنه يناسبها إظهار العرب كلهم متجانسين في عدائهم للكرد، تميل بالمقابل إلى التكتم عما ألحقه ويلحقه اليوم كرد بكردٍ من ظلم وتمييز. وتجري مقاومة تاريخ النكبة الفلسطينية الذي يكتبه المؤرخون الجدد في إسرائيل لأنه يُظهِرُ اليهود الصهاينة معتدين. ومثل ذلك بنسبٍ ومقادير بخصوص الجماعات الأخرى، بما يغذي أفعال الجماعة التي تقدمت الإشارة إليها: الامتثال، التعصب، السكوت والتسكيت، التواطؤ.
لا نستطيع مقاومة الظلم دون تقويض سرديات المظلوميات. ولا ننضج كفاعلين عامين عادلين دون ذلك.
المستوى الثاني يُحيل إلى العمل على تغيير نظام العالم الذي يحتفي بالجماعات وسردياتها. نظامُ العالم اليوم قائم على امتيازاتٍ غير عادلة، ومصممٌ من أجل حماية اللامساواة. الجماعاتية هي وليدة نظام الامتيازات، مثلما الطائفية ضمن أي بلد هي كذلك. العالم يتغير، وهو سائر باتجاه مزيدٍ من رفع الأسوار حول بلدانه الغنية، ومزيدٍ من الفشل والانكشاف في بلدانه الفقيرة. سورية تمثِّل عالماً صغيراً في عالم اليوم الكبير: فقراؤها منكشفون ومترحلون، وفي وجوههم ترتفع الأسوار في الداخل والخارج. السير نحو عالمٍ بلا دول فاشلة منتجة للبرابرة والهائمين على وجوههم، هو وجه من عملية السير نحو عالم بلدانه بلا أسوار.
ألم يكن هذا وعد «التقدم» وتجاوز الإقطاعية؟