هنا، حيث أحاول التعرّف قليلاً على منفاي الحالي، يترددُ على المقهى الذي أرتاده نحو عشرين امرأة تجاوزن الخمسين حتماً، اثنتان منهن قاربتا الثمانين؛ وسبعة رجالٍ، واحدٌ فقط في عقده الرابع، وآخر تجاوز الثمانين تدفعه امرأته على كرسيّ متحرّك. الباقون ستينيون يشربون قهوتهم الممزوجة بالحليب، يقرؤون الجرائد ويغادرون. المشترك بين المتناوبين على الطاولات من حولي هو التحديق بي كغريب، والتردد بين الابتسام أو التجاهل. شخصٌ واحد فقط جاهر باللامودة، السيدة التي قدمت لي القهوة، إذ ترمقني مراراً كأنها تستعجلني الرحيل، وهذا ما لا أنتويه، فلا يبدو أنه يوجد مقهى آخر في البلدة. حين غادرت فوجئت بعجزي عن تذكر ملمحٍ من الوجوه التي رأيتها، سوى كهولتها.
أردت سماع السيمفونية السادسة لبيتهوفين حين انزلق إصبعي على شاشة الموبايل، وبدأت التاسعة بالعزف. لا فرق، هو يومٍ سيءٍ آخر، لن يشكل فرقاً في حيوات من أعرفهم (بما فيهم أنا شخصياً)، سيما أنه مذ بدأت الثورة وحتى اللحظة، يزداد يقيني أن هذا الحال سيستمر لسنواتٍ طويلة قادمة، ليس لي فقط بل لملايين لا يفوقونني جدوى، فالحال المعتاد والمتوقع والمقدر ألا تكون على ما يرام.
لكثرة ما يكتب عن الثورة/الحرب والحال الذي آلت إليه البلد، سأتجنب ما استطعت التفكير في الأمر وأكتفي بالكتابة عن شخصي البائس، في منفى أستسلم فيه لعجزي مثلما فعلت دوماً على مدى أربعين عاماً، فما أنا إلا آخَرَ هاربٌ من مواجهة الحياة والمخاوف الشخصية سعياً وراء تبسيط التتالي العبثي للزمن، بحيث لا يتعدى سرداً فردياً على درب الموت القادم. في الحقيقة، حتى لو حاولت التفكير أو التنظير حول ما حدث ويحدث، فأنا على ثقة تامة بعجزي عن تغيير سفالة الواقع، ولن أتمكن من تناول الأمور بموضوعية، مهما جهدت لتخطي نظريات المؤامرة متعددة المصادر، أو هشاشة العقل الجمعي الخاضع لغريزة الاستمرار مهما كلف الأمرُ من قتل.
الشفقة
إذا أردتَ معرفة كيفية وصولي إلى بر منفاي هذا، فقط انظر إلى صورة أحد مراكب الموت في المتوسط، فهي تختصر عشرات المقالات والقصائد والتقارير الموسعة التي شرحت تفاصيل هروبٍ كهذا لآلافَ غيري. ولمعرفة مقدار الرعب الذي واجهته حتى صار انتعالُ البحر إلى موتٍ نسبةُ وقوعه خمسون بالمئة حاضراً كقدرٍ لا بد من مواجهته، هناك صورٌ كثيرة لجثثِ من قضوا في مذابح جماعية ومعتقلات وانتقامات متبادلة، ورؤوس مقطوعة متعددة الجنسيات. أما خسائري من قبل ومن بعد فكثيرة لكنها بملامح متشابهة هي أنا وأنت بشكلٍ أو بآخر.
بأي حال لا أريد التباكي، فأنا لم أفقد طفلاً ولا حبيباً، ولا حملت الأشلاء الممزقة لجارٍ أو صديق، ولم يسقط سقف بيتي ولم أسحل وتسحق عظامي في الأقبية ولم أمت جوعاً. لقد ركضت فقط. بدأت العدو مثلما فعل فوريست غامب فورست غامب: بطل فيلم يحمل نفس الاسم. ، صررت الخوف بين طيات ملابسي مع أوراقي الهامة، غلفتها بالقلق والنايلون كي لا يبتلَّ عمري بالبحر المالح، وركضت فوق الماء.
حين وصلتُ، اكتشفتُ أن كل ما حملتُه قد تلف. شهادة ميلادي، جواز سفري، إجازة السياقة، والصورة الوحيدة التي تجمعني بكل أفراد أسرتي وجدتي والتي التقطت لدفتر العائلة، حتى خوفي كان قد انتبجَ بالماء وفقد قوامه وتفتت إلى كتلٍ لزجة، بعضها علق على شعري ورؤوس أصابعي وسقف حلقي، انحشر بعضُها في أمعائي. كان ارتجاف عظامي يصدر ضجيجاً هائلاً في رأسي فلم أميز صوت الخسارة. كم أنا مثيرٌ لشفقتي.
التمايز
سمعت الكثير من حكايا من التقيت بهم في المأوى الذي لا يعدو كونه محطةً أخرى في منفانا الأزلي – اللامعترف به ضمنياً- ربما كنوعٍ من الإنكارِ النابع غالباً من عدم إدراك الذات والمحيط، أو لعلّه بسبب الجهل أو التجاهل لحقيقة المنفى الإنساني الذي بدأ قبل تغريبتنا القسرية هذه بسنوات قد تمتد عند بعضهم إلى زمنٍ سبق مولدهم، ولآخرين بدأ من لحظة السقوط الأولى في المساومة للاستمرار في الحياة، إذ من أجل التواصل كان لابد من الادّعاء، وللحب لا بد من إغماضِ الجفون، وكان علينا أن نتماهى مع كل شيء لنحظى بالقبول. اغتربنا مذ كشفنا أنفسَنا متلبّسين في المساومة، وبعد التقائنا هنا على عتبة المنفى الجديد تأكدتُ أن قربي من الحكايا أسوأ من عزلتي عنها، فكل الأسى المتخمّر في قلوب المهاجرين والموت الذي يحملونه يردني إلى ما هربت منه، يهمشني، يزيد يقيني بضآلتي، فالقيمة العليا هنا لصاحب هالة البؤس الكبرى، وكلما خفّ حملك من المعاناة قل الضجيج من حولك، وأنا هنا الأقل ضجيجاً.
لكن، هذه ليست الحقيقة. ينتفض التنافسي في جوفي صارخاً، أنا أحمل هموم البلد، آلاماً لا تدركونها، وعياً سابقاً لمنفاكم، ورغباتٍ أكبر من المعونات. أحمل توقاً لاتّساعٍ لا تَعونَ أبعاده، وشوقاً لكل حارةٍ دمشقية. أنا حمّال الأسيّةِ بينكم، ملأتُ أحداقي بالأسف عليكم، بخساراتكم وحكاياكم وكل ما ينتظركم. أنا اللاجئ الأفضل بينكم، أكثرُ المسحوقين تمايزاً، الممهورُ بعنفواني، المفتَّتُ المراقُ على سريرٍ في غرفةٍ مشتركةٍ في كامب الكامب: المأوى المؤقت لطالبي اللجوء. مشتركٍ، في طشت الشفقة والعبء والتنصل الأوروبي الرقيق.
الشرّ
تركت حبيبتي هناك ورحلت. أريد لهذا االشرير بداخلي أن يسيطر ويبزغ للنور بعد طول كمون. كنت كأي كائن بشريٍ يدعي الحظوة عند آلهته أو يزعم المقدرة على استئصال بقايا غرائزَ حيوانيةٍ كانت ضامرة، ويساوي إنسانيته بالخير الصافي وطيب النوايا، مع كدسة تبريراتٍ وتجاهلٍ عفويٍ لما قد تجره أفعاله على الآخرين. آن لهذا المدعي النبيل في داخلي أن يخرس ويواجه حقيقة الدوافع الفعلية لكل ما ارتكب من أفعال وأقوال، ثم لكلّ ما ساق من مبررات لنتائجها مترافقا برضىً عميق يضع اللائمين في الصف الآخر المواجه المعادي غالباً. لمن أعترف بأنني تركت الحبيبة ليس فقط لئلا تكون عبئاً في رحلتي، كيف أقرُّ لها أولغيرها بالملل من وجهها ودموعها وشكواها. لقد حذفتها كما الكائنات الافتراضية، بكبسة زر.
أمس تمت مقابلتي والتحقيق معي للمرة الثالثة، أي أنّ مرحلة الاستقلال عن الكامب الأخير اقتربت. لم أنم طوال الليل. قررت اليومَ حسم أمري والتدقيق فيما أشعره فعلاً، لا فيما أسلكُ تحت وعي السلطة، سلطتي الذاتيةِ المرتكزةِ على التمييز بين ما أريد وما يجبُ أن أريد. بيني وبين ما يجب أن يراني عليه الآخرون، أنا المرصوصُ بين مسننات جماليات القبول، المتطايرُ في زوبعة الإعجاب، المستميتُ في قنص التقدير. أناي تنتفض أخيراً وتقررُ قلبَ التراب الرطبِ عن حقيقتها. تريد أن تتشمّس وتذيب الديدان العميقة بملح الاحتقار وتوأمه اللامبالاة. تريد ركلَ ما حولها لتتمدّد وتستكشف حدودها ومقدراتها، فقريباً سأغادر هذا المكان. سأخرج من العالم الذي يعرفني وأهجر من يشبهونني، هؤلاء الذين حاصروني مذ ولدت بلعنة التعاطف الذي انغرز طوال عمره في القلب كسيخٍ حارّ ينكش ويلدع الرغبات الحقيقية، فيجعلها تنكمش وراء تغليب رغبة الآخر المثير للشفقة أكثر، وتالياً الأحقية والأولوية في بلوغ ما ترغبه تلك الأنا المجعلكة.
سأرحل عنكم جميعاً يا سوريّي الألم، يا مرآتي الوسخة. سيجد لي موظفٌ ما بيتاً صغيراً في وطنه هذا، ويراقبني هو والجيران ورئيس البلدية وذوو الصلبان العادية والمعقوفة. لن أصبغ شعري وأزرّق عيني، فتحت عدسة أصحاب الوطن الجديد هذا، تحت وطأتهم الحارقة، سيكون لي الحقّ بأن أنبذهم أكرههم وأرشّ في شوارعهم عاري، سيصبحون شماعتي وسبب فشلي، سأرتاح أخيراً من لوم الذات.
انتفاضة الشرير في ذاتي قد لا تكون نابعةً من إدراكٍ متأخرٍ أو تخطيطٍ مستقبليّ، وإنما نتيجة لمواجهة الموت المحيط، موت الحرب، الابتذال، التفاهة، والاحتياج المذل. هي ردُّ فعلٍ حتميٍ لوقوفها وجهاً لوجه مع لاجدواها المجردة تماماً من التقديرِ الذي كان يوماً يبرر رضوخها لجماليات الأنسنةِ السابق ذكرها، وهي دفعةٌ جديدةٌ على الحساب لتمايزي، أنا الغريب اللاجئ المثير للشفقة، الشرير. وقد لا أفعل. ربما أبالغ في الابتسام للمارة، أكدسُ كل الكلمات اللطيفة التي حفظتها في جملة واحدة، أنظف نوافذ بيتي المطلة على الشارع كل صباح ليروا كم أنا حضاري. سأزرع الورود على العتبة لأتشبه بهم، وحين تموت أسارع لاستبدالها قبل أن يكتشفوا أنني اعتدت على موت ورودي. قد أشاركهم الاشمئزاز من تخلف من خلفت ورائي في الكامب.
الرخاوة
لعلها العودة إلى أصل الكائنِ الوحيد المثْبتِ الهيولى، هذا السلفُ اللزجُ شديد التجانس مع ذاته على أية حال لنقائه ووحدته الخالصة من العناصر أياً كانت. هذا اللاموصوف إلا بمصادر الكلمات في أي لغة: الوحدة، العدم، الهباء، الأبد، والامتلاء بذاته فقط. هذا الامتلاء اللدن المجرد من التعاطف حتما لكونه مجرداً بالتعريف لعله الحقيقة البشرية الأولى، وما الشر والتعاطف إلا عناصر شائبة شوهت الوحدة الأصيلة للكائن. لعل أنايَ انطلقت في انتفاضتها من إدراكها لبساطة أصلها اللامدنس، وإثر قفزةٍ وحيدةٍ على الأصل اللدن علت وارتقت، وهكذا أمنّي النفس بأن خروجَها على الرضا المحيطِ المرغوبِ والرجوعَ إلى رضاها الذاتي لا يعدو كونه عودةً للسلف الأول.
ولكن ها أنذا أتكوّرُ في الصمت، إذ لا أملك من اللغة الغريبة ما أعبر به عن مشاعري. أكتفي بتهجئة الحروف في كلمات تمتد بطولها بقدر جهلي بها، فأبتسم خجلاً كلما عبر بي أحدُ هؤلاءِ الشقر وتهرب منهم عيوني، فلا تلتقط ملامحَ لهم سوى بريق الغربة. أشدُّ أوصالي على بعضها وأجلس مع الغرباء حولي في درسٍ ساعاته المكثفة لا تكفي لكسر أي حواجز، فلا تتسارع الدقائق التي أعدّها ولا تزداد ثقتي بصحة لفظي للحروف المعوجّة مهما كررتها، وكلما ألحّت عليّ المدرّسةُ الطويلة لأكرّر عبارةً بسيطة كلما تكوّرتُ على ذاتي أكثر فأكثر، وذابت الكلمات في تماثلها الموجع. ياللبؤس، احتجت حرباً ومجازر ومنفى وسقوطاً في الدونية فقط لأدرك أن لا شيء لديّ أفعله لهذا العالم لأخرج من وهم الجدوى، وأتيقن من حقيقة أني مستهلِكٌ أبديٌ للتراب حياً وميتاً.
أنا الغريبُ اللاجئُ المثيرُ للشفقةِ المتمايزُ الشريرُ الأوليُّ الرخوُ، أغوصُ في أعماقي كل نهارٍ على باب الكامب. أدخن سيكارة بلا نكهة، أردّ السلام على البؤساء المنتظرين حولي، أردد ما يقوله الجميع للجميع هنا، أتقيأ فلسفة المثقفين وألوك موسيقاهم، ثم أرد على استفسارات الطامحين بالوصول إلى هذا الهُنا بلهجة العارف. أتف التبغ ثم أتمشى في الخواء الأخضر المشبع بالرطوبة تحت غيمةٍ لا تنقشع أنستني شمس هناك.