إلى فاروق مردم بك، العثماني المُعتق.
تستند «المعارف» والعلاقات والمخيلات المتبادلة بين «الجماعات الأهلية» السورية، بجزءٍ كبير منها، إلى الذاكرة الجمعية الأكثر شيوعاً وانتشاراً ضمن هذه الجماعة، والتي تتحدد عادةً بعددٍ قليل من الصور النمطية عن «الجماعة الأخرى». صور مغلّفة بالشمول والكلية والاختصار لهذه الجماعة الأخرى.
يزيد من خطورة ذلك راهناً أن الكثير من تلك البُنى الأهلية تحولت بالتقادم إلى أحياز سياسية/ مجتمعية شبه مغلقة، بفعل تفاقم العنف، الذي كان تتويجاً لسياسة العزل والتخويف وكسر الثقة التي لعبت عليها «غريزة» النظام السوري قرابة نصف قرن كامل؛ ليغدو منصة أمان وحيدة بالنسبة لجميع هذه «الجماعات الأهلية»، التي كان يلعب بها ويحاول جاهداً تحويل أشكال وعيها وثقافتها الأهلية إلى أنماط من الهويات السياسية والجماعاتية شبه المغلقة. بالطريق لذلك، كانت الجماعات السورية قد هدمت كل مستويات وأشكال «الرابطة الوطنية» المدنية، هذه الأخيرة، «المواطنية»، التي ينتفي ضمنها ومعها أي تصارع بيني معلن أو خفي يمكن أن يلعب عليه أي نظام سياسي شمولي، كالنظام السوري منذ تأسيسه.
*****
كان الكيان السوري، اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً، الأكثر ضمّاً لمجمل الحساسيات الاجتماعية والثقافية والسياسية العثمانية ضمن الفضاء العثماني؛ الشيء الذي أدى لأن تشغل أشكال العلاقات بين الجماعات الأهلية العثمانية جزءاً تأسيسياً لأشكال العلاقات فيما بين السوريين لاحقاً. خصوصاً الأحداث والمجريات الأقرب عهداً من عمر الإمبراطورية العثمانية، أي منذ تولي السلطان عبد الحميد الحُكم عام 1876 وحتى انهيار هذه السلطنة في مناطق سيطرتها السورية وانبعاث الكيان السوري عام 1918.
فالحروب والأزمات والتغيرات السياسية والديمغرافية والاقتصادية الطويلة التي عاشتها السلطنة خلال هذه الحقبة القاسية من تاريخها الأقرب، شكّلت الفاعل الأكثر حيوية في تكوين ذاكرة كثير السوريين عن نظرائهم المحليين؛ بالضبط لأن مجريات تلك السنوات حددت مصائر وتموضع وأحوال هذه الجماعات في الكيان السوري فيما بعد. لذا فإن أغلبها كان يرد أحوالها إلى مجريات تلك السنوات القلقة.
لكن يبقى ثابتاً أن مجمل «الذاكرة السورية» المؤسسة حول تلك الحقبة، ومجمل التأريخ للحياة العامة السياسية/ الاجتماعية/ الثقافية العثمانية، إنما هي «ذاكرة مصطنعة»، أي أنها ناتجة بالضبط عن مؤسسات ونُخب وتيارات سياسية ذات مرامٍ قبلية لعملية التأريخ هذه. كونها تنزع لتثبيت وترسيخ وعي سياسي وصورة إيديولوجيّة «متوجبة» عن الإمبراطورية العثمانية، ذات بُعد وظيفي واستخداماتي، بعيدة بالمقابل عن الضرورات المنهجية والواجبات المعرفية والأسس الأخلاقية لعملية التأريخ هذه.
ما ستحاول هذه المقالة نقاشه يعتمد الباحث على ثلاثة مراجع/ كُتب لبناء محاججاته في هذه المقالة: تاريخ الدولة العثمانية، وهو كتاب مؤلف من جزئين، بإشراف المؤرخ الفرنسي المختص بالدولة العثمانية روبير مانتران، ويضم بين دفته 19 نصاً بحثياً مطولاً لـ 12 باحثاً مختصاً، عن تفاصيل عن بنية الدولة العثمانية. ترجمة بشير السباعي. الناشر: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة؛ سوريا ولبنان في عصر الإصلاح العثماني: حقبة التنظيمات1840 – 1880. أمل بشور، المؤسسة الحديثة للكتاب، 2006؛ المدينة العثمانية بين الشرق والغرب. مجموعة من الباحثين. ترجمة د.رلى ذبيان، مكتبة العبيكان 2008.هو أشكال الاستخدام الإيديولوجي للتأريخ للمرحلة العثمانية، وتأثير كل منها على شبكة العلاقات بين السوريين، ومن ثم محاولة الإجابة على المكامن المعرفية في أشكال التأريخ تلك، وتأثيرها على مستقبل العلاقات بين السوريين.
*****
ثمة ثلاث جهات سوريّة تقاسمت تلك «الصناعة» للتاريخ العثماني بمختلف مناحيه، واشتركت جميعها بسمات القصدية المحددة سابقاً، سنسمي كل منها «سردية».
السردية الزجرية/ القومية
تعود هذه القراءة بجذورها إلى البدايات الأولى لبزوغ التنظيمات القومية العربية أوائل القرن المنصرم، حيث استلهم حزب البعث منها جزءاً غير يسير من أدبياته وخطابه السياسي. تقول هذه القراءة أن السلطنة العثمانية إنما كانت كياناً للعنصر القومي التركي، وكانت تحتل «الوطن العربي» بالقوة، وأن تلك السلطة السياسية التركية كانت تحاول على الدوام تتريك العرب، وتحارب هويتهم القومية السياسية ولغتهم الثقافية «السامية». وأن هذه السلطنة كانت تواجه على الدوام رفضاً من قبل جميع «العرب»، الذي خضعوا لها بالإكراه والتعنيف. في جوانب أخرى من تلك القراءات فإن هذه السلطنة وذويها «الأتراك» كانوا المصدر الأول والأساس للنكوص التاريخي الثقافي والمعرفي والحضاري الذي أصاب العرب، وأن الخلاص من هيمنة ذلك «الاحتلال العثماني» كان الخطوة الأولى لدخول العرب للحداثة وحركة التاريخ، ليستعيدوا أمجادهم الآفلة.
جعل البعث من تلك القراءة بنيةً للكثير من مؤسساته الإيديولوجيّة التي كان يحكُم بها، بالذات المؤسسات التربوية والإعلامية. فمجمل النصوص والأدبيات والدروس في مناهج كُتب التاريخ، لمختلف مراحل التعليم في سوريا وطوال الحُكم المديد للبعث، كانت تتماهى وتثبت من تلك القراءة، بطريقة بالغة الأدلجة والتوجيه والمباشرة.
على مستوى نظير، فإن مؤسسات الإعلام والدراما والفنون التي كانت تدور في فُلك المؤسسات السلطوية «البعثية» كانت تُدرج مستويات مختلفة من ذلك «الخطاب» حسب طبيعة العلاقة التي تكون بين النظام السوري والدولة التركية. كانت تفعل ذلك عبر الخطاب الإعلامي والمسلسلات الدرامية والمسرحيات والأفلام.
الغريب أن الذين شاركوا القراءة القومية العربية الزجرية تلك كانوا جملة من السوريين الذين كانوا على النقيض الإيديولوجي والسياسي للبعث نفسه، على أنهم كانوا يشتركون معه بالتباين مع «العنصر التركي». شارك البعث الأحزاب القومية الكردية السورية، وأحزاب الحركة القومية السريانية والأرمنية، وكذلك القوميين السوريين.
دون الدخول في نقاش طويل حول الجوانب السياسية والإيديولوجيّة غير المعرفية لهذه القراءة القومية العربية، فإنها بالتأكيد كانت تذهب لتثبيت «الهوية القومية العربية» لسوريا ككيان وجغرافيا: أي أنها حينما كانت تجمع البُعد القومي «التركي» للسلطنة العثمانية مع وسمها بأنها كانت «قوة احتلال» إنما كانت تسعى لتثبيت «أصل» قومي عربي مقابل، أصل للكيان والجغرافيا السورية. هي، بالتالي، «سردية موجهة» ضد كثير من السوريين الذين يعرّفون «هوياتهم» القومية بغير العربية؛ وضد جزء غير قليل من «العرب» السوريين أنفسهم، هؤلاء الذين لا تحتل التعاريف والهويات القومية مكانة في صورتهم ومخيلتهم حول أنفسهم. وأخيراً فإن مثل تلك القراءة كانت تشرعن البُعد القومي فقط للكيان السوري، وبالتالي للتيار السياسي الذي يمكن أن يحكُمه.
السردية التعظيمية/ الطائفية
على دفة نظيرة تماماً، فإن حركات الإسلام السياسي «السُنية» عملت، منذ تأسيسها الأول في أواسط العشرينات من القرن المنصرم، والذي ترادف وتراكب مع انهيار وإلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، على أسطرة صورة تعظيمية/ مثالية متخيلة عن تلك الإمبراطورية العثمانية.
في إطار تمايزها عن الأصوليات التقليدية «الوهابية»، فإن حركة الإسلام السياسي الأحدث -حركة الإخوان المسلمين- سعت، في أدبياتها التأسيسية، للتحريض على استعادة «الخلافة الإسلامية» بأي شكل. لكن، بالتقادم، ومع فقدان خطاب «إعادة الخلافة» بريقه مع صعود الحركات القومية، فإن آداب الحركة الإسلامية باتت تميل للحنين إلى الحقبة العثمانية، ولتحويلها لمجموعة من صور وعوالم «مختلقة» تشبه بالضبط صورة الأب الصالح في ذهن اليتيم «الضال».
ساهمت سردية الحركات الإسلامية حول نمط الحُكم والسلطة في العهد العثماني، بشكل جزئي، في تأسيس حكر مشروعية الحُكم والسلطة بـ «الأغلبية»، والتي لم تكن تقصد بها سوى المنتمين للطائفة السُنية، كما ساهمت من جانب آخر بشرعنة الممارسات والقوانين الملّية/ الذمية التي كانت تمارسها السلطة العثمانية بحق غير المسلمين، ونوعاً ما بحق المسلمين غير السُنة.
في مراحل أكثر تقادماً، فإن تلك المخيلة التعظيمية أنتجت أنماطاً من الأدبيات والبرامج السياسية يمكن وسمها جميعا بـ «التفتيتية»، لأن جميعها كان متماهياً مع الانتظام الاجتماعي والسياسي في الإمبراطورية العثمانية. فالمجتمع عبارة عن مجموعة من الجماعات والكتل الاجتماعية، المنقسمة شاقولياً تبعاً لعديد المذاهب والطوائف، وأن منحدرين من الطائفة السنية يملكون شرعية الحُكم لأنهم يشكلون الأغلبية السكانية والمركزية الشرعية.
بناءاً على ذلك، فإن جزءاً وفيراً من تفسير أحوال سوريا من قبل هؤلاء الإسلاميين ينزاح دوماً لاعتبار أن المعضلة تكمن فقط في خروج الحُكم من يد «السُنة» وسيطرة منتمين لطوائف أقلوية أخرى عليهم (العلويين، المسيحيين..). ومن طرف آخر، فإن تلك السردية التعظيمية للحقبة العثمانية من قبل التيارات الإسلامية السورية شكلت حاجزاً بينهم وبين قدرتهم على سماع وقبول المظلومية السياسية والاجتماعية التي طالت باقي الطوائف في العهد العثماني. وفوق ذلك، فإنها كانت تؤسس لتراتبية في العلاقات الوطنية، لا تشكل المواطنة مركز وعيها، حين تعتبر وجود جماعة مركزية، «السُنّة»، ثم أقليات هامشية.
سردية تحالف الأقليات
الغريب أن هذه السردية تجمع بين الطابع الزجري للسردية القومية العربية، وبين السردية التعظيمية التي تعتبر أن الحُكم العثماني كان مجرد سلطة سُنّية. لكنها، على الدوام، تردّ جميع أسباب النكوص التاريخي إلى تلك الحقبة، وتبني على أساسها مظلوميتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فحسبها، كان احتكار «السُنّة» لسدة الحُكم ومختلف مفاصل مؤسساته، مع تطبيقهم الصارم للتفاسير السُنية للإسلام، سبباً للنكوص الذي أصاب مجتمعاتنا، وأدّى لإقصاء تام لكل المكونات غير السُنّية من الحياة العامة.
لم تُتبنّى تلك السردية من قبل طيف من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية السورية فحسب، بل جمعتهم مع تيارات سياسية تملك نظرية متكاملة حول ذلك، مثل التيار السوري القومي الاجتماعي؛ ومع مثقفين «علمانويين». اعتُبر أن سبب نكوص أحوالنا يعود، بجزءٍ كبير منه، لهيمنة التيارات الدينية المحافظة على الحياة العامة بشكل تقليدي. هؤلاء المثقفين «العلمانويين» والوا نظام الحُكم الاستبدادي بشكل غير مباشر، لأنهم اعتبروا في «لا وعيهم» أن المعضلة المركزية ليست في الاستبداد السياسي طالما ليس متدينا، بل في «جماعة الأغلبية» التي، لو حكمت، فأنها ستنكص بنا نحو ما كانت عليه الحياة العامة في العصر العثماني.
حينما تضع هذه السرية نظريته، فأنها تُماهي بشكل تام بين صورة ونمط الحُكم العثماني، وبين ما تتخيله عن الجماعة الوطنية، أي «الأغلبية السُنية»، وتُحمّل مجموع ملاحظاتها ومظلوميتها التي كانت عن العصر العثماني على هؤلاء الذين يُعاش معهم في نفس الكيان، فقد اعتبرتهم امتداداً للحاكمين في تلك الحقبة.
*****
ما يجمع بين السرديات الثلاث، أن جميعها مبنية على إرادوية سياسية قبلية، وعلى استخدام سياسي وايديولوجي لاحق، وأن أي منها لم تكن نابعة من تكوين معرفي علمي عن المرحلة العثمانية. فالحقبة العثمانية، وبالذات في مراحل حُكمها لمناطق الكيان السورية الراهن، التي كانت موزعة على أكثر من إيالة عثمانية، إنما كانت حقبة متحركة ومتحولة، غير خاضعة لأية سمة وحيدة وشاملة، بل كانت جزءاً طبيعياً من حركة التاريخ وتحولاته.
يمكن تحديد ثلاث مرتكزات جوهرية لتحطيم تلك السرديات الثلاث، وتأسيس قراءة أكثر معرفية بالحقبة العثمانية، تساعد، بجزء يسير، في تصحيح الأشكال القلقة للعلاقات الوطنية بين الجماعات السورية.
أولاً: تحطيم السردية الشمولية:
تستند السرديات الثلاث على نوع عميق من الاختصار الكلّاني للحقبة العثمانية. فهل حقاً كانت السلطنة العثمانية، مثلاً، سلطنة تركية على دوام أزمنتها، وهل كان الحضور التركي في السلطنة العثمانية متأسساً على نمط من الهيمنة القومية لتكوين إثني على تكوين آخر، كما تذهب السردية القومية العربية والكردية ؟! وكمثال آخر، هل كانت السلطنة العثمانية، بقوتها العسكرية المركزية، مضادة ومعادية بوعيها لجميع الجماعات الأهلية العثمانية غير السُنية، كما تذهب السردية الأقلوية من جهة ثانية؟! لكن هل كانت على الدوام دولة بالمعايير الموضوعية لهذا المفهوم، هل كانت، مثلاً، توفر القدر المعقول من الموازنة بين الجماعات الأهلية المنضوية في ظلالها، وهل كانت خارج سلوكيات التمايز بين الكتل الاجتماعية/ الأهلية في الإمبراطورية، كما «تتوهم» السردية الإسلامية؟!
أغلب الظن أن مثل هذا الوعي الشمولي قد تكوّن حول دراسة مرحلة بالغة القصر من تاريخ هذه الإمبراطورية، وربما في مكان جغرافي بعينه، ومن ثم «مطّ» هذه الحقبة لتبدو وكأنها التاريخ العثماني بذاته، وبكل تفاصيله.
فالتأسيس الأول لهذه الإمبراطورية، في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، في زمن حُكم سليمان الكبير وعثمان الأول ونجله أورخان، ربما كان قائماً فعلاً على الصراعات البينية بين القبائل التركية في غرب الأناضول، والتي امتدت لأسباب تاريخية بالغة التعقيد للهيمنة على مناطق غرب البر التركي في أقصى شرق جنوب البلقان، وأدى احتلال القسطنطينية لأن تتحول تلك القبائل التركية إلى دولة كبرى على طرفي بحر إيجة.أيضاً، تماهت المرحلة الأخيرة من التاريخ العثماني، بأشكال مختلفة، مع حقبة التأسيس، وذلك حين صعد التيار القومي التركي بقيادة زعماء «الاتحاد والترقي»، وسعى لصبغ اللون التركي على الكيان العثماني. لكن ذلك لا يعني، بأي شكل، أن القرون الأربعة الفاصلة بين المرحلة التأسيسية ومرحلة الانهيار إنما كانت قرون الحُكم التركي، أو أن هوية الدولة كانت مبنية على إيديولوجيا سياسية قومية تركية، وأن مؤسسات الدولة كانت على ذات الصبغة التركيّة. هذا مُعاند لكل المعايير المنطقية لعلم الاجتماع السياسي، ولكل التأريخ الموضوعي للسلطنة العثمانية.
كانت التركيّة، كإيديولوجيا للكيان، تصبغ بعض المراحل من التاريخ العثماني، وأحيانا حصل ذلك في مناطق بالغة الصغر من السلطنة. لكن كان الظرف الغالب أن هذه السلطنة اعتمدت لنفسها سمات وإيديولوجيات عديدة لشرعنة حُكمها تماشياً مع الظروف والأحوال التي كانت تعيشها في مختلف الحُقب، وأنها في مرات كثيرة كانت تستخدم أكثر من خطاب وإديولوجيا لمناطق مختلفة، حسبما يقتضي ظرف الحُكم.
فبنظرة سريعة للاسم الرسمي، الطويل جداً، الذي كان يتخذه السلطان العثماني لنفسه، يمكن الاستدلال على مدى وطيف ما كان يُعتمد من هويات وإيديولوجيات في الحُكم، أساسها السمة الأبوية التي يحملها تجاه الرعايا. وكذلك، في قلة سيطرة وانتشار اللغة التركية في سهوب سلطنة يُدّعى أن العنصر التركي بقي يحكمها لأكثر من خمس قرون، يُلاحظ مدى قصور عبارة «الهيمنة التركية على السلطنة»، حيث ليست قلّة العبارات والكلمات التركية التي تحويها اللغات العثمانية الأخرى، إلا موازية للكم الكبير الذي تحويه اللغة التركية من تلك اللغات، العربية والكردية والأرمنية واليونانية والبلقانية. مما يُستدل عليه منطقياً إلى مدى التوزع شبه المتوازن للأرومات القومية العثمانية المختلفة، وعدم هيمنة واحدة منها على الأخرى.
ما ينطبق على الطابع الجزئي -الزماني والمكاني- الذي كان للهوية التركية في السلطنة العثمانية، ينطبق تماماً على الطابع العنيف لها تجاه رعاياها. إذ لم تكن المجازر التي ارتُكبت بحق الجماعة الأرمنية أو السريانية في نهاية الحقبة العثمانية سوى حالة استثنائية موضعية، وهي لم تطلهم انطلاقا من كونهم ينتمون إلى هوية دينية وعرقية أخرى، بل لحسابات سياسية وحربية خاصة بالسلطة المركزية الحاكمة وحربها المستعرة مع الإمبراطورية الروسيةلا تحط القراءة المعرفية الموضوعية لتلك الحقبة أبداً من قدر الإدانة والشجب لما مورس بحق الجماعتين الأرمنية والسريانية، وهي لا تنفيها بأي شكل حينما تضعها في إطارها التاريخي وتحدد إطارها وحجمها الحقيقيين..
لم يُمارس التاريخ العثماني مثل تلك المذابح الجماعية في الكثير من مراحله، وتنفيذ تلك «العقوبات/ المجازر» إنما كان يجري لحسابات سياسية تماماً. فما طال الأتراك المتمردين في مدينة قونيا من بني «ذو القادر» في أواسط القرن السابع عشر لم يكن أقل فظاعة مما طال الأرمن فيما بعد. كذلك، في حين تعرّض أرمن شرق الأناضول لمذبحة مريعة عام 1915 فإن أرمن اسطنبول لم يتعرضوا لمثلها إطلاقاً. وفي أغلب المراحل ساد السلام الاجتماعي العلاقات بين الجماعات الأهلية العثمانية، وإن بشروط غيرعادلة حسب المعايير الراهنة.
نفس الشرط من الشمولية الذي ينطبق على السرديات القومية العربية والكردية، والسردية الأقلوية ينطبق على السردية التعظيمية التي يتبناها الإسلاميون، فما كان في بعض أزمنة السلام الاجتماعي والرخاء الاقتصادي وشرعية الحُكم، الخاصة بفترة زمانية أو مكان خاص خلال الحقبة المديدة للسلطنة العثمانية، لا يمكن أن يعني، بأي حال، أن الحُكم العثماني كان كذلك على الدوام وفي مختلف المناطق.
الحالة نفسها تكاد تنطبق على جميع المرويات والسرديات الجزئية التي تتداولها جماعة أو ذاكرة جمعية صغيرة عن تاريخ إمبراطورية كبرى، عاشت امتداداً جغرافياً وسكانياً وزمانياً هائلاً، وخضعت لكم كبير من التحولات في بنيتها وطبائعها وممارساتها وأدواتها وخطابها، ولا يقلل من قيمة ذلك وجود بعض المشتركات الفضفاضة بالغة الاستثناء والعمومية. فالدولة العثمانية تكاد تكون تاريخاً متلوناً ومتحولاً، يشبه التاريخ الأوربي في القرون الوسطى: يمكن أن تجد بها كل شيء.
ثانياً: موقع الجماعات من السلطة
تُجمع السرديات الثلاث على أن النُخب العثمانية الحاكمة تنحدر من أرومة دينية وعرقية وطائفية بعينها، أي الأتراك المسلمين السُنة الحنفية، وأن الباقي، أي غير المنتمين لهذه الحلقة الضيقة، إنما كانوا خارج «اللعبة السلطوية» تماماً.
يبدو ذلك خلطاً جلياً بين «خطاب الدولة» وبين «هوية النُخب الحاكمة». فخطاب الدولة الديني، وإن كان «سُنّيا»، فإنه كان يشكل فقط واحدة من آليات السلطة العثمانية للاستحواذ على قدر من الشرعية المعنوية. لكن ذلك لم يكن يعني وجود تماهٍ بين ذلك الخطاب وطبيعة الآليات والمؤسسات التي كانت تتكفل بصناعة نُخب الحُكم العثمانية.
فالدولة العثمانية، وإن كانت ذات خطاب دولتي ديني/ مذهبي/ قومي، وإن كان ذلك جزءاً متناسباً مع نوعية خطابات الدول التي كانت في عصرها، في جوارها الأوربي وفي البر الآسيوي شرقها؛ إلا أنها كانت خاضعة تماماً لشروط امتدادها الهائل على طيف من الأمم والهويات والجغرافيات، لذا فأنها خضعت على الدوام لثلاث آليات لصناعة نُخبها الحاكمة، نُخب كانت مؤلفة من جميع المنتمين إلى تلك الأطياف الأهلية لمجتمع السلطنة:
النُخب العسكرية: والتي كانت يتأتى أفرادها عادة من إحدى مؤسستين، إما السباهيون المحليون، أو الإنكشارية المركزية. الأولى التي كانت أقرب لمهام وزارة الداخلية راهناً، وكانت على الدوام في تخوم المدن الكبرى وعلى علاقة تداخلية معها، لحماية الأمن العام وفض التنازعات بين الكُتل الاجتماعية. والإنكشاريون، الذين كانوا أقرب ما يكونون للجيش النظامي اليوم، كان منوطاً بهم حماية العاصمة والتصدي للغزوات الخارجية وتنفيذ الحروب الهجومية.
المهم في الأمر التأكيد على أن نُخب هاتين المؤسستين كانت تُستقدم عبر شبكة معقدة من المؤسسات «التعليمية العسكرية» الرديفة، وأن المنتمين لهذه المؤسسات كانوا على الدوام من كل الجماعات الأهلية العثمانية القومية والمذهبية، وإن لم يكونوا من غير المسلمين في المناطق الشرقية من الإمبراطورية العثمانية، لكنهم كانوا على الدوام من المسيحيين والمسلمين في مناطق البلقان وشرق أوربا «الدويشرمه»، عبر أشكال من التعاقد مع الفرق العسكرية المسيحية «المحلية» في تلك البقاع. فالعثمانيون كانوا على الدوام يستفيدون من النزعة الأرثوذوكسية المسيحية في البلقان، المضادة للنزعات الأوربية الكاثوليكية والبروتستانتية. كما أن انتساب المسيحيين للنُخبة العسكرية تغير بُعيد عصر الإصلاحات العثمانية 1839-1860م، حين أُقرت القوانين التي تعتبر جميع «رعايا» السلطان مواطنين متساوي القيمة في السلطنة.
كان أغلب «سادة الجُند» من هؤلاء يحالون لاستملاك واستثمار بعض الأراضي الزراعية بشكل مؤقت، فالزواج كان محظوراً على أغلب النُخب العسكرية، والإمبراطورية سمحت لهم بالزواج فقط في سنوات متأخرة من أعمارهم حين التقاعد.
ما يجب قوله هنا أن هذه النُخب العسكرية ما كانت فقط من أرومة وانتماء مذهبي وديني واحد فحسب، وأن سيطرة المسلمين السُنة على المؤسسات العسكرية إنما كانت أمراً نسبياً وشبه متناسب مع الغالبية السُكانية السُنية.
النُخب المدينية: هي التي كانت تُعتبر عصب الحُكم السياسي والإداري لدولة مترامية الأطراف كالسلطنة العثمانية. النُخب التي سماها ألبيرت حوراني «الأعيان»، وسمى السياسات العثمانية الداخلية للسيطرة السياسية والهيمنة الرسمية على التخوم البعيدة من مركز الإمبراطورية «سياسة الأعيان».
هؤلاء كانوا ينحدرون من ثلاثة منابت رئيسية، يشكلون سوية الديناميكية الأكثر حيوية للإدارة والسياسية المحلية في كل الحواضر العثمانية. فقد كانوا خليطاً من ائتلاف رجال الدين/ القضاة وكبار التجار وقادة الجُند المحليون.
هذا الخلطة تتكون عادة عبر مسيرة شديدة التعقيد والتحول على الدوام، عبر تصارع اجتماعي وطبقي بالغ الحيوية والتغير، حيث كان التصارع في كل حاضرة عثمانية يسير وكأنها «دول» بذاتها، شبه منفصلة عن المركز العثماني.
هذه النُخب أيضاً كانت منحدرة من كافة الجماعات والأعراق والحساسيات الأهلية المكونة للإمبراطورية. حتى رجال الدين/ القضاة، الذين كانوا مكوناً أساسيا في هذه التشكيلة، كانوا يشكلون شبه فيدرالية محلية في هذه الشأن، فكل طبقة من رجال دين كانت شريكة في هذا الائتلاف، حتى رجال الدين المسيحيين واليهود والمنتمون إلى الجماعات المذهبية الأخرى كانوا على درجة عالية من «السلطة» في تلك التحالفات المركزية، لأنهم كانوا ممثلين لأبناء مذاهبهم وأديانهم في تلك الإدارة المحلية.
ما كان يشجع على الدوام على أن تكون تلك القوى المحلية جزءاً مركزياً في السلطة الكلية للسلطنة هي الطبيعية «الفيدرالية» للإمبراطورية مترامية الأطراف، والتي كانت محاطة بـ «الأعداء» الأقوياء من كل حدب، لذا كانت تسعى على الدوام لكسب ولاء هذه النُخب المحلية المنحدرة من كافة الأُروم الأهلية والجهوية، وتمنحهم الكثير من السلطات غير المركزية، بالذات في شأني الاقتصاد وإدارة شؤون العامة –البيروقراطية- والسيطرة على المؤسسات الرمزية كالقضاء.
النُخب المركزية: هي التي كانت تشكل حلقة الحُكم الأضيق التي كانت تحيط بالسلطان وقصر الحُكم، المتمثلة بالصدر الأعظم والوزراء وقضاة الجُند والمفتي وزعماء الطوائف.
بالتقادم تحول هؤلاء إلى طبقة اجتماعية وسياسية بذاتهم، يشتغلون بشؤون الحُكم المركزي. كان مسعاهم الوحيد هو الحفاظ على مواقعهم وامتيازاتهم الاستثنائية. أي أنهم لم يكونوا على «ولاء» سياسي واجتماعي وجهوي للمجتمعات التي انحدروا منها، بل كانوا «نُخب سلطانية»، يوالون استقرار الحُكم وديمومته، لأنه الشيء الوحيد الذي يسمح لهم بالحفاظ على مصالحهم.
عبر السبر المبسط لآلاف المنتمين لهذه الطبقة من نُخب الحُكم المركزية، وبالذات الذين عُينوا ولاة في مختلف أنحاء السلطنة، يمكن كشف كشف مدى انتماء هؤلاء «أهليا» لمختلف أبناء الطيف الاجتماعي الإثني والديني والمذهبي العثماني.
ثالثاً: الدولة فوق المجتمع
على أن أهم «ملوث» يُحيط بوعينا وأسلوب «تأريخي» ـنا للمرحلة العثمانية، هو اختصار الرؤية على الشأن السياسي، ومن ثم تخيل صيغة الحياة المجتمعية/ الثقافية/ الحياتية العثمانية وكأنها صورة عن تلك الأحوال السياسية التي يتم عرضها وسبرها، في تماهٍ مباشر للعلاقة الترابطية الراهنة بين الدولة والمجتمع.
على أن ذلك ناتج عن سوء إدراك لتحولات العلاقة بين «الدولة» والمجتمع في الأزمنة السابقة لـ «حداثتنا» الراهنة، حيث أن الدولة كانت على الدوام أكثر عزلة وانفصاماً عن الأجسام الاجتماعية المكونة لها، وأن التداخل جرى في الأزمنة الأحدث عهداً. فالدولة بمؤسساتها ونُخبها وسلوكياتها كانت، إلى حدٍ بعيد، منفصمة عن المجتمعات، إلا بالحد الأدنى.
عدم وعي هذه الإشكالية أدى إلى وعي العلاقات البينية التي كانت بين «مجتمعات» السلطنة العثمانية فقط عبر وعي الأحوال السياسية السائدة، وبذا الانشغال التام عن تراث مجتمعي وثقافي بالغ الثراء والأهمية. يمتد من وعي العائلة إلى شكل العلاقات الاقتصادية بين كُتل «المواطنين» العثمانيين، من فنون العمارة وهندسة المدن وأشكال المؤسسات الثقافية، إلى طبيعة العلاقات التي كانت تربط الجماعات والطبقات الاجتماعية فيما بينها، من ذاكرة الفنون الشعبية والمنتجات الثقافية إلى تراث عظيم من المنمنمات والذواكر الجمعية…الخ.
غض النظر عن كل ذلك يغدو خطوة أولى لصناعة عوالم بديلة صناعية وخاضعة لسلطة الإيديولوجيا والسياسة، عوالم بعيدة عن تلك العوالم الاجتماعية التي كانت في السلطنة العثمانية، والتي تؤسس وتؤثر بعمق على حيوات وعلاقات جماعاتنا الأهلية الراهنة في سوريا.