هذا المقال هو الرابع في سلسلةٍ من أربع مقالات للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، عن الحرية والليبرالية والدين والعقلانية، تنشرها الجمهورية تباعاً؛ وستصدر قريباً، مع ست مقالات أخرى لراسل، في كتاب بالتعاون بين مجموعة الجمهورية ودار ممدوح عدوان للنشر.
(المقال الأول: التفكير الحرّ والبروباغندا الرسميّة؛ والمقال الثاني: إيمان العقلاني؛ والمقال الثالث: الحرية والجامعات).
ننشر هنا نصاً ساخراً لراسل، عن المحافظين والأثرياء وأخلاقهم.
اشتُهِرَ راسل بسخريته وأسلوبه الساحر الأخّاذ البسيط. حصلَ على جائزة نوبل للآداب عام 1950، عن مجمل أعماله، ولدوره في نشر الثقافة الفلسفية، وتقريب الناس من الفلسفة. لذا، و بعد تردد، اخترت هذا النص للنشر هنا. أودُّ أولاً أن يقرأ الناس نصاً فلسفياً في الأخلاق بأسلوبٍ ساخر، علَّنا ننفض من أذهان الناس ما علق بها من صعوبة الفلسفة وجمودها؛ ثانياً، أودُّ أن يطَّلع القراء على هذا النص، لأهميته في نقد أخلاق المحافظين ونفاقهم غير المحدود.
لا يحتاج هذا النص إلى مقدمةٍ طويلة، نطلب من القارئ فقط أن يسترخي ويستمتع ويستفيد.
عدي الزعبي
*****
نُشِرَ لأول مرة سنة 1931.
أريد أن أكتب مقالاً في مدح الناس الطيبين. ولكن قد يرغب القارئ أولاً أن يعرف من هم الناس الذين أعتبرهم طيبين. قد يكون صعباً أن نصل إلى صفتهم الجوهرية، لذا سوف أبدأ بتعداد أنماطٍ محدَّدة تندرج جميعها تحت ذلك العنوان. العمَّاتُ العوانس طيباتٌ حتماً، بخاصة –طبعاً– إن كنّ غنيات. كهنة الدين طيبون، باستثناء تلك الحالات النادرة عندما يفرّون مع فتاةٍ من الكورس إلى جنوب إفريقيا، بعد أن يدّعوا أنهم انتحروا. في أيامنا هذه نادراً –وآسف لقولي هذا– ما تكون الشابات طيبات. عندما كنت شاباً كانت معظمُهنَّ طيباتٍ تماماً، أي أنهنَّ كنَّ يشاركن أمهاتهنَّ الرأي، ليس فقط في المواضيع المطروحة، ولكن ما يستحق الملاحظة أكثر، حول الأشخاص، بل حتى حول الشباب، كنَّ يقلن: «أجل، مامي» و« لا، مامي» في اللحظات المناسبة، كُنَّ يحببن آباءهن لأن ذلك كان واجبهن، وأمهاتهن لأنهن كُنَّ يحافظن عليهن من أدنى احتمالٍ للخطأ. عندما تتم خطبتهن كي يتزوجن، فإنهنَّ يقعن في الحب باعتدالٍ محتشم؛ عندما يتزوجن، فإنهن يَرَين أن الواجب يقتضي أن يحببن أزواجهن، ولكنهن يجعلن بقية النساء يفهمن أنهنَّ يقمن بهذا الواجب بصعوبةٍ بالغة. كُنَّ يتصرفن بطيبةٍ مع حميهنّ، بينما يوضّحن أن أيّ شخصٍ أقل تقيداً بالواجب لن يفعل ذلك، وكنّ لا يتكلمن بسوءٍ عن النساء الأخريات، لكنهن يلوين فمهنّ بشكلٍ يُظهِرنَ فيه ما قد يقلنه لولا أخلاقهنَّ الملائكية. هذا النمط هو ما ندعوه بالنساء الطاهرات والنبيلات، هذا النمط –للأسف– لا نكاد نجده إلا بين العجائز.
لحسن الحظ ما زال للباقيات منهنَّ قوةٌ عظيمة: إنهنَّ يتحكّمن بالتربية، حيث يسعَين –ليس دونما نجاحٍ– إلى المحافظة على النموذج الفيكتوري للنفاق؛ إنهنّ يتحكّمن بالتشريع في الأمور التي تُدعى ب«القضايا الأخلاقية»، وقد خلقنَ بهذه الطريقة الصنعة العظيمة للخروج على القانون؛ إنهنَّ يتكفلنَ بألا يكتب الشباب في الجرائد آرائهم بل آراء العجائز الطيبات، ووسّعن بذلك الإمكانيات الأسلوبية للشباب، والاختلافات في خيالاتهم السيكولوجية. إنهنَّ يحافظن على متعٍ لا تحصى، والتي لولاهنَّ لماتت من الإفراط: على سبيل المثال، متعة سماع لغةٍ سيئة على المسرح، أو رؤية مقدارٍ أكبر من الجسد العاري عن المعتاد. فوق كل شيء، إنهنَّ يحافظن على متعة الصيد. في بلد ٍ متجانسِ السكان، كما هو الحال في المقاطعات الانكليزية، يُجبَر الناس على صيد الثعالب؛ وهذا أمر مكلفٌ وقد يكون خطيراً. أكثر من ذلك، لا يستطيع الثعلب أن يشرح بوضوحٍ تامٍ مدى كرهه لكونه هدفاً للصيد. تبعاً لكل هذه الاعتبارات، فصيد الكائنات البشرية رياضةٌ أفضل، ولكن لو لم يكن الأمر عائداً للناس الطيبين، سيكون صعباً صيد الكائنات البشرية مع الحفاظ على ضمير مرتاح.
إن أولئك اللذين يُدينهم الناس الطيبون يشكلون طرائد مقبولة؛ عندما يصرخون «هيا» يحتشد الصيادون، وتتمُّ ملاحقة الضحية إلى أن تُسجَن أو تموت. والرياضة جيدةٌ، خصوصاً عندما تكون الضحية امرأة، بما أن ذلك يُرضي غيرة النساء وساديّة الرجال. أعرفُ امرأةً أجنبيةً تعيش الآن في انكلترا، في اتحادٍ سعيد –رغم أنه لا شرعي– مع رجلٍ تحبه ويبادلها المحبة؛ لسوء الحظ، آراؤها السياسية ليست محافظة كما يتمنى البعض، بالرغم من أنها مجرد آراء، ولا تقوم المرأة بأي شيءٍ حيال تلك الآراء. ولكن الناس الطيبين استخدموا هذا العذر كي تتدخل السكوتلانديارد، وتُرسِلَ المرأة إلى بلدها الأصلي لتعاني جوعاً. في إنكلترا، كما في أمريكا، يملك الأجانب تأثيراً أخلاقياً مُنحطاً، وجميعنا مدينون للشرطة لأنهم يسهرون على ألا يبقى في بلادنا سوى الأجانب الفاضلون بشكلٍ استثنائي.
لا يجب الافتراض أن جميع الناس الطيبين هم من النساء، بالرغم من أنه لأمرٌ شائع أن تكون المرأة طيبة أكثر من الرجل. بغضِّ النظر عن الكهنة، يوجد العديد من الرجال الطيبين. على سبيل المثال: أولئك اللذين جمعوا ثرواتٍ ضخمة، وتقاعدوا الآن كي ينفقوا أموالهم في أعمال البرِّ والإحسان، معظم القضاة أيضاً رجالٌ طيبون بشكل لا مفرَّ منه، ولكننا لا نستطيع القول إن جميع المساندين للقانون والنظام رجال طيبون. أذكرُ أنني عندما كنت شاباً سمعت امرأة طيبة تقدِّم حجة ضد عقوبة الإعدام، تقول إنه لا يكاد يوجد إنسانٌ طيبٌ بين الجلادين. أنا شخصياً لم أعرف أياً من الجلادين، لذا لا أستطيع اختبار هذه الحجة تجريبياً. و لكنني أعرف سيدةً قابلت جلاداً في القطار دون أن تعرف مهنته، وعندما قدمت له دثاراً لأن الطقس كان بارداً، قال لها «سيدتي، لو كنت تعلمين من أنا لما فعلت هذا»، الأمر الذي ربما يظهر أن ذلك الرجل، كان رجلاً طيباً في نهاية الأمر. ولكن هذا لا بُدَّ أن يكون استثناءً. الجلاد في رواية ديكنز «بارنبي رودج»، والذي بالتأكيد لم يكن رجلاً طيباً، هو على الأغلب نموذجيٌ بشكل أكبر.
في كلِّ الأحوال، لا أعتقد أننا يجب أن نوافق على ما قالته المرأة الطيبة التي أشرتُ إليها سابقاً، أي أن نرفض عقوبة الإعدام فقط لأنه من المستبعد أن يكون الجلاد رجلاً طيباً. كي تكون شخصاً طيباً يجب أن تكون مُحصَّناً من الاحتكاك الفظّ مع الواقع، ولا نستطيع الاعتقاد بأن أولئك اللذين يقومون بالتحصين، سيشاركون بالطيبة التي يصونونها. إذا تخيلنا مثلاً أن سفينةً تعرضت للغرق وكانت تقلُّ عمالاً ملونين، فإن نساء الدرجة الأولى –اللواتي من المفترض أن يكن جميعاً نساءً طيبات– سيتم إنقاذهنَّ أولاً، وكي يحدث ذلك، يجب أن يقوم بعض الرجال بمنع العمال الملونين من إغراقِ القوارب، ومن الصعب أن يقوم هؤلاء بمهمتهم بطرقٍ لطيفة. إن النساء اللواتي تم إنقاذهن، حالما يصبحن بأمان، سيشعرن بالأسف على هؤلاء العمال المساكين اللذين غرقوا، ولكن لم يكن بالإمكان أن يملكن تلك القلوب الحساسة، لو لم يقم رجالٌ قساةٌ بحمايتهن.
بشكلٍ عام، يترك الناس الطيبون أمور الحفاظ على النظام لمن هم أدنى منهم، لأنهم يشعرون أن عملاً كهذا لا يستطيع أحد طيبٌ تماماً القيام به. ولكن هنالك قسماً واحداً لا يرضون أن يفوِّضوا أحداً عنهم في إدارته، وهو: قسم الاغتياب والفضائح. يتم تعيين الناس في سلَّم الطيبة تبعاً لقوة ألسنتهم. إذا تكلم س ضد ع، وتكلم ع ضد س، فعادةً ما يرى المجتمع أن أحدهما يمارس واجبه الاجتماعي، بينما الآخر يدفعه الحقد؛ والذي يمارس واجبه الاجتماعي هو الأكثر طيبةً بينهما. وهكذا مثلاً، مديرة المدرسة أكثر طيبةً من المدرّسة، و لكن السيدة في مجلس المدرسة أطيب من كليهما. الثرثرة الموجهة جيداً قد تسبب بسهولة خسارة الضحية لمصدر عيشه أو عيشها؛ وحتى عندما لا نصل إلى هذه النتيجة المتطرفة، فقد يتحول الشخص إلى منبوذ، لذا، فهي قوةٌ عظيمة للخير، ويجب علينا أن نكون شاكرين لأن الناس الطيبين يسيطرون عليها.
الميزة الأساسية للناس الطيبين هي ممارستهم الجديرة بالثناء لتحسين الواقع. لقد خلق الله العالم، لكن الناس الطيبين يشعرون أنه كان بإمكانهم القيام بذلك بشكل أفضل. فمثلاً هنالك كثيرٌ من الأشياء، في العالم الذي خلقه الله، بالرغم من أنه سيعتبر تجديفاً أن نتمنى تغييرها، إلا أنه سيكون من غير الطيب أن نشير إليها. يرى اللاهوتيون أنه لو لم يأكل آباؤنا الأوائل التفاحة، لامتلأت حياة البشر بأسلوبٍ بريء من الحياة النباتية، كما يدعوها غيبونالمقصود الحياة الخالية من أي متعٍ حسيّة أو عقلية، والتي يرى غيبون أن آباء الكنيسة الأوائل اعتقدوا أن البشر سيعيشون مثل هذه الحياة المرفهة في الجنة، لو لم يأكل آدم التفاحة. (المترجم).. إن الخطة الإلهية بهذا المعنى غامضةٌ بالتأكيد، وسيكون أمراً حسناً بالتأكيد أن ننظر إلى تلك الخطة، كما يفعل أولئك اللاهوتيون، في ضوء عِقاب الخطيئة الأولى، ولكن المشكلة في وجهة النظر هذه أن الحياة عقاب للناس الطيبين، بينما الآخرون –للأسف– يجدون الحياة ممتعةً جداً. لذا يبدو أن العقاب قد أُنزل على الجانب الخاطئ. أحد الأهداف الرئيسية للناس الطيبين، هو استدراك هذا الظلم غير المقصود بلا شك. إنهم يسعون إلى التأكد من أن النمط البيولوجي القدري للحياة النباتية سيُمارس إما ببرود أو بمكرٍ متملّص، وأن أولئك اللذين يتملّصون منه سيكونون –عندما يتم الإيقاع بهم– تحت رحمة الناس الطيبين، بسبب الضرر الذي قد يصيبهم إن قام الناس الطيبون بفضحهم. إنهم يسعون أيضاً للتأكد من أن يُعرف أقلُّ ما يمكن عن هذا الموضوع بطريقة لائقة؛ إنهم يحاولون أن يجعلوا الرقيب يحظر الكتب والمسرحيات التي تعرض الأمر بشكل لا يرضيهم، وهم ينجحون بذلك أينما وطالما كانوا يتحكمون بالقانون والشرطة. لا يعلم أحدٌ لماذا خلق الله الجسم البشري بهذه الطريقة، بما أن المرء يستطيع الافتراض أن الله كان باستطاعته خلقه بطريقة لا تصدم الناس الطيبين.
ولكن ربما هناك سبب جيّد لذلك. يوجد في انكلترا –منذ ازدهار صناعة النسيج في لانكشاير– تحالفٌ عميق بين المبشرين وتجار القطن، حيث يعلّم المبشرون المتوحشين أن يغطّوا أجسادهم، وبالتالي يزيد الطلب على المنتجات القطنية. لو لم يكن هناك ما يدعو للخجل في الجسم البشري، لخسرت تجارة القطن هذه الأرباح. هذا المثال يوضح أننا يجب ألا نخشى شيئاً، إلا عندما يؤدي انتشار الفضيلة إلى تقليص أرباحنا.
أياً يكن الشخص الذي نحت مصطلح «الحقيقة العارية»، فهو قد أدرك العلاقة الهامة بينهما. العري يصدم جميع العقلاء، وكذلك الحقيقة. ليس للحقل الذي نهتم به أهمية كبيرة، لأنك ستجد عاجلاً أن الناس الطيبين لن يعترفوا بالحقيقة في ضمائرهم. كلما جعلني سوء الحظ أسمع قضيةً ما في المحكمة أملك حولها معرفة مباشرة، يصدمني الواقع: لا تستطيع أيّ حقيقةٍ أن تخترق هذه البوابات المهيبة. الحقيقة التي تدخل المحاكم ليست الحقيقة العارية، بل الحقيقة وقد اكتست بلباس المحكمة، وأخفت كل أعضائها غير اللائقة. أنا لا أقول إن ذلك ينطبق على الجرائم الصريحة، كالقتل والسرقة، ولكنه ينطبق على أيّ جريمةٍ يدخل فيها عنصر الأحكام المسبقة، كالمحاكمات السياسية، أو محاكمات الدعارة. أعتقد أنه فيما يخص هذه الأمور، إنكلترا أسوأ من أمريكا، لأن إنكلترا قد وصلت إلى الكمال في التحكم –اللامرئي تقريباً واللاواعي جزئياً– بكل الأمور المزعجة عن طريق مشاعر الحشمة. إذا أردت أن تُشير في المحكمة إلى أية واقعة لا يرى الجمهور أن الإشارة إليها مقبولة، ستجد أن ذلك مخالفٌ للقانون، وأنه ليس فقط القاضي ومحامي الخصم، بل محاميك أيضاً لن يقبل بالكلام عنها.
النمط ذاته من اللاواقعية يسيطر على السياسة، بسبب مشاعر الناس الطيبين. إذا حاولت إقناع أيّ شخصٍ طيب بأن أحد زعماء حزبه ليس سوى إنساناً عادياً لا يختلف عن بقية البشر، سيرفض الاقتراح بسخط. وبالنتيجة سيكون ضرورياً للسياسيين أن يظهروا كمعصومين عن الخطأ. في معظم الأحيان يجتمع السياسيون من كل الأحزاب لأسباب تكتيكية كي يمنعوا الضرر الذي قد يصيب مهنتهم، لأن الاختلاف بين الأحزاب التي عادةً ما تُفرِّق السياسيين، أقلُّ أهمية من الحفاظ على سمعة المهنة التي توّحدهم. بهذه الطريقة يحافظ الناس الطيبون على الصورة الخيالية لرجال الأمة العظام، ويجعلون أطفال المدارس يصدِّقون أنه لا يمكن إحراز المناصب الرفيعة إلا بأسمى الفضائل. وصحيحٌ أيضاً، أنه في بعض الحالات الاستثنائية تصبح السياسة عنيفةً فعلاً، وفي كل الأوقات يوجد بعض السياسيين اللذين لا يجدهم الناس محترفين كفايةً كي ينضموا إلى النقابة المهنية غير الرسمية. بارنل، على سبيل المثال، اتهم في البداية بالتعامل مع مجرمين، ولكن لم يتم إثبات التهمة، وبعد ذلك أُدين بالاعتداء على الأخلاق، بطريقة ٍلم يحلم أيٌّ من أولئك اللذين اتهموه بارتكاب مثلهايشير راسل إلى السياسي الإيرلندي بارنل (1846-1891) الذي انتهت حياته السياسية بفضيحة خيانة زوجية.. في أيامنا هذه ليس مقبولاً السلوك الذي يتبعه الشيوعيون في أوروبا والراديكاليون المتطرفون ومحرّضو العمال في أمريكا، لا نجد نسبةً كبيرةً من الناس الطيبين معجبة بهم، وإذا أهانوا الأعراف والتقاليد فلا يجب أن يتوقعوا أية رحمة. بهذه الطريقة ترتبط القناعات الأخلاقية الراسخة للناس الطيبين مع حماية الملكية، وهذا يثبت مرةً أخرى قيمتها الثمينة.
يرتاب الناس الطيبون كما ينبغي تماماً، بالمتعة أينما شاهدوها. هم يعلمون أن ما يزيد الحكمة يزيد الحزن، ويستنتجون أن كل ما يزيد الحزن يزيد الحكمة. لذلك فهم يشعرون أنهم عندما ينشرون الحزن فإنهم ينشرون الحكمة. وبما أن الحكمة أغلى من الياقوت، فشعورهم مبرَّرٌ بأنهم يُسدُون خدمةً بأفعالهم. على سبيل المثال، هم يُشيّدون ملعباً شعبياً للأطفال كي يُقنعوا أنفسهم أنهم يفعلون خيراً، ثم يفرضون كثيراً من القواعد على استخدام الناس للملعب، بحيث أن أيّ طفلٍ سيكون أكثر سعادةً في الشارع. سيفعلون ما بوسعهم كي يغلقوا الملاعب والمسارح … إلخ أيامَ الأحد، لأنه اليوم الذي يستطيع الناس الاستمتاع فيه. تُمنع الشابات العاملات قدر الإمكان في أماكن عملهن من التكلم مع زملائهن الذكور، وأطيب الناس اللذين عرفتهم يحملون موقفاً عائلياً يرى أنه لا يجب أن يلعب الأولاد إلا ألعاباً تعليمية. إن هذه الدرجة من الطيبة –وآسف لقولي هذا– أصبحت أقل شيوعاً مما كانت، في الأيام الماضية حيث كنا نعلّم الأطفال أن:
«ضربةً واحدةً من عصاه القادرة
تستطيع إرسال الآثمين الشباب بسرعةٍ إلى الجحيم»مقطع من أغنية دينية تقليدية شعبية في القرن التاسع عشر. (المترجم)..
وكان مفهوماً أن ذلك مرجحٌ حدوثه، إذا انخرط الأطفال بصخبٍ وسهولة في أي نشاط لا يراه القس مناسباً. التربية المستندة على هذه الرؤية شُرحت في كتاب «طفل العائلة الجيد»كتاب تعليمي تقليدي كان رائجاً في القرن التاسع عشر. (المترجم).، وهو عملٌ لا يُقدَّر بثمن لتكوين الناس الطيبين. أعرف بعض الآباء، الذين مازالوا حتى أيامنا هذه يحاولون أن يحقق أطفالهم هذا المستوى العالي من الطيبة. لقد أصبح شائعاً –وبشكلٍ محزن– أن نتمنى للأطفال أن يستمتعوا بطفولتهم، وإنه لأمرٌ مخيف أن اللذين نربيهم على هذه المبادئ المنحلَّة، لن يُظهروا الرعب المناسب من التمتع بالحياة عندما يكبرون.
أيام الناس الطيبين –كما أخشى– قد شارفت على نهايتها؛ يُنهيها أمران. الأول هو الاعتقاد بأنه لا يوجد أيّ ضررٍ بأن تكون سعيداً، إذا لم تؤذِ الآخرين؛ الأمر الثاني كراهيةُ الخداع، هذه الكراهية هي جماليةٌ بالضبط كما هي أخلاقية. لقد ساعدت الحربيقصد الحرب العالمية الأولى التي عارضها راسل بشدة. (المترجم). هاتين الثورتين. عندما كان الناس الطيبون في كل بلدٍ يحكمون بثقة، جعلوا الشباب يذبحون بعضهم بعضاً باسم أسمى الأخلاق. عندما انتهى كل شيء، بدأ الناجون يتساءلون إن كان البؤس والأكاذيب التي يلهمها الحقد تشكِّل أعلى فضيلة. وأخشى أنه سيمرُّ بعض الوقت، قبل أن يصبح من الممكن إقناعهم ثانيةً بقبول هذه التعاليم الأولية لكل الأخلاق السامية بحق.
جوهر الناس الطيبين هو أنهم يكرهون الحياة كما تظهر في النزوع إلى التعاون، في صخب الأطفال، وفوق كل شيء، في الجنس، الموضوع الذي هم به مهووسون.
وبكلمة، الناس الطيبون هم من يملكون عقولاً بذيئة.