أمشي وحيداً تحت المطر من كنيسة القديس بولس إلى الجسر الحديدي الجديد على نهر التايمز، مُتجهاً إلى متحف الفن الحديث «التيت»؛ أمشي على مهل كالسيّاح الأجانب: لا شيء يربطني بهذه الأرض. النهر هادئ دائماً، راكد، كالإنكليز أنفسهم. أشعر بخفةٍ لم أعهدها سابقاً. بعد أشهر من التفكّر، قررت أن أغادر إنكلترا. إلى أين؟ لا أعرف بالضبط؛ تركيا المحطة القادمة المؤقتة. من منفى إلى منفى إذن. العشرات يلتقطون صور «سيلفي»؛ عوائل كبيرة ومجموعات سياحية أوروبية تعبث بمرح؛ الضجر يكسو وجوه الباعة الجوالين من فقراء المهاجرين؛ امرأة منقبة تمشي على الصراط المستقيم إلى الطرف الآخر من الجسر الحديدي. أنظر حولي مرتبكاً: كيف تودّع بلداً بعد سنوات ست، وأنت تعرف أنك لن تعود؟ هل أودّع المتاحف؟ الساحات الرئيسية في العاصمة؟ أقرب الأصدقاء؟ البيرة الإنكليزية؟ محطات القطارات التي أحبها، أم القطارات نفسها؟

أقف على الجسر متأملاً المدينة.

ربما تكون هذه زيارتي الأخيرة إلى المدينة، أكرر لنفسي مراراً. أشعر بأنني يجب أن أشعر بشيء ما. «هذا أحد أهم متاحف العالم يا عدي»، أقول لنفسي. «شو يعني؟»، يهمس شيطاني. أتجه إلى القاعة التي أعرفها جيداً، قاعة بداية القرن العشرين إلى منتصفه. قد لا أرى هذه اللوحات مرة أخرى، ولكن حتى هذا لا يساعد على التركيز. لماذا أغادر بريطانيا، ولماذا أذهب إلى تركيا؟ من منفى إلى منفى، ولا يعنيني الأمر كثيراً في الحقيقة. أقف متأملاً لوحات بيكاسو، للرجل شهرة مشروبٍ غازي؛ يأتيني شعور غامض في معدتي كلما حاولت فهمه. للمرة الأولى أعتقد أنني أرى ما وراء اللوحات، أو ما تعنيه اللوحات حقاً: «الراقصات الثلاث»، و«امرأة تبكي». تُشبهن السوريات في زمن الحرب؛ أبتسم لهنّ بحزن. في غرفة مجاورة جياكوميتي وشخوصه النحيلة. يقول خبراء الفن أن كليهما تأثر بتجارب الحرب. يُحاضر رجل ملتحٍ في خمسينياته لمجموعة من السياح عن لوحات الأخير، ويختم بلهجة المنتصر: «وكما تعرفون، تخلّصت البشرية نهائياً من هذه الفظاعات مع انتهاء الحرب العالمية الثانية».

علائم الارتياح على وجوه الشابات، والشدّ على الأيدي بين العشاق، والنظرة الحالمة لمن يتأملن شخوص جياكوميتي، كلها تدفع إلى الإيمان بمقولة الرجل الخمسيني.

يبتسم لي عندما يلاحظ أنني أستمع إليه، أفكرُ في قول شيء ما عنّا، ولكنني أنسحب خجلاً.

أغادرُ القاعة بعد أن أتظاهر بأنني أتأمل بعض اللوحات الأخرى، في الممر الهائل الحجم أقف لأرتاح قبل متابعة الجولة. رسامٌ شاب يتكلم عن إعلان الخلافة، فيما فتيات ثلاث يتابعن حديثه دون أن يفقهن شيئاً. يقول إن المسلمين مختلفون عنا، وإنهم جميعاً يريدون عودة دولة الخلافة. فنُّهم مختلف، وبيئتهم، وطبيعتهم؛ حتى مفهومهم للحب مختلف، للصداقة، للتسلية، للمتعة. لا يجوز أن نحكم عليهم بناءً على قيمنا وثقافتنا. علينا أن نتخلّص من هذه الأفكار الإمبريالية، علينا أن نتوقف عن فرض آرائنا على الشعوب الأخرى. إن أراد المسلمون الخلافة، فليكن؛ وهم يريدونها بالطبع. يتوقف لثوانٍ كي يقيس مفعول كلامه فيهم، يعود إلى الكلام مُستشهداً بثورة ما بعد الحداثة، يرمي بأسماء فوكو ورورتي وتوماس كون وديريدا في جملة واحدة. يعرف الشاب أن الفتيات يذبن شوقاً لأسماء فرنسية وأمريكية رنانة. منتشياً بنصره، يقف فجأة لينظر إلى الأفق المفتوح من النافذة المجاورة. إحدى الفتيات تخرب المشهد بمزحةٍ جنسية، تقول إن للخليفة الذي يسكن في حلب عشر زوجات، ولا بد أنه يرضيهن جميعاً كل يوم لكونه مبعوث الله على الأرض. ينفجرن ضاحكاتٍ بشكل هيستيري.

أتركهم وأعود إلى التجول في المبنى.

على هاتفي النقال رسالة تقول إن أحد أصدقائي وصل سالماً إلى اليونان اليوم، الرحلةُ من أسهل ما يكون. سألته قبل الرحلة، ألا تخاف الغرق؟ لا، لا شيء يدعو للخوف. المهرّب مضمون وموثوق، عدد الركاب معروفٌ سلفاً، ولن يتغير، لن يغامر المهرب بسمعته الآن. أجل، الطريق من اليونان إلى هولندا أيضاً واضحٌ تماماً.

على بركة الله إذن.

أصعد إلى الطابق الثالث، لا أفهم شيئاً من الفنون الحديثة التجريدية: فنٌّ قائم على الفكرة، وفنٌّ يخلط الفنون ببعضها، وآخر ينظّر عن اللون والشكل والفراغ. أتذكّر زيارتي الأولى إلى هذا المتحف، حاولت جاهداً أن أقنع نفسي بأن لهذا الهراء معنىً ما. كنت أريد أن أتشرّب بصدقٍ آخر إنجازاتهم. لدقائق أقف أمام كل لوحة، محاولاً أن أفهم؛ أقرأ كل شرح مرافق عن الفنان وعن اللوحة؛ أسجل ملاحظات في دفتر صغير(أضعته لاحقاً، ولله الحمد) عن اللوحة وتاريخها، عن انطباعي عنها، عن أسئلة عميقة للأصدقاء وللشبكة العنكبوتية عمّا يمكن أن نفهم منها. اليوم أتجوّل مُسرِعاً وشعور بالعبث، وبالغضب وبالسخرية، ينتابني من فنّ ما بعد الحداثة: لوحة سوداء بالكامل، لوحة نصفها أحمر ونصفها أخضر، ألوان متداخلة كعبث طفلٍ في مطبخ أمه. أخرجُ من القاعة، وشعورٌ باللاجدوى يخنقني. هل للحرب السورية تأثيرٌ على ما أراه؟ أم أن العمر يجيز لك أن تكون نفسك بصدق؟ أو ربما كان للقراءات المتنوعة في السنوات الأخيرة دور أساسي في إعادة تكوين ذوقي ورغباتي؟ مهما يكن الأمر، بعد سنوات ست تغيرتُ أنا، وبقي الفن الحديث يعبث بالمفاهيم والألوان والأُطُر.

أذهبُ لأجلس في إحدى المساحات الفارغة العديدة في المبنى، كان البناء تابعاً لشركة الكهرباء قبل تحويله إلى متحف، ومازال من الخارج على حاله، وبدرجة أقلّ في الداخل أيضاً. القاعات الكبيرة جداً تُتيح عرض لوحات مختلفة ومتنوعة من كافة الأحجام. لا نقودَ معي لأدخل المعارض المدفوعة الثمن؛ دائماً أكتفي بالمعرض الرئيس المجاني. فتياتٌ صغيرات يتدربن على الرقص في الطابق السفلي؛ يراقبهن رجلٌ أربعيني يكاد يستمني واقفاً. فتاة تقبّل صديقها بشغف أهوج وكأنهما سيمارسان الجنس هنا على الكنبة، تغمزني الفتاة من وراء ظهره. امرأةٌ عجوز تتوقف لتستريح؛ تغمض عينيها وهي تبتسم. تفتح عينيها وتنظر إليّ مباشرةً، يكادُ الموت يطل من هاتين العينين المُتعبتين.

أغادرُ فَزِعاً متجهاً إلى الطابق التالي.

أجدُ هنا معرضاً عن الحرب، أدخلُ بخطىً مسرعة، وأفكرُ بأنني بتّ أكره المعارض. لا يستطيع المرء أن يتأمل عشرات اللوحات في ساعتين؛ ولا يستطيع أيضاً أن يمضي عشر ساعات متتالية في تأمل اللوحات. يقول الأصدقاء أن علي أن أستقر في بريطانيا، وأن أقدّم طلب لجوء وأعيش هنا. يطالعني لباسٌ عسكري في إحدى اللوحات الضخمة، أقولُ لنفسي كلُّ المنافي متساوية. لا أعرف بالضبط لمَ أغادر بريطانيا إذن، لم يعد لوالديّ رأي، وباستثناء بعض الأصدقاء المشاكسين، الكل ينصح ببريطانيا. لماذا أتمسّك بجواز السفر السوري؟ ولكن ما الذي سأفعله في الديار الأوروبية؟ لستُ ربَّ عائلة كي أخشى على الأولاد، ولا أنا بصاحب مال. أقفُ محبطاً وسط القاعة.

ما الذي تعنيه الغربة حقاً؟ ألم أكن غريباً في دمشق؟ ألم أحلم دوماً بالسفر؟

«هيرار سركيسيان، سوري أرمني»…تقولُ اللوحة التعريفية. ثمان صورٍ فوتوغرافية كبيرة من سوريا، معظمها لساحات المدن. أجلسُ على الدكّة حزيناً. ما الذي أتى بهذه اللوحات هنا؟ لا أستطيع التعرف على كل الأمكنة. إحدى اللوحات من ساحة الميسات. لوحةٌ أخرى من حلب. أقتربُ وأنا أرتجف من لوحةٍ لمدخل قدسيا الرئيسي على طريق الربوة. من هنا كنت أعبر يومياً. بالقرب من هذا المدخل كان يسكن صديقي س. أقتربُ من اللوحة ببطء، هل اللوحة جيدة؟ أنظرُ حولي. شاب يهمس في أذن فتاة شيئاً ما عن داعش؛ امرأة إسبانية تثرثر بصوت عالٍ على النقال؛ عجوز يتكلم بلغة من أوروبا الشرقية عن اللوحات، و يهز الحضور رؤوسهم متفهّمين: كلهم من كبار السن.

أقتربُ أكثر من اللوحة.

ذهب س إلى تايلاند في شهر العسل مع بداية الثورة، و لم يعد بعدها. زارته والدته لأشهر أربعة، ثم عادت إلى دمشق؛ لم تحتمل الغربة. أبتعدُ عن اللوحة وأنتقل إلى لوحة الميسات، لا شيء خاص في اللوحة. أذكر أنني تناولت العشاء مرتين مع فتاة في مطعم على زاوية الساحة. أتذكر الآن اسمها الأول فقط، ولكنني لا أستطيع تذكر اسم العائلة. كانت شابةً وجميلة، وتخاف كل شيء؛ سرعان ما انفصلنا. في أحد الشوارع القريبة مدرسة أختي الثانوية. يعلو صوت الإسبانية الضاحك. أقتربُ من اللوحة الحلبية. لم أزر حلب إلا مرتين قبل الثورة؛ لا يربطني بها الكثير. رجلٌ أسودٌ ضخم رياضي يتأمل اللوحة الحلبية. رجل آسيوي وشقراء أوروبية فارعة الطول يتعانقان ويتهامسان في الزاوية مشيرين إلى اللوحات. أعود كالمنوّم إلى قدسيا. توفيت والدة س في حادث سيارة على طريق القصر الواصل بين دمشق وقدسيا. كان س تحت تأثير الحبوب المنوّمة حين كلمته معزياً. قال لي إنه لن يحضر الجنازة، وإنها كانت تحبني كثيراً، وإنها كانت تطبخ الشاكرية خصيصاً لي، وإنه لا يستطيع البكاء الآن بسبب تأثير الحبوب؛ يضحك ببلاهة مستذكراً بعض قصصها معنا. أجلسُ على الدكّة مقابل اللوحة، بجانبي فتى ينسخ إحدى الصور بقلم رصاص. سُجِنَ أخو س قبل أشهر من وفاة الأم؛ ثم اختفى نهائياً. قبل أيام من حادث السيارة، كلّمت الأم س في تايلاند، «قلبي مو مرتاح. بدي شوفو، وبدي شوفك»، في الليلة التي سبقت الحادث، أخبرها أحدهم أن اسم الأخ موجود في قوائم المعتقلين الجديدة في القصر العدلي. في الصباح التالي ذهبت مع الأخ الأكبر إلى هناك. بحثت وسألت واستفسرت؛ لا حسّ ولا خبر عن ابنها المفقود. «يعني بيكون قلبها انكسر يا عدي؛ راجعة عالطريق وما بتعرفو عايش ولا ميت». الساعة الرابعة؛ عليَّ أن أغادر هذا المكان. بعد خروجهم من القصر العدلي، وقع الحادث. ابنها الأكبرالذي كان يقود السيارة بقي في المشفى. لم يحضر أي من أبنائها الذكور جنازتها: الأول مطلوب، والثاني مفقود، والثالث مصاب. الابنة الوحيدة تكفّلت بكل شيء.

بعد أشهر، ظهر المفقود. كان مسجوناً بالخطأ كمعتقلٍ سياسي!

أتجول في لندن مُثقلاً بقدسيا، لا أصدقاء إنجليز لي في لندن، فقط بعض الأجانب والعرب. معظم ما يُقال عن الإنجليز صحيح: باردون، قساة القلوب، ومجبولون على التهذيب؛ ولكن الحياة تجري هنا بيسرٍ واطمئنان، ربما بسبب التهذيب إياه. يبدو الأمر مُربِكاً: كيف أودّع لندن دون أن أودّع أي إنكليزي فيها! خارج المتحف فقط، تكتشف أن لا صلة له بالمدينة. من يزور المتاحف على أية حال، سوى السياح وطلاب الجامعات والمثقفون؟ كانت حماقةً أن أودّع المتحف. لم أجد إلا نفسي وذكرياتي السورية هناك، تُفلِت لندن التي أريد توديعها من يدي. أصلُ وسطها السياحي التجاري، لا أشعر برغبة دخول متحف آخر؛ ولا شيء يجذبني. أقف فجأةً مبتسماً لتمثال أوسكار وايلد المستلقي بمرح. يتسلق أطفال في رحلة سياحية التمثال الذي يصوره بالحجم الطبيعي. رجلٌ يدخن على الناصية مراقباً الأطفال، و امرأة تصرخ على الهاتف النقال محبطةً. يعبث الأطفال برأس وايلد المفتوح، يضحكون بمرح فيما يدخلون أيديهم في الجمجمة و يملؤونها بالقاذورات. أقتربُ منهم. ما الذي أراده النحات من ترك رأس الشاعر مفتوحاً؟ قتل التعصّب صديقي الإيرلندي الذي حُكم عليه بالأشغال الشاقة بسبب مثليته الجنسية. خرج من السجن منهكاً ومكسوراً تماماً، مات بعدها بقليل في فرنسا. لا أحد يلتفت إليه، لا أحد يقف ليلقي التحية. من يقرأ وايلد على أيّ حال؟ قبل أن أعيش في الغرب، كنت أعتقد أنهم يقرؤون كثيراً. هذا هراء، معظم الناس هنا تنفق وقتها في تفاهات التلفاز والإنترنت والكحول. يجلس وايلد وحيداً في قلب العاصمة التي خانته؛ وحيداً كما كان يوم حوكم؛ وحيداً مثلي، مثلنا جميعاً، نحن الغريبون في غربة الغرب.

أتركُ وايلد، بعد أن أمسح على شعره وأنظّف جمجمته، و أتجه إلى ساحة «الترافلغر سكوير».

أجلسُ على دكة شبه فارغة مع السياح كأنني أستمتع مثلهم بالشمس، وبالعظمة البريطانية الإمبراطورية. أُسودٌ وفوارس وأحصنة تطالعني من كل زاوية؛ يخفق قلبي بحزن. تمجيد الماضي الإمبراطوري الاستعماري والاحتفاء بالقتلة يُبهج السياح والسكان الأصليين، وحتى أحفاد الضحايا. أتجاهلُ الأمجاد القديمة و أفتح «الكيندل»، الكتاب الإلكتروني، على مختارات من شعر أبي تمام. دائماً كانت قراءاتي متفرقة ومتباعدة للشعر العربي، في السنوات الأخيرة شعرت بتأنيب الضمير،  لطالما رغبت بقراءة ديواني أبي تمام وأبي نواس. أقرأ الآن مختارات، عسى أن يأتي يوم أتفرّغ فيه لهما؛ ولكنني أكره المدائح المطوّلة: لن أقضي العمر قارئاً مدائح هزيلة في مجرمين بليدين.

جلستُ على الحافة لأقرأ:

أَرَاكَ أكبَرْتَ إدْمَاني على الدمَنِ     وحملي الشوقَ منْ بادٍ ومكتمنِ
لا تكثرنَّ ملامي إنْ عكفتُ على     رَبْعِ الحَبيبِ فلَمْ أعكف على وَثَنِ
سلوتُ إنْ كنتُ أدري ما تقولُ إذنْ     مجَّتْ مقالتها في وجهها أذني
الحُّبُّ أَوْلى بِقَلْبي في تَصَرُّفِهِ     منْ أَن يُغادِرَني يَوْماً بلا شَجَنِ
حَلَبْتُ صَرْفَ النَّوَى صَرْفَ الأسَى وحَداً     بالبَث في دَوْلة ِ الإغْرامِ والدَّدَنِ
مما وجَدْتُ على الأحشاءِ أوقدَ مِنْ     دَمْعٍ على وَطَنٍ لي في سِوَى وَطَني
صَيَّرْتُ لي مِنْ تَبَارِي عَبْرَتي سَكَناً     مذْ صرتُ فرداً بلا إلفٍ ولا سكنِ
مَنْ ذَا يُعظمُ مِقْدَارَ السُّرورِ بِمَنْ     يهوى إذا لم يعظم موضع الحزنِ؟
العيشُ والهمُّ والليلُ التمامُ معاً     ثلاثة ٌ أبداً يُقرنَّ في قرنِ

أُتابعُ النميمة بين فتاتين تجلسان بجانبي، بدينة مرحة وفاتنة باردة، عن أخت البدينة التي تخون زوجها. أُردِّدُ لنفسي، «إدماني على الدمن». تقول البدينة إن أختها التقت بعشيقها في حفل عيد ميلادها، وإنها تشعر بالذنب. أُعيدُ قراءة البيت الثاني، «لا تكثرن ملامي إن عكفت على ربع الحبيب، فلم أعكف على وثن». تتابع الفتاة شارحةً إنهما مارسا الجنس في غرفتها وكلاهما ثملٌ. في القصيدة قوةٌ محببة، بالرغم من النبر الحزين. دخلت البدينة الغرفة بعد انتهاء الحفل، وكلاهما عارٍ؛ لم ينتبها لها. أصبحتُ أكثرَ حساسية اتجاه كل ما يكتب عن الغربة في الأدب، للمتنبي والبحتري وأبو تمام وأبو نواس قصائد في الغربة، كنتُ أقرؤها بملل. اليوم أصبح لهذه القصائد معنى. تقول الفاتنة إن لا مشكلة في أن تتسلى الأخت قليلاً، وتضحكُ بخبث. ترتبكُ البدينة. لبعض الشعراء والفنانين بصمةٌ في كل ما يكتبونه ويصنعونه. نُحبُّ هؤلاء حتى لو لم نُحبَّ كل أعمالهم. تقول البدينة إنها تكره الخيانة. للشعر القديم سحرٌ وموسيقا لا يدركها الشعر الحديث. أصبحتُ محافظاً بالمجمل في ذوقي الشعري والفني. تقول البدينة إنها محافظةٌ أيضاً. تقهقه الفاتنة بلؤم، «ربما لأنك لم تجرّبي كثيراً من الأمور في هذه الحياة».

أتركهما وأَذهبُ إلى محطة المترو.

في المحطة، لندن أخرى. تحت الأرض، مدينةٌ بناها الفقراء للأغنياء في القرن التاسع عشر. الكل في عجلة من أمره؛ وجوه الناس تذكّر بقصائد لوركا النيويوركية. أخشى السفر، فقد اعتدت الحياة هنا. أترك بريطانيا إلى تركيا، وأعرفُ أن قدمي لن تطأ تراب بريطانيا العظمى مرة أخرى. لا فيزا للسوريين في هذا البلد. كنت من المحظوظين الذين حصلوا على فيزا للدراسة قبل الثورة. تقول لندن إنها لا تبالي كثيراً بمصيري. أستطيع البقاء هنا، إن أردت؛ وأستطيع الرحيل، بالطبع. أخرج من محطة المترو في «شيبردز بوش»، حي الأفارقة والعرب الأفقر والبولنديين. شيءٌ من الطمأنينة تبعثه فيَّ الوجوه السمراء واللهجة السودانية الكسلى في المقاهي. في المجمع التجاري الضخم الجديد حيث تقع محطة المترو، زبائن مختلفون عمن يسكن على بعد أمتار منهم، كالفارق بين مزّة فيلات ومزّة بساتين. أفكر أن الطبقات لا تختلط في المدن الكبرى، سواء في بيروت أو لندن أو اسطنبول. العامل السوري في المطعم اللبناني الذي أرتاده يعيش بشكل غير شرعيٍ منذ ست سنوات في البلد؛ قدّم طلب اللجوء مُدَّعياً أنه هرب من سوريا، و قُبِل طلبه سريعاً. كان ذلك قبل سنتين؛ اليوم، ومع ازدياد أعدادنا، أصبحت الأمور أكثر تعقيداً وتستلزم وقتاً أطول. أخوه في اليونان هارب من الخدمة العسكرية مُنتظراً خطة الوصول إلى لندن؛ أخوه الثاني مع عائلته في تركيا؛ والداه لجآ إلى الأردن ثم عادا إلى قريتهم في حوران حيث يعيش أخوه الثالث وأخته مع عوائلهم؛ لن يغادروا أبداً، يخبرونه في ساعات الشدة والقصف. أطلبُ «مصقعة» و سندويش كفتة. عراقيٌ يلعن جاره المصري في السكن. يوافق العامل السوري، «كل المصريين زليلين وبلا أخلاق». يدخل بعض الأجانب، يعاملهم السوري بلطفٍ شديد؛ فيما العراقي يعلّق بالعربية على صدر المرأة الناهد، وعلى قفاها. يضحكُ للزوج وهو يكرر «ويلكم، ويلكم. يا قرن»، يضحك بقية العرب.

أُنهي طعامي وأخرجُ إلى الشارع شبه الفارغ.

تفلتُ المدينة التي كنت أريد وداعها من يدي، أية مدينة هي لندن، إذن؟ لندن «ساحة أوكسفورد» و«بيكاديلي»، حيث العظمة الإمبراطورية وعشرات آلاف السياح؟ أم لندن «هاكني» و«شيبردز بوش»، حيث السود والأتراك والبولنديون وغيرهم من المهاجرين؟ لندن المتاحف؟ لندن المطاعم الراقية التي لم أزرها؟ مقاهي الفنانين و«الهيبيز» في «الكامدن تاون»؟ القوارب/المكتبات حول «أنجل»؟ أقفُ على ناصية الشارع، خلفي أعمال صيانة وشباب سُمر يعرقون كما نعرق في بلداننا. فتياتٌ بولنديات شبه عاريات يعبرن الشارع أمامهم. ولكن، أسأل نفسي محتاراً ومحبطاً، هل كنتَ تعرفُ دمشق يا فتى؟ أي دمشق تلك؟ المالكي وأبو رمانة؟ مطعم «فيرساي» أم «نارنج»؟ أم دوما وحرستا وعربين اللواتي لم أزرهن منذ عشر سنين؟ زحمة البشر في ساعة الذروة تحت جسر الرئيس وركضهم كالممسوسين من ميكرو إلى آخر؟ أم السيارة المكيّفة التي كنت تطل منها عليهم؟ عشرات المثليين ينتشرون في الحديقة المظلمة المجاورة لجسر الرئيس وفي الشعلان، يتصيّدهم الأغنياء ورجال الشرطة والمخابرات. في ساحة «المرجة» العاهرات ووزارة الداخلية. طُهّرت «المرجة» مع التحديث والتطوير؛ وانتقلت العاهرات الشقيّات، مع رجال الداخلية والمخابرات والسياح والزبائن المحليين، إلى الضواحي. لا مكتبات ولا سينمات تتذكرها في دمشق، مقهى «الكمال» وحده يستقبلك يومياً.

أيّ دمشق تعرف يا فتى؟

أَصِلُ منزل صديقي اليوناني، صديقي الوحيد في هذه المدينة. أحضّر معه عشاءً من الدجاج والأرز. بعد العشاء أغفو ونحن نشاهد فيلماً لديفيد لينش، يوقظني مع نهاية الفيلم، أَبتلعُ حبتي سيتامول قبل النوم. أنامُ على الكنبة في غرفة الجلوس، وعلى الحائط خلفي صورة كبيرة للبيتلز.

أحلمُ بأنني أستيقظ على صوت المؤذّن في قدسيا، ولكنني أدرك أن لا أذان في لندن. يواسيني صوتٌ هادئٌ بالعربية الفصحى:

«لا تخشَ شيئاً يا فتى، لستَ وحدك التائه في هذا القفر الكبير المسمى العالم الواقعي. تذكر ما قلت لكم في نصائح للشباب، (وحدهم السطحيون يعرفون أنفسهم)».

يغادرُ أوسكار وايلد الغرفة، بكامل أناقته وعنفوان شبابه.

أَعتدلُ في جلستي، وأشعلُ سيجارة.

أفتحُ الدفتر الذي أحتفظ فيه بمختارات من كتّابي المفضلين باحثاً عن بيت شعر قرأته في القطار البارحة.

يواسيني أبو تمام بثقة أفتقدها بشدة:

«هِممُ الفتى في الأرض أغصان الغنى   غُرستْ وليستْ كلّ عامٍ تُورقُ»

أعودُ إلى النوم تدريجياً.

أغفو مطمئناً بعمق.