خلال نحو أربع سنوات ونصف خبر السوريون درجات من الفظاعة قلما أمكن التوقف عند وقائعها والتفكير في آثارها وسبل التعامل معها. بعد محاولة تعريف الفظيع، هذه المقالة جهد تصنيفي أولي في مواجهة خبرة الفظيع، تستند إلى ما يتعرف عليه الكاتب في نفسه ومحيطه، وما تسنى له الاطلاع عليه من صيغ تفاعل مع مرويات ومواد مصورة.

وفي اعتقادي أن هذا ميدان تفكّر بالغ الأهمية، وأن يكن قاسياً، وأنه يقول لنا وعنا، وعن الإنسان، أكثر مما تقول السياسة وأكثر مما يقول الدين، وبهما، أكثر من غيرهما، تتصل تجارب الفظيع في عالم اليوم.

ما هو الفظيع؟

بالاستناد إلى تجارب سنوات الثورة والحرب في سورية، يبدو الفظيع صفة ممارسات وعمليات عنيفة تطال الأفراد والجماعات والبيئات الحية، فتدمرها وتخرجها من أشكالها المعلومة. الفظيع كذلك صفة لما يطال الأفراد والجماعات والبيئات الحية من خراب بفعل الإيذاء الشديد المتعمد. وهو يقترن في كل حال بالألم، بدرجات عالية من الألم تتجاوز الحد المألوف ولا تطاق. الأشكال هي ما نتعرف على الأشياء من خلالها، فنأمن لها ونشعر بالإلفة حيالها، وقد ننجذب إليها فنصف الشيء بأنه «جميل». نتكلم على فظاعة التعذيب، وعلى دمار فظيع وعلى موت فظيع، وعلى صور فظيعة، حين يصدمنا ما نرى أو نسمع عنه، وهو يصدم لما فيه من خراب للشكل، نتصوره مقترناً في كل حال بالألم المبرح، وربما مفضياً إلى الموت. أقترح أن الفظيع درجة متقدمة من الخراب، تصيب نظام الجسد أو المجتمع أو البيئة الحية بفعل قصدي، فتتحطم أشكالها تحطماً منكراً، يحول دون التعرف عليها والإلفة بها، وتبث في النفس شعوراً بالخوف والقلق من الموت. استقرار الأشياء في أشكالها لا يستوقف النفس؛ ما يستوقف، ما قد يُسمِّر ويشدَه، هو خراب الشكل، الخراب العنيف وليس التهدم الطبيعي أو التفسخ الطبيعي لما هو حي. هذا عدا جسد الإنسان الذي، حتى حين يموت موتاً طبيعياً، يُصان، ويُحاط بطقوس خاصة، ويُدفن، تجنباً لما يثيره تفسخ جسده من قشعريرة في كيان البشر بفعل التماهي الطبيعي.

في كل حال الصلة قوية بين الفظيع والموت. قد ينجو من نالته الفظاعة، تعذيب فظيع أو إصابة فظيعة في قصف، لكن الفظيع قرينً لموت الحي.

في الفظيع جانب معرفي يتصل بخراب الشكل وعدم التعرف (ما هذا؟)، وجانب سيكولوجي يتصل بما يبثه خراب الشكل من خوف وقشعريرة وفقدان للأمن (هذا خطر!)، وجانب جمالي يحيل إلى النفور من اضطراب الشكل وخرابه (هذا بشع!).

يثير الفظيع في النفس مشاعر يتمازج فيها الخوف والكره والنفور، وكذلك الانجذاب والفتنة. قد لا نقدر على المشاهدة أو نرفض الاستماع أو القراءة، وقد نغطي أعيننا أو وجوهنا في رد فعل تلقائي أمام مشاهد الفظيع، ونحاول حماية أحبابنا، والأطفال بخاصة، إن صادف وكنا على مشهد من الفظيع. وهذا لأن ما في الفظيع من مزيج من الغرابة والخطر والبشاعة، يولد لدينا  شعوراً بأن ما يجري لإنسان أو لحيوان من إيلام وتحطيم يجري لنا، فنرتد تلقائياً مبتعدين. نتماهى للحظة بمن تعرض للتفظيع فتختلج أعماقنا، ويبرز لدينا ميلً قوي إلى الهروب أو التجنب.

لكن يحصل ألا نفعل، أن نقاوم نازع الفرار والتجنب، أن نطوع أنفسنا على مشاهدة ما لا نريد في الوقت نفسه أن نشاهده. في الفظيع ما يشد ويفتن، ما قد ننشد إليه مثل المسحورين، ربما لأنه غريب، نتوقف أمامه لنعرف ما هو، ولأنه خطر نريد تبين ما هو كي نجيد تجنبه أو مواجهته، ولأنه بشع شنيع، نريد إدراك نظامٍ ما فيه يُقلل من شناعته. تقل بشاعة الأشياء حين ندرك نظامها، نتبين لها بنية، وندرجها في شرح معقول. ولعل الفظيع يخاطب أيضا الرغبة في الاستثنائي والعجيب والشاذ، النادر في كل حال، رؤية ما لا يُرى عادة، ولأنه لا يُرى ولأنه استثنائي، هو موضوع لحكاية أو لتصوير، لفرصة في انتزاع انتباه آخرين.

وربما ننشل أمام الفظيع عبر تنازع هذين الدافعين، النفور والانجذاب. الفظيع فاتن، يدهش بغرابته واستثنائيته بقدر ما يشوش الذهن بالأشكال المخربة ويزلزل النفس بلحظة التماهي، ويخيف بارتباطه بالموت.

وعبر اتصاله بالشكل الغريب المنكر من جهة، وبالخارق الشنيع من جهة ثانية، فإن الفظيع هو المستحيل، ما استحال إلى شيء غير نفسه، دون أن تكون له نفس جديدة يمكن التعرف إليها، وأيضا ما هو ممتنع وغير ممكن، وموجود مع ذلك. الفظيع هو المستحيل الموجود أمامنا. لكن يتعلق الأمر بمستحيل متولد عن عنف، بتحطم الشكل وخرابه، وليس بتداخل الأشكال الذي قد يخلقه الخيال، أو بالتعفن والاهتراء اللذين تتسبب بهما الطبيعة.

وبوصفه مستحيلاً محققاً، لعل ما يقابل الفظيع هو العجيب، الشيء الذي لا شكل معلوماً له مثل الرخ والعنقاء، لكن المنفصل عن العنف والألم والموت، ولا يثير الخوف منهما. بيد أن العجيب نتاج الحكاية، فيما الفظيع مناسبة محتملة حكاية.

أُنتج الفظيع يومياً في سورية في السنوات المنقضية، وأتيحت صور له أو مشاهد أو معلومات أو تقارير، بحيث صار خبرة اجتماعية واسعة النطاق، تتداول قصصها يومياً في كل بيئات السوريين، وصار المجتمع السوري مجتمع فظاعة، ينتج وتنتج فيه مقادير كبيرة من الغرابة والخطورة والبشاعة، من الخوف والنفور والكراهية، ومن التحطم والألم والموت العنيف. ومن المستحيل. ما يكون المستحيل غير هذا الوضع الذي نعيشه منذ 2013 بصورة خاصة؟

ما يكون حال مجتمع خبر الفظيع إلى هذه الدرجة؟ سيكون علينا قول شيء عن هذا في ختام هذا المقال.

مسالك

يبدو أنه يمكن التمييز بين أربعة أنماط من التعامل مع خبرة الفظيع.

أولها، وأشيعها، أن يغضب الناس ويثورون، يدينون الفظاعة ومرتكبيها، ويعملون على أن يشاركهم في إدانة الفعل ومرتكبيه أوسع دوائر ممكنة. يستفظع الناس تعذيب طفل وقتله، أو تعذيب طبيب واقتلاع عيونه وقتله، أو قصف مدينة بالبراميل المتفجرة حتى تصير أنقاضاً، أو قتل ألوف تحت التعذيب، أو تجميع أشلاء مدنيين من حقل أو مبنى مهدم بفعل القصف بالقنابل الفراغية، أو مشهد عشرات الأطفال الموتى في مذبحة كيماوية…، ويستجيبون لذلك بالغضب أول ما يستجيبون.

بعد الغضب تأتي الإدانة، وهي محاولة لتجريم المرتكبين وعزلهم، وربما إعداد الظروف من أجل عقابهم يوماً، وفي الوقت نفسه فعل تطهر شخصي وجمعي. وقد يجري احتجاج منظم على الفظيع، يُثبِّت الاعتراض الكلامي عليه والاحتشاد ضده. هذا فعل دفاع اجتماعي، يعمل على عزل الفظيع خارج المجتمع، وحماية المجتمع منه.

لكن مع التكرار، أي مع تحول الفظيع إلى تجربة يومية وصموده في وجه الاعتراض عليه وإدانته، وهذه تجربة محققة في سورية أيضا، يتخامد أثر هذا النمط من رد الفعل ويفقد أثره، وينقلب الغضب والاستفظاع والإدانة إلى طقس ممل متراجع الأثر. وبعد قليل يغدو مثيراً للسخرية. وقد يكون اللعن، لعن المفظّعين في البداية، ثم لعن العالم، ثم لعن النفس، ثم لعن كل شيء، وهي تعابير شائعة في تداول السوريين في سنوات الثورة، أطوارا متقدمة من «دورة حياة» هذا المسلك في التفاعل مع الفظيع. وربما يكون اللعن، من جهة أخرى، تعبيراً عن العجز أو عن الافتقار إلى القوة لتغيير الواقع الفظيع المدان.

يحصل أن يستمر طويلاً مسلك الغضب فالإدانة فاللعن، ممتزجاً بالإحباط، رغم فقدان مفعوله. وهذا لأنه آلية تطهر، ثم لأن المُدين (محترف الإدانة) تحول في سورية، وفي فلسطين ودول عربية أخرى، وفي العالم، إلى دور عام، يشغله أفراد ومنظمات، ويرتبط بمواقع ودخول. ولأنه ارتبط بصورة ما مع صناعة حقوق الإنسان التي ترتبط بدورها بكارتلات دولية لتلك الصناعة وبيروقراطيتها.

المسلك الثاني يتمثل في التجنب والصمت. الفظيع المتواتر يكسر الكلام والفعل. يشعر المرء أن ما يجري يتحدى القدرة على قول كلام مفيد أو اعتراض مؤثر، بل أن الكلام والاعتراضات المعتادة (الإدانة الشخصية، بيانات إدانة جمعية، تجمعات احتجاجية،…) تمسي أقرب، بقدر ما تتكرر، إلى إهانة لمن حطمت حياتهم وأجسادهم، وإهانة للنفس أيضاً. يشعر أيضا أن ما يجري يغمره، ويفيض من كل جانب عن قدرته على الاستجابة، أن دفق الفظيع يتجاوز طاقات المرء على الاستيعاب والتنظيم، فيصمت. قد لا يصمت عن الكلام فقط، وإنما عن التفاعل أيضاً، ينزوي وينسحب. يتوقف عن الاختلاط بمجتمع الفظيع، ليس فقط المجتمع المعرض للفظاعة وتنتاب أفراده ومجموعاته انفعالات الخوف والنفور والكره، والغضب المحبط، وإنما كذلك المجتمع الذي يتداول قصص الفظاعة ومحاولات فعل شيء حيالها لا تترك أثراً في النهاية. هذا مسلك تحلّل اجتماعي، ملحوظ على نحو متواتر ومتفاقم في بيئات السوريين، نبتعد عن بعضنا نافرين من بعضنا لأننا نريد توفير الألم والإحباط على أنفسنا وبعضنا.

وقد يكون الصمت الطور الأخير في سلسلة تبدأ بالغضب فالإدانة فاللعن، ننسحب من الكلام والتفاعل لأننا لم نعد نحتمل، ولا نريد أن نفكر ونتذكر، ونغضب من جديد. نبتعد. وقد نختار درب «المنفى» إن لم نكن خرجنا مهجرين أو لاجئين.

ويشيع نمط رد الفعل هذا عند أشخاص حساسين، يبهظهم شعور بالعجز والشلل حيال فداحة ما يجري، ولا يريدون أن ينضموا إلى طائفة المُدينين، الهواة منهم والمحترفين. يبتعدون صوناً لكرامتهم الشخصية وكرامة من تقع عليهم الفظاعة.

المسلك الثالث هو الإبداعية أو خلق الأشياء والأوضاع الجديدة. يحاول بعضنا بطرق مختلفة، بالكلمات، بالألوان والصور والنغمات، أن يستجيبوا لخبرة الفظيع المحطم للأشكال بخلق  أشكال جديدة. من المحتمل أنه يحرك المبدعين إرادة مواجهة الموت عبر «خلق» حيوات جديدة. الفن، والفاعلية الإبداعية عموماً، تحاول عبر الاشتغال على ما هو غريب وخطر وبشع، مستحيل، الفظيع، أن تبقيه في الذاكرة وتمنع جرف النسيان له، لكن بعد فكه عن الموت، وربطه بانفعالات مغايرة. فإذا كان أسوأ الفظيع ما فيه تفنن و«إبداع» في التنكيل وتخريب كيان الحي، فإن أعظم الفن والإبداع ما هو «فظيع» في تمثيل الفظيع، متمرد على المألوف وخالق لكائنات جديدة وأشكال جديدة. وفي مواجهة الغريب الخطير البشع، الذي ينفر ويثير الخوف والكره والتجنب، يُنتِج الإبداع غريباً لا يُقلِق، وخطيراً لا يخيف، وبشعاً لا ينفِّر. لكن ليس ما يحفز التمثيل الإبداعي للفظيع بالضرورة هو نزع غرابة الفظيع أو الحيلولة دون نسيانه، بل ربما أكثر الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه، وحفز الجهود الجماعية على ألا يتكرر.

«فظيع» الإبداع ليس غير آيل إلى الموت فقط، بل هو مقاوم له، وعابر للزمن. وبدل الانجذاب المسحور إلى المستحيل الآيل إلى الموت، ينتج الإبداع مستحيلاً من نظام آخر، يذكر بالفظيع عبر تمثيله بصورة ما، وفي الوقت نفسه يجتذب عبر الاختلاف أو الفرادة، يدهش ويفتن، فيدفع بالأحرى إلى التأمل والاقتراب.

وبقدر ما إن الفظيع ينحفر في الذاكرة، مقاوماً التقادم والزوال، تحتاج الإبداعية في مواجهة الفظيع إلى أن تفعل شيئاً مشابهاً، يصدم أيضاً ويغير بقدر معاينة الفظيع. غرنيكا بيكاسو لا تستوقف لأنها تمثيل «فظيع» للفظيع فقط، وإنما كذلك لأنها تستقطب النظر وتستبقي الصورة في الذاكرة. وهي احتفاء بمأساة القرية الأسبانية، ووثيقة يستند إليها لمقاومة تكرار الفظاعة. لا يستطيع الفن ولا تستطيع الثقافة مواجهة الفظيع دون خروج على الأشكال الفنية والثقافية السائدة، دون فظيع إبداعي.

أنتج سوريون أشياء متنوعة في التفاعل مع الفظيع، تحاول كلها أن تخزن هذه التجربة في الفن والثقافة، وأن تحول دون سقوطها في النسيان. لكن في كل مرة تواجهنا تجربة الفظيع، وقد واجهت كلاً منا مئات المرات منذ بداية الثورة، نشعر أن التحدي يتجدد، وأن الفن والثقافة، واللغة، تقف عاجزة أمام الدمار الواسع للأشكال. وهو ما ينبغي أن يكون حافزاً لثورة في الثقافة، في الفكر والأدب والفن والأخلاقيات، وفي الاجتماع والسياسة والدين، أي في صنع الأشكال والقواعد، يبدو أنها وحدها ما يمكن أن تنصف وتكرم الهول الذي يخبره السوريون. ليس غير ثورة في إنتاج الأشكال والصور هي ما ترد على هذا الفقد الهائل للأشكال والصور في بلدنا طوال أربع سنوات ونصف.

لكن رهان الإبداعية في مواجهة الفظيع لا يتعلق باستيعاب الفظيع ذاته، أو بمن طالتهم الفظاعة مباشرة؛ هذا بُعد تكريمي، يمكن أن يكون مهماً كتعبير عن إرادة طي صفحة الفظيع وفتح صفحة جديدة آمنة، لكن الإبداعية فعل خلق للأشكال الجديدة، موجه إلى النفس والمجتمع والثقافة. عبر محاولة السيطرة على الفظيع والحد من تأثيره المحطم للنفس والمجتمع تحول الإبداعية الفظيع، فنياً وأدبياً وفكرياً، إلى خبرة عامة، تجربة فردية وجماعية نشترك فيها مع من عاشوها وعانوها مباشرة.

يعاكس الفن والثقافة ميلنا التلقائي إلى تجنب الفظيع عبر تمثيله وترميزه على نحو يشجعنا، بالأحرى، على الاقتراب والمعاينة. فمن ناحية يُعاد إنتاج الفظيع على نحو مغاير بحيث لا ننفر منه ونحاول نسيانه، بل نقترب منه ونقف عنده ونتملّاه، ومن ناحية ثانية نشترك مع آخرين في تملكه عبر الفن والثفافة. بهذا نحول الفظيع من تجربة مدمرة للمجتمع إلى فعل مشاركة وتقارب، اختراع لشراكة ومجتمع، تذكر الهول المشترك، تمثله، والاجتماع حول سبل مواجهته ونفيه.

وفي هذا ما يشكل استئنافاً للابداعية الاجتماعية غير المرئية غالباً، التي واجه بها ما لا يُحصى من السوريين الفظيع، وتدبروا معالجات وحلولاً عملية تمكنهم من الاستمرار في العيش وإضافة بعض المعنى لعيشهم. توليد المعاني والأشكال الجديدة ليس منفصلاً عن إبداعية عموم الناس هذه، ولن يثمر إن انفصل عنها. لقد قاد العنف المهول وتحطم بيئات الحياة إلى الفصل يين الحاجات الثقافية والحاجات الحياتية اليومية، أو إلى الفصل بين الإبداعية الثقافية وإبداعية تدبر شؤون الحياة في شروط بالغة القسوة. أو لنقل إنه قاد إلى تعزيز انفصال أقدم بين عالمين في بلدنا، عالم ثقافي منفصل ولا اجتماعي، وعالم اجتماعي معزول ولا ثقافي. ولطالما تكفلت بإعادة إنتاج انفصالهما هياكل سلطة هي التي تستأثر بالفظيع وتعممه اجتماعياً حين يناسبها ذلك. تجربة الفظيع يمكن أن تكون منطلقاً لمواجهة هذا الانفصال القديم ولأشكاله القصوى الجديدة في سنوات الثورة والحرب، بقدر ما هي معنية بإعادة بناء السياسة على نحو يفصلها هي عن الفظاعة.

والثورة في الأصل وفي بدايتها فعل إبداع جماعي، منتج لوضعيات وأطر اجتماع وعمل جديدة، ولذاتيات جديدة متحررة. والإبداعية في مواجهة الفظيع هي إعادة تملك لهذا النازع التحرري، بقدر ما هي جهد للربط بين الثقافة والمجتمع يستند إلى خبرة الفظيع ويعمل على الحيولة دون تولد الشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية لههذ الخبرة مجدداً.

من شأن خبرة الفظيع ومواجهتها الإبداعية أن تكون منطلقاً لإعادة اختراع النفس وتغييرها أيضاً. فبقدر ما إن الفظيع تجربة محطمة لشكلنا وكياننا، لهويتنا/ هوياتنا، فإن من شأن التفكير فيه وتحويله إلى ثقافة وفن وحياة مغايرة أن يحول المشتغلين عليه، يغير شكلهم، ويساعد في تحول غيرهم. المشترك بين الفظيع والإبداعي هو مركزية الشكل في كل منهما. وهذا ما يجعل من الإبداعية الرد الأكثر جدية خصوبة على الفظيع. الإبداعية التي يجري الكلام عليها ليست مجرد إنتاج أشكال جديدة لأشياء تقع خارجنا، بل هو إنتاج أشكال جديدة لنا، أي ثقافة جديدة وقيم جديدة ومسالك جديدة؛ وهي أيضا ليست فعل أفراد منعزلين أو مجموعات محدودة، بقدر ما إنها نشاط اجتماعي يستجيب للصفة الاجتماعية العامة لخبرة الفظيع.

وعبر صنع الأشكال يمكن لمواجهة الفظيع بالإبداع أن تكون تجربة بانية لهويات جديدة وصور جديدة للحياة والثقافة المجتمع. ومن لديه قوى توحش وخراب مثل الأسديين والدواعش جدير به أن يفكر بالهوية كمشروع خلق جديد، كابتكار مغاير للنفس والمجتمع، للمعتقدات والثقافة. في هذا أيضاً ما يمكن أن يصون كرامتنا كسوريين ويؤكد استحقاقنا السياسي والثقافي.

ثم أنه عبر خلق الأشكال وإبداع ثقافة ومعان جديدة نواجه أيضاً أحد أبرز منابع الفظيع في حياتنا اليوم: المنبع الإسلامي، الذي يحرم الخلق الفني، أو يتقبل أشكاله الكلامية وحدها. هذا يضعف قدرة الإنسان على صنع الحضارة، الأشياء التي ترفع من استحقاق الإنسان وجدارته، فكأنها تعيد خلقه، وتحد من احتمالات التفظيع به. إنكار الإبداعية واستسهال القتل يسيران يداً بيد، بالمقابل.

بالطبع الكلام على الإبداع أسهل من الإبداع ذاته. لكن تجربة الفظيع هي تجربتنا، وكثافتها المأساوية تخصنا وحدنا، والتعامل معها عبر الفن والثقافة هو ما قد يساعد في نزع سُمِّيتها وفاعليتها التدميرية، وقلبها، بالعكس، إلى تجربة تقارب واشتراك. من هذا الباب فإن محاولة تملك تجربة الفظيع عبر الثقافة والفن هي الوقت نفسه إعادة بناء للثقافة والفن، والمجتمع، حول هذه التجربة.

وبما أن الفظيع تجاوز للمقدار في الشدة والشناعة على قول لسان العرب، أي استثناء وخروج على موازين مألوفة، فإن الإبداع، وهو استثناء مستمر واختلاف مستمر وخروج مستمر، يستمد من خبرة الفظيع طاقة على «الخلق»، صنع أشكال الجديدة، يصعب تصور أنه يمكن أن يستمدها من مصدر آخر.

المسلك الرابع في مواجهة الفظيع هو القوة، الرد بالقوة على تخريب الأشكال بالقوة. الفظيع نتاج أفعال سياسية لفاعلين سياسيين مدركين لما يفعلون، ويجب تدفيعهم الثمن. الفظيع المتولد عن عنف هؤلاء الفاعلين لا يواجه بالاستنكار ولا بالصمت والانسحاب، يواجه بالعنف. إن لم يكن لمعاقبة مرتكبي الفظاعة وتجريعهم مثلها، فلردعهم.

كسياسة عملية، يمكن لهذا المسلك أن يكون مجدياً إن لم يتأخر في تحقيق هدفه: العقاب، أو على الأقل الردع. لكنه إن أخفق، وهو ما وقع في سورية منذ تسارع انهيار الإطار الوطني للصراع بدءاً من النصف الثاني من عام 2012، ربما تتعمم في الفظاعة، ويعم فقدان الأشكال في المجتمع، وتظهر لدينا مجتمعات فظاعة متعددة، تتبادل الكره والخوف والنفور.

ويبدو أن فرص هذا المسلك تزيد كلما قلت الثقة بنجوع المسالك الثلاث السابقة. الغضب والإدانة لا أثر لهما على مُفظِّعين جديين مثل الدولة الأسدية، أو مثل داعش اليوم، والصمت فعل انسحاب وتسمم ذاتي. والإبداعية الثقافية لا تزال فعلاً نخبوياً، محدود التأثير الاجتماعي، ولا يبدو في مستواه الحالي مؤهلاً لإعادة اختراع المجتمع والثقافة والحياة.

فلنواجه الفظيع بمثله، ولنرد على الألم بالألم.

ميزة هذا المسلك عن غيره تتمثل في أنه سياسي. فبما أن الفظيع سياسة، فعل سياسي لفاعلين سياسيين، فإن السياسة هي الميدان المركزي للرد عليه، والمُفظِّع المعند بالذات لا يتصور أن تجري مواجهته بغير تحطيمه. ليس هناك خطأ منطقي أو أخلاقي في هذا المنطق في تصوري. ولا يبدو أن أحداً يجادل في صحة هذا التقدير بخصوص داعش. وما يحتمل ظهوره من مجادلة بخصوص الدولة الأسدية، وهي قوة تفظيع مثابرة وعنيدة، يتصل بإرادة حماية أوضاع استثناء وامتياز اجتماعية وسياسية، هي منبع الفظيع المتمادي في البلد.

المشكلة في سورية اليوم لم تتولد عن الرد الاضطراري على العنيف بأدواته، بل بالضبط عن التباعد بين أفعال الرد وبين هذا الهدف السياسي لأسباب متنوعة. مشكلة تشكيلات مقاتلة في سورية اليوم ليس أنها تواجه الدولة الأسدية المعتدية والعنيفة بالعنف، بل بالضبط في أنها لم تعد تفعل ذلك إلا عرضاً، وأن اهتمامها يتوجه إما إلى تأكيد سلطة ذاتية في مناطق خاصة، و/أو إلى انضباط مواجهتها للأسديين بخطط قوى إقليمية ودولية، هي التي تحدد لها ماذا تفعل ومتى وأين. بعبارة أخرى، انفصل الرد بالعنف على العنيف العام عن رؤية سياسية تهدف إلى «إسقاط النظام»، كخطوة نحو الفصل بين السياسة والفظاعة. آل الأمر إلى عنف بلا سياسة، يحصل أن يستند إلى الدين، فينتج فظيعه الخاص، وإلى سياسة لا سند لها من القوة، عاجزة عن التأثير في سير الأحداث. الفظاعة بقيت سالمة، فظاعة الأسديين، وانضافت إليها فظاعة داعش، وفظاعات أقل لمجموعات أخرى.

الفظيع والعنف

في السياق السوري المعلوم، وأهم خصائصه استمرار الصراع أمداً طويلاً قياساً إلى ما كان مقدراً في البداية، اتسعت مممارسة الفظيع مع الزمن. الفظيع مرتبط بالعنف حتماً، وبالتحديد مما يتسبب به العنف من تخريب لأشكال الأشياء. لا فظيع دون عنف. لكن هل يؤدي العنف بالضرورة إلى الفظيع؟ كلمة الفظيع في العربية تحيل إلى شدة «متجاوزة للمقدار» كما سبقت الإشارة. ما هو المقدار؟ المسألة ثقافية وتاريخية في تصوري. يمكن تصور أوضاع ثقافية واجتماعية يعتبر كل عنف فيها متجاوز للمقدار وفظيعاً. يتجه المتعلمون من الطبقة الوسطى العلمانية في العالم كله إلى اعتبار ضرب الأطفال فظيعاً، لكن في طفولة جلينا لما يكن يعتبر فظيعاً بحال. ولا يبدو أن أي دولة العالم مستعدة اليوم لقبول أن العنف الحربي فظيع، وتوسعت ممارسة التعذيب في العالم منذ مطلع القرن، ولم تتراجع. وتعرضت شخصياً للتعذيب وقت اعتقالي عام 1980، لكني أتردد في استخدام كل فظيع في وصفه: كان مؤلماً جداً، لكن ليس محطّماً، ولم يدمر شكلي. لكن كان تعذيب بعضنا فظيعاً، وبخاصة تعذيب الإسلاميين.

من حيث علاقته بالعنف، قد يمكن التمييز بين الفظيع كفعل والفظيع كنتيجة. كنتيجة، الفظيع هو فقدان الشكل كما سبق القول، والعنف الفظيع هو ما يحطم أشكال الأشياء، لكن الفظيع يمكن أن يكون خاصية التعذيب أو القتل أو التدمير حين يكون مقترناً بـ «تجاوز المقدار»، بإرادة التفظيع إن جاز التعبير. وأفظع الفظيع ما يمازجه دأب وصبر، و«فن»، ومباشرة شخصية. ومنه، مثلاً، التعذيب في سجن تدمر على نحو ما وصفه مصطفى خليفة في القوقعة. وربما يجب القول إن الفظيع هو حتماً نتاج تفظيع واعٍ ومتعمد، يريد أن يحطم المستهدفين، أو أن يبيدهم. ترى أليس الفظيع إبادة لم تكتمل؟ الإبادة المثالية هي التي تمحق جميع المستهدفين، وتبيد حتى ذكرهم. ليس مراد المبيدين تحطيم الشكل، بل إبادة الكائن. تحول دون ذلك عوائق تكنولوجية، وأحياناً رغبة المفظعين في ترك بعض المُفظّع بهم «عبرة لمن يعتبر»، وتلقين مجتمعهم كله «دروساً لا تنسى». يتركون أمثلة تبقى في ذاكرة المعنيين وبيئاتهم الاجتماعية، بغرض الترويع والردع. إسرائيل أستاذة في هذا الشأن. والأسديون. وداعش تبدو على إلمام ممتاز بهذا «الفن» نفسه.

ومن ينتج الفظيع هو قوة لا قانون لها أو دستور أو قاعدة مطردة، أي لا شكل، مثل داعش والأسديين. إنها السلطات التي تتصرف كقوة سيادية، كل أفعالها استثناء، إن كان يمكن تصور شيء كهذا، وكلها «إبداع».أحيل في ذلك إلى مفهوم كارل شميت عن السيادة، وإلى قراءة جيورجيو أغامبن للمفهوم، واعتبار الاستثناء قاعدة السلطة في عالم اليوم، وليس خروجا على القاعدة. كتابه: State of Exception. 

الفظيع عاقبة محتملة للعنف الحربي الذي هو فعل قوى سيدة، لكنه ليس هو. فمقتل مقاتل شاب مسلح بقذيفة تهرس جسده، هو شيء بشع، لكنه ليس فظيعاً، لأنه ليس خارج المتوقع، وليس «متجاوزاً للمقدار» أن يُقتل المقاتل الشاب قتلاً عنيفاً يحطم جسده. لكن مقتل شاب بعمره غير مسلح، كان في طريقه إلى عمله أو إلى فرن الخبز لأطفاله هو فعل فظيع. ومقتل خمسين مقاتلاً في هجمة واحدة ليس فظيعاً بقدر مقتل خمسة مدنيين كانوا يقفون على فرن خبز، جرى تعمد قصفهم مثلما فعل النظام في آب 2012 في مناطق حلب وحماه.

فكما سبقت الإشارة، لا ينتج الفظيع عن العنف بحد ذاته، بل عن إرادة الإبادة. والإبادة ليست فعلاً عقابياً، ولا هي من إجراءات العدالة، أو تجاوز العدالة، ولا يمكن أن تصاغ في قانون. ليس القتل ذاته فعلاً فظيعاً بالضرورة، حتى أحكام الإعدام الجائرة قد لا تكون فظيعة إن نفذت وفق مسطرة معلومة مقررة.

عنف الأسديين ليس مفرطاً كمياً فقط، وإنما كان منفلتاً من أية قاعدة عامة، واقترن بالفظاعة وإرادة التفظيع طوال الوقت: هرس رأس رجل بكتلة أسمنيته، طعن رجل حتى الموت بحربة، تعذيب سجناء حتى الموت، القصف المكثف والمتعمد لمنطق سكنية، هذه كلها ليست أفعال عدالة أو حتى عقاباً غير عادل، إنها أفعال ترويع وإرهاب. تفظيع وتفنن. وما هو فن، خلافاً لما هو قانون، لا يمكن الاستناد إليه من أجل التوقع.

كل تمثيل بالأجساد فظيع تعريفاً، ليس فقط لأن التمثيل يستهدف الشكل مباشرة، ولكن لأن التمثيل لا يمكن أن يكون فعلاً عقابياً أو ممارسة تقبل التقنين؛ إنه فعل إبادة، لا يخاطب مقتولاً صار خارج الخطاب، بل جماعة وراءه، ينذرها بالقتل. التفظيع بشخص واحد هو رسالة جماعية، خلافاً للقتل المتقشف لشخص أو حتى مجموعة أشخاص وفق إجراءات معلومة ومقررة سلفاً. مشاهد تمثيل قوات النظام ومخابراته ببعض شهداء الثورة الذين قتلوا تحت التعذيب أو في معارك، هي فعل إبادة رمزي لجمهور الثورة كله.

لكن قتل شخص لأنه لا يعرف عدد ركعات صلاة الصبح فظيع حتماً، حتى لو جرى القتل برصاصة واحدة. الفظيع هنا نسبة بين الإضرار وبين الذريعة، بين ما يقع على شخص أو وسط من عنف وبين ما يسوغ به العنف. ليس هناك عنف ليس فظيعاً بحق طفل لأنه لا يمكن أن  يكون عادلاً أو مسوغاً.

النظام وداعش فظيعان مفظّعان مثلاً. ليس هناك أي وجه لإنكار صفة الفظاعة المتعمدة عن قتل 11 ألفاً تحت التعذيب بين بداية الثورة وآب 2013، عن المجزرة الكيماوية في الغوطة، عن قصف وتدمير مدن وبلدات عديدة، عن قتلى داعش ومصلوبيها، عن الرمي في الهوتة. يبقى الصلب شيئاً فظيعاً حتى لو كان المصلوبون قد قُتلوا  قبل صلبهم. الفظيع نسبة من وجه آخر: بين ضميرنا وتصورنا للعدالة اليوم وأنماط من العنف صارت غير مقبولة. رمي الناس في الهوتة أياً تكن جريمتهم فظيع. وهو فظيع بحقهم، فظيع بحق المجتمع الذي تجري فيه مثل هذه الجريمة، وفظيع بالقدر ذاته بحق نظام بيئي حي، بحق الماء والطبيعة في المنطقة.

في كل حال الفظيع مرتبط بالعنف غير شرعي وغير عادل وغير منضبط بقاعدة عامة. وفي الغالب بالعنف المقترن بالكراهية والتفنن. المقدار نفسه من العنف يمكن ألا يكون فظيعا وألا يؤدي إلى فظاعة إن كان عقابياً وفق قاعدة معلومة مقررة سابقاً، ويكون فظيعاً ومفظعاً إن كان منفلتا من قواعد معلومة و«إبداعيا».

والخلاصة أنه ليس هناك فظيع يمكن أن يكون عادلاً، وليس هناك عدالة يمكن أن يكون الفظيع ممارسة مقبولة من ممارساتها. لا سياسة ولا دين ولا أية أوضاع خاصة يمكن أن تسوغ التحطيم الكيدي المقترن بالكراهية وإرادة إبادة الأفراد والجماعات والبيئات الحية.

الفظيع والمجتمع

إذا كان الفظيع متولداً عن مزيج العنف والكراهية، ومقترناً بالألم والموت، ومركباً من الغرابة والخطر والبشاعة، والمحتوى الشعوري لتجربة الفظيع يتكون من الخوف والنفور والكره، فإن مجتمعاً يعيش هذه التجربة لوقت طويل دونما توقف، مثلما يحصل في سورية منذ أربع سنوات ونصف يتحطم هو ذاته ويكف عن كونه مجتمعاً. الخوف يفصل الناس عن بعضهم ويدفعهم إلى الانكفاء على أنفسهم وأوساطهم الضيقة؛ والنفور فعل تباعد وانكماش، عن الفظيع ذاته بداية، لكن عن مجتمع تتواتر فيه تجارب الفظيع أيضاً. نتكلم على الفظيع كتجربة متكررة، لا يكاد يكون أحد من السوريين بمنجاة من معاينة أمثلة منها. وللكره مفعول مشابه من حيث أنه يدفع إلى التجنب والقطيعة والعداء. لكن تجربتنا منذ بداية الثورة تتجاوز ذلك. أنتج الخوف والنفور والكراهية بمقادير وافية في «سورية الأسد» منذ أواخر سبعينات القرن العشرين على الأقل، واقترن على نحو ظاهر بتباعد السوريين عن بعضهم وتراجع ثقتهم ببعضهم وبتدهور مشتركاتهم واجتماعيتهم. أما ما يجري اليوم فهو قطع روابط السوريين بالفأس، عبر تحطيم أجساد ما لا يحصى منهم بالفأس. لا يتعلق الأمر بأوضاع صعبة، بانتهاكات واسعة النطاق، بل بمشروع للقتل الجماعي لم يعد يستطيع أن يتوقف عن القتل لحظة واحدة، دون أن ينهار. ومثلما كان لدى معظم السوريين البالغين منذ ثمانينات القرن العشرين «تجربة أمنية» تتراوح بين الاستدعاء والتحقيق، والتخويف والتعذيب، وقد تصل إلى الاعتقال المديد أو الاختفاء أو القتل، بحيث لا تصلح أعداد المعتقلين السياسيين في أي وقت للتمثيل على أوضاع السوريين الحقوقية والاجتماعية والسياسية، لدى معظم السوريين اليوم تجربة فظيع عاينوها في المفْظَعَة الأسدية ثم في مفظعة داعش ومفاظع أخرى نامية، هذا حين لا يكون الواحد منهم موضوع هذه التجربة، أو تجارب متكررة. وقد يكون أقرب تمثيل لاتساع القاعدة الاجتماعية لتجربة الفظيع هو أن عدد المعاقين منذ بداية الثورة يقارب المليون، وهذا عبء رهيب للمستقبل، وفوق ربع مليون ضحية على الأقل، وما ليس معلوماً من المعتقلين الذين يعيش معظمهم أوضاع فظاعة مزمنة.

ولا يكاد يحتاج إلى برهنة خاصة أن المجتمع الذي تتواتر تجربة الفظيع فيه بكثافة هو مجتمع فظيع، يفر منه الناس في كل اتجاه. يفر الناس من سورية اليوم ليس بالضرورة لأنهم معرضون لخطر مباشر، ولكن لأن البلد صار موطناً ملعوناً للفظاعة، للألم والموت، تنتح فيه يومياً، وبمقادير كبيرة، انفعالات الكره والخوف والنفور، وتطلق اللعنات من كل اتجاه.

ولا تساعد على مواجهة هذه التجربة أنماط تفاعل سبق ذكرها. فالإدانة الكلامية أو الاحتجاج الذي لا تأثير له على وقف الفظيع لا يساعدان على تكون مجتمع متفاعل متضامن ضد الفظاعة. ربما تشد هذه المسالك مجموعات إلى بعضها لبعض الوقت، لكنها تنحل بعد حين لأنها لا تجد حلاً للمشكلة. والصمت والانعزال هو تسليم بالفظاعة وتسليم بمفعولها المحطم للمجتمع والنفس. ومواجهة الفظيع بالعنف حين لا تؤدي إلى تغير سريع في السياسة وتقييد للعنف بقواعد عامة متفق عليها، أي حين لا تكون إجراءاً عملياً ناجحاً للحد من الفظاعة وتحقيق العدالة، تجازف بأن تحول الفظاعة إلى سياسة والسياسة إلى نظام للفظاعة، على نحو يبدو أن سير الأمور في البلد منذ نحو ثلاث سنوات يصادق عليه.

تبقى الإبداعية منهجاً يساعد على الاقتراب من الفظيع، وتطوير استعدادات وحساسية مضادة للفظيع والفظيعين من جهة، وعلى تحويل تجربة الفظيع إلى تجربة مشتركة يتكون حولها مجتمع من جهة ثانية. بيد أن أقنية مفتوحة بين الاجتماعي والإبداعي، بحيث يكون الإبداع فعلاً اجتماعياً والاجتماع فعلاً إبداعياً، يقتضي توقف العنف، والتحول من نظام العنف الفظيع الوفير إلى نظام العنف المقنن (النادر والمنضبط بقانون).

هذا الخيار الموجه نحو إعادة خلق المجتمع هو الأجدى. السياسة وحدها لا يمكن أن تلغي الفظيع الذي ألغاها لعقود، وإن كان لا بد من تكريس سياسي وقانوني لنهاية الفظيع. يلزم أن تتشكل السياسة ذاتها بصورة مغايرة في مجتمع جديد وثقافة جديدة متشكلين حول مواجهة تجربة الفظيع واستيعابها.

عبر أشكال جديدة للاجتماع والثقافة والتفكير، والدين، والهوية/ الهويات، نعيد خلق ذاتنا في صورة أصلح لإصلاحنا وإصلاح العالم.

الغرض من هذه المحاولة، في الختام، المساهمة في تسمية تجاربنا وتقوية شخصيتها المفهومية، أعني أن يكون لها كيان يعترف به وتكون أساساً لتفكير وممارسات مغايرة. الفظيع وجه من أوجه التجارب التي يمتنع أن تتشكل لنا هوية كسوريين على غير الاستناد إليها. وبقدر ما إن الاعتقال والتعذب والسجن والاغتصاب والحصار والخطف والتغييب والقتل والتهجير واللجوء هي تجاربنا في «سورية الأسد» وتناسخاتها الإسلامية، فإن فرص سورية جديدة متحررة مرهونة بما نصنعه من هذه التجارب من ثقافة واجتماع وسياسة. لسنا نتاج تجاربنا، إننا نتاج ما نفعل بهذه التجارب.