أول الربيع 2013 – العودة

حينَ غادر ميسرة داره في سراقب في محافظة إدلب، كان على يقين أنه سيعود مع زوجته وأبنائه بعد أقل من عام.

زرت شقته «المؤقتة» بمدينة أنطاكية التركية مع زميلي الصحفيين نيل وإيفا. غَمَرَنا ميسرة بحسن ضيافته: ملوخية ودجاج وأرز وسلطة وأصناف لا أذكرها أعدتها لنا زوجته، وهي ذات حضور هادئ ووجه نُسِجَت ملامحه بسكون. رغم هذا، اعتذر لنا بصدقٍ عن تواضع البيت الذي لا يشبه، على حد قوله، دارَ جودٍ تركها وراءه في سوريا.

قابلتُ يومها ابنته الصغيرة، آخر العنقود، وفوجئت حين أخبرنا أنه رفض إلحاقها بالمدرسة لإتمام عامها الدراسي. كان على يقين أنها كغيرها من الأطفال السوريين في مدن جنوب تركيا الحدودية، ستعاود الدراسة بعد بضعة أشهر في مدرستها بسوريا. لمَ إذن الذهاب إلى مدرسة لاجئين مؤقتة!؟

نهاية الخريف 2014 – الحاضر

مضى عامٌ ونصف على تلك الزيارة في مدينة أنطاكية التاريخية.

ومضى عامٌ ونصف على زيارتي للريحانية، مدينةٌ أخرى في جنوب تركيا على الحدود السورية.

عدتُ إليها في الخريف، وقد كان الشتاء ساكناً لم يُظهر القساوة المتناهية التي سيراها السكان بعد شهرٍ من تلك الزيارة. ما زالت شوارع الريحانية ضيقة تحتاج لإعادة سفلتة، ومعظم أبنيتها لا تعلو عن ثلاثة طوابق. دكاكينها صغيرة، وأهم معالمها بركة الماء التي يحيطها «كورنيش» بسيط.

لكن أموراً تغيرت.

كَثُرت فيها المستودعات أو «الكراجات» التي حولها االنازحون السوريون إلى منازل، تعرفها من الكراسي المتناثرة عند مداخلها على حافة الطريق، والتي تصبح خلال النهار امتداداً للدار. أضافوا لمداخلها بعض الستائر المزركشة، وبنوا داخلها جداراً من طوب لا يصل إلى السقف، يقسم مساحتها المربعة إلى قسمين، أحدهما داخلي، يعطي بعض سكانه بعض الخصوصية في بعض الأوقات. وامتدت في القسم الآخر فرشات نحيفة مزركشة بورود، تستخدم للجلوس في النهار وللنوم في آخره.

زادت القطع المكملة في بعض «المنازل»: غطاء طاولة صغير «كروشيه» حاكته صاحبة المنزل لتضع فوقه قنينة ماء بلاستيكية، أزالت عنها ملصق اسمها وحولتها إلى مزهرية فيها بعض الورد.

عدتُ إلى الريحانية لأجد أن همَّ العودة السريعة إلى سوريا بات أقل إلحاحاً لدى الكثيرين، بعد أن تيقنوا من أن بقاءهم في الشتات سيطول. همٌّ جديدٌ يراودهم وهو تعلم اللغة التركية، وإيجاد مصدر دخل أكثر ثباتاً، والبحث عن جامعات تقبل طلابهم.

همُّ الانخراط في مجتمعاتهم الجديدة والتأقلم مع واقعهم، همُّ الحاضر.

نفذت مدخرات معظمهم، وبدأت النساء بالبحث عن مصدر دخل لمساعدة الرجال. فاطمة تعمل في غسل الصحون بمطعم صغير، ومريم تقوم بتنظيف شقة نازحين آخرين أيسر حالاً منها، ومن زوجها الذي مازال يبحث عن عمل «يتماشى مع خبرته ومجال عمله».

وجدتُ نساءاً سبقن الرجال في إدراك أن الوقوف على الأطلال يعني التوقف عن الحياة.

محالٌ ودكاكين جديدة تفتح لساعات متأخرة، في زواريب الريحانية. مطعم «الفلافل» الحلبية و«حلاوة الجبن» الحمصية و«الشاورما» الشامية. تناثرت «بسطات» الصاج التي تبيع المناقيش الساخنة. كل هذا على أرض تركية.

سياراتٌ خاصة بلوحات سورية، يستخدمها أصحابها لنقل الركاب بتكلفة تنافس تكلفة سائق أجرة تركي.

تذكرتُ ميسرة وآخر عنقوده، هل ما زالت في البيت تنتظر العودة إلى مدرستها في سوريا؟ لابد أن ذاكرتها الصغيرة بدأت بمسح ذكرياتٍ حملتها من سوريا شيئاً فشيئاً، حياتها اليوم في تركيا، وخيوط اتصالها بالوطن تنسجها هنا في تركيا.

آخر العنقود هي من أول جيل لا يعرف عن سوريا سوى الحرب، هي أول جيل تتخذ ذاكرته من الشتات موطناً. نقطة نهاية سوريا التي يعرفها آباؤهم، هي نقطة بداية ذاكرتهم.

صيف 2015

أُحادثُ ميسرة عبر سكايب.

هو في سراقب، أما آخر العنقود فهي تلميذة في المدرسة في تركيا. لكنها لم تعد آخر العنقود فقد أنجبت زوجته أخاً لها: حمدي.

عاد ميسرة إلى سوريا، يشيّد هناك منزلاً جديداً لعائلته ليلحق أفرادها به في أقرب وقت. يقرّ أن «العيشة» في سوريا «كتير خطرة وصعبة»، لكنها على حدّ قوله، عيشةٌ كريمة وليست موتاً بطيئاً في بلد لجوء.

كان الوقت متأخراً حينما تحادثنا، يجلسُ هو وآخر العنقود الجديد، حمودي، الذي يزوره لبضعة أيام من تركيا على شرفة مزرعته. ليلة صيف ساكنة، «مجعوصين أنا وحمودي على البلكون».

يشاهدان عن بعد قصف طائرة لمكان ما، ضوءٌ في السماء لا صوت له يعطيكَ انطباعاً أنه بعيد ولن يطالك، تحاولُ أن تصدق أنه مجرد زينة في السماء.

لا تؤرقه ذاكرة أبنائه الصغار، هو على يقين أنهم سيحبون بلدهم تماماً كما يحبها هو وزوجته. سيحبونها «إذا نحنا اهتمينا بأنو يحبوها ويشوفونا أنو منحبها بصدق».

آخر الصيف 2015 – المستقبل

عدتُ إلى الريحانية بعد مضي عامٍ تقريباً، ما زالت على حالها.

همٌّ جديدٌ بات الأكثر إلحاحاً: همُّ الاستقرار. همُّ البحث عن وطن بديل أو عن أرض ثابتة، عن بلد لن تلفظهم.

همُّ ضمان المستقبل.

حاول بعض تلاميذي الشباب الذين أعلمهم الصحافة في الريحانية اللجوء إلى ألمانيا، أكبرهم في الثامنة عشرة، والأصغر لم يتجاوز السادسة عشرة. حصلوا على الشهادة الثانوية، لكنهم لم يحصلوا على المجموع الذي يمكّنهم من دخول الجامعة أو الحصول على منحة. ليس بمقدور ال76 في المائة التي حصل عليها أحدهم أن تفتح أي بابٍ أمامه، وليس بوسع أهله دفع قسطٍ يدخله جامعة خاصة.

نجحَ أنس في الوصول إلى ألمانيا، انقلب الزورق بصديقه فعادَ سباحةً إلى الشاطئ التركي لتغرق في المتوسط بعض الأشياء التي أخذها معه، وكثيرٌ من الأحلام. أما حسن الذي علَّقت العائلة أحلاماً على هجرته، فلم يتمكن من صعود أي زورق لكثرة الشرطة التركية في مدينة مرسين. كان يأمل في أن يلمَّ شمل أسرته ويعطيهم بسبوراً ومستقبلاً، لكنه عاد حينما علم أن هنغاريا أتمت بناء السور الشائك الذي يحمي حدودها منه ومن أصدقائه.

قابلتُ ميسرة في الريحانية، زارني أنا وزملائي في فندقنا.

خسرَ كثيراً من وزنه، وخسر أخاه الكبير بمرض السرطان، لكنه مازال يشيّد منزلاً جديداً في سراقب.

يفضّلُ، بل ويصرُّ على العيش في سوريا. وإن لم تكن الحياة خياراً هناك، فالموت فيها برأيه أرحم من اللجوء إلى أوروبا في قارب أو حتى البقاء كنازحٍ في تركيا. يقولها بحدةِ وعصبيةِ ورقةِ من يحبُّ ويخشى الفقد.

«بدنا آخرة كريمة، بدنا قبر، هنيك (بأوروبا) ما عم يلاقو حق قبر ينسترو فيه».

البارحة

يسقط برميلٌ من السماء بالقرب من سراقب، يليه برميلٌ آخر، وبرميلٌ متفجرٌ ثالث.

في مدينة بعيدة قد يجلس رجل وابنه يشاهدان أشياءً تتساقط من السماء بلا صوت، وقد يقنعون أنفسهم بأن لا يخافوا هذه الليلة، وأن الضوء مجرد زينةٍ في الأفق، لكن ميسرة وأهل حارته سمعوا الصوت وشعروا بالنار.

أخبرني ميسرة أنه لم يصب أحدٌ بأذى، فقد أفرغ السكان منازلهم حينما سمعوا أصوات الطائرات تدنو منهم. بأيّ سرعة هربوا؟ وماذا انتزعوا في تلك اللحظات من تلك الغرف التي أخلوها؟

«في حاوية مو برميل غير معالم حارة كاملة»، يخبرني ميسرة، «كانت ليلة براميل مرتبة».

لكن منزل العودة الذي يشيّده له ولعائلته لم يتأثر.