خلال السنوات المرعبة لحكم الإرهاب الستاليني، كنت سجينة لمدة سبعة عشر شهراً في سجن للنساء في ليننغراد… وذات مرة كانت تقف خلفي امرأة مزرقة الشفاه…همست في أذني من شدة الرعب و البرد سائلةً «هل تسطيعين وصف كل هذا الذي يجري هنا؟»
أجبت، «نعم».
وهنا ارتسم ما يشبه الابتسامة على هذا الذي كان وجهاً ذات يوم.
آنا أخماتوفا، شاعرة روسية
اعتقالان و حرية مؤقتة
اسمي محمد منير الفقير، ولدت لعائلة دمشقية في دمشق عام 1979، وحصلت على شهادة هندسة معلوماتية من جامعة دمشق. ابتدأت علاقتي مع الجمعية السورية لحقوق الإنسان في 2004، عن طريق الأستاذ هيثم المالح، حيث كنت أساعد في الدعم التقني وفي رصد الأخبار. لاحقاً، تعرّفت على بعض الشخصيات في إعلان دمشق، وكنت ثاني أصغر عضو في الإعلان. تعاونت وتعلمت الكثير من المعارضين في تلك الفترة، وأذكر منهم رياض سيف وفواز تللو وياسر العيتي ومعاذ الخطيب وسهير الأتاسي ورياض الترك وياسين النجار وأنس العبدة وعماد الدين رشيد والعديد من المعارضين الآخرين. تواريت عن الأنظار بعد حملة الاعتقال التي شملت بعض أقطاب الإعلان لفترة قصيرة. حافظت على عملي في شركة اتصالات خاصة، وعلى عملي مع إعلان دمشق في الداخل والخارج، خصوصاً الدعم التقني اللوجستي، بالإضافة إلى أنشطة أخرى متعددة معارضة.
اعتُقلت للمرة الأولى في 16 آذار 2011، من أمام القصر العدلي. كنا قد اتفقنا مع مجموعة من الأصدقاء من الإسلاميين والمحافظين، بالتعاون مع مجموعة أخرى علمانية، على محاولة تحريك الوضع في دمشق: من تحركات أمام السفارة الليبية إلى مظاهرة 15 آذار وصولاً إلى الاعتصام أمام وزارة الداخلية في 16 آذار، وغيرها من محاولات تحرك فاشلة أخرى. كنا قد اتفقنا على التوجه من أمام وزارة الداخلية إلى ساحة المرجة القريبة، ومنها إلى القصر العدلي، في حال لم نستطع أن نعتصم أمام الوزارة. وصلت إلى الوزارة حيث اعتُقل معظم الموجودين، وتوجهت إلى ساحة المرجة التي امتلأت برجال الامن، وفي النهاية توجّهت إلى القصر العدلي. هناك ساعدت فتاتين على التخلص من رجال الشرطة الذين كانوا يحاولون اعتقالهن. ارتبكت الشرطة من صوتي الآمر وتدخلي العنيف. بعد أن غادرت الفتاتان، وصل الضابط المسؤول الذي كشفني فوراً. أخذني إلى محل تجاري مجاور، حيث كانوا يودعون كل المعتقلين في المحلات المجاورة، ومن هناك اقتادني إلى الفرع.
خرجتُ بعد شهر تماماً، لأتابع نشاطاتي بهمة أعلى. الاعتقال الثاني كان على الحدود السورية اللبنانية، في 2/3/2012، حيث كنت متوجهاً إلى بيروت في زيارة عادية. كان سبب الاعتقال هو أن أحد المعتقلين قد ذكر اسمي تحت التعذيب. لم يكونوا على علم بكافة نشاطاتي حقيقةً. أمضيت هذه المرة سنةً وأحد عشر شهراً في سجون النظام. خرجت في 22/1/2014.
مجموع ما قضيته في المعتقلات يعادل السنتين إذن.
في الاعتقال الأول، سُجنت في الأمن السياسي ثم حُوّلت إلى أمن الدولة. في الاعتقال الثاني، سُجنت في المخابرات العسكرية (فرع 215) ثم نُقلت إلى فرع الإدارة (فرع 291) ثم إلى فرع الإيداع (فرع 216)، بعد ذلك إلى المحكمة الميدانية في القابون ومنها إلى سجن صيدنايا ثم إلى فرع المخابرات الجوية؛ بعدها ساءت حالتي الصحية ونُقلت إلى مشفى المزة العسكري، ولكنهم أعادوني إلى المخابرات الجوية، ثم إلى المشفى العسكري ثانيةً لأسباب صحية، ثم إلى المخابرات الجوية مرةً ثالثة، ومنه إلى سجن صيدنايا.
أطلق سراحي من صيدنايا في نهاية الأمر.
غادرت دمشق بعد أيام إلى الأردن، ومنها إلى تركيا.
لن أرحل أبعد؛ وآمل أن أعود إلى دمشق قريباً، بإذن الله.
قبل المعتقل: الرعب والأمل
كان الخوف وحده كفيلاً بفرض الطاعة الكاملة على السوريين. قصص الثمانينات والاعتقال المديد والتعذيب المستمر شلّت كل إمكانية للحراك. كنت أخاف الاعتقال والتعذيب بشكل كبير، بالطبع. جزء كبير من هذا الخوف اختفى ما إن دخلت المعتقل. عندما تكون معتقلاً، وتتعرض للتعذيب، ينكسر حاجز الخوف وتختفي الهالة التي تحيط بالألم تلقائياً. أقصد أن هناك أشكال مختلفة من الخوف والرعب، ولكن حاجز الخوف ينكسر؛ بعد خروجي لم أشعر بوجوده بنفس الطريقة وبالدرجة ذاتها التي تحكم من لم يتعرضوا للتعذيب والاعتقال.
الفارق الرئيس بين الحياة قبل المعتقل وبعده هو أننا رأينا بأم العين حقيقة النظام العارية والكاملة، هناك داخل المعتقل. خارج المعتقل، تصرّ الأنظمة الاستبدادية على وجود قوانين تحكم طبيعة علاقتها بمواطنيها، وأن الاعتقالات تتم بناءً على أسباب وجيهة، كالإخلال بالأمن وتعريض الوطن للخطر؛ ومهما اعتقدنا أننا نعرف كذب النظام وتأسيسه الحياة على الخوف، يبقى لكذبة القانون إغراء لا يقاوم خارج المعتقل: هنا تجري الحياة بشكل طبيعي، وطالما تحاشيت الخوض في السياسة، لن ينالوا منك. داخل المعتقل، أي داخل المنظومة الأمنية الحاكمة، هناك تجد حقيقة النظام: الوجه غير الطائفي المقنّع في الخارج يسقط في الداخل ليظهر الوجه الطائفي الوقح؛ التعذيب بقصد التعذيب، وأشكال الحقد الكثيرة على المواطن، أي الحقد الطبقي والطائفي والمناطقي، الذي لا يظهر في الخارج صراحة، يتجلّى بأبشع أشكاله في الداخل.
في الداخل، تتبخر أوهامك حول القانون ومعناه: لا قانون إلا التعذيب هنا.
أنا شخصياً، وأعتقد، معظم أصدقائي ومعارفي، تحديداً من جيلي والجيل الأصغر، لم نصدّق أن النظام قادر على تكرار سيناريو الثمانينيات اليوم. كنا نرى في انطلاقة الربيع العربي، وفي تطور وسائل الاتصال، وفي تحول العالم إلى قرية صغيرة، مؤشرات على انهيار ذلك السيناريو. اختلف العالم عمّا كان عليه يوم تدمير حماة: لدينا إنترنت وأقمار صناعية؛ منظمات دولية حقوقية فاعلة؛ سلوفودان ميلوسوفيتش حوكم؛ أنظمة استبدادية متعددة سقطت في العالم العربي وفي أوروبا الشرقية وغيرها.
في المعتقل، لمستً شخصياً التغيير في درجات التعذيب وأساليبه. في الأيام الأولى، لم يكن التعذيب كبيراً، ولم يكن عدد من ماتوا تحت التعذيب كبيراً. هذا الأمر عزّز إيماننا بان النظام لن يكرر سيناريو الثمانينيات. مع منتصف 2012 شهدت التغيير: توسّع عمل المحاكم الميدانية وأنشئت محاكم الإرهاب؛ لم يعد النظام يطلق سراح المعتقلين بعد أسبوعين أو شهرين، كما كان سائداً في 2011، و طالت فترات الاعتقال وزاد عدد من يموتون تحت التعذيب أسوعياً.؛ تحوّل سجن صيدنايا العسكري إلى السجن الأساسي لمعتقلي الثورة، أو ما يمكن أن نطلق عليه «سجن تدمر الجديد». لاحقاً، تجاوز عنف النظام ما ارتُكب في الثمانينيات بمراحل: بدءاً من المجازر المتنقلة، واستخدام الكيماوي، وتعميم التعذيب في كل المعتقلات. كل ذلك تمّ تحت أعين العالم أجمع، وأقماره الصناعية ووسائل اتصاله الحديثة ومنظماته الدولية الفاعلة!
أدرك جيل الثورة أن ما يحصل اليوم يفوق ما حصل لجيل آبائهم متأخرين، بعد أن تورطوا في الثورة وغرقوا في وحولها لآذانهم. لم يكن هناك إمكانية للتراجع. أفكر أحياناً أن هذا كان لخير الثورة. لو عرف الكثير من شباب الثورة أن النظام سيتفوق على نفسه في العنف، وأن العالم سيتركنا، مرةً أخرى، إلى مصيرنا المحزن، ربما لم يخرجوا إلى الشوراع هاتفين للحرية.
بعد المعتقل: «لازم نفضح الدنيا»
داخل المعتقل، كان أحد الأسئلة التي تؤرقنا هي ما الذي ستفعله إن خرجت حياً؟ بعضهم كان يريد الهجرة إلى أوروبا، ولم نكن نعرف بموجات اللجوء السورية بعد. أغلبنا رأى أن ما علينا فعله حين نخرج هو أن «نفضح الدنيا» بممارسات النظام، كان هذا هو التعبير الأقرب إلى قلوبنا. هذه أمانة وواجب اتجاه الله والمعتقلين والشهداء الذين قُتلوا أمام أعيننا تحت التعذيب؛ الخيانة هي أن نصمت بعد الخروج. ثلاثة ممن تعاهدوا معنا على «فضح النظام» استشهدوا لاحقاً، وخرج ستةٌ، أنا أحدهم. لم يتردد ولم يقصّر أي منا، ضمن إمكانياته وعلاقاته. أنا شخصياً، لم أترك فرصة إلا واستفدت منها، في وسائل الإعلام ومع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية. أفكر أحياناً أن تجوالي بين معظم فروع الخابرات نعمة من رب العالمين سمحت لي بان أشهد الفوارق بينهم، وأن أدلي بشهادتي وأوثقها عن كل فرع؛ عسى أن يعرف العالم بما يدور فيها.
لا أعتقد أننا قصّرنا، صراحةً. معظم المعتقلين الذين أعرفهم أدلوا بشهاداتهم وحاولوا شرح قضايا المعتقلين في سجون النظام. ولكنّي أعتقد أن هناك تقصير لا يقع على عاتق المعتقلين المحررين. لا توجد منظمات وطنية فاعلة وحقيقية وناشطة تُعنى بقضايا المعتقلين، سواء الذين ما زالوا يقبعون في سجون الأسد أو الذين خرجوا ولم يجدوا أي دعم مادي أو نفسي. معظم المنظمات العاملة تتنافس فيما بينها ويحكمها الدعم الخارجي، على ما أرى، ولا تملك أي خطة استراتيجية حول رفع دعاوي والتواصل مع أهالي المعتقلين؛ وهذه أمور تحتاج إلى تخطيط وتستغرق زمناً مديداً.
من أكثر الأمور التي تثير الحزن، هو اعتقاد المعتقلين بأن قضيتهم هي رقم واحد على سلّم أولويات المعارضة الوطنية الثورية. كنا نتفاءل دوماً بمفاوضات جنيف، قبل أشهر حتى من انعقادها. كل أسبوعين تنتشر شائعة أننا قضية جنيف الرئيسة، وأن الثورة والمعارضة والعالم أجمع، لا همّ لهم إلا إطلاق سراحنا. كذا الأمر في الأعياد والمناسبات: رأس السنة، بداية رمضان، عيد الفطر ثم الأضحى. تزامن خروجي مع بدء مفاوضات جنيف، بالصدفة. يوم خروجي، طلب مني صديق أسماء المعتقلين لرفعها للمفاوضين في جنيف. لم أصدّق أن «الشباب الطيبة» لا يملكون قوائم بعد، وأن قضيتنا كانت هامشية تماماً، بل وتكاد تكون غير موجودة، للمعارضة التي ذهبت إلى جنيف.
بعد حديثي القصير مع هذا الصديق دخلت إلى الحمّام. لم أر نفسي في المرآة منذ دخولي السجن. كنت أعرف أنني قد فقدت معظم وزني. أحياناً كنت أرى انعكاس صورتي على أرض المهجع حين نقوم بتنظيفه بالماء. لم أجد الشجاعة لإخبار العائلة أنني «جربان»، فتركتهم يقبلونني و يعانقوني. بعدها أخبرتهم ضاحكاً، ودخلت الحمّام بمساعدة أحد أقربائي. لم أكن قادراً على تنظيف نفسي، أو حتى على خلع ملابسي بمفردي. كانت صدمة رهيبة أن أرى نفسي في المرآة، ثم أن أزن نفسي لأرى أنني فقدت 100 كيلو.
دخلت السجن وأنا أزن حوالي 150 كيلو، وخرجت و أنا أزن 50 كيلو فقط!
داخل المعتقل، لا تستطيع ألا تشعر ببعض الحسد عندما يخرج أحدهم. أقصد أنك تفرح للخارجين، ولكنك تأسى على نفسك. أحياناً أخرى، تتمنى أن يخرج معتقل محدد بدلاً منك. أذكر أحد المعتقلين المصابين، كانت رجله تتقيح، ويأتي السجانون ليضربوه على تلك الرجل. كنت أتمنى له أن يخرج اكثر مما أتمنى لنفسي الخروج، أو أن يموت. في بعض الأحيان، تتمنى لعملاء النظام الخروج. هؤلاء يسممون حياة المعتقلين أكثر من السجانين أنفسهم. السجان يأتي لمدة محدودة ثم يختفي، أما العملاء من المعتقلين فيلازمونك دوماً. كنا نتمنى لهؤلاء الخروج أكثر من اي شيء آخر.
الأكثر إيلاماً بعد الخروج هو لقاء أهالي المعتقلين. لا تستطيع ألا تشعر بأن وجودك خارج المعتقل أمر خاطئ، طالما أن أبناءهم ما زالوا معتقلين. على الرغم من أنهم يبادلوك كل الود والمحبة والتعاطف، إلا أن فكرة أنك حر وأبناؤهم معتقلين تجعلك تشعر بمرارة لا حدود لها. لم يقل يوماً أي من الأهالي شيئاً عن هذا، ولكنني دائماً أرى ذلك في عيونهم.
دائماً تسمع بعض التلميحات عن خروجك: لماذا أخرجك النظام أنت بالذات؟ هكذا يصبح خروجك، وبقاء معتقلين آخرين في السجن، تهمة جديدة تتبعك أنّى توجهت. أحياناً تسأل نفسك هذا السؤال، بل وتتهمها، كأنني أنا مسؤول عن سجنهم. تلاحقني هذه الفكرة باستمرار. يعيش المعتقل المحرر حياة مليئة بتأنيب الضمير ليل نهار. كل ضحكة، وكل وجبة طعام حقيقية، وكل مشوار جميل، وكل جلسة مع الأصدقاء أو العائلة، تسمّمها معرفتك بأن الآخرين ما زالوا يقبعون في السجون محرومين من كل شيء. يحاصرنا تأنيب الضمير ويطل من كل زاوية. أحياناً يبدو أن المخرج الوحيد من تأنيب الضمير ومن اتهامات الناس لك بالسعادة هو أن تسلّم نفسك مرة أخرى. على الأقل، سينتهي كل هذا الجنون.
أعتقد أن المتابعين لأخبار صيدنايا، وحتى أهل المعتقل نفسه، لا يعرفون معنى أن يأتي خبر استشهاد أحدهم كما يعرفه معتقل سابق. «فلان مات» تعني للبعض مات تحت التعذيب، أو قُتل، أو مرض. أما للمعتقل السابق فتعني شيئاً آخر: تعني ما قد رآه بأم العين عند استشهاد الأصدقاء والزملاء هناك. على سبيل المثال كيف سُحب أحدهم من بين السجناء وضُرب من قبل أربعة أو خمسة سجانين حتى فارق الحياة؛ وكيف «انلحشت» الجثة لساعات في المهجع قبل إخراجها؛ وكيف تسابق المعتقلون لتقاسم ثيابه، إن كان يملك شيئاً منها؛ ثم كيف سحب السجانون الجثة على الأرض وبصقوا وداسوا عليها عند إخراجها. لا أحد يشعر بمعنى الموت في المعتقل أكثر من معتقل سابق.
بعد الخروج، لم ألحظ أنني قد تغيرت، على الرغم من أننا داخل السجن كنا نقول أحياناً أن كل هذه القسوة ستؤثر فينا بشكل ما. علاقتي مع الأهل كانت سيئة جداً. كنت أكلم الجميع بلهجة آمرة وعدائية، وأتذمر باستمرار. بعد حوالي الشهر، معتقل سابق أخبرني بأنني أعامل الأهل بطريقة سيئة. لم يرد الأهل أن يتكلموا في الموضوع خشية أن يجرحوني. لم أصدّق، أخبرته أنني ما زلت كما كنت قبل دخولي السجن، أستمع و أتفهم و أناقش. ولكنه طلب مني أن أراقب نفسي أكثر. بعد أشهر، كلما أتذكر ما الذي فعلته و قلته في الشهر الأول بعد خروجي، أشعر بالحرج الشديد. كيف احتملني الناس مع كل وقاحتي تلك!
أعتقد أن البلد تغيرت كثيراً في السنتين اللتين قضيتهما في السجون. على سبيل المثال، عند خروجي الأول، احتفل الناس بي، وأتى المرحبون من كل مكان. عند خروجي الثاني، لم أجد أحداً تقريباً. اعتاد الناس الموت والاعتقال والتعذيب.
مشكلة كل معتقل محرر هي أن من يدعمك بعد خروجك قلة قليلة من الناس، سواء مادياً أم نفسياً. أفكر أحياناً أن من كان باستطاعته مساندتي، كما حدث عند خروجي الأول، هم أولئك الذين ما زالوا معتقلين! أحياناً أتمنى أن أعود للسجن لساعات معدودة لأكون معهم؛ هؤلاء هم الأصدق. هناك حالات أصعب بكثير من حالتي. معظم المعتقلين المحرّرين يتعرضون لخطر الاعتقال ثانيةً. بعضهم، صدّق أو لا تصدّق، مطلوب للخدمة العسكرية! كل مؤسسات الثورة والمعارضة تتركنا معلّقين دون أي مساعدة على الإطلاق. بعض المحررين هرب من سوريا، ثم عاد إليها مضطراً تحت ضغط الفاقة والفشل.
الشهيد أنس قطيفاني/ زمان الوصل.
أفكر أحياناً أن وضع المعتقلين أسوأ من وضع المحاصرين. عندما يموت الناس تحت البراميل، يجدون من يعزّي فيهم من الأقارب والأصدقاء. يبكون علناً ويشكون محنتهم إلى لله عز وجل بصوت مسموع، وللناس من حولهم؛ يصلّون على القتلى ويدفنونهم؛ يشتمون النظام ويحاربونه إن أرادوا. في السجن، عندما يموت أحدهم، لا تستطيع مساعدته وأنت تراه يموت أمام ناظريك؛ أحدهم كان يبكي وهو يطلب منا فقط أن ندفئه، ونحن شبه عراة نراقبه يرتجف في برد الشتاء، حتى مات متجمّداً؛ لا يُسمح لك أن تبكي؛ التعليمات تقتضي أن تخبر السجان عن موت أحدهم مستخدماً عبارة «فلان فطس»؛ لا يُسمح لنا أن نصلّي عليهم او أن ندعو لهم.
مات في المعتقل، تحت التعذيب، صديقي وزوج ابنة عمي، الدكتور أنس قطيفاني. كما مات تحت التعذيب ابن حماي معاذ الخيمي. ومات أيضا ابن خالتي هشام تقي الدين تحت التعذيب.
أصبحت أكنّى «أبو معاذ»، تيمنّاً بالشهيد معاذ.
داخل المعتقل: «تجرّعنا كأساً من الذل»
عندما تواريت عن الأنظار بعد الاعتقالات التي طالت أقطاب إعلان دمشق، ذهبت إلى أحد الأصدقاء، الأكبر سناً وخبرةً، طالباً النصيحة. أخبرني بأن الأمر الأهم هو ألا يكسروا إيمانك. سيحاولون بكافة الطرق أن يقنعوك بأنك هنا بسبب خطأ ارتكبته أنت. كل التعذيب، النفسي والجسدي، يهدف في النهاية إلى أن يؤمن المعتقل نفسه، حتى لو بشكل لا واعٍ، بأن الأسلم، والأفضل له و لعائلته و لمستقبله، أن يعتزل السياسة لمن يفهم فيها، أي النظام وحده. تذكر دوماً: أنت لست بمجرم، أنت صاحب قضية. لا تدع السجن يحبس روحك، وإن حبس جسدك. في الاعتقالين، كنت أكرر لنفسي يومياً مقولته. الكثير من الأصحاب ومن معتقلي الثورة، وبسبب سطوة السجن والسجّانين، يضعفون، ويخسرون إيمانهم. ربما أخطأنا، وربما كان علينا أن نلتزم بيوتنا ونترك الأمر لأصحاب الأمر. بعض المعتقلين يشتمون الثورة وسوريا وشعبها؛ هذا ما يريده السجّانون. يتشاجر المعتقلون على كل شيء: على الطعام، على فسحة للجلوس، على أماكن النوم؛ كل أسباب الحياة تنقصنا هنا. احتجت إلى الكثير من الإيمان بهدف الثورة كي أتخطى هذا كله دون أن أكفر بالشعب.
في بدايات اعتقالي، لم يكن السجانون يدققون عندما نصلي. لاحقاً، أصبح الأمر يعتمد على العنصر المسؤول. في صيدنايا، الصلاة جريمة قد تؤدي إلى الموت. كنا نصلي أحياناً بالهمس، جالسين كالعجائز، دون أي حركات أو إشارات. الصيام كان مسموحاً في الأفرع بشكل عام، وممنوع في صيدنايا بالطبع. ولكننا كنا نصوم، أي أننا نصوم دون أن نخبر أحداً أو نظهر صيامنا. كان السجانون يشتمون الله عز وجل باستمرار، والرسول محمد صلعم. أيضاً، كانت لطميّات شيعية تصلنا في كثير من الأحيان في زنزانتنا في صيدنايا.
لم يكن هناك طائفية بين المعتقلين، معظمنا سنّة؛ في صيدنايا، كلنا سنّة. معظم السجانين يتكلمون اللهجة العلوية، ولكنك تستطيع أن تميّز من يقلّد اللهجة ممن يتكلمها بشكل أصيل. لاحظت أحياناً أن بعضهم يتكلم اللهجة الشاوية عندما نكون وحدنا، على الرغم من أنه يتكلم اللهجة العلوية عادةً.
كان السجانون جميعاً يسألونني «قديش حق بيتك ولا؟». تكرر الأمر مع بقية الدمشقيين المعتقلين. غالباً ما كان يتبع هذا السؤال صفعات متنوعة تصحبها شتائم كبيرة.
معظم الضباط العلويين كانوا يطلبون من السجناء الشوام أن يقولوا «برتقالة». حين نرد «بردئانة»، كانوا يضربوننا. يستمر الضرب إلى أن نقول «بردقاني»، بلهجة أهل الساحل. يفرح السجان بانتصاره، «برافو عنك. من أول كان لازم تقول بردقاني»، بالقاف الفاقعة. أيضاً أثناء التحقيق، حين يسألوننا عن قراءاتنا، كان علينا أن نجيب بالقاف، «بقرا سيدي»، و ليس بالهمزة كما نلفظها في دمشق.
في المعتقل، تذكرت العبارة المتداولة، «تجرّع كأساً من الذل». هناك تشعر كأنك تمسك كأس الذل وتتجرعها حقيقةً لا مجازاً. هناك بعض القصص عن الحياة اليومية للمعتقلين، أرى أنها تجسّد هذا الذل، والتي أود أن أتكلم عنها وأن يسمعها الناس. هذه القصص ليست عن التعذيب الجسدي، وهو أمرٌ لن أخوض فيه هنا، كما اتفقنا منذ البداية.
أذكر أحد معتقلي الثورة الذي تحول إلى رئيس للمهجع. نجح الذل في تحويله إلى عميل للنظام يعيش بيننا. كان الشاب يأكل أكثر منا؛ ويلبس ملابس رثة، في حين أننا كنا جميعاً عراة إلا من «السليب». كان الشاب يتعرض للتعنيف والضرب، بالطبع، لكن بدرجة أقل مما نتعرض له نحن. كان هذا الشاب يذلنا داخل المهجع بدرجة لا تقل عن ذل السجان. أيضاً، كان بيننا معتقلون من الدفاع الوطني والمخابرات الجوية، عوقبوا لأسباب مختلفة. كان هؤلاء يعذبوننا ويذلوننا باستمرار: ينامون بيننا في أفضل الأماكن، في حين أن معظمنا ينام واقفاً بالتناوب بسبب زحمة المكان؛ ويأكلون وجبات حقيقة كاملة؛ ويتناقشون ويتكلمون ويمرحون بيننا؛ ويتحممون كل يوم بالصابون، في حين أننا لا نحصل على ربع صابونة واحدة إلا كل شهر أو شهرين ربما؛ وعندهم أدوية، في حين أننا لم نجرؤ يوماً على طلب خافض حرارة. كان رئيس المهجع يقف معهم حين نُعاقب، ويدلهم على من خالف أبسط التعليمات بيننا. كان يجبرنا على أن «نفلّي» ثيابه من القمل، و أن نغسلها وننشرها.
رئيس مهجع آخر كان تاجر سلاح، ولا أعرف إن كان سُجن بسبب صلة ما مع الثورة أم لا. على أية حال، كان السجّانون يهددون المعتقلين به: كانوا ينقلونه من مهجع إلى آخر ليتسلم رئاستة كعقوبة. كان يستيقظ ليلاً ليجبرنا على الزحف عراة على الأرض، وعلى شطف المهجع. قال مرةً، «رح ضل عذبكون يا كلاب لخلي المخابرات الجوية تجي تتشفعلكون». و قد حصل ذلك مرات فعلاً.
من أساليب التعذيب كان إجبار المعتقلين على الكلام بشكل مسيء عن أهاليهم، وعلى الركوع على أربع وإصدار أصوات حيوانية، كالكلاب والقطط. تشعر أنك مغمّس في الذل أمام كل هؤلاء المعتقلين بعد هذه العقوبات.
أيضاً، كان السجان يعاقب أحد السجناء بأن يضعه في وسط القاعة، ثم يطلب من كل سجين أن يصفعه بقوة. السجين الذي يتردد أو يرفض يُعاقب بشدة أكبر. من هنا، تنمو الأحقاد داخل السجن بين المسجونين أنفسهم.
أيضاً، كانوا دائماً يسعون إلى زعزعة ثقتك بأقرب الناس إليك. فلان اعترف على أفعالك، وفلان حكى عليك، وهكذا.. كانوا يجلبون المعتقلين ليواجهوا معتقلين آخرين. هكذا تجد نفسك فجأة في مواجهة أحد أصدقائك بعد حفلة تعذيب، ويقول لك في وجهك أنت كاذب ومتورط، و عليك أن تعترف لهم بكل شيء.
كانوا يكررون دوماً أن كل امرأة وفتاة شاركت من قريب أو بعيد في الثورة عاهرة، وينشرون كمية هائلة من الأكاذيب حول كل منهن. هناك نوع من البراعة و الاستمتاع المخيف في تشويه سمعة النساء عند أولئك البشر.
أذكر مرة أن بعض الأصدقاء نجحوا في إقناع رئيس المهجع وشبيحته بإعطائي رغيف كامل من الخبز في المخابرات الجوية. عادةً، عندما يحصل أي سجين على رغيف خبز، يتجمّع حوله بقية السجناء مستجدين قطعة صغيرة. أعطيت بعض القطع الصغيرة لبعض معارفي، ثم لآخرين كادوا أن يبكوا وهم يطلبون قطعة. بعد فترة وجدت أن نصف الرغيف قد طار. فزعتُ، وما زالت الأعين تراقبني، والعشرات يستجدون. فجأة شعرت بضيق شديد و بأسى غير محدود، ورميت الرغيف لهم على الأرض يائساً. هجموا عليه و تقاسموه بشراهة وسعادة.
عندما رأى مساعد رئيس المهجع ذلك، عاقب من حصل على قطع الخبز وضربهم. ثم أتى إلي سائلاً: «كيف بتعطي الرغيف لهدول؟ هاد الرغيف إلك لحالك».
أجبت، «هدول جوعانين وما قدرت بس آكل لحالي».
عاقبني وضربني بشدة.
انفجرت بالبكاء كالأطفال؛ ذهبت إلى الزاوية وبكيت لمدة طويلة بشكل هستيري.
لا أعرف لماذا بالضبط.
قسماً بالله يا عدي لم أبكِ في السجن إلا مرتين؛ رغيف الخبز هذا أبكاني وكسرني.
أفكر أحياناً أن البشر يتعودون على كل شيء. أعني مع مرور الوقت يعتاد الناس على الظروف السيئة أو الجديدة المختلفة لحياتهم. ولكن لا أعتقد أن الناس تتعود الذل. ربما يعتادون على الخوف، كما هو الأمر خارج المعتقل. ولكن لا أحد يتعود على الذل، أو على ذل كهذا. لا أحد. لا أحد على الإطلاق.
عصافير الدوري
تعليمات السجن في صيدنايا تقتضي أن يجلس جميع السجناء جاثياً، أيديهم وراء رأسهم ووجوههم للحائط، ما أن يدخل السجّان. عادةً ما نسمع صوت «البسطار» العسكري أثناء سيره إلينا من الممر الخارجي، فنتنبّه ونتخذ الوضعية المطلوبة فوراً. ولكن عصافير الدوري هي التي كانت تخبرنا بمقدم السجّان، في معظم الأحيان.
تدخل عصافير الدوري مبنى السجن، وتأكل بقايا الخبز والطعام المتناثر في باحاته. نحن، أيضاً، كنا نفعل ما تفعله هذه العصافير: كنا نجمع بقايا الخبز المتناثر والطعام من على الأرض، ونأكلها بنهم. كان لنا وجبة طعام صغيرة واحدة يومياً، وأحياناً كنا نعاقب فلا نحصل عليها؛ كنا جوعى طيلة اليوم. نأكل قشور البيض أيضاً، و«نمصمص» العظم إن وجد ونأكله، وكل ما يبقى على الأرض من أوساخ الطعام نلتهمه بنهم.
تتضارب مشاعرنا تجاه عصافير الدوري. عندما تكون جائعاً جداً جداً جداً، وتسمع صوت العصفور، تتمنى لو أنه يدخل المهجع كي تقبض عليه وتأكل لحمه حياً.
ولكن أيضاً ينتابك شعور ممض بأن هذا العصفور هو صديقك الوحيد في هذا العالم.
تطير عصافير الدوري عندما يقترب السجان، لتخبرنا بأن نستعد، حتى قبل ان نسمع صوت «البسطار».
تعود عصافير الدوري عندما يرحل السجان، لتتابع زقزقتها وبحثها عن بقايا الطعام.
أفكر أحياناً أن هذا الدوري، وحده، كسر جبروت الأسد: يدخل غير آبه إلى سجننا، ليتعرّف علينا، وليخبرنا بمقدمهم، وليزقزق مستمتعاً بالحياة بيننا ومعنا.
هذا المخلوق الضعيف وحده هزم الطاغية.
يا سبحان الله!