كانت قد انقضت ستة أسابيع على مغادرتي غوطة دمشق الشرقية حين استخدمَ النظام الأسدي السلاح الكيماوي فجر يوم 21 آب 2013، موقعاً 1466 من سكانها حسب المجلس الطبي الموحد في الغوطة الشرقية. قبل ذلك كنتُ شاهداً مباشراً مرتين على إصابات بالسلاح الكيمياوي في نيسان وأيار 2013 على أطراف المنطقة نفسها. كنتُ شاهداً مباشراً أيضاً على قصفٍ عشوائي يومي في مدينتي دوما والمليحة في الغوطة، التي كانت قد تحوّلت في مطلع ربيع هذا العام إلى منطقة محاصرة.
وقعَ الحصار بعد أن فقد الاندفاع التحريري الزخم الذي مكَّن من اكتساح قوات النظام، وطردها من المنطقة في خريف عام 2012. وأعتقدُ أن وراء ذلك تدخلات سياسية قوية من بعض «أصدقاء الشعب السوري» الإقليميين والدوليين الكبار، حالت دون قوى الثورة وتحقيق ما تتطلع إليه من إسقاط النظام في العاصمة. سيكون بالغ الأهمية أن نعرف يوماً تفصيل ما حصل من وراء الستار، وكيف حصل، ولماذا، وبأي ثمن. لكن هناك مشكلة كبيرة، خيانة بالفعل، حين تُحرَم قوى الثورة من تحقيق هدفها، أو حين ترتضي هي، أو بعضٌ نافذ منها، أن تُحرَم من الهدف، لقاء وعود غامضة، أو مكاسب مادية.
ما إن خسرت المقاومة المسلحة زمام المبادرة حتى أخذ النظام يستعيدها، مستنداً إلى وجود قوات من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، ولواء أبو الفضل العباس المكوَّن من مقاتلين شيعة من العراق وبلدان أخرى.
كان يربط الغوطة بدمشق طريقان، يمرّ أحدهما من بلدة المليحة، والآخر من «مخيم الوافدين»، ويتعرض القادمون من العاصمة إلى الغوطة أو العكس إلى الإذلال والابتزاز من حواجز النظام الفاصلة بين الجهتين. حصار المناطق أثناء الثورة السورية ليس فعلاً عسكرياً محضاً، إنه أيضاً وبالقدر نفسه فعل اقتصادي، ويوفر فرصة للخوّات وانتزاع أموالٍ من الناس مقابل عبورهم إلى بيوتهم أو أعمالهم في الطرف الآخر، وبخاصة حين يجلبون معهم خبزاً أو مواد معيشية ضرورية. ليست هذه ممارسة عارضة من طرف النظام، إنها تكثّف الآلية التي تشكّلت عبرها طبقة جديدة من الأثرياء الجدد خلال أقل من خمسين عاماً، آلية المافيا العامة إذا جاز التعبير: تضع المسدس في رأس الضحية، وتنتزع منه ماله.
لكن يحدث أن تكون المافيا العامة متسامحة: تسمحُ بأن يمر شيخ سبعيني حاملاً ربطة خبز إلى أحفاده، مقابل أن يعوي كالكلب أو ينهق كالحمار!
كان هناك طريقٌ ثالث يربط الغوطة بالعاصمة، نفقٌ حفره ثائرون، لكن تمكنت قوات النظام من الاستيلاء على مدخله في حزيران من هذا العام، وخسرنا بذلك شرياناً رئيسياً لإمداد الغوطة ببعض حاجاتها، الحاجات الدوائية أساساً.
كانت هناك ثلاث مشكلات رئيسية في الغوطة أو أربعة وقتَ كنت هناك بين نيسان وتموز 2013. أولها القصف العشوائي اليومي، بالطيران الحربي أو براجمات الصواريخ أو بمدافع الهاون، أو برصاص القنص البعيد على بعض أطراف الغوطة. كان يسقط شهداء يومياً، يومٌ واحد في شهر نيسان لم أرَ فيه ضحايا جدداً في دوما.
المشكلة الثانية ارتفاع شامل لأسعار السلع كلها، وانخفاض حاد لسعر الليرة بلغ في مطلع تموز نحو 300 ليرة مقابل الدولار. كان سعر لتر البنزين في نيسان بين 130 و150 ليرة، لكنه بلغ 300 في حزيران وتموز، أربعة أضاف السعر في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وارتفعَ بعد الحصار الشامل في تشرين الأول الماضي إلى نحو 3000 ليرة. البنزين أساسي من أجل مولدات الكهرباء التي يعتمد عليها السكان في الإضاءة، وفي الإنترنت الفضائي الضروري للاتصالات. الكهرباء مقطوعة كلياً عن المنطقة منذ خريف 2012، ومثلها الهواتف الأرضية والخليوية، وهناك تدهورٌ حاد في الخدمات بفعل نقص الموارد. بالكاد يلتحق بالمدارس ثلث الأطفال، يتلقون دروسهم في أقبية مكتظة لا ترى نور الشمس خوفاً عليهم من القصف.
من التصميمات التي نُشرت في ذكرى اختطاف ناشطي دوما الأربعة.
المشكلة الثالثة هي إحساسٌ بالتشتت أو ضياع الهدف، يبدو لي متولداً بالضبط عن تلك «الخيانة»، أو ذلك التدخل الغامض الذي أضعف زخم الثورة في الغوطة، وفصلَ الثائرين عن ثورتهم أو أضعف من ارتباطهم به.
ويتصل بذلك، أخيراً، محاولات تيارات بعينها فرض كلمتها وسلطتها في المنطقة، وبخاصة التيار السلفي في دوما، وهو ما كان يُواجَه بمقاومات نشطة ومستمرة.
ربما استعجالاً منه لحسم الموقف في الغوطة المجاورة للعاصمة قبل مؤتمر جنيف 2، استخدمَ النظام على نطاق واسع السلاح الكيماوي، بعد أن كان استخدمه 31 مرة قبل ذلك على نطاقات أضيق في العديد من مناطق البلد. ومعلومٌ ما أثاره ذلك من تفاعلات دولية بلغت الذروة في أواخر شهر آب، عبر التهديد الأميركي بتوجيه ضربة للنظام، هذا قبل أن تنحسرَ موجة التهديد إثر إعلان النظام استعداده تسليم سلاحه الكيماوي للتدمير. يتوافقُ هذا الاستعداد بدوره مع نسقٍ ثابتٍ في سياسة النظام، أعني قابلية الرضوخ المتكررة لمن هم أقوى منه، لا يتفوق عليها إلا استعدادٌ أقوى لإخضاع كل من هو أضعف منه، في سورية أولاً، ثم في الجوار الإقليمي (لبنان، فلسطين بخاصة، والعراق عبر تسهيل المكون الأمني للنظام تدفق «الجهاديين» إلى البلد الجار). هذا للقول إنه لا سياسة وطنية سورية في النظام السياسي السوري، وإن بِدءَ السياسة يعني ويقتضي نهاية النظام.
أنقذَ النظام رأسه بتسليم سلاح التدمير الشامل الذي ما كان مضطراً جدياً لاستخدامه، وهو الذي لا يكفّ عن استخدام الطيران الحربي والمروحي وصواريخ سكود، والسلاح الكيماوي نفسه لكن بمقادير محددة. كان معنى الصفقة أنه يمكن للنظام أن يستأنف حربه بأدواتٍ أخرى دون أن يتعرض لأي ضغوط من الخارج، وبعد أن كان جمهور سكان الغوطة يؤمّل أن يتلقى النظام ضربة عقابية تزعزعه، تركَ التراجعُ السريع للتهديد باستخدام القوة الناسَ في حالة من الإحباط والشعور بالخذلان التام. ليس فقط أن القاتل لم يُعاقب، بل يبدو أنه يُثنَى عليه لتنازله عن سلاح الجريمة، ويجري السكوت على الحرب الفاشية في طورها الجديد، وعلى القتل اليومي لما بين 70 أو 80 من السوريين (545 بين 9 و15/11/2013، و452 بين 16 و22/11، حسب «مركز توثيق الانتهاكات»).
ولم يكد يمضي شهرٌ واحد على ارتفاع التهديد الأميركي بضربة عقابية للنظام، حتى كان يستخدم ضدَّ الغوطة نفسها سلاح دمارٍ شامل أشدَّ فتكاً، لكنه أقل درامية، وأقل تحدياً لهيبة أقوياء العالم: التجويعُ الشامل. نحو نهاية الثلث الأول من شهر أكتوبر عام 2013 أغلقَ النظام كلياً الطريقين المؤديين إلى الغوطة من دمشق، وهو ما قادَ إلى انقطاع المنطقة تماماً عن العالم.
انعكسَ ذلك فورياً ندرةً وارتفاعاً حاداً في أسعار السلع، بلغَ لتر البنزين 2600 ليرة سورية، أي أكثر من 15 دولاراً أميركياً، والكيلوغرام الواحد من الرز نحو 7 دولارات، والسكر مثله، والبرغل نحو 5 دولارات والطحين بنحو 12 دولاراً، ورغيف الخبز الواحد بأكثر من نصف دولار. الشيء الوحيد الرخيص هو القرنبيط، سعر الكيلوغرام نحو 25 ليرة، وهو وجبة متكررة اليوم تساعد الناس على البقاء على قيد الحياة. حليب الأطفال غير موجود، وكذلك أدوية السكري وارتفاع ضغط الدم والمضادات الحيوية. وبحسب رزان زيتونة، الكاتبة وناشطة حقوق الإنسان المقيمة في الغوطة قبل وبعد المذبحة الكيماوية، فقد سقط 23 طفلاً في الشهور الثلاثة الأخيرة بسبب سوء التغذية.
كل ذلك يسوّغ الكلام إن التجويع استمرارٌ بطريقة مغايرة للقتل باستخدام السلاح الكيمائي، بل هو جريمة أبشع بكثير، لأنه يصيب على نحو خاص الأشد فقراً والأدنى حصانة. في عالم أقلّ فساداً من عالمنا الراهن، يستحق نظامٌ يجوع محكوميه طوال شهور، أن يلحق به العقاب العالمي الأعظم. سبق أن جوّع سكان المعضمية، ورأى العالم أطفالاً سوريين هم بالكاد هياكل عظمية يكسوها جلد شاحب، ورأى رجالاً سوريين يموتون من الجوع. والمجرم معروف، ولا يكاد يأبه حتى بإخفاء جريمته.
هناك تحسنٌ لافت في الوضع العسكري في محيط الغوطة في الثلث الأخير من شهر تشرين الثاني. توحدت القوى المقاتلة تحت تأثير حرب التجويع، وحققت تقدّمات مهمة. لا يزال يصعب القول إن كان يمكن الحفاظ على هذا التقدم والبناء عليه، لكن معنويات الناس سجلت ارتفاعاً فورياً إثر هذه الإنجازات، واستعادوا روح الإيجابية والحماس.
وحسب سميرة الخليل، الناشطة والمعتقلة السياسية السابقة المقيمة في الغوطة أيضاً، فقد انعكسَ تحسن الوضع العسكري انخفاضاً في أسعار العديد من السلع القابلة للتخزين. هذا لأن جانباً من ارتفاع الأسعار يعود إلى تجار الأزمات الذي يحتكرون المواد لبيعها بسعر أعلى، ويخشى أولئك الشركاء للنظام في الجريمة أن يقود كسر الحصار إلى توفر السلع، فيبادرون إلى إخراج ما في مستودعاتهم.
هذا التحسّن في الوضع العام في المنطقة بفعل انهزامٍ (قد يكون مؤقتاً) لقوات النظام وحلفائها، يُعيد طرح المسألة السورية كلها على وجهها الأصح: إن من يقتل الناس ومن يحاصرهم ومن يجوعهم هو الطرف نفسه، النظام، وإن إلحاق الهزيمة به هو المدخل الأسلم لوقف القتل والجوع والخوف في سورية. الجوع سياسي والموت سياسي والخوف سياسي في كل مكان من العالم، والأمر كذلك في سورية بصورة مضاعفة. فإن كان للسوريين أن يأملوا بالتحرر من الجوع والخوف والقتل، فلا بد من نظام جديد للسياسة، ومن نظام سياسي جديد.