«أعدمَ تنظيم الدولة، يوم أمس، امرأةً في مدينة الرقة بتهمة الزنا والكفر، حيث نُفِّذت عملية الإعدام رمياً بالرصاص في شارع تل أبيض وسط المدينة».
انتهى الخبر
مرَّ هذا الخبر كغيره من الأخبار الواردة إلى غرفة التحرير في المؤسسة الإعلامية التي أعمل فيها، دون أن اكترث لشيء. رغم خصوصيته بالنسبة لي، عدمُ الاكتراث هذا نتيجةٌ طبيعية للنزيف المستمر، لعمليات إعدامٍ وجلدٍ واعتقالٍ يومية، لا أعرف بحق من كان معظمها، ولماذا، وذلك بسبب التشديد الأمني الذي يفرضه التنظيم في الرقة. لا مصادر أخرى تؤكد أو تنفي.
ثلاثة أيامٍ مرَّت من الروتين الممل، ثمان ساعاتٍ من العمل، ساعتان من النوم، وثلاثٌ أخريات من الجلوس في مقاهي عينتاب التركية، بالإضافة لتوبيخ والدتي وعتابها القادم من أورفا، عن تجاهلي لها وعدم سؤالي عنها يومياً.
– يا قاطع.. شفت البنات التركيات ونسيتني.
– لا، يا أمي والله مشاغل.
بهذه الكلمات بدأ الحديث على الهاتف بيننا بعد انقطاعٍ لأربعة أيام، ومن هنا «في عينتاب» يبدأ الحديث عن آخر التطورات إلى هناك «في أورفا»، بين أخبار اجتماعية وزواج وطلاق وولادة وأحاديث عامة، حتى ندخل الأراضي السورية إلى الرقة، ليبدأ التوبيخ الآخر.
– تركتم ها الأوباش «تنظيم الدولة» يذلون أهلنا بالرقة، ما سمعت فلان جلد وفلان سجن، وكان آخرها «أحداث في الرقة»، مادريت الكلاب عادمين من؟.
– من؟
– مرت صدّام؟
– لا تقولين!
وتابعت أمي تتحدث عن التفاصيل، وعن شرف المرأة التي تعرفها جيداً، وعن صلة قرابة بيني وبين زوجها.
صُعِقتُ لحظة سماع الخبر، وبدأتُ أبحث عن أي تفاصيل أخرى، من أقارب صدام أو رفاقه، ولا قوة عندي لأتمكن من تعزية هذا الرجل بمصابه العظيم.
عبر وسيطٍ في تل أبيض، أرسلت التعازي إلى صدّام، وأن الثأر لا يموت «الدم.. الدم»، وخلال مكالمتي مع صديقي «الوسيط» طلبتُ إيضاحاً عن الحادثة بكل تفاصيلها، وجاء الرد في اليوم الثاني بتسجيلٍ صوتي من صدّام يشرح ما حصل مع زوجته.
صدّام شابٌ في منتصف الثلاثين، قائدٌ عسكري في جيش العشائر، الذي أسِّس حديثاً في ريف تل أبيض من قبل عدة قبائل عربية، لمحاربة تنظيم الدولة وطرده من الرقة.
كان تأسيسُ هذا الجيش على يد عمه «شيخ» قبيلة عربية هناك، الذي عرف بمواقفه تجاه النظام منذ بداية الثورة، وخاض معارك ضارية ضده في قريته، العلي باجلية، جنوب تل أبيض.
لصدّام أربعة أطفال: بغداد، شام، نجاح، وهلا، وآخر تحمل به زوجته في بطنها، وكان سبباً في زياراتها الأخيرة إلى الرقة، طلباً للعلاج الذي انتهى بمقتلها.
«حباسة» الشعر التي تضعها أم بغداد على رأسها تحت الحجاب والنقاب والدرع وكل ما أمر به خليفة المسلمين، كانت كفيلةً بإدخالها جهنم حسب فتاوى شرعيي الخلافة.
أوقفت سيارة الحسبة أم بغداد وصديقتها أثناء عودتهن من مقهى أنترنت «نسائي» في الحي الذي تقطنه مع أهلها وسط الرقة، وبدأت الحسبة توبيخ أم بغداد على هذا الكفر الذي وُضِعَ على رأسها وسط تجاهل من المرأتين، وهذا ما استفزَّ عناصر التنظيم ليطلبوا كتيبة الخنساء النسائية لاعتقال أم بغداد على هذا العصيان والكفر الذي على رأسها، واخضاعها لدورة شرعية في مقر الحسبة «لتصحيح دينها».
وكما هي العادة، حملة تفتيشٍ دقيقة لكل معتقل في سجون الدولة، وأول ما سُئِلَت عنه أم بغداد هاتفها المحمول الذي سلمته دون تردد للمفتشة، التي دخلت مباشرة الى برنامج «واتس آب» لتجد آخر محادثة كانت بين أم بغداد وزوجها صدّام، الذي كان يضع صورته الشخصية على حسابه «الوتس»، وبدأت الأسئلة عن صدام: من هو؟ وماذا يعمل؟ لتكتشف المحقّقة أنه في جيش العشائر، وهذا ما استدعى حضور الكتيبة الأمنية لنقل أم بغداد إلى النقطة 11، وهي فرع أمني خاص بالقضايا السياسية.
اتُهمَت أم بغداد بالعمالة للكفار بعد مراسلاتها مع زوجها، وهذا ما نفاه أحد القضاة، الأمر الذي لم يعجب الأمنيين، لتحوَّل إلى قاضٍ آخر «أقسم بالولاء والبراء لهذا المجدد بالدين، وخليفة المسلمين أبو بكر البغدادي». هذا القاضي لم يحكم المرأة بالعمالة للكفار فقط، بل اتهمها بالزنا مع زوجها!
نعم، الزنا مع زوجها، بعد قراءته لشرع الله واجتهاده بالتفسير، قال أن صدّام مرتد، وكل جِماعٍ معه بعد ردته زنا، وهو مرتدٌ عن دين الإسلام منذ عامين، والذي في بطن أم بغداد هو دليل على ذلك، والزانية تُقتل.
حكمَ القاضي وأمر بالتنفيذ بأقل من نصف ساعة، اقتيدت أم بغداد من المحكمة الإسلامية الى مكان الإعدام، وعلى الطريق في منتصف شارع تل أبيض سنحت لها الفرصة بالهروب من سيارة الميكروباص، وبدأت تصرخ بين الناس بحثاً عن مغيث أو مجير، لكن رصاصتين من «الغلوك»Glock نوع مسدسات شهير. يستخدمه أمنيو داعش بكثرة. كانت أول مغيث لها، لترديها قتيلة.
على جثة أم العاصمتين وقف أمنيّ التنظيم «وكيل الله في الأرض» يصرخ بجنون: هذا مصير الزانية مع الصحوات، هذا مصير كل من يؤيد الصليبين والنصيرية. ركلها بقدمه، وأمر بتركها حتى المغيب لتكون عبرة لمن اعتبر.
توقَّف المارة قليلاً بعد خروجهم من صلاة الظهر على أطلال مشهد درامي غير معهود من قبل، غير معهود لامرأة تقتل وسط مدينة اشتهرت بالنخوة العربية والشهامة، دقائق معدودة، والصمت يعمُّ المكان ولا أحد يجرؤ على الاقتراب من تلك العباءة التي تسيل دماً، ثم ينسكب ضمن مجرى صرف صحي، يتدفق بعد اختلاطه بالوحل والماء ليتجمع متخثراً على شباك المصرف.
هذه الحادثة ليست الأولى، وإن كانت الأولى.
كم أم بغداد قتلت بتهمة الزنا دون أن يعلم بها أحد، وكان يمكن أن تكون أم بغداد إحداهن لولا هروبها من السيارة، وشجاعة صدّام الذي يفتخر بزوجته الشهيدة.
حين أجلسُ مع والدتي أحاولُ اختطاف أي معلومة عن الرقة، عن البنات في السجون أو تحت التراب، عن الظلم والعار، عن كل شيء يملأ قلبي حقداً على هذه العصابة التي تلوي ذراع المدينة المنكوبة حين تُتهم بناتها بأقذر التهم، ليجبر الأهل على السكوت خشية العار الذي يلحق العائلة.
هي أمي التي لا تتحدث كثيراً عمّا يتعلق بالمرأة في الرقة، وما يقع عليها من ظلمٍ واحتقار، قالت حين أوقفها عنصرٌ من التنظيم لم يبلغ العشرين من عمره، يطلب منها أن تضع درعاً فوق النقاب: يا ابني، أنا عجوز تجاوزت الستين من عمري، لا أستطيع المشي بالدرع، ألا ترى النظارات الطبية؟
– يا أختاه، لا شأن لي، هذا شرع الله، حتى لا يقع أحد في الفتنة! وان كان عندك مشكلة في البصر، ظلّي في منزلك.
– يا إبني، المشكلة ليست في البصر، المشكلة في أعمى البصيرة والبصر.
وتابعت مسيرها إلى المنزل، لتعود في الصباح التالي إلى تركيا.
هذه أمي، وتلك ابنة صديقتها، التي اعتقلتها ذات الكتيبة التي «أسرت» أم بغداد، بعد سماع صوت يصدر من حذائها، هو الصوت الذي يغري الرجال، والذي حرّمه الله بشريعة الخلافة!
جُلِدَت الفتاة في الحسبة، وجُلِدَ ولي أمرها، على حصوة صغيرة استعصت في أسفل النعل.
كم من حادثة سمعت بها يشيب لها شعر الرأس، ولا خيار لي وللرقييّن إلا السكوت خوفاً من العار، العار الذي نحمله نحن منذ عامين، وإن صح القول، الذي حمَلَته مدينتي، حين قال عنها القاصي والداني إنها زَنَت بفراش الخليفة، وأنجبت كل لقيطٍ على وجه الأرض مارس علينا كل أفعال الحرام الأخلاقية والدينية.
في المنافي ما بعد الحدود، تُطاردني أفعالهم، وعجزٌ يقتلني أنا وكل من هم مثلي، نجلسُ على أطلال بلادنا، نسمع صراخها وقصص إذلالها، علّنا ننزع الرحمة، وننفض غبار الذل والعار، نقتلُ كبيرهم وصغيرهم، نضع أحاديث من لا ينطق عن الهوى نُصبَ أعيننا حين قال فيهم «فإن أنا أدركتُهم لأقتلنّهم قتل عاد» كذريعةٍ لما سنفعل. أو نسمع قصائد الرجولة والثأر من الأساطير العربية، نتذرع بكل مُبيحٍ يشفي غليلنا، ويُعيد ما كنّا نفخر به قبل أن يدوسه نعل الخلافة المزعومة.
كل تفصيلٍ ذُكِرَ أعلاه يحدث منذ عامين وحتى اليوم على فتاةٍ أخرى تدعى الرقة، اختُطِفَت واتُهِمَت بذنبٍ لم تقترفه، لتُقتَل على مرأى ومسمعِ الجميع، دون أن يُحرِّك أحدهم ساكناً.
الرصاصاتُ التي اخترقت رأس أم بغداد هي ذاتها اخترقت النخوة والشهامة في الجسد السوري والعربي الذي شارك بعضه في قتل «درة الفرات» حين وقف يسمع صرخاتها تطلبُ مجيراً أو مغيثاً، وتقولُ إنها ليست داعشاً وليست زانية، ولم يتحرك ساكنٌ عند أحدهم حتى بعبارةٍ أو صورةٍ تضامنية على الأقل.
أنا الرقة.. فقط، لا شيء أكثر!