القلمُ الذي أمامي الآن واستخدمه في الكتابة موجودٌ بشكل موضوعيٍ ومستقلٍ عني، وسيبقى موجوداً حتى لو غادرت الغرفة ولم أعد أراه أو أمسكه، غير أن هذا القلم هو كذلك عنصر في مجموعة «الأقلام». السؤال المثير للاهتمام هو، هل مجموعة الأقلام موجودة بشكل موضوعي ومستقل عن إرادتي (طريقتي في تصنيف الأشياء)؟ لنفرض أن أحدهم تعلم القراءة والكتابة على الحاسب، ولم يرَ قلماً في حياته. هل تعني له مجموعة الأقلام شيئاً؟ هو سيرى هذا الشيء الأسطواني وعلى الأرجح أن يصنفه في مجموعاتٍ شتى ليست مجموعة الأقلام إحداها، مثلاً مجموعة الأشياء المصنوعة أو البلاستيكية أو ذات الشكل الأسطواني، وهلم جرّا. هناك عدد كبير من المجموعات الممكنة التي يمكن للقلم أن يكون عنصراً فيها، فهل هذه المجموعات موجودة حقيقة أم هي طريقة للتصنيف تتعلق بشكل إدراكنا للعالم، ولا تحيل بذاتها إلى شيء موضوعي؟ وهل يمكن لإحدى هذه المجموعات أن تكون أكثر أساسية من الأخرى، ولماذا؟

هذه الأسئلة شغلت خير العقول لأكثر من ألفي عام، وبقيت معلّقة ولن أطمح بالإجابة عنها، ولكن لنفكر بالبشر عوضاً عن الأقلام. هل «مجموعات البشر» حقيقية، أم هي مسالة تصنيف مرتبطة بطريقتنا في إدراك العالم؟ هل بعضها أكثر أساسية من الأخرى؟

لنأخذ على سبيل المثال مفهوم الأمة: الأمة هي جماعة من البشر الذين يشتركون في عامل ما أو أكثر، وعادةً ما تمّ اختيار اللغة لهذا الغرض. القومية بالمقابل تعبّر عن الوعي الذاتي للأمة أو الإيديولوجيا السياسية المرتبطة بالانتماء إلى هذه الأمة، مثل الاعتقاد بأن الأمة تستحق أن تتمتع بوضع سياسي معين، بدءاً من الاعتراف بحقوقها الثقافية والسياسية المميزة، وانتهاءاً بدولتها الخاصة، كما أنه يُنتظر من أبناء هذه الأمة سلوكٌ سياسيٌ محددٌ تجاه قضايا أمتهم وأبناء أمتهم. الأمة والقومية مفهومان مرتبطان، ومحاولة تفسير العلاقة بينهما كانت لبّ النقاش الذي دار في الثلث الأخير من القرن الماضي بين من اعتبر الأمة ظاهرة حديثة وصناعية، ومن رأى فيها ظاهرة قديمة وذات أساس موضوعي، أو بتعبير آخر بين من رأى أن القومية هي نتاج الانتماء إلى الأمة، ومن رأى العلاقة بينهما معكوسة، وأن الأمة نفسها نتاجُ للقومية.

فكرة الأمة الألمانية –على سبيل المثال- تستبطنُ تصورَ أن الألمان ينتمون بحكم لغتهم المشتركة إلى جماعة واحدة متميزة عن الجماعات الأخرى، ولهذه الجماعة الحق في أن تشكل دولتها الخاصة على أرضها، كما أنه يُنتظر من الألمان كأعضاء في هذه الجماعة أن يسعوا لتحقيق هذا الهدف.

يرى أنصار حداثة الأمة أن فكرة الأمة الألمانية بهذا الشكل حديثةٌ تماماً، فلم يسبق للألمان أن نظروا إلى أنفسهم بوصفهم أعضاءَ في أمّة واحدة، وأن هناك سلوكاً ما يترتب عليهم نتيجةً لهذا الانتماء. فسابقاً نظر الألمان إلى أنفسهم بطرق مغايرة، فتارة عرّفوا أنفسهم بوصفهم كاثوليك/بروتستانت، وتارة بوصفهم بافاريين أو بروسيين. كما أنهم لم يجدوا غضاضة في التحالف مع «الأجانب» ضد ألمان آخرين يتكلمون لغتهم، كما حصل منذ حرب الثلاثين عاماً إلى الحروب النابليونية. اللغة ذاتها لم تكن ذات حدود واضحة، فالألمان تكلموا لهجات متباينة يصعب التواصل من خلالها، بل حتى أن اختلاف بعضها عن اللغة الألمانية الفصحى (اللهجة التي اعتمدت كلغة فصحى لاحقاً) لا يقلّ عن اختلاف الأخيرة عن اللغة الهولندية مثلاً، وربما تطورت بعض هذه اللهجات وتحولت إلى لغات «وطنية» مستقلة. لقد كان من الممكن لبعض الألمان أن يطوروا هويات «وطنية» مستقلة عن الألمانية، كما فعل البعض فعلاً، سكان الالزاس واللورين مثلاً، الذين اعتبروا أنفسهم أعضاء في الأمة الفرنسية رغم كونهم يتحدثون الألمانية، وكما حصل مع النمساويين.

محاججة أنصار حداثة وصناعية الأمة تشدد على أن الأمة تجد جذورها في تحولات أصابت وعي الناس وليست ذات أساس موضوعي مستقل وسابق، بتعبير آخر هي ظاهرة تنتمي إلى السياسة والعصر الحديث. تستند محاججتهم على أن كل تحليل تاريخي لما يبدو «أساساً موضوعياً»، سينتهي إما إلى إظهار الطبيعة الظرفية والشرطية لهذا الأساس، كأن تكون اللغة «القومية» نفسها مخترعة، أو إلى عدم كفايته لتفسير نشوء الأمة بحيث أنه كان موجوداً ومنذ وقت طويلٍ سابقٍ على وعي الناس لأنفسهم كأمة.

اختلفَ أنصار هذا التيار فيما بينهم فيما يتعلق بطبيعة العملية التاريخية التي سببت نشوء الأمة، فبنديكت أندرسون في المجتمعات المتخيلة، ربطها بنشوء رأسمالية الطباعة وتكوين جماعة متخيلة على الأساس من اللغة القياسية التي تكونت نتيجة للطباعة، بالمقابل عرّفها أرنست غيلنر في الأمم والقومية بنشوء المجتمع الصناعي، الذي فرضَ عبر الدولة أنظمة تعليم قياسي وبيروقراطية موحدة.

الفريق الثاني اعتبرَ أن الأمة تملك أساساً موضوعياً متمثلاً بالقاعدة الإثنية كما لدى أنطوني سميثAnthony D. Smith. National Identity. University of Nevada Press. 1993.، الأمة الألمانية قامت على أساس من تاريخٍ مشترك ولغة مشتركة وتقاليد كتابية وثقافية، شكّلت مجتمعةً الهوية الإثنية للألمان، والتي قامت عليها الأمة الألمانية.

لا يعني هذا أن الأولين يرفضون أي موضوعيةٍ في فهم الأمة، أو أن الأخيرين لا يقبلون بأي دور لمسألة الوعي في تفسير نشوء الأمم، إنما الخلاف يدور حول الطبيعة الأساسية للظاهرة، والمستوى النهائي للتحليل. الأولون يرون الأمة نتاجَ القومية/السياسة، ونتاجَ تحولات اجتماعية غير محتمة، بينما يرى الأخيرون أنها ذات أساسٍ موضوعيٍ سابقٍ ومستقلٍّ عن «إدراكنا»، والذي هو نفسه نتاج الانتماء للأمة. النقاش لم يُحسم ككل سجالٍ تاريخي، حيث يوجد ما يكفي من المعطيات التاريخية لدعم كل تصور، وكثيرٌ منها قابل للتأويل في مصلحة كلٍ من الرأيين.

الخلافُ الأساسي في هذا النقاش يشبه الخلاف حول «مجموعة» الأقلام، هل الأمة ذات أساس موضوعي أم أنها متعلقة بـــ«وعيٍ حديث» يدرك العالم بهذا الشكل؟ النقاش حول القومية والأمة يمكن تعميمه على أنواع متباينة من الهويات، الطائفة، الإثنية، وحتى الطبقة.

فيما يتعلق بالهويات (أي مجموعات البشر) يمكن لنا القول إن هناك رأيان أساسيان:

  • النظرة الموضوعية وهي التي ترى أن هناك أساساً موضوعياً للجماعة، وأن وعيها الذاتي ليس إلا نتيجة مترتبة على وجودها كجماعة. القوميون موضوعيون، فالأمة ظاهرة موضوعية على أساس من اللغة أو العرق أو التاريخ، ولكنها موجودة بمعزل عن إدراكنا لها. الماركسية هي الأخرى نظرية موضوعية فيما يتعلق بالطبقة، الطبقة ككيان موضوعي يجد أساسه في البنية الاقتصادية للمجتمع.
  • النظرة البنائية، وهي ترى أن الهويات هي بناءٌ اجتماعيSocial construct، يُفسَّرُ من خلال إدراك العالم ويجد أساسه في السياسة. قامت جين اليوتJane Elliott، وهي مدرّسة أمريكية مناهضة للعنصرية، بتمرينٍ مع تلامذتها. فعمدت إلى تصنيف تلامذتها إلى مجموعتين على أساس لون عيونهم، مجموعة ذوي العيون الزرقاء ومجموعة ذوي العيون البنية. واستناداً على هذا التصنيف نسبت مجموعةً من الصفات لكل جماعة، فذوو العيون الزرقاء أذكى وأمهر وأكثر تميزاً، وعليه اعتمدت سياسة تمييزية بحيث يكون ذوو العيون الزرقاء المجموعة المتفوقة. بدأ الطلبة بالتصرف على أساس أن هذا التمييز هو مسألةٌ «واقعية»، فالأطفال ذوي العيون الزرقاء تصرفوا تبعاً للسلوك «المتوقع» من جماعتهم، فكانوا أفضل فيما يتعلق بالتمارين البسيطة، وأمسوا أكثر عنجيهة وشعوراً بتفوقهم. تمرين إليوت كان بغرض أن تعلّم تلامذتها أن التفرقة العنصرية على أساس من لون الجلد ليست شيئاً أصيلاً، ويمكن استبداله بلون العيون. تمرين إليوت يدعم النظرة البنائية للهوية، باعتبارها صورة متخيلة قائمة على أساسٍ من السياسة والسلطة والمعاملة التمييزية.

هل إحدى النظريتين صحيحة والأخرى خاطئة؟

في الواقع لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بالإجابة على السؤال الذي بدأنا به، هل المجموعات ذات وجود حقيقي أم لا؟ وفيما أعلم فإنه لا يمكن لنا أن نجيب عليه بشكل قطعي، غير أن الأجدى هو السعي إلى ضبط النقاش من جهة، واكتشاف ميزات كل نظرة ونقاط ضعفها.

الماركسية تبقى مثلي المفضل. الطبقة كيانٌ موضوعي معين على أساس نمط الإنتاج، فالرأسمالية كنمط إنتاج تنتج طبقتين، طبقة الرأسماليين وطبقة العمال، وانتماءُ المرء إلى طبقة يتسم بأساس موضوعي مستقل عن وعيه. التاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي (صراعٌ سياسي)، وفي النظام الرأسمالي هو صراع بين طبقتي الرأسماليين والعمال. الصراع يستدعي وعي أبناء كل طبقة بالانتماء إليها، وتنظيم كل طبقة لنفسها في مواجهة عدوها الطبقي (الوعي الطبقي). هذا التصور يتضمن بعدين للهوية الطبقية، البعد الموضوعي «الطبقة بذاتها» والبعد السياسي «الطبقة لذاتها» (تمييزٌ مكافئٌ موجود تقريباً في نظريات القوميين عن الأمة، وعملياً لدى دعاة أيّ هوية)، بحيث أن السياسي يُشتقّ من الموضوعي. نشأت الإشكالية التي واجهت الماركسية عندما لم يكن هناك اتساق بين السلوك المُتوقع بحكم الانتماء الطبقي والانتماء الطبقي نفسه، أي في الانتقال من الموضوعي إلى السياسي.

لم يتصرف العمال بوصفهم عمالاً دوماً، ولم تأتِ الثورات المتوقعة!

تزييف الوعي كان الفكرة التي يُفترض أن تحل هذا المأزق النظري! الحل أثار من الإحراجات النظرية أكثر مما قدم من فائدة. إن كان بالإمكان تزييف الوعي فهذا يعني أن الانتماء «الموضوعي» للمجموعة ليس أساساً كافياً للتفسير، وعليه فإننا نحتاج لإضافة مجموعة من الشروط المساعدة لتفسير عدم تحقق الوعي الطبقي، وهي شروط تحيل على هويات أخرى (أرستقراطية البروليتاريا أو الانتماء القومي أو الحالة الاستعمارية مثلاً)، وبما أن هذه الهويات تدخل في تحليل فشل الهوية الموضوعية (الطبقة)، فهذا يعني أنها أكثر أساسية، أو على الأقل مساوية للهوية التي تفسر تحققها أو عدمه. النتيجة، الهوية الطبقية ليست أصيلة بالقدر الذي كنّا نتخيله.

كذلك إن كان بالإمكان تزييف الوعي، فما الذي يمنع أن يكون وعينا بصدد الهوية الحقيقية (الطبقة) ليس مزيفاً بدوره؟

مشكلتان تعاني منهما كل النظريات الموضوعية عن الهوية، الأولى تفسير كيفية الانتقال من «جماعة بذاتها» إلى «جماعة لذاتها»، الانتقال من «الكيان الموضوعي» إلى «الكيان السياسي»، وهو انتقالٌ مرهونٌ بالسياسة، أي يُحيل إلى شيءٍ غير موضوعي له علاقة بالتكوين والصناعة. الانتقال مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، يتضمن أيضاً قفزة منطقية بين شيئين غير متكافئين، ما هو موجود وما يجب!

المشكلة الثانية تقوم على أن أغلب الهويات التي نتحدث عنها تتضمن السياسي باعتباره شيئاً مكوناً، فلا معنى للحديث عن الأمة، إن لم يكن لأبنائها حسٌّ مشترك بتميزهم عن الآخرين، متمثل بتنظيمات ذات دعوات سياسية (سياسات ثقافية). لكن غياب هذا البعد السياسي سيطرح سؤال عن جدوى الحديث عن الأمة!

ماذا يعني أن نتحدث عن الأمة العربية فيما قبل نهاية القرن التاسع عشر، عندما لم يكن هناك شعور عربي مشترك بالتمايز القومي عن الأتراك في داخل الدولة العثمانية؟ وعليه سيكون السياسي هو الأساس التي نبني عليه، وليس «العوامل الموضوعية» كاللغة العربية.

فيما يتعلقُ بالنظرة البنائية فستواجهنا مسألةُ العبثية، لماذا لا ننتج هويات على أساسٍ من لون العيون (فعلتها إليوت في الصف ولكن ليس في التاريخ)، أو على أساسٍ من لون الشعر (كان الشعر الأحمر سبباً لموت كثيرٍ من النساء في القرون الوسطى باعتبارهن ساحرات، ولكنه لم يتحول في أي سياق تاريخي إلى أساس لهوية) أو أي شكل آخر نرغبه من الهويات؟

نحن لا نُنتجُ أيّ هوية نرغب بها حتى لو كانت لنا قوة كبيرة، وخياراتنا محدودة بما يبدو أنه أساسٌ موضوعيٌ مستقلٌّ عنا. نظرية أندرسون عن الجماعات المتخيلة تربطُ بين نشوء رأسمالية الطباعة ونشوء الأمة كجماعة متخيلة، ونشوء رأسمالية الطباعة ارتبط مع نشوء سوقها وتوسعه، أي الجماعة التي تستهلك المادة المطبوعة. تطوّر وتوسّع هذه السوق استلزم تنظيم اللغة المستخدمة وتوحيدها، وهذه الجماعة ستصبح موحدة تخيلياً بشكل متزايد، بفضل استهلاكها للأدب والثقافة المكتوبة بلغة موحدة بشكل فعال بفضل رأسمالية الطباعة. لكن السؤال، هل اللغة الموحدة مخترعةٌ ونتاجٌ للطباعة، أم أنها ذات أساسٍ موضوعي بما يحيلنا من جديد على الربط بين الأمة واللغة؟

يمكن الجدال أن هناك فرقاً أساسياً بين اللغات المحلية «اللهجات» وبين اللغة القياسية، ولكن هذه اللغات المحلية جميعها ترتبط –عموماً- بقرابة حقيقية فيما بينها ومع اللغة القياسية «الفصحى/الرسمية»!! أو أن الشعور بوحدة الجماعة نشأ على أساس من وحدة سوق الطباعة وليس على أساس من اللغة، لكن هذا لم يكن ممكناً دون وحدة اللغة والتراث المدوّن بها سلفاً. على هذا المنوال كانت المحاججة ضد النظرة الحديثة للأمة، بأن تستكشف أساساً «سابقاً» لما تمّ تحويره حداثياً.

أول ملاحظة تتعلق بهذا النقاش، هي التباين حول المقصود بالهوية بين أصحاب النظرتين المختلفتين. أنصار النظرة البنائية يركزون على الكيان السياسي «الطبقة لذاتها»، بينما يهتم أنصار النظرة الموضوعية أكثر بالكيان الموضوعي «الطبقة بذاتها»، ومن ثم ينتقلون إلى المستوى الآخر وكأنه المكافئ المنطقي. هل الحديث عن العرب بوصفهم جماعة لغوية، هو مكافئ للحديث عن العرب بوصفهم أمة (جماعة سياسية)؟ وهل كونهم جماعة لغوية يستدعي ضمناً كونهم أمة (جماعة سياسية)؟ أو على العكس، هل لأن العرب بشكلٍ متخيلٍ أمة (جماعة سياسية بسبب أيديولوجية سياسية) أصبحوا جماعة لغوية؟

لا يوجد طريقٌ مباشرٌ من اتجاهٍ للآخر، وبأي جهة. كونُ العرب جماعةً لغوية، لا يستدعي أن يكونوا جماعةً سياسية، وكذلك العكس.

نحن نستخدمُ هذه الهويات المتباينة لشرح مسائلَ مختلفة تماماً، وبالتالي لا يمكن الانتقالُ من إحداها إلى الأخرى. النظرُ للعرب بوصفهم جماعةً لغوية قد يفسّر مسائل لها علاقة بالتحولات اللغوية التي أصابت مناطق محددة من العالم بالارتباط مع هجرة الشعوب، بينما يفسّر النظرُ إلى العرب كجماعةٍ سياسية التحولات السياسية التي حصلت في نهاية الدولة العثمانية مثلاً. الحالُ ذاته يصدقُ مع مفهوم الطبقة كمفهوم اجتماعي-اقتصادي لشرح أنماطٍ اقتصادية معينة، والطبقة كهوية سياسية لشرح أحداث سياسية. السعي لإرجاع مفهوم للآخر هو ضمناً سعي لإرجاع مستوىً معين للظواهر إلى مستوىً آخر، وهذا لا يمكن قبوله ضمناً أو أخذه كشيء مفهوم بذاته.

في المشرق العربي، تبدو الطوائف هي الكيانات الأساسية التي لا يمكن تصور أي مقاربة تحليلية للمشرق دون الاعتماد عليها، وطبعاً دوماً تحت خطر أن تكون «طائفياً». هل الطوائف ظواهر حديثة وصناعية، أم هي الجماعات الأساسية المكونة للمجتمعات المشرقية؟

اعتبرَ أسامة مقدسي في ثقافة الطائفية، مُستلهماً المقاربة الحديثة للمسألة القومية، الطوائفَ ظواهرَ حديثة مرتبطة بالاستراتيجيات السياسية للنخب، لكن النزاعات السياسية والحروب القائمة على التمييز في الهوية الطائفية (الدينية) موجودة منذ التوسع العثماني في البلقان، وكذلك تنظيم الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للجماعات بالارتباط مع هويتها الطائفية! الاختلافُ الذي يركّز عليه هو تحولٌ في السياسة مع نشوء السياسة الجماهيرية، أي الانتقال من سياسة الأعيان إلى سياسة جماهيرية. القومية نفسها ليست إلا تحولاً مماثلاً من سياسات الأرستقراطية إلى السياسات الجماهيرية! يمكن لنا الادعاء أن هذا التحول هو تحول في شكل الهوية الطائفية وليس اختراعها أو بنائها، تحول الطائفة من هوية بذاتها إلى هوية لذاتها، طالما أن الأساس الاجتماعي للطائفة موجودٌ مسبقاً.

برجيت شيبلرفي انتفاضات جبل الدروز تنظر إلى الدروز بوصفهم جماعة إثنية، ميزهم الزواج الداخلي وتقاليد وثقافة مشتركة مديدة، والمذهب الخاص وانفصال عمن حولهم. لكن هل الدروز حقاً جماعة إثنية متمايزة أم أنها هوية سياسية؟ عندما انتفضَ الفلاحون الدروز عام 1947 ضد حكامهم من آل الأطرش، استندوا إلى هوية قومية عربية واشتراكية في مواجهة الخصوصية الدرزية التي استندت إليها سيطرة آل الأطرش. كثيرٌ من الدروز سيجدون طريقهم في الخمسينيات والستينيات إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وقبلها سيلعبون دوراً أساسياً في بناء الهوية الوطنية السورية مع الثورة السورية الكبرى. بالنسبة لدروزٍ كثيرين لم يكن هناك فصلٌ واضحٌ بين أن يكونوا دورزاً وقوميين عرباً في الآن ذاته، ودون إشكالات منطقية. المسألة تبقى هل يمكن فصل الهوية الدرزية عن التاريخ السياسي للنزاعات التي واجهتها النخب الدرزية، بغرض حماية سلطتها في مواجهة محاولات مركزة الدولة وتحديثها منذ فترة الإصلاح العثماني وما تلاها؟

لا يمكن لنا أن نقدم قراءة طائفية لتاريخ سوريا في الخمسينات والستينات ولكن لا يمكن لنا أن نستغني عنها الآن، يمكن أن نعثر على الجماعات الطائفية دوماً ولكن لن نعثر دوماً على سياسات طائفية. المشكلة هي ذاتها التي رأيناها في تناول أي هوية، الانتقال من الجماعة إلى الكيان السياسي، وأيهما هو الأساس الذي نقارب منه مسألة الهوية.

يُعَيّنُ كارل شميت في مفهوم السياسي السياسيَ بإحالته إلى تمييز أساسي بين الصديق والعدو، كما أن الأخلاق تقوم على التمييز بين الخير والشر، فإن السياسة تقوم على التمييز بين الصديق والعدو، وهذا التمييز يكشف الطبيعة المنطقية الخاصة للسياسة كمجالٍ لا يمكن إرجاعه إلى أي مجالٍ آخر. عندما يؤكد ماركس في البيان الشيوعي أن التاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي، فهو يتحدث عن الطبقة في علاقة صراعٍ مع طبقات أخرى، ما يحدد الطبقة ويرسم حدودها هي الحرب مع الطبقات الأخرى، الطبقة هنا كيانٌ سياسي. بالمقابل في رأس المال يحلل نظام الإنتاج الرأسمالي، ويحدد الطبقة بمكانها في نمط الإنتاج كطبقة اجتماعية. هنا لدينا مفهومان متباينان عن الطبقة، الأول سياسي مجاله المنطقي هو علاقة الصراع مع العدو، والثاني اقتصادي مجاله المنطقي هو علاقات الإنتاج والتوزيع. القبول بهذا التمييز يقدم لنا نتيجتين:

أولاً: لا يمكن الانتقال من سويةٍ إلى أخرى أو إرجاع أحداهما إلى الأخرى، لأن كل سويةٍ لها نظامٌ منطقيٌ خاص.

ثانياً: السياسي هو من يحدد الـ«نحن» بعلاقتها مع العدو أو الصديق، والسياسي يسعى إلى تأسيس حدود الفصل بوصفها الأساس لكل الوجود، طالما أنه كسياسي يتحكم في حق الحياة والموت. السياسي والثوري منه خصوصاً اختزالي، يحول الهوية السياسية التي ينادي بها (الطبقة أو العرق واللغة أو لون الجلد) إلى الهوية الأساسية.

عن الرياضيات عوضاً عن الخاتمة

أسلفتُ أن سؤال موضوعية أو عدم موضوعية المجموعات (ومثله كل المفاهيم الرياضية النظرية) لا يمكن الإجابة عنه، والواقع أن كل إجابة ستنتهي إلى مأزقها الخاص، فإذا أجبنا بنعم إنها موجودة، علينا الإجابة عندها على سؤال كيف يمكن لنا أن نعرفها وهي مفاهيم مثالية لا تنتمي إلى عالمنا الفيزيائي؟ سؤالٌ لا نعرف له إجابة. إذا أجبنا بعدم موضوعيتها، سيعني هذا أن كل الجمل التي تحتوي على مفاهيم رياضية هي خاطئة لأنها تحيل إلى ما هو غير موجود، كتلك الجمل التي تتحدث عن الغول والجن. تخيلوا الفيزياء مثلاً دون رياضيات!!

علينا أن نقبل أن هناك كثيراً من الأسئلة التي لا يمكن لنا الإجابة عليها، ولكنّ كثيراً منها أيضاً ينشأ نتيجةً للخلط بين المفاهيم والسويات التي تُحيل إليها، وأخيراً هناك الأسئلة التي لا يمكن لنا أن نحكم بين إجاباتها بشكل قطعي «تكافؤ الأدلة على قول فقهائنا»، والتاريخ هو دوماً أفضل تجسيدٍ للمجموعة الأخيرة من الأسئلة.