يقوم المجتمع على الإنتاج ويتقدّم بالإبداع، ولا يعطّلُ الإنتاجَ والإبداعَ شيءٌ أكثر من الخوف، فلا يمكن أن يحيا هذان المقومان إلا في ظل الحرية من كافة القيود. وللأسف فإن الخوف كان ولا يزال رفيق درب المرأة العربية والسورية، وينتجُ هذا الخوف عن العنف الممارس ضدها بكافة أشكاله الجسدية والنفسية. وبما أنه لا توجد نتائج مادية ملموسة للعنف المعنوي، فإن من الممكن تسميته بـ«الترهيب» لما ينتج عنه من رهابٍ لدى المرأة يعيق نشاطها ويمنعها من التقدم في المجتمع.

أحياناً تقع المرأة نفسها في الفخ، وتقوم بترهيب نفسها بنفسها، وذلك عندما تتبنى المنظومةَ الفكريةَ للمجتمع الذكوري المحيط بها، وتعمل بها ولأجلها دون أن تدرك العواقب الكارثية المترتبة على هذا الانصياع، والتي تساهم في تكوين الإنسان الذي ستكون عليه في المستقبل، وتحديد دورها في المجتمع.

سيتم الحديث عن نساء المجتمع الحلبي في سوريا، وتحديداً الشريحة المسلمة التي تشكل عموم النساء في مدينة حلب، باستثناء أترابهن من الديانات والقوميات الأخرى، على الرغم من أنهن عانين أحياناً للدرجة نفسها، لكن ربما كان وضعهن العام أفضل بقليل من وضع المرأة الحلبية المسلمة المنتمية لما يسمى بـ «المجتمع المحافظ». كذلك فإنه من العدل التنويه إلى أن بعض الحالات التي سيجري تناولها، تنطبق على الذكور أيضاً، لكن ذلك موضوع بحثٍ آخر.

لم يكن للمرأة في المجتمع السوري عموماً، والحلبي خصوصاً، أي مساحة من الحرية لتعبر من خلالها عن موقفها من أمور الدين والمجتمع والسياسة، فقد طُبّقت عليها كافة أنواع القيود المزمنة ما جعلها كائناً ضعيفاً وغير مستقر نفسياً، مترددة بقراراتها التي تساهم في اتخاذها عوامل دينية ومجتمعية، وغالباً ما يتم تسييرها إلى حيث يشاء الرب، أو القائد، أو الأب، بل وحتى العم والخال وزوج الخالة وزوج العمة. ولعل هناك من يعتقد أن فيما سيرد لاحقاً شيء من المبالغة، وربما يُعزى ذلك إلى كون هؤلاء قد عاشوا في بيئات أكثر انفتاحاً، أو بعيدة عما يجري خلف جدرانِ التعصب والتزمت.

تعددت أنواع القيود التي شلّت حركة النساء، ومنعت معظمهن من التقدم، وكذلك تغيرت أشكالها عبر الزمن، ومنذ الطفولة تعدّ لحظة دخول الفتاة إلى المدرسة بدايةً لقيودها السياسية والمجتمعية، فهي تصبح خاضعة ومسيّرة ما أن تضع رجلها في غرفة الصف الأول، لا تختار ثيابها بل ترتدي الأصفر الباهت ثم الأخضر العسكري ثم الأزرق ثم الفضي، ولا تختار كتبها بل تجد نفسها محاصرة بين كتب القومية العربية المليئة بصور الأعلام والشعارات، وكتب التربية الإسلامية المليئة بتعليمات متناقضة مع الواقع من جهة، ومع ما يتم تدريسه في منهج القومية ومعسكرات الشبيبة من جهة أخرى. تتراكم هذه القيود تدريجياً بدءاً من كونها «طليعية» صغيرة لا تعي بعدُ معنى الوطن أو العلَم أو الحدود، إلى «شبيبية» مقهورة تدرك كل هذه المسميات ومعانيها، دون أن يكون لها شيء فيها، أي شيء.

ارتبطت الدورة الشهرية بقيد يسمى «الفرض»، حيث وجبَ على تلك الطفلة أن تغطي رأسها لحظة بلوغها، وكأن حالة الفوضى الفيزيولوجية التي أكسبتها إياهها الطبيعة لا تكفيها، ليصبح عليها أن تواجه هرموناتها المتقلبة من جهة، والأوامر الإلهية الخاضعة لأهواء ذكورية غالباً من جهة أخرى. وقطعة القماش البسيطة تلك هي بدايةٌ لرحلة شاقة لا تنتهي بتجردها منها، وإن فعلت فسيكون ذلك ذنباً قد يؤدي إلى أن تخسر الفتاة من أجلها عائلتها ومجتمعها.

النساء في المجتمع الحلبي لهن نماذج عديدة تستوجب الحديث عنها كل على حدة، ويطول حصرها جميعاً. ربما كان الوضع مختلفاً عن ما سأطرحه في مرحلةِ ما قبل الثمانينات، بل وحتى السبعينات، لكن ولأنني لم أعاصر هذه المرحلة فإنني أفضل ترك الحديث عنها لمن عاصرها، والتركيز على ما شهدتُه وعاينتُه من نماذج النساء في الثلاثين سنة الأخيرة في حلب. ولعل أكثر النماذج شيوعاً هو المرأة الحلبية التقليدية المتمثلة بهؤلاء اللواتي يخرجن من بيوت أهاليهن إلى بيوت أزواجهن في سن مبكر غالباً، ولا يستطعن إكمال تحصيلهن العلمي، وتساعدهن الأمهات بتنمية مهارات الطبخ والإدارة المنزلية وتربية الأطفال، وللأسف كونت هذه الشريحة القسم الأكبر من نساء المجتمع الحلبي، مما شكل ربما عاملاً مهماً في كون هذا المجتمع الأكثر تقليديةً بين المجتمعات والمكونات السورية. هؤلاء النساء لُذنَ بالصمت وآثرنَ الخنوع، واعتقدن أنه لا يمكنهن النجاة دون «ظهرٍ» وراءهن، وبهذا تكون الأنثى قد تشربت فكرة أنها ناقصة منذ الطفولة، لا يكتمل كيانها إلا بوجود ذكر يحميها، هو الحارس لها خارج المنزل، فبدونه قد يغتصبها أحد الرجال في الشارع، أو أن وجوده يمنع باقي الرجال من استراق النظر إليها، فهي «مملوكة» ورجُلُها هو من يحضر لها أشياء المنزل، فهي غير قادرة على إجراء أبسط معاملات البيع والشراء لأنه قد يبتلعها «الخضرجي» بغيابه، أو يعتدي عليها «الكندرجي» أو بائع البقالية، ناهيك عن أولاد الجيران.

تلك المرأة تمت محاصرتها من جميع الجهات بعالم الرجال المحظور، ويشكل الذكر الزوج أو الأب أو الأخ بالنسبة لها ما يشبه «وثيقة جواز السفر» فهي تتذوق شيئاً من حريتها المفقودة معه. هي لا تكترث بوجوده، أو أن ذلك بحد ذاته لايشعرها بمتعة أثناء وجودهما في «العالم الخارجي»، بل هي تستغله لتحصل على شيء من الحرية فقط. وهذا النموذج من النساء يختلف بشكل طبيعي من امرأة إلى أخرى.

من هؤلاء النساء اللواتي تربين في بيئات تقليدية من كانت محظوظة كفاية لتتمكن من إكمال تعليمها، حيث دخلت الجامعة ووجدت نفسها فجأة أمام خليط ذكر-أنثى للمرة الأولى على الأغلب، فوضعتها عملية الانفتاح المفاجئ على هذه البيئة المختلطة مقارنةً مع طبيعة مجتمعها التقليدية أمام متضادات سيكون لها تأثير عميق على تكوين شخصيتها في المرحلة التالية. بعضهن شعرن بصدمة من كثرة أعداد الذكور من حولهن، فانكفأن على أنفسهن، واعتبرت الواحدة منهن أن مجرد الوقوف مع زميل الجامعة هو شيء يجلب العار، على الرغم من رغبتها بعيش حياتها الجامعية بشكل طبيعي كالأخريات، فلا تجد سوى حجة اتباع العقائد لتبرر لنفسها سلوكها غير الطبيعي. وتراها تنعزل بنفسها مع فتيات من البيئة نفسها، وفي يدها دائماً عداد التسبيح، وتكتسي السواد شيئاً فشيئاً، إلى أن تعزل نفسها تماماً حتى عن الألوان المحيطة.

هناك أخريات أقل ارتباطاً بالتدين، ويعانين أكثر من النموذج السابق لأنه لا مبررات لأي سلوك يمنعهن من الاختلاط بالذكور فترى الفتاة تتخبط بين الخطأ والصواب من دون مرشد، بين محاولة التأقلم مع البيئة الجديدة وبين عدم الخروج عن تقاليد العائلة. أخرياتٌ يتمردن بشكل كامل، ويكسرن كافة الحواجز، ويودي بهن ذلك إلى نتائج غير مرجوة غالباً. التخبط الداخلي موجود في كل فتاة في الجامعة، لا يهم من أي نوع هي ولا من أي خلفية جاءت، هي تتخبط، تتشكل لديها عُقَدٌ نفسية مع الزمن قد تظهر من خلال سلوكها أو ثيابها أو نوع الموسيقى الذي تستمع إليه، أو حالة تدين مفاجئة تعتمدُ شدتُها على درجة إيمانها وعمق ارتباطها بالعقيدة، حتى ولو كانت الفتاة تنتمي لبيئة استطاعت التخلص من تقليديتها، فذلك ليس كافياً وهو يضعها أغلب الأحيان في حالة صراع مع المجتمع، حيث أنها لا تستطيع أن تعيش تحرر عائلتها في المجتمع المنغلق.

أعتقدُ أنه يوجد في كل عائلة فسيفساء من النساء، لكلٍ منهن طريقتها وأسلوبها في التعامل مع ضغوطات المجتمع، وربما يزداد هذا التنوع مع الأجيال الجديدة، وهذا أمر طبيعي لأن الوسائل القديمة في الخروج من القوقعة تم استبدالها بأخرى عصرية. بالنسبة لي، ولدت في بيئة محافظة جداً من جهة الأم ومتعصبة من جهة الأب، لا يمكن أن يكون هناك أسوأ من هذا المزيج، ولم يكن لأمي أو لأبي الجرأة على تغيير ما أُنشئوا عليه بافتراض رغبتهم بذلك. كانت أمي في بداية فترة مراهقتي تلاحقني من أجل تأدية الفروض الإسلامية، فتأتي إلي بسجادة الصلاة وتضعها أمامي وتقول «قومي صلي»، وكان خالي شيخاً يخطب فينا كل مرة نجتمع بها في منزل جدي وجدتي، حيث كان الذهاب إلى منزل جدتي أشبه بالذهاب إلى الجامع بالنسبة لي، أتوضأُ وأرتدي الملابس المحتشمة أكثر من احتشام الملابس التي أرتديها عادةً. ندخل إلى منزل جدتي ونلقي التحية الإسلامية على الجميع ونقبل أيادي العجائز، طبعاً تتجه النساء إلى غرفة الجلوس العادية ويتجه الذكور إلى «غرفة الضيوف» بهدف عدم الاختلاط بين الجنسين. لم أتكلم طوال هذه الفترة مع أحد من أبناء خالاتي وأخوالي، لا أعرف من هم، كيف يفكرون، لا أميز بين أصواتهم حين أسمعهم يتحدثون من وراء الباب الذي يفصل الغرفتين عن بعضهما، كان خالي يقضي نصف الوقت هناك ونصف الوقت في قسم النساء (بعد ضمان خروج من تحرم عليه أخلاقياً وتجوز له شرعياً من النساء إلى غرفة أخرى، كزوجة ابن الأخت)، يروي للجميع قصص الصحابة وأحاديث الرسول وآيات من القرآن وفضائل الصلاة وفضائل الصدقة، كان الكل يهز برأسه موافقاً على ما يقول سواء كان يفهمه أم لا.

وجدتُ نفسي محاطة بالدين من كل الأطراف، وحين بلغت الثالثة عشرة بدأتُ أتعمق في مناحي الدين كما لم يفعل أحد من عائلتي من قبل، حتى أصبحت المَثَلَ لكل الأحفاد لما أتمتع به من إيمان عميق لا تشوبه شائبة. الصلوات على وقتها، لا بل كنت أشرعُ في الصلاة مع نهاية المؤذن من قول آخر جملة في الأذان (عرفت لاحقاً أن هذا يسمى اضطراب وسواسي قهري أو OCD)، وأقرأُ القرآن بشكل متواصل حيث أنهي ختمة وأبدأ أخرى، ثم بدأت بالذهاب إلى حلقات الدين وتحفيظ القرآن وارتديت اللباس الإسلامي (إذا اعتبرناه كذلك) الكامل. كانت تلك الأيام هي أيام السعد لأسرتي، فهل هناك أفضل من فتاة مراهقة تقضي وقتها كله على سجادة الصلاة بالنسبة لأمي وخالي المتدينين، ولا تعرف شيئاً عن حياة المراهقة بالنسبة لأبي وأعمامي المتعصبين؟

كان لكل ذكر في عائلتي أبي وأمي طريقته الخاصة في التعامل مع الإناث، وكلها تهدف إلى ضمان التضييق على نساء العائلة، فخالي يخنقنا بالتعاليم وعمي يرهبنا بصراخه، أما أبي فقد أغلق باب الحوار معه منذ تعلمت الحوار، لا أعرف أبي، لم أناقشه بشيء قط. جلّ ما أعرفه أنني كنت أتصبب عرقاً في حال تأخر السائق عن إيصالي إلى البيت من المدرسة بسبب اضطرارنا لانتظار إحدى الفتيات، أو لاحقاً في حال قرر أحد أساتذة الجامعة إطالة وقت المحاضرة المسائية لتفادي تقصيرٍ في المقرر، كنتُ أعودُ إلى المنزل وأنا أعرف أن ما ينتظرني ليس حميداً. لم يكن هناك أي عنف جسدي لكن نظراته وكلماته وحدها كانت كفيلة بأن تحرمني من النوم، فكم أردت أن أناقشه بأنني لم أرتكب خطأً، وأن هذه أحداثٌ طبيعية، لكنني لا أستطيع لأن باب الحوار معه مغلق على الرغم من طيبة قلبه. أما بالنسبة لعمي فقد كان يهزّئ من يشاء ومتى يشاء أمام حشد من العائلة بدون اكتراث، فهو أصبح الذكر «الألفا» بعد وفاة جدي الذي كان لطيفاً جداً وحنوناً، كان يكشّر إلى درجة يضمن فيها أن الكل خاضع لما سنّه من القوانين المتعلقة بالثياب أو السلوك أو حتى الروتين اليومي.

منذ عشرة أعوام، بدأت وحدي بالعمل على تحرير نفسي من كل ما شعرت أنه يعيقني عن الحركة، أو يوقفني عن التفكير، تحررت من العقائد كلياً بالحجة والمنطق (على الأقل بالنسبة لي)، وكذلك اتبعتُ الدبلوماسية إلى أبعد الحدود مع أسرتي بهدف اتقاء غضب أبي الذي لم تنجح كل الأساليب للحؤول دونه، فوجدت منافذَ كي لا يؤثر ذلك عليّ، حيث اعتزلت في غرفتي وأنشأت عالمي الخاص من الكتب والأفلام والموسيقا، عشت حياتي الجامعية بالطريقة التي رأيتها طبيعية، ولكن مع محاولة تطبيق بعض التوازن بين ما ترغب به أسرتي وبين ما أراه صواباً، ولا زلت أحاول تطبيق هذا التوازن حتى الآن مع تعريف أهلي بشكل تدريجي على شخصيتي الجديدة التي بدأت تكوينها منذ عشرة أعوام، محاولةً استغلال حالة الحرب والفوضى التي تشغل حيواتهم، شيء أشبه بمحاولة إعطاء الطفل الدواء وعقله مشدود بلعبة ما تتحرك أمامه.

ربما ليس هذا شيئاً يدعو إلى الاعتزاز، ولكن ما من وسيلة أخرى، فلا بد من القول إن حالة الحرب قد قلبت المفاهيم رأساً على عقب، فلم يعد أحد متعصباً لشيء أكثر من البقاء خارج القضبان، أو بعيداً عن أعين القناصين أو عن الهاون، أو تأمين لقمة العيش وكسوة الشتاء والماء والكهرباء وكافة الاحتياجات اليومية الأساسية التي ندرت أو غلت أسعارها. لم يعد عمي هو نفسه، ولا خالي هو نفسه، ولا حتى أبي!

أعتقدُ أن المرحلة التالية، مرحلة جني ثمار الثورة، ستكون مصيرية من حيث ترسيخ بعض المفاهيم المتعلقة بحرية المرأة السورية وحقها في عيش حياتها كما تريد، وذلك في العقول التي كانت يوماً صلبة كالجدران، وقد باتت أطرى للأسف، ولحسن حظنا نحن نساء هذا المجتمع، بسبب قسوة الحياة. ففرصة تغيير واقع المرأة المزري في سوريا هي اليوم أقرب ما يمكن إلى التحقيق، لكن الأهم من ذلك كله هو أن تكون المرأة نفسها مدركة لأهمية انتهاز هذه الفرصة وتوظيف الظروف لصالحها، وسيتطلب ذلك إنشاء مؤسسات أو جمعيات تتبنى فكراً يساهم في تحرير المرأة، ويتم العمل على تحقيقه بتضافر الجهود مع الجمعيات الموجودة على الأرض والتي تعنى بالمرأة السورية المتضررة من الحرب اليوم، كما أن عملية التهجير والنزوح قد ساهمت إلى حد بعيد في تغيير عقلية المرأة نفسها بعد الاختلاط بالمجتمعات الأخرى التي كانت يوماً ما تشكل العالم المجهول خارج حدود الدولة السورية، غير الموجود أو غير المهم بالنسبة لها.

هي تعي اليوم أننا لسنا وحيدين ولسنا المختارين كما كانت تتم محاولة إقناعنا، وأن الأرض مؤلفة من مجتمعات لكلٍ منها تاريخها وقوانينها وتقاليدها، ولكنها تشترك بمنطق عام هو المقياس لطبيعية سلوك الفرد في أي منها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للمرأة السورية اللاجئة في تركيا أو ألمانيا أو السويد اليوم، والآتية من بيئة «محافظة» أن تشعر بعد الآن أن الاختلاط بين الجنسين هو شيء خارق للطبيعة! هذا الانفتاح على المجتمعات المتنوعة، سيساهم إلى حد كبير في تشكيل أسس المجتمع السوري الجديد، وكلا الجنسين متأثر بهذا الانفتاح، حيث أن الجميع اليوم هو في طور التغيير وليس الدولة فقط.

كما أن لكل شيءٍ ثمن، فإننا ندفع اليوم ثمن هذا التغيير، إما بالمعاناة في التأقلم مع المجتمعات الجديدة أو بذل جهود مضاعفة للوصول إلى المستوى المطلوب من الأداء في تلك المجتمعات، لكن عملية التغيير تحدث في النهاية، وما نحن إلا في مرحلة انتقالية من طور إلى آخر في المجتمع. أما داخلياً، فإن خروج المرأة في المظاهرات مع الرجل الثائر، ووقوفها أمام أكبر آلات القمع، ومشاركتها في جميع الأعمال الثورية من صحافة وإعلام وإغاثة وإسعافات أولية وتهريب الأدوية والمساعدات إلى المناطق التي حاصرها النظام أو داعش دون الاكتراث للمخاطر المترتبة على ذلك، كل ذلك له أثر إيجابي سيضمن عدم خروجها عن هذه المساحة من الحرية التي انتزعتها لنفسها، معلنةً أنها جزء لا يتجزأ من المجتمع، فهي وقفت مع الرجل كتفاً إلى كتف في وجه الإجرام وطالبت بالتغيير لكليهما، وستبني مع الرجل سوريا الجديدة التي لهما فيها الحقوق نفسها، وعليهما الواجبات نفسها.

لعل ما نشهده اليوم من إقدام في إنجازات السوريات وإبداعاتهن داخل سوريا وفي أنحاء العالم، فيه ما يدعو إلى كثير من التفاؤل، إذ شملت إنجازاتهن كافة الأصعدة وعلى رأسها الإعلام والإغاثة والمناحي العلمية، حيث تحصد السوريات اليوم جوائز الصحافة الشجاعة وبراءات الاختراع وجوائز البحث العلمي، متقدمةً بذلك عشرات الأضعاف عما كانت عليه منذ سنوات قليلة.