المظاهرات في حلب كانت خجولة، والهتافُ لا يتعدى حناجر شباب آمنوا بالفكرة وأخفوها في قلوبهم كسرٍّ يجب ألّا يموت.

كنّا في الشهر الأول من عام 2012، وكانت بذور الثورة قد بدأت تظهر في حلب على شكل صيحات تنطلق من المساجد والجامعات، شبابٌ اتفقوا على أن يكسروا حاجز الخوف ويصرخوا بملء قلوبهم للحرية، والناس تتلقف هديرهم بقلوب مليئة بالحب والخوف في آن واحد، ورجال الأمن يملؤون الطرقات كحراسٍ على اللغة والصوت والأنفاس. تلتئم اللوحة الثورية في لحظة واحدة ويبدأ الهتاف، لا تدري كيف ولا أين بدأ كل هذا التخطيط العفوي ليأخذَ شكل لوحةٍ أو حلم.

الناسُ حتى ذلك الوقت كانوا منقسمين؛ والرماديّة هي سيدةُ المواقف، وأنا المتشظّي بين القضايا السياسية والتحليلات المنطقيةْ، المتلوّن بين التجارب الثورية، ومدينتي المتأهبة، وقريتي المحررة «أو كما كنتُ أهمسُ لنفسي».

لم أزُر قريتي منذ سنة تقريباً، كنت أتلقّف أخبارها من مقاطع الانترنيت المنتشرة والتي كنا نخفيها حتى عن أنفسنا. شهدت قريتي بليون الثورةَ البكر، وعلا فيها منتصفَ عام 2011 الهتاف ونهض فيها وعيٌ مبكر بضرورة الحراك، ونظراً لجغرافيتها العصيّة في جبل الزاوية كانت من أوائل القرى التي تحرّرتْ، وكان حلمُ أن أصرخ هناك معها/معهم يراودني كل ليلة.

حلمْتُ برائحة العرق للثورة، ورنَّ في أذني «ألف حبل مشنقة» وابتسمتُ وبكيت، «كم سيكون اللقاء عزيزاً»، هكذا كنتُ أقول في داخلي حين انتبهْتُ لأنفض فكري كلّه بهزةٍ من رأسي، فقد وصلتُ إلى كراج البولمان.

اخترْتُ آخر المقاعد في البولمان إلى قريتي؛ علّ رجالَ الحواجز يملّون فلا يدققون في خانة ولادتي، امرأةٌ أربعينية بدّلتْ مقعدَها الأوّل لتأخذَ مكانَ المعاون كي يُتاحَ لها أن تدخّن كما تشتهي، ففي بلادي دائماً هناك استثناءاتٌ لا تعرف سببَها ولكنّك تقبلُ بها كنصٍّ شرعي.

أنا المدخّن الذي يعشقُ رائحةَ السجائر بأنواعها وألوانها، كان عليّ أن أستسلمَ لفكرة الانتظار حتى الاستراحة، وأن أتلذّذَ فقط برائحة سجائر «المرأة المعاون» وقد فردتْ شعرَها وطلَتْ وجهَها بكل ما في حقيبتها من ألوان.

الطريقُ كان لا يتجاوز المائة كيلومتر، والخوف كان عمراً كاملاً. أدارتْ وجهها إلينا كخبيرة طرقٍ وقالت: «الطريق من حلب إلى ريف إدلب يمرّ بخمسة حواجز للجيش، وبعدها سنمرّ على حواجز الثوار ثم ندخل مدينة أريحا»، هي أيضاً كما سمّتها «تحت سيطرة الجيش». كنّا نستمعُ كلّنا، الرجل في المقعد الأخير سألني عما قالت مع أنّ صوتها كان عالياً جداً، ليتأكد أنّه لم يفته أيّ كلمة.

أعدْتُ كلامَها كببغاءٍ متمرّس، وشعرْتُ وقتَها أنني خبيرٌ أيضاً، ابتسمْتُ لخوفنا، وبدأْتُ بقراءة كلّ الآيات القليلة التي أحفظُها للسفر. توقّف البولمان؛ صرخَ المعاون المطرود من كرسيه «هويات يا شباب». الجنديّ كان يبتسم فقط للمرأة المعاون في الكرسيّ الأول وهي تخرج من علبة تبغها سيجارة تناوله إياها وتمسح بدلته وترتّب ياقته، جميلٌ أن لا يشفعَ لك تاريخُك وكتبُك والآياتُ التي استنجدْتَ بها، بينما تشعر بالطمأنينة تحت ظل «المرأة المعاون».

قطعْنا الحواجزَ الخمس بفضل «المرأة المعاون» وكأنّ شيئاً لم يكن، انكسرت المرأةُ المعاونُ بعدها وارتدتْ حجاباً أسوداً، ومسحتْ طلاءَ وجهها، وبدّلتْ مقعدَها لتعيدَه لصاحبه. تغيّرتْ ملامحُها، قلتُ: «لو أنني صعدْتُ الآن ما كنتُ أجرؤ على النظر لهذا الوجه الملائكي والمسبحة البرتقالية، يا لكيد النساء!». شابٌ في السادسة عشر من العمر كان في الكرسيّ المجاور لي، وأمه إلى جانبه، امرأة هزمتها الحياة، لم تنتبهْ إلى الطريق ولم أنتبهْ لوجودها.

صعدَ أحدُ الثوار إلى البولمان، المعاونُ أرادَ أن يطلبَ الهُويات كعادته، لكنّه أوقفه بحركة من يده، مرّ على الطريق الضيق بين المقاعد، يمسك الهويات يمعن النظر فيها، يتجنب السيدات والعجائز. وصلَ إلى المقعد المجاور، طلبَ هوية الشاب: «من وين أنت؟ من المغارة؟؟»، أجاب الشاب بصوتٍ مخنوقٍ كمن يبتلع ريقه: «أي مبارحة قتل فيها سبعة».

صوتُ أمّه كان عالياً هذه المرة: «لله لا يوفقهون هني وهالثورة ، شو كان بدنا، شو كان رايحلنا، شباب متل الورد الله لا يوفقهون، إرهابيين يعني كان لازم يخربوا هالبلد ليضربهون بالطيارات». أمّه التي كانت تظن أنّ للثوار بدلاتٍ عسكريةً مختلفة، أو أنّهم من فضاء آخر، أو أنّهم رجالٌ بذقون طويلة وبلا بنادق، هي الأميّة التي لا تعرف الفرق بين علمٍ بنجمتين وعلمٍ بثلاث نجوم، هي الأمّ الخائفة على فتاها التي لا تفهم في السياسة، ولم تنتخبْ أحداً في حياتها، ولم يكن لها رأيٌ حتى في تربية أطفالها، هي الخائفة غريزياً على وجود أطفالها.

تغيّرتْ ملامحُ الثائر المبتسم، قطّب جبينه والتقط فتاها بيدٍ واحدة، مسح به أرض البولمان وقذفه خارجاً، أخذ منه الموبايل ولكمه على وجهه ثم نادى أصدقاءه، وأنا أنظر إليه من النافذة كقطّ خائف، أمسكتُ بحديد المقعد ورحتُ أنظر بطرف عيني من النافذة وهم يقذفون الفتى بينهم أمام عجزنا كلنا. تباً للنخوة، عليَّ أن أنزلَ إليهم وأشرح لهم أنّها «أمّنا»، أمّنا التي ربّتنا جميعاً وهي منشغلةٌ بأكوام الغسيل والطبخ، ولم يُتَحْ لها أن تعرفَ الثورة الفرنسية، وثالوثها المقدس والثورة البرتقالية، هي التي لا تعرف من القرآن إلا الحمد والإخلاص، وتعيدهما كلّ صلاة، كانت تظنّ أنّها تحافظ على طفلها فقتلته.

علا بكاؤها، صرختْ. المرأة المعاون كانت أقوانا، نزلتْ إليهم، صرخت في وجوههم، تكلّمت عن الثورة كما لا أجيد أنا، ثمّ اعتذرَتْ وبكَتْ، أرادت أن تقبل أيديَهم وهم يهربون أمامها وهي تتبعهم، ثمّ لما لبثت أن عادتْ بالشاب، نظرت إلى وجوهنا «وربما بصقت».

عادَ الشاب إلى كرسيه، اندسّ في مقعده لا في حضن أمّه، تابع البولمان طريقه، وكلنا صامتون. نزلْتُ على الجسر، وأكملْتُ طريقي إلى قريتي.

الجوّ باردٌ، والثلجُ بدأ يغطّي وجهَ الطرقات، «السرفيس» الذي كان يحملنا يمرّ على حواجز الثورة، وكانت هويتي كصك مرور «ابن الثورة». وصلْتُ، كان الوقتُ قد قاربَ على الظهيرة، قبّلْتُ يدَ والدتي وأبي، حينها كان ما يزال حياً. بيتنا ككل بيوت القرية حينها بلا مازوت، صوت المئذنة كان يقول: إلى أهالي القرية الكرام، على الجميع التوجه إلى الساحة سنقوم بتوزيع المازوت.

القرية كلّها ركضتْ، نسيتُ أن آخذ معي «بيدون»، اشتريتُ في الطريق من أقربِ دكان،
وقفْنا في الطابور نرتجفُ، والسماءُ سخيّةٌ هذا اليوم، والثلجُ كيوم الميلاد صبغَ شيبنا جميعاً.

– «هي مو أول مرة بيقولو بدهون يوزعو مازوت».

– «يا زلمي اشو متشائم.. هالمرة غير كل المرات هالمرة صاحوا بالجامع».

– «يا رب».

يقولون إنّ هذه المرة ليست ككل المرات، وأنهم سيصورون التوزيع، بعضُ الموظفين هرب من الدور خوفاً على راتبه، بعضهم قال إنّ دفء أطفاله أولى. الدور طويل كثعبان يتلوّى، كتلٌ هنا وكتلٌ هناك، والحديث لا يخلو من الفكاهة المعتادة، أحدهم سأل عن الشخص الذي سيقوم بالتوزيع، أجابه آخر «روح طلّع بالرزنامة». سيارةُ جيب شقت الدور الطويل، نزلت فتاة التلفاز بمعطف يقبر الشتاء، يرافقها مصورٌ وشابان ببدلات نظيفة وشعر أشقر ومسدسات «منكلة بيضاء».

تداخلت الناس والتفّت حولها، صوتُ الرصاص أعادَ للناس هدوءها، وارتفعَ باب الكازية، «صفّوا بالدور، صفو بالدور يا شباب»، كلٌ منّا صار يبحث عن دوره، فتاةُ التلفاز تبحث في الوجوه عن ضالتها. سألتِ امرأةً كانت تقف بعيداً عن رأيها بالثورة، وعن توزيع المازوت، تذكرتُ وقتها تلك الأم التي قابلتها في البولمان، دَعَتْ للثورة والثوار وسقّطت النظام، وشكتْ حالها ووجعها وبردها وفقرها. رجلٌ آخر سألتْه، فاستعار من سابقته كلّ الدعوات والهتافات.

في الدور الأول كان الشيخ والمختار ووالد أحد الثوار المسؤولين عن التوزيع، ابتسموا للكاميرا وشكروا الجهود المبذولة، ونسوا أن يرددوا الشعار. غادرت السيارة وغادرتْ معها الفتاة، وعلا صوتُ الرصاص من جديد وأُقفِل باب الكازية: «خلص المازوت».

كانت المآذن تصدح بأذان المغرب، لم يلتفتْ أحدٌ منا صوبَ الصوت، كان الصوتُ بعيداً وغريباً.