لا يحتاج تناول فكرة الحرية إلى تبريرٍ خاص. لكنها ليست فكرةً بديهية، أو نازعاً إنسانياً متعالياً على الأزمنة، أو مطلباً خالياً من التناقض. الحرية فعلُ خروجٍ وانشقاقٍ وصراع، وقد يكون مأساوياً. هذا النص تأملٌ حرٌ في الحرية إن جاز التعبير، أقرب إلى قصة مكتوبة بمفاهيم مجردة، قصة مغامرة ومواجهة أخطارٍ من كل نوع.
قصة تُكتب كي تُعاد كتباتها.
المكان
في حدسٍ أول، تحيلُ الحرية إلى الحركة، الخروج من هنا، الذهاب خطوة أبعد من المعتاد، واستكشاف فضاء أوسع غير معلوم مسبقاً، على خطورةٍ محتملة في ذلك. هذا الوجه الأول للحرية يتقابل مع شيئين، مع نازعٍ بشري لا يقل قوة إلى الإقامة هنا، إلى الاستقرار في بيت، إلى العودة إلى ديارٍ، والارتباط بمكانٍ محدد (في العربية: المكان «اسم مكان» من الكون، فلا مكان إلا بما يكون)؛ والشيء الثاني هو الحبس، المنع من الحركة خارج نطاق معين، محدود.
في شهور سجني الأولى مطلع ثمانينات القرن الماضي سمعت عبارة: «حجز حرية»، كوصف لاعتقالنا (سجناء النظام اليساريين). ويبدو أنها تُشير إلى درجةٍ من السجن مُخفّفة، يُتوقّع لها أن تكون قصيرة الأمد، وتقتصر على تقييد الحركة والحد من «الخطورة»، خطورة التواصل غير المراقب مع آخرين والقيام بأفعال «حرة»، حركات خارجة على مقبول «النظام». وأظن العبارة تتقابل مع الحبس المديد، ومع «سجن التعذيب» مثل تدمر، ومع تفريق السجناء عن بعضهم، وأشكال أخرى من الإيذاء (سنتعرضُ لمعظمها في سنوات «حجز حريتنا» الطويلة). لكن عبارة «حجز حرية» تكثِّف التقابل بين السجن والحرية، وحقيقة أن الحرية أساساً حركة غير معاقة، أو غير محجوزة.
وبقدر ما إن نازع العودة والبيت قرينٌ للراحة والاستقرار والأمان، فإن نازع الحرية مقترنٌ بالخطر والمشقة. نخرج من مكاننا، نبتعد، فنواجه ما لا نعرف، مساحات غير مطروقة من قبل وغير ممسوحة، أناساً آخرين قد لا نجدُ لغةً مشتركة معهم، عوامل طبيعية لا نعرف كيف نُداريها. هذا الشرط هو في آن، الأقدمُ تاريخياً بين شروط البشر، والأقدمُ في عُمْر كلّ منا (تجربة طفولية محتومة) والأعمقُ في كياننا. شرطٌ قديم، فعميق، فمستمر: في كل وقتٍ نحن نخرج، نبتعد، نجازف دون ضمانةٍ بالسلامة.
لكننا نحتاجُ في كل وقت إلى العودة، إلى بيتٍ ومُستقَرٍ آمن، هو في الوقت نفسه منطلقٌ لخروجٍ جديد ومجازفاتٍ جديدة. البيت هو المكان الذي ننطلق منه ونعود إليه. نُكوِّن مفهوم البيت بهذه الحركة ذهاباً وإياباً، حركةً وقراراً.
نُكوّن مفهوم البيت أيضاً بالتعرف، بينما نستكشف عالمنا، على بيوت أخرى غير بيتنا، وكذلك بتغيير بيتنا ذاته. السكنُ في بيتٍ جديد تجربة شائعة في عالم اليوم في كل المجتمعات، وهو عادةً علامة استقلال في مجتمعاتنا المعاصرة، خروجٌ من كنف الأبوين إلى بيت يُسهّل حركتنا، خروجنا وعودتنا أكثر إن أمكن، أو إلى بيوت مؤقتة كثيرة، وهذا تجربة متواترة في عمر الشباب بخاصة، لكنها أيضاً خيارٌ ممكنٌ لكثيرين.
وقد لا نملك بيتاً بكل بساطة، أو لا نقدر على الإقامة في بيت، هذا يجعل المرء «مُشرّداً» (أو «منفياً»، وسأعود إلى هذه النقطة).
السجن يقابل حركة الخروج من البيت، إلى حيث نواجه الخطر ونمارس الخطر. ينزع السجن خطورتنا المحتملة بنزع حريتنا، يحمينا أيضاً من خطورة الحرية. خارج السجن نلتقي بآخرين، نتبادل الكلمات والأشياء والإلفة، وقد ننخرط في حرب. كلود ليفي ستروس يقول إن الثقافات تتكون حول تبادل الكلمات والسلع والنساء، أي من اللغة والإنتاج المادي ونُظُمِ القرابة (وهو يُغفِل تماماً تبادل العنف). الاتصال بآخرين يمكنه، تالياً، أن يكون منطلقاً لثقافة جديدة، لتوسيع حقل التبادل، أو منطلقاً لصراعٍ خَطِر، لحرب. نعرف من تجاربنا أن من هم أوسع حركة وأكثر اختلاطاً بغيرهم، يُطوِّرون عوالم شخصية أكثر غنىً، وطاقةً أكبرَ على التطور. الأقل اختلاطاً هم أشد فقراً، و«بدائية». الثقافات الأكثر أصالة هي الأكثر بدائية، بينما الثقافات الأكثر إبداعية هي الأكثر اختلاطاً وأخذاً من غيرها.
الحرية، تالياً، تقود إلى الثقافة أو إلى الحرب. الثقافة هي تحويل ما هو خارجيٌ إلى داخلٍ وبيت، تعليم المساحات غير المطروقة ومسحها، تحويل الغرباء إلى أقارب وشركاء عبر التبادلات. أليس هذا تناقضاً؟ الحرية هي الخروج من البيت، تجاوز السياج والذهاب بعيداً، لكن بحركة الذهاب بعيداً، وبتكرار الذهاب بعيداً، نُعلِّم المساحات الجديدة، نتعرّفُها فنُلغي بريّتها وخارجيتها، ونجعل منها بيتاً أو امتداداً للبيت، وربما نسميها «وطناً» (في الانكليزية «هوم» تدل على البيت والوطن معاً). وهكذا تبدو الحرية نازعَ تجاوز، لا يَكِنُّ قليلاً حتى ينطلق من جديد في مغامرة جديدة، خطرة. لكن بعد خروجٍ أول استكشافي، هناك خروجٌ ثانٍ استثماري وتنظيمي، ثقافي. الثقافة نتاج الخروج الثاني. العوائد أو العادات تتكون بالعودة، بالخروج الثاني والعودة الثانية. وعبر الخروج الثاني، الذي يُؤلف «البرّية» المجهولة ويُعلِّمها، يبدو أننا نأخذ البيت معنا أو نوسعه، أي أننا لا نخرج منه بل نُخرِجه معنا. فهل يبقى ذلك فعلَ حرية؟ وحين نُوسِّع عالمنا المُعلّم، ونضمُ إليه حيزات كانت بعيدة وغريبة قبل قليل، وصارت الآن قريبة، ألا نكون ألغينا حريتنا؟ بلى. الحرية هي الابتكار، والثقافة هي التكرار. نتحررُ بأن نذهب أبعد، حتى إذا انتهى كل أبعد وجرى تعليم كل شيء، انغلق العالم وغداً سجناً. (وهو ما يغري بالقفز إلى استنتاجِ أنه لا حرية في الأوطان، عوالمنا المعلومة المعهودة، الحرية في الخروج منها).
على أنه يمكن أن نميز بين توسيعٍ للبيت هو عبارة عن تملك وانتزاع و«بيتية» (أو «وطنية») وحرب، وتوسيعٍ للبيت هو استضافة وترحيب ولقاء سلمي بمُغايرين، نُسلّم عليهم ونتعرف بهم ونشاركهم. أو هو تَواسُعٌ إن جاز الاشتقاق، انفتاحُ بيتنا على بيوت غيرنا، والحركة الودودة بين البيوت. تراحُب: رحابة وترحاب.
السجن هو وليد نمط التوسع الأول، التملُّكي، توسيع الملك الخاص لا توسيع المشترك، فتح العالم لا الانفتاح على العالم. نحبس من نستطيع حبسه من الغير في بيوتٍ خاصة مغلقة كي لا يهددوا مِلْكنا، أو يحاولوا مشاركتنا فيه. أو كي نكون ملوكاً غير مُنَازَعين في كل ما هو خارج السجن. السجين هو شريكٌ استبعدناه، بقدر ما إن الشريك هو حُرٌّ مرحب به. لكن حين نحبس من يعترض، من يريد أن يذهب مذهبه الخاص، ألا نجعل من السجن دار الحرية الوحيدة؟ وحين نملك كل ما هو خارج السجن، ألا نجعل من خارج السجن هذا سجناً واسعاً؟
حين نُرحِّب بالغير نُغيّر الغير، وأنفسنا، والبيت: أهلاً وسهلاً، البيت بيتكم! أي لستم ضيوفاً عندنا، ليس البيت لنا وحدنا، أنتم أهل البيت مثلنا! على الرحب والسعة! هذه التجربة تبدو إعلانَ مودةٍ مبدئي ومجازي، إعلانٌ أيضاً بأن المكان رحبٌ واسعٌ يكفي للجميع، وهي بذلك تصلح اتجاهاً لثقافة شراكة. ومن وجهٍ آخر تهدد تلك التجربة جدياً المِلْك، البيتية في شكلها المغلق، العدائي. هذه تعني توسيع البيت وضم الغير إليه، بالحرب والسجن، والنفي والاستعباد. البيتية المفتوحة تعني أن نذهب إلى الغير ويأتي إلينا الغير، فيلتقي توسع بيتنا بتوسع بيتهم، وتتكون لنا بيوت مشتركة، ولا يبقى الغير غيراً. في تاريخهم الطويل فعل البشر الأمرين معاً، الثقافات كلها فعلت الأمرين معاً. لا يمنع ذلك من القول إن البيت المغلق كان النموذج المهيمن أكثر من البيت المفتوح، ولا أن البيت المفتوح اكثر إنسانية من البيت المغلق.
تغييران
في حدسٍ ثانٍ تُحيل الحرية إلى التغيّر. الحركة تكفُّ عن كونها فعل حرية حين تكون حركةً تكرارية على الدروب ذاتها إلى الأماكن ذاتها، وبخاصة حين يكون ذلك مسلكاً إكراهياً. الحركة أول أشكال الحرية من حيث أنها خروج على (منوال)، وليس خروجاً من (مكان) فقط. أو، بعبارة أخرى، لا نكون أحراراً حين نخرج، إلا حين لا نخرج بالصورة ذاتها في كل مرة، أي حين نخرج على خروجنا أيضاً. الخروج من البيت هو تجربة حرية حين تستكشف شيئاً جديداً، ترتاد مجاهِلَ، تخرج على خروجاتنا السابقة، فتأتي بـ«فِتْكات بِكْر» على قول المتنبي. المهم في الحركة، تالياً، أن تكون متحركة هي ذاتها، والمهم فيها عائدها علينا من تعلمٍ واكتسابِ خبرات، من تغيرنا وتغير العالم حولنا.
في العربية تعني كلمة تغيير شيئان. إحلال غير الشيء محل الشيء، وتحويل الشيء عينه إلى غيره. نغير المكان بأن نرحل إلى مكان مُغاير، ونغير المكان بأن نُحوِّلَه هو نفسه ليصبح مكاناً مغايراً. الأول، تغيير المكان، هو الترحُّل، التغير البدوي إن جاز التعبير، والثاني هو التغير الحضري، التغيير في المكان. استخدمت تعبير خروجٍ من المكان (وسأتكلم على خروج من الزمان، من المجتمع، من النفس، من الدين ومن العالم) بمعنىً يبدو أقرب إلى التغير البدوي الذي له تاريخ أفقي غير تراكمي، «بارد» حسب ستروس، لكن الحرية خروجٌ من حالة الشيء إلى حالة غير، أو هي خروجٌ على الخروج مثلما تقدم، وليست حصراً خروجاً من الشيء إلى شيءٍ غيره. في النهاية نحن لا نخرج من نفوسنا إلى نفوسٍ غيرها (ذاكرتنا ومخيلاتنا ورضّاتُنا المُكوِّنة…)، لكننا نغير نفوسنا ذاتها، نظامها، فكأنه صارت لنا نفوسٌ جديدة، بهياكلَ جديدة للذاكرة والتخيل والحساسية، وبسِجلِّ خبرات ممكن جديد. وهذا عند التفكير في الأمر ينطبق على المكان والزمان والمجتمع والعالم. ذلك أن الكلام لا يجري على فردٍ معزولٍ يخرج من بيته مبتعداً، متحرراً، قبل أن يرجِع إليه، أو هو يُحبَس في «بيت» فيُحرَم من حريته. نتكلم، بالأحرى، على جميع البشر، يغيرون بيوتهم ويغيرون في بيوتهم، يخرجون ويُخرِجونها من حالٍ لها إلى حالٍ مغايرة، أو من بيتٍ إلى بيتٍ غيره. تاريخنا هو الشيئان معاً، تاريخ الترحل وتاريخ التحول.
وحين نُحبَس لا يحال بيننا وبين الخروج من «البيت»، بل أيضاً بيننا وبين إخراج البيت من حال إلى حال. نفقد الحرية بالمعنيين معاً. ويكفّ البيت عن أن يكون بيتاً حتى لو حُبِسَ المرءُ في بيته فعلاً، إذ يفقد الحق المقترن بالامتلاك: ما أملكه هو ما لي الخيار في شأنه. بيتي هو ما لي الحق في تغييره وفي التغيير فيه، في هدمه، أو هجره، أو تركه لغيري. السجن ليس بيتاً بحال، ليس شيئاً نملكه ونملك الخروج منه والخروج عليه (تغيير نظامه)، بل هو شيء «يملِكُنا» ويخرج علينا. قد نتحرر فيه من نفوسنا بأن نتحرك خارجها على أنحاء مختلفة، لكن ليس هذا أمراً ميسوراً، وهو لا يتحقق -إن تحقق- إلا ضد السجن، أما «قصدُ» السجن فهو نزع حريتنا وتثبيتنا في صورةٍ لا تتغير. نحن لا نعود إلى السجن إن كان لنا الخيار. وقد سبق القول إن البيت ليس ما نخرج منه فقط، وإنما ما نعود إليه أيضاً.
السجن هو الموقع المناسب لنتبيّن بُعداً آخر للتغيّر: تغير علاقتنا بالأشياء، بالبيت والنفس والعالم والمجتمع. السجن، والسجون المطلقة بخاصة مثل سجن تدمر، لا نستطيع تغيير علاقتنا بها، ولا تغيير أنفسنا فيها إلا على نطاقٍ بالغ الضيق. بالمقابل، يَخنِقنا هذا السجن، يُثبِّتنا في صورة قليلة التغير عبر منع الحركة منه وفيه، وعبر منع تغييره، وامتناع تغيير علاقتنا به. ربما يجعلنا السجن الأقسى قساة. ما القسوة؟ هي التصاق الواحد منا بنفسه، انعطافه على نفسه وتجمعه على نفسه، تكتُّله وتصلُّبُه، بفعل ما تعرضَ له من ضغطٍ وقسوة. هذا بالطبع إن لم يتحطم. القاسي لا مكان في داخله يُفرِده لغيره، يعامل الغير بقسوة لأن مكانه الداخلي ضيقٌ ولا يتسع لغير.
لا تتغير علاقتنا بالأشياء إن كان ممتنعاً تغيير الأشياء ذاتها، تحويلها. لا تتغير أنفسنا بينما نحن لا نغير الأشياء، ولا تتغير علاقتنا بأنفسنا إن لم تتغير أنفسنا. (لكن ليس في الأمر حتميات، فهو في كل حال نسبة وعلاقة بين شروط منع التغيّر، عبر صيغ السجن المختلفة وطول أمدها، وبين الموارد الداخلية للأفراد والمجموعات).
الحرية الحديثة تحويلية أكثر منها بكثير ترحّلية، حضرية أكثر منها بدوية، فاعلية تحويلٍ للمكان والزمان والنفس والمجتمع والعالم، أكثر منها ترحّلٌ وتجْوال. لكن هناك علاقةً مقلقةً بينها ويين الاستعمار، فهذا في آنٍ ترحلٌ مُسلّح وتوسعٌ عدائي واستيلاءٌ على بيوتٍ أخرى، وهو وثيق الصلة من جانب آخر بالتحول والإعمار في البيت، الوطن. حريتان للمستعمِرين مقابل صفر للمستعمَرين: لا تَرحُّل ولا تحويل. فحين لا يُطردون من بيوتهم مثلما جرى للفلسطينيين يجري التحكم بحركتهم وأفعالهم وتفاعلاتهم، أي يجري سجنهم عملياً، مثلما هو جارٍ بحق من بقي من الفلسطينيين في أرضهم. في كل حال، يًحال بينهم وبين تغيير «نظام» بيتهم، وهو ما ينطبق بالقدر نفسه على الاستعمار الداخلي مثل الذي نعرفه جيداً في سورية.
الزمان
الحاضر هو بيت الزمان الذي نبني مفهومه بالخروج منه إلى الماضي والمستقبل، وبالعودة إليه. ويبدو أن الاستعداد الأرسخ عند المجتمعات والثقافات كلها، يتمثل في اعتبار الماضي أبا الحاضر، وهو بيتُ النضج والحكمة والسلطة والشرعية. الحاضر طفلٌ صغير، بالمقابل، وجهُه مُندارٌ نحو الأب، الماضي، أما المستقبل فهو تكرارٌ لهذا النسق نفسه.
انكسرَ هذا التصور في العالم كله بفعل «الحداثة»، مثلما انكسرَ إجماع الثقافات على اعتبار الأرض مركز الكون. المركزية اليوم للحاضر، أنطولوجياً ومعرفياً. زمن الإخوة له الأولوية أو «الحاكمية» على زمن الآباء، وعلى زمن الأبناء.
الماضوية الإسلامية، في صيغة السلفية أو غيرها، هي مقاومةٌ آبائيةٌ لزمن الإخوة، لكنها هي ذاتها تستبطن أولوية الحاضر، ولا تستطيع إلا أن تصدر عنه. إسلاميو اليوم ليسوا آباءاً، وإن دافعوا عن الآبائية، إنهم أخوةٌ ينافسون إخوةً على سلطة، ويستمدون من الآباء الموتى شرعيةً لهذه السلطة. هذا توسعٌ امتلاكي على حساب الماضي، وليس تواسعاً تحررياً يحاول الانفلات من ضيق الحاضر باستحضار نماذجَ وصورٍ من الماضي. لكن بيت الإسلاميين الزماني هو الحاضر، وإن مَنَحَ تفكيرهم الأولوية والحاكمية للماضي. هذا وهم: فهم يسكنون الحاضر مثل الجميع، لا يستطيعون الخروج منه، وليس الماضي غير مصدر لحرمة أو حصانة سلطة احتلال الحاضر، السلطة على الأحياء. ومثلما يجري التوسع المكاني عبر الحرب والسجن، وإخضاع الغير، يجري توسعٌ زماني إخضاعي على حساب الماضي بإعادة تأويله وإخضاعه لحاجات اليوم، وإن من وراء مظهر الوفاء له وجرّ الحاضر إليه. لكن ما يجري امتلاكه على هذا النحو من الماضي هو مواد ميتة، مُجرّدة من الخيال الذي يساعد على العيش في الحاضر وعلى فهمه. الماضي بناءٌ «مادي»، مكونٌ من وقائع ميتة، وحده الحاضر بناءٌ خياليٌ، حي.
قبل أن يُسيء استعمار الماضي معاملة موتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، تجري أصلاً إساءة معاملة الأحياء عبر سجن الزمان كله في حاضرٍ مؤبد. الماضويون هم في واقع الأمر حاضريون، يُجمِّدون الحاضر على هدي مثال مُستورَدٍ من الماضي. وليس غير اعتبارات الحاضر ومصالح في الحاضر هي ما تُحفِّز الجماعة إلى احتلال الماضي، واستيراد يَباسه وموته إلى حياة الأحياء، تيْبيسهم وإماتتهم، بغرض التحكم الكلي بهم. احتلال الماضي على يد السلفية اليوم هو مشروع سلطةٍ وإماتة، يوظف فيه السلفيون خيالهم المعاصر في صورةٍ تجرد عموم محكوميهم من الخيال والحياة.
غيرهم أعادوا بناء الماضي بصورة مغايرة. أعادت أوربا فتح الماضي اليوناني والروماني وامتلاكهما في الحركة نفسها، التي كانت فيها تتوسع استعمارياً في أرجاء الكوكب القديمة والجديدة. ليس الاستمرار بديهياً بحال، إنه نتاجُ امتلاكٍ وإعادة وصلٍ بعد انقطاع وفناء. ويبدو الماضي دوماً أشبه بمن يتوسعون فيه اليوم، وليس بحقيقته الفعلية التي لا سبيل لنا إلى غير معرفة جزئية بها. وتزداد هذه المعرفة جُزئيةً كلما أمعنَ توسعيو الحاضر الواهمون، في تقديم صورة الماضي «الحقيقية».
الخروجُ إلى الماضي هو، مبدئياً، فعل تحررٍ من الحاضر، لكن صفته التحررية مشروطة بشيئين. أولاً اعتبارُ الماضي ماضياً، زمنا غَبَر، برهةً منقضية، وأن البيت هو الحاضر. وهو ما يقتضي بالطبع أن يكون الحاضر بيتاً بالفعل، يوفر الراحة والأمن والحركة للأحياء الحاضرين، وليس هذا حالُ حاضرنا. يبقى الماضي بيتاً متخيلاً ما دام الحاضر دارَ شقاء. وحده انصرام الماضي ما يجعل علاقتنا بالماضي حرة، وهو ما لا يريده الإسلاميون لأن سلطتهم واعتبارهم تقوم على مركزية الماضي، مثلما قامت البابوية قبل نصف ألفية على نظام كوني تشغل الأرض مركزه (لذلك فإن الثورة الكوبرنيكية في مجالنا هي ثورة زمانية- تاريخية، وليست فضائية كوسمولوجية، وغاليليه المسلمين يُسلِّط مناظيره على التاريخ الاجتماعي والسياسي والعقدي، وليس على كواكب بعيدة). وثانياً أن «نخرج» أيضاً إلى المستقبل، أن نتخيل عوالم أخرى وحيوات آخرى، أن نهتم بحيوات الأبناء وعوالمهم، أن تكون الطوبى وجهاً مُلازماً لتفكير الحاضر وسياسته والعيش فيه، أن نفكر ونعمل من أجل «مدنٍ أفضل» بدل إقامة «مملكة الله على الأرض» كما يريد سيد قطب والسلفيون الجهاديون.
من شأن التدرب على الخروج إلى المستقبل وإلى الماضي، أن يساعد على التفكير في «الحاضر كتاريخ» كما يقال، وأكثر منه في التفكير في الصفة الاعتباطية للحاضر. كثيرٌ من الأشياء المترابطة في حاضرنا ترابُطها اعتباطيٌ وعارضٌ ومؤقت، متولدٌ عن مصادفات وأوضاع قد تبدو بعد حين شاذة ومَرَضية. السفر إلى الماضي والمستقبل يساعدان على تبين تحكُّمية الحاضر وجُزافِيّته، وتالياً على العيش في الحاضر كغرباء، يرون كل ما حولهم غريباً.
فإذا بنينا على ما سبق قوله عن الحرية والبيت والسجن، فإن الحرية هي الخروج إلى الماضي وإلى المستقبل، واستضافة صور ومفاهيم ومواد للتفكير والتنظيم والعمل من الماضي وممكناتٍ من المستقبل، كشركاء لنا في الحاضر، بما يساعد على توسيع الحاضر وإقامة علاقة أكثر حرية به. والسجن هو الانحصار في الحاضر/البيت، مثلما فعلت الأبدية الأسدية في سورية مثلاً، ومثلما يريد الإسلاميون أن يفعلوا. بتقديس الماضي، الإسلاميون لا يسكنون في الماضي بل يؤبدون حاضراً يسيطرون فيه، ويُحرّمون الخروج منه وعليه.
ومما يسهم في تثبيتنا في حاضر متعفّن أن الجماعة الأكثر حيوية وحرية في التاريخ الحديث، «الغرب»، دأبت بفعل ديناميكية التوسع الرأسمالي، الانتهاكية والمتجاوزة، التي لم تتوقف بانطواء زمن الاستعمار التقليدي، على إزاحة ماضيها إلى خارجها، مُوسِّعة بذلك من داخلها وحاضرها، وسيادتها أو سلطانها. الغزو الذي لم يعد ممكناً في الداخل صار مباحاً جداً في الخارج، والتفكير في المستعمَرين بدلالة أديانهم وعقائدهم وإثنياتهم مباحٌ في الخارج، بل مفضّل، بعد أن لم يعد مباحاً في الداخل، والحرية التي صارت مُصانة في الداخل ظلت منتهكةً في الخارج. في المحصلة، نشكل عبر آليات متنوعة، منها الاختراق الاستعماري المباشر، ومنها سياسات نخبٍ محلية تعيد إنتاج العلاقة الاستعمارية في تعاملها مع محكوميها، خارجاً للغرب الحرّ السيد، ومَعرِضاً لصور مُتجاوَزة من ماضيه.
في حرية الغرب الحديث والمعاصر توسعٌ وحربٌ وسجنٌ وجوْب آفاق، وفيها تحويل وتغيير الأشياء والأوضاع أيضاً، وفيها قليل من التواسع والتراحب والشراكة، وهذا منذ أيام كولومبوس حتى يومنا. تدَشَّن منذ مطلع «عصر النهضة» توسّعان، توسعٌ زماني: إعادة استملاك الأزمنة اليونانية والرومانية والمسيحية واليهودية، وإضفاء صفة ضرورية على علاقتها بالحاضر أو على ولادة الحاضر منها (وهذا فعل قوة: الحاضر هو أبو الماضي هنا)، ثم توسعٌ مكاني، شكّلت ظاهرة الاستعمار أساسه العميق وتعبيره الأبرز، وبنيته المستمرة.
كانت دينامية التوسع الرأسمالي التي شكلت تاريخية وعالمية العالم المعاصر، قد استنفدت طاقتها على مراحل: نهاية الاستعمار، تعمم الرأسمالية عالمياً، إخفاقات الاحتلال المباشر بعد نهاية الحرب الباردة. ويبدو أن هناك اليوم دينامية معاكسة تتمثل من جهتنا في «الإرهاب» (وهو غزو الضعفاء وحربهم) من جهة، واللجوء من جهة ثانية.
وأجدُ مغرياً القول إن السلفية الإسلامية في تجاربها المُحققة، داعش وجبهة النصرة في سورية وأشباههما، هي ضربٌ من استعمارٍ معكوس، دينامية توسع وانتهاك وتجاوز على حساب الداخل والماضي، حفّزها تأبيد الحاضر ومنع المستقبل من القدوم. وهي لا تقل في تعاملها مع السكان عن الاستعمار انفصالاً وقسوةً وتمييزاً.
الحرب
يمكن للخروج من البيت أن يؤدي إلى «الثقافة»، تبادل الكلام أو السلع أو النساء حسب ستروس، أو إلى الحرب وتبادل الموت. نُحاوِل الاستيلاء على ما بأيدي الآخرين من أشياء وكلام ونساء (الحرب فعلٌ رجالي أساساً)، على بيوتهم وعالمهم، أو التحكّم بحركاتهم وأفعالهم بحيث ننتفع منها على حسابهم فقط، ونصير في وضع أفضل في مواجهة منافسين آخرين لنا. الحرب خروجٌ خَطِر، غير مأمون، قد نجني منه إن انتصرنا ضرباً خاصاً من الحرية: السيادة، نقرر لغيرنا ولا يقرر لنا أحد، ونستثني لأنفسنا ولا نكون موضوع استثناءٍ من أحد، ونُسخِّر المهزومين لخدمتنا ولا نخدم غير أنفسنا، ونقتل غيرنا ولا يقتلنا أحد.
لكن الحرب تصنع الحرب بعد حينٍ يطول أو يقصر، أو هي تصنع العداوات والضغائن التي ستدفع إلى حربٍ أخرى، وهذه إلى حرب أخرى، وهكذا تتناسل الحروب بلا نهاية. تحمي الحرب خلودها عبر إنتاج الأطر الاجتماعية المحاربة والطويلة العمر، القبائل والطوائف والأمم، وهي كائنات اجتماعية سياسية ناقمة، تحمل الحرب في سجلها الوراثي.
لم تتغير الحرب طوال ألفياتٍ من السنين. لم يعد يُقتل المهزمومون أو يُستعبَدون، يُقتل بعضهم، لكن تُخفَّض مرتبة جميعهم الوجودية والسياسية، فكأنهم قُتلوا واستعبدوا. ولم تتغير دوافع الحرب، لا يُنتزع حتماً كل ما بأيدي الغير، لكن للسيطرة والتحكم المنتظران من أحدث الحروب مفعولٌ مماثل. والغنيمة، على أي حال، لم تصِر شيئاً من الماضي. لا يزال يجري الاستيلاء على الأملاك ونهبُها على نطاق واسع. وبعد الحرب العالمية الثانية تكلم الأميركيون على الشرق الأوسط، بدلالة البترول والموقع، بوصفه أثمن جائزة مادية في العالم، وخططوا للاستئثار بها، واستأثروا. هذا منطق غنيمة وسياسة غنيمة.
حيث هناك حربٌ هناك إذن سيطرة وإخضاع، وهناك غنيمة، وهناك كراهية وتطلعٌ إلى الثأر، وهناك صنعٌ للقبائل والطوائف والأمم وأشباهها، وهناك سجن وتشريد ونفي. وليس هناك حرية.
هل تنتهي الحرب يوماً؟ هل تتغير؟ تُبدَّل بشيءٍ آخر أقل تدميراً؟ ينبغي أن تنتهي الحرب، ويبدو أن أي جهوداً تُبذل من أجل تجنبها، تبقى أقل كلفة وأدنى تخريباً من حربٍ لا تلد إلا حرباً.
وما دام هناك حربٌ ليس هناك مساواة في الحرية، هناك شكل مُشوّه من الحرية هو الذي يسمى السيادة، وهو الشكل المزدهر في الغرب. هذه حريةٌ حربيةٌ إن جاز التعبير، غير عادلة وغير كريمة، غير ودودة وتخلو من الاحترام، وهي لا تنتج غير اللاأحرار، السادة والأتباع. أولئك أتباعٌ لغررهم وأنانيتهم وامتيازاتهم، وهؤلاء أتباعٌ للسادة ولأوهامهم وضغائنهم. فحيث هناك من ليسوا أحراراً، ليس هناك من هم أحرار.
المجتمع
الحرية فعل خروج من المجتمع أيضاً. «المجتمع» جملة قواعد ومعايير وأعراف وعوائد، تحدد الأدوار المقبولة والمتوقعة من الأفراد والجماعات. هذه القواعد والمعايير والأعراف، ما قد تسمّى التقاليد، هي «البيت» الذي لا يُستغنى عنه، ولكنه ينقلب سجناً إن تعذر الخروج منه، أو إن كففنا عن الخروج منه إلى مسافات متفاوتة. لا يتكون مجتمع دون أن يُطوِّر تقاليد، مسالك تكرارية يألفها الناس وتساعد في تنظيم الواقع وتسهيل التوقع والتخطيط للحياة، لكن المجتمع يختنق إن كانت الحياة فيه تكراراً للأشياء نفسها دوماً. وفي بعض بيئاتنا التي توصف بحقٍ قليلٍ أو كثيرٍ أنها تقليدية، تبدو الحياة تكراراً بالفعل، لا تُشجِّع على المسالك غير المُجرّبة، ويتواتر أن تُغرِّم المبتكِرَ على مستوى التفكير والفعل ونمط الحياة. هذه حياةٌ غير حرة فعلاً، وإن كانت تؤمن «دفء الحياة العائلية» و«الحميمية»، أشياء يحن إليه كبارٌ «شبّوا عن الطوْق» في شبابهم، ثم «حنّوا» إلى الأهل والأصل، إلى دفء وذكريات الطفولة الجميلة، فعادوا إلى وضع الطوق في أعناقهم طائعين. هذه تجربةٌ شائعة في مجتمعاتنا المعاصرة، يمكن لأيٍّ كان أن يُمثِّل عليها بأناسٍ من حوله، وربما بجانبٍ من نفسه.
بقدرٍ مُقارب، يبدو العيش دون قواعد أمراً ممتنعاً، للجماعات أكثر من الأفراد، لكن للأفراد أيضاً. كل منا يطور روتيناً لحياته كشرط للإنتاجية والتوجه في العالم. قد لا يفعل بعضنا ذلك، لكن هذا لا يجعلهم أحراراً، ولا بخاصة منتجين، وقد يلوذ بعضنا لذلك بالذات بالتقاليد الموروثة، أعني يندرجون ضمن روتين جمْعي عريق بفعل الإخفاق في تطوير روتينٍ شخصي.
لكن حتى الروتين الشخصي يمكن أن يكون سجناً خانقاً، ولا بد من كسره من أجل إفساح مجال لتجارب مغايرة. قد يحصل ذلك مصادفة أو اضطراراً، لكنه يمكن أن يكون مثمراً، ومحرراً. الحرية في كل حال هي حركة الخروج من التقليد الشخصي أو الجمعي، وإن يكن لا غنى عن إعادة بناء تقليد من أجل أن يتماسك الشخص والمجتمع، ومن أجل أن يعملا ويُنتجا، ومن أجل الراحة أيضاً.
وقد تتمثل مشكلة الحداثة في العالم العربي، على المستوى الاجتماعي والسياسي بخاصة، في أنها أخفقت في أن تتشكل في تقليد، أي أن تشكل مجتمعاً و«بيتاً» عاماً في بيئاتنا الاجتماعية والثقافية، ظلت بيتاً خاصاً، يرتاح فيه بعضنا فقط، شاغلي المواقع الأعلى في السلطة والهرم الاجتماعي، ولم تُطوَّر قواعد لضبط السلطة ودعم الأفراد وضمان الحرية الفكرية والسياسية، وتعميم الشرط الحديث في السياسة والتعليم والمؤسسات العامة، وظل كثيرون بيننا يشعرون فيها بالغربة. أما حداثتنا الفكرية ففكرت في نفسها دوماً كخروجٍ وذهابٍ ومُغايَرة فقط، وليس كعودة وبيت وقاعدة أيضاً. لا بيت لها، كانت مثل ضيفٍ في بيت غربي، ليس فقط لم تشارك في إنشائه ووضع قواعده وأنظمته، ولكنها كذلك ليست مدعوة إليه ولا مُرحّباً بها فيه. ومَن حالُهُ هكذا، هو أعجز عن استضافة غيره. وناطقو الحداثة لدينا يعطون انطباعاً عاماً بشِحِّ النفوس، فوق أنهم لا يكفون عن تقريع الآخرين، فلا يشعر امرءٌ بالراحة في هذا الجوار النكد.
عبر ذلك ظلت الحداثة دعوة خارجية وماضوية، نُدعى إليها ولا يُفلتها من يدهم الداعون إليها المُتجهِّمون، وهي في هذه مثل إسلام الإسلاميين: نُدعى إليه أيضاً، مع بقاءه ملكاً خاصاً لهؤلاء الدعاة المتجهمين بدورهم. لا شيء محرراً أو تحررياً هنا أو هناك. ما يمكن أن يكون مُحرِّراً هو الخروج على هذه الحداثة، والعمل على تطوير حداثة متحررة، تخرجُ على تقاليد وتبني تقاليد، لا تربضُ على عتبات بيتٍ ليست مدعوةً إليه ولا كرامة لها فيه، ولا كرم في وجدان دعاتها حيال أي غريب.
الدين
يوفر الدين، الإسلام بحكم الواقع، مجال اختبار لازدواج مفهوم التغيير في العربية كمضمونٍ للحرية. أول ما يُفهم من عبارة تغيير الدين هو التحول من دينٍ إلى آخر، أو تبديل الدين، والفقه الإسلامي يعتبر ذلك ردةً موجبةً للقتل. لكن ألا يعني امتناع الخروج من الدين أنه سجن؟ أنه ليس حتى بيتَ المرء يعود إليه ويرتاح فيه، بل هو بالضبط حبسٌ مؤبد؟ الواقع أن تصور الإسلام السلفي هو كذلك، وهو التصور المهيمن في كل أوساط الإسلام العالِم. وهو ما يثير سؤالا عن إمكانية، وعن وجوب، المعنى الثاني لفكرة التغيير: تغيير الدين بمعنى تغيير نظامه. هذا يفرض نفسه اليوم كاحتياج مُلِح، شرطٌ لحرية المسلمين ومقياسٌ لشعورهم بالحرية. والمهم في تغير نظام الدين هو تحوله إلى ملكٍ للمؤمنين، ونزع ملكيته من يد أي قوة خاصة، تريد في آنٍ واحدٍ انضمامَ الناس إليها واحتفاظها بملكية الدين، أي عملياً تريدهم أتباعاً خاضعين. ملكية عموم الناس للدين هي ما تجعله بيتاً لهم، يخرجون منه ويعودون إليه، ويختارون بيوتاً غيره إن شاؤوا.
والواقع أن الناس لا يُغيِرون أديانهم كثيراً إن حصل أن اختاروها بأنفسهم (في مقابل: وجدوا آباءهم عليها) أو غيّروها مرة. يبقى الدين احتياطياً في المتناول، يلوذُ به المرء حين يحتاجه. لكن لا وجه عادلاً في أن يُحال دون تغيير الدين بقوةٍ جبرية، فالدين بالإكراه لا يستقيم، مثل الحُكْم بالإكراه، ومثل الزواج بالإكراه.
يقضي إيجاب القتل، جزاءاً لتغيير الدين، على الدين ذاته كبيتٍ روحيٍ للمؤمنين، مثلما أن منع المرء من تغيير بيته يجعله عملياً سجيناً بدرجة لا تقل كثيراً عن منعه من الخروج من البيت. هذا ضربٌ من «الإقامة الجبرية»، سيّءٌ مثل السجن. سبقت الإشارة إلى أننا نكوّن مفهوم البيت ليس فقط بالخروج منه والعودة إليه، ولكن أيضاً بتغيير البيت ذاته، وبتجربة التعرف على بيوتٍ غير بيتنا. ونكوّن مفهوم الدين عبر تجربةٍ مماثلة، فالتخلي عن الدين هو من أوجه التجربة الدينية وليس من خارجها، ولا نكوّن مفهوم الدين أيضاً دون التعرف على أديانٍ أخرى، وربما التحوّل إليها. الدين الذي لا نخرج منه ليس ديناً، إنه… دولة: حكمٌ «إلى الأبد» لمدراء الدين، وإقامةٌ جبريةٌ مؤبدة لعموم الناس.
فإذا فُرِضَت على المرء إقامةٌ جبرية، لا يبقى أمامه ليتحرر غير التمرد والثورة. وخلاصة المسألة أنه إن لم يكن الخروج من الدين حقاً شخصياً، فسيكون الخروج على الدين واجباً عاماً.
فلماذا يعترض مديرو الإسلام المعاصرون على هذا المبدأ الذي يتعارض نفيه مع كرامة الإنسان، ومع مفهوم الإيمان ذاته، فضلاً عن تعارضه مع الحرية؟ للأمر صلةٌ بكون إسلام الإسلاميين (في مقابل إسلام الناس أو «الشعب») هو إسلامٌ من فوق، وريثُ الإمبراطورية المدمن على السلطة. «من بدل دينه فاقتلوه» مادةٌ مُعرِّفة لـ«المواطنة» في «دستور» الإمبراطورية، يجري إسنادها إلى ذروة الشرعية التي تأسست عليها الإمبراطورية، «الحديث النبوي»، الذي استمر «الوحي» به لقرنين أو ثلاثة بعد القرآن. هذه المادة بالضبط تعريفٌ للخيانة الوطنية في الإطار الامبراطوري الإسلامي.
ليست هذه الاعتبارات خارجيةً عن السياق الحالي، لكونها تُعرِّف التغير الضروري في الإسلام من أجل حريةٍ واتساقٍ أعليين في عوالم المسلمين: الفصل بين الدين والامبراطورية، أو إعادة تأسيس الإسلام في قطيعة مع منطق السيطرة والإكراه، والتملّك الخاص، الذي يستعيده الإسلام الحربي اليوم، وقبله بقدر ما الإسلام السياسي، من وراء ظهور القرون التي تحول الإسلام فيها إلى دين الناس، في غيْبة الدول غالباً، وضِدّها في كثيرٍ من الأحيان.
لكن ماذا بشأن المسلم المؤمن، ألا يسعه أن يكون حراً وهو مؤمن؟ بلى، إن أراد. إن جعل من دينه بيتاً يسكن فيه وإليه، دون أن يفرضه على غيره. فمثلما يختنق الأبناء أن فُرِضت عليهم الإقامة الدائمة في كنف الأب، وقد ينتهي الأمر بهم إلى قتله، فكذلك نعيش نحن اليوم علامات الاختناق الديني، ولا يبعد أن تقود إلى قتل الله، قتلاً جمعياً وثقافياً. لا يستطيع المسلم أن يكون حراً بينما هو يعتقدُ أن ربّه يأمره بقتل من يخرج من دينه.
في كل حال يحتاج المسلمون اليوم إلى الخروج على خروجهم الأول على العالم، من أجل حريتهم في العالم وحرية العالم معهم وبهم.
النفس
ثلاثية البيت/ السجن/ الحرية ناجعةٌ ووثيقة الصلة بالنفس، بقدرٍ ربما يفوق نُجوعها وصِلتها بالمكان والزمان والمجتمع.
الخروج من النفس فعلُ حريةٍ وشرطُ تحرر. النفس هي عاداتنا ومألوفنا وروتيننا، ويمكن لها أن تكون أيضاً نظاماً محدداً من التطور والتعلم، يتواتر أن تجري مُطابقته في الغرب بالعقلانية والحرية والإنتاجية، لكن يبدو ظاهراً أنه، ذاك النظام المحدد، يجنحُ اليوم نحو نزعات محافظة متنامية في الغرب ذاته، وعند المتأثرين العنيدين به، عندنا وعند غيرنا. والنفس عند الإسلاميين هي في رأيي محلٌ لجملة قواعد وتكنولوجيات ضبط الجسد والحركة والسلوك والتعامل، لا تُلغيها (النفس) كمبدأ للداخلية والإيمان فقط، وإنما تلغي كذلك اختلافها وفرديتها.
الخروج بعيداً عن النفس وكسر الإيقاع المعتاد، ولو كان إيقاعَ تطوّر، يمكن أن يكون تجربة مُغيِّرة ومحرِّرة جداً بقدر ما يمكن لمطابقة النفس، سواء كان مثالها فردياً (كن نفسك!) أو معطىً جمعياً (التوافق مع تقاليد وأدوار مقررة) أن يكون سجناً خانقاً. بالمقابل، يمكن حتى للسجن كتجربة خروجٍ اضطرارية من النفس، أن يكون تجربة مغيرة ومحررة، بينما يمكن ويشيع أن يعيش «أحرارٌ» حياتهم على النسق نفسه، سجناءَ روتينٍ شخصي أو تقاليدَ جمعية.
يُشجِّع التقليد الغربي الليبرالي الحديث المرء على أن يكون نفسه، المقصود أن يهتم بمشابهة ذاته ومتابعة ميوله، مختلفاً عن غيره، وليس أن يوافق مثالاً جمعياً معطى. لكن ماذا بعد أن ينضبط المرء بقاعدة «كن نفسك» العامة، فيطابِق نفسه المفترضة؟ «ينجح»، وينال اعترافاً عاماً، ويتحول إلى رجل ناضج أو امرأة ناضجة من الطبقة الوسطى، عقلاني، كُفءٌ في مجاله، عالي الدخل، راضٍ عن نفسه، أناني… غير حر. ربما تهفو نفسه إلى الخروج أملاً بهواء نظيف، يُسافر إلى بلدان أخرى، يسير واثقاً بنفسه، سيداً، على دروب مستكشفين ومستعمرين، لكن دون سلاح. إلا أنه لا يُغيِّر شيئاً من نفسه أو في نفسه، ولا يتحدى شيئاً من الحكمة المقررة: كن نفسك! يركن إلى التقليد الجمعي الديمقراطي الليبرالي الذي هو منتهى التاريخ، على ما أفتى عقلاني ليبرالي أميركي «ناجح» وعالي الدخل، فرانسيس فوكوياما.
لكن النفس التي دستورها «كن نفسك» سجنٌ بقدرٍ لا يقل عن النفس التي دستورها مطابقة لمثال النفس الجمعية في بيئاتنا: الرجل المسلم الوقور المسموعُ الكلمةِ في بيته، المرأة المسلمة المحتشمة التي ترتدي الحجاب، أو المرأة المسيحية السافرة، لكن المحافظة بالقدر نفسه على مثال اجتماعي مقرر لا تخرج عنه، الرجل الذي يتزوج بعد التخرج من الجامعة، ويبني أسرة ويبذل جهده كي يكون عالي الدخل، والذي يحافظ على تقاليد الجماعة الأهلية. في كل حال «الدستور» دائم، لا يتغير.
لكن الحرية هي تغييرُ النفس والخروجُ من النفس، وإن تمايزت إلى حريةٍ استعمارية توسع النفس على حساب نفوسٍ أخرى وفق تقليد البيتية المغلقة، وحرية تشاركية تستضيف نفوساً أخرى في النفس، شراكة النفوس.
فإن كان مناسباً صوغ ذلك في توصية، فهي: غيِّر نفسك! لا تقضِ عمرك محاولاً مُشابهة ما يفترض أنها نفسك، طارداً نفوس غيرك منك، ولا تتماثل مع صورة للنفس معطاة من قبل، اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً. ولكن كُنْ غيرك، كن أنت مجتمعاً.
غير أن المرء لا يستطيع تغيير نفسه، إن استطاع، كل يومٍ أو كل عام. وإن أمكنه تحقيق ذلك مرةً في عمره، فقد يتعذر ذلك مرتين. عند التفكير في الأمر يبدو الأمر شاقاً كل المشقة في العمر البشري المتاح. إذ تتكون للمرء نفسٌ تخصُّه وفق نُظُم التأهيل الحالية، وهو في نحو العشرين من العمر، وهو يستثمر طاقات هذه النفس لوقت قد يبلغ عشرين أخرى أو أكثر. وحين قد يبدأ بالشعور بأنها قيد، إن شعر، يكون تجاوز الأربعين وصار متعذراً أن يخرج منها. هذه العشرين الثانية هي عشرين ترسيخ النفس اجتماعياً ونيل الاعتراف والزواج وتنمية الدخل. اليساري يصبح برجوازياً في أذواقه إن لم يكن في دخله، أو يثبت على المبادئ، مُصراً بعناد على الملكية الخاصة لحقيقة لا تكاد تتغير؛ والمتمرد الموهوب يجني المال ولا يناسبه تعطل شروط نموه وارتفاع دخله. لم يعد ثورياً على مستوى نفسه ونظامه الشخصي، هذا إن كان بقي منه شيءٌ ثوريٌ على المستوى الاجتماعي والسياسي. فبعد زمن التأسيسس، العشرين الأولى وتكوّن النفس المتمردة التي لا تريد أن تكون نفسها، من الصعوبة بمكان خوض ثورة، والثورة على النفس حربٌ «أهلية» بقدر لا يقل عن الثورة الاجتماعية، فما بالك بثورتين؟ فإن تحقق شيء من ذلك بفعل تجربة خاصة: مرضٍ خطير وشفاءٍ منه، أزمة حياتية كبيرة، محنة قاسية مديدة، فإن حدوثه مرتين يقارب المستحيل.
وهكذا ننتهي سجناء، بالنفس ذاتها التي عشنا به نصف قرن أو أكثر (بين العشرين والسبعين أو الثمانين…). لا نموت أحراراً أبداً، أو نادراً جداً.
هذا إلا حين نموت شباباً. نفترض أن المسيح ورامبو وفرانز فانون وغيفارا ومالكوم إكس وغسان كنفاني ورياض الصالح الحسين، ماتوا أحراراً. لم يُقيّدوا أنفسهم بأنفسهم، مثلما نقضي حياتنا نفعل بعد تجاوز عمر الشباب.
لو عاشوا، ولم يَختر أحدٌ منهم أن يموت وهو دون الأربعين، هل كان محتملاً أن يبقوا أحراراً ورموزاً للحرية؟ وهل يمكن التفكير في أنماط تأهيل مغايرة، تستهدف تغيير المرء نفسه مرتين أو ثلاثة في العمر المتاح؟
الفكر
التفكير خطوةٌ أبعد، التفكير بصورة مغايرة، تفحّصُ أفكارنا وإظهار حدودها، والعمل على كسر هذه الحدود، هو حرية الفكر. لا يكون تفكيرنا حراً حين ندعو بفكرنا إلى الحرية، بل حين نفكر بصورة متحررة، وحين لا نكفّ عن المساهمة في تجديد المتاح الفكري بحيث يتسنى لآخرين الاشتغال عليه والإضافة إليه، والذهاب أبعد منه وإظهار حدوده والتخلي عنه.
الذهاب أبعد في التفكير، والتفكير بصورة مغايرة، هو الفلسفة، التفكير الفصيح، الصاحي والجذري. لدينا، في العربية، الفصاحة خاصية للغة، لمفردات اللغة وتراكيبها، وليس للتفكير. لدينا أقوال فصيحة، يشيع أن تكون غثّة، ولدينا قليل من التفكير الفصيح. الفلسفة تَدرُّبٌ على التفكير الفصيح، الجذري، الذي لا يتوقف عن الذهاب خطوة أبعد. ليس هناك عِلْمٌ للحرية، الفلسفة هي علم الحرية، «العلم» الذي خاصيته الماهوية هي الذهاب أبعد، الاصطدام بالحدود وتحدّي الأنساق القائمة، ومساءلة ما هو موجود من أفكار ومذاهب وعقائد.
تُصوُّر علم الحرية تصور متناقض. فالعلم يُحرِّرنا من وهم الحرية، على ما قال بيار بورديو، السوسيولوجي الفرنسي، لأن العلم يظهر قيودنا ويكشف دوافعنا ومحركات تصرفاتنا في صورة استعدادات متشكلة اجتماعياً وتاريخياً، ورهانات استراتيجية لإشغال مواقعَ أنسب ضمن حقول اجتماعية سابقة لنا أو متحكمة بنا، وتعود علينا بمكاسب مادية ورمزية من أفعالنا «الحرة». لكن الفلسفة ليست علماً يُحرّرنا، يدرّ علينا الحرية أو ينتجها إنتاجاً، بل هي العلم الحر، «علم» متمرد، جوّاب آفاق، الحرية شرطُ إمكانه: حرية الذهن أمام العقائد والعوائد والعلوم، وحيالَ تاريخه الخاص. وموضوعه هو الإنسان في العالم وتجربة العالم، وهو يدفع حدود عالمنا في كل وقتٍ نحو الوراء.
العالم 1
نخرج من البيت ونذهب أبعد مما اعتدنا، فنصل إلى «الحدود»، وفي عالمنا المعاصر، نكتشف الدول. الحدود تفصل أكثر مما تصل، ولا يُسمح بتجاوزها إلا بعد تبريرات خاصة، وبعد إثبات مؤهلات خاصة، وحيازة أوراق خاصة. ولا يُجدي كل ذلك أحياناً. على الفور تظهر الأوطان التي تديرها منظمات تسمى الدول كسجون. بعضها أسوأ من بعض، لكن ليس بينها ما ليست سجناً.
تتلاصق الدول، لكنها لا تنفتح على بعضها، لا تمحو الحدود، ولا تتشارك. يحكُمها كلها منطق البيت المغلق الذي يتوسع على حساب غيره إن استطاع، يُحارب ويستعمر ويسجن.
لكن مشكلة الدول ليست مكانيةً فقط، ليس في الحدود وحدها. الدول كلها تعمل على تجميد الزمن وتأبيده. لمصلحة سلالة أو لمصلحة نظام حكم أو نمط حياة أو دستور. التأبيد يمانع الخروج من الحاضر، أو يرعى فقط الخروج التكراري إلى أوقات سبق ارتيادها وتعليمها.
تمر تجربة العالم اليوم بتجربة الدولة، وهذه موزعة اعتباطاً من حيث المكان ورضا السكان. وتخترق عالم اليوم تفاوتات لا يمكن تبريرها، صنعتها سياسات التوسع والحرب والسجن. ويُمانِع العالم التغير، وتفرض الدولة الهويات ومنطق الهوية، مُطابقةُ المرء لنفسه، وبقاؤه مواطناً صالحاً وشخصاً عاقلاً مسؤولاً، مرئياً ومتوقعَ التصرفات، مطيعاً ولا ينتهك القوانين. ولا يستطيعُ المرء أن يكون بلا دولة (لعل أنكدَ موقعٍ في العالم المعاصر مخصص للفلسطينيين، ويضاهيهم اليوم السوريون)، ولا يستطيع إلا نادراً أن يكون من دولتين وله هويتان، وإن أمكن ذلك بالمعنى القانوني للكلمة (الحصول على جنسيتين)، فعليه أن يكون دوماً مؤسسة فعالة من مؤسسات الدولة، تتصرف بمسؤولية وانضباط، وعلى نحوٍ يُمكِّن الدولة من التخطيط والضبط. الدول والثقافات مصممة لحراسة الهويات، هويات الأفراد (كن نفسك، أي مثل الآخرين) وهويات الجماعات.
الخروج من العالم فعل حرية، مثل الخروج من النفس والمجتمع ومن الزمان والمكان. لكن لمّا كان الخروج المكاني، الارتحال من العالم إلى عالم غير، غير متاح، لم يبقَ إلا أن نُغيّر العالم، نحول نظامه إلى نظام آخر. هذا شرط للحرية اليوم، حرية الجميع، وبخاصة أولئك الذين يعانون قيود الحركة أكثر من غيرهم. لقد انتهت البداوة العالمية وفُرص الفتوح والتوسع، وإن ظلت ممكنة على نطاقات محلية هنا وهناك (وحدهم اللاجئون ينتهكون حدود الدول)، ولم يبق مفتوحاً غير باب تغيير العالم. فإن تعذر ذلك، ولا تبدو له فُرَصٌ ظاهرة اليوم، فسيكون الخروج على العالم هو البديل عن الخروج من العالم، أعني تدمير عالمٍ لا مخرج منه. أليس هذا هو الأفق التي تمثله القاعدة والجهادية السنية المعولمة، بما فيها داعش؟
وليس تعذر تغيير العالم مسألةً «موضوعية»، تتصل بكون العالم اليوم بديلاً أصلح عن أي بديل مُتصوّر له. ليس الحال كذلك بحال. ففي عالم اليوم من البؤس والتمييز والعنف، من الحرب والسجن والنفي، من الجوع والذل، ما يتفوق على أي مراحل تاريخية سابقة. يبدو الأمر أوثق صلة بالأحرى بالمصير التعيس لشيوعية القرن العشرين، وفقد حركة تغيير العالم السابقة، الشيوعية نفسها، زِمام المبارة الفكرية والسياسية. وكذلك بكون مُحرِّك العالمية منذ قرنين ونيف، الغرب، مناهضٌ بكل قواه لأي ثورةٍ في الاجتماع والسياسة، والثورة الوحيدة التي يُرحِّب بها هي الثورة في التكنولوجيا أو في عالم الأدوات. وربما كذلك ثورات في الكلام، في تغيير طرق تمثيل العالم وترميزه، وبناء عوالم بديلة من الكلمات.
العالم 2
الثقافة هي «العلم» الذي يُحوِّل «الكون» غير المُعلّم الذي نعيش فيه إلى «عالم». إنها جملة المسالك والمناهج والعادات التي تنزع خارجية العالم وغرابته، وتجعل منه بيتاً للإنسان. دون هذا «العلم»، الثقافة، هناك كون مجهول أجرد، هو الكون الذي نجدنا فيه في بلدٍ غريب، دون سابق معرفة بأحد فيه أو بلغة/ لغات أهله. وهي تجربة نواجهها بقدر ما في «المنفى»، وواجهها جميعنا أطفالاً. الكون هو حال البدايات، حين ليس لدينا مخططٌ للحركة والتوجّه والتمييز، ولعل أساطير الخلق الأقدم، في كلامها على العماء أو على الغمر، تحيلُ إلى هذه التجربة. العماء، الكون الأجرد، هو تجربة الطفل البشرية وتجربة طفولة البشرية، تجربة البدايات عموماً.
تنجحُ الثقافة في تنظيم الكون فنحصل على «عالم». تنجح كثيراً فتلغي من العالم كل ما هو غريب وغير مُعلَّم أو مطروق، وكل ما هو خارجي. تلغي الكون تماماً. لكن بهذا النجاح الأقصى يتحول العالم إلى سجن، إلى بيت لا نخرج منه. هذا عالم النهايات حيث يُغنينا العلم بكل شيء عن تعلم أي شيء جديد. وبينما يوفر استنفاد العلم واكتمال العالم أمناً وطمأنينة للجماعة، فإنه لا يتماسكُ إلا إذا كانت جماعة معزولة تماماً، وهو أمرٌ إن كان ممكناً في أزمنة تاريخية سابقة، فإنه لم يعد ممكناً اليوم. ولدينا مثالٌ قريبٌ جداً على هذا العالم المكتمل والعلم المستنفد هو نظرية «نهاية التاريخ»، وقد اقترنت كما هو معلوم بكلام متكرر عن النهايات: نهاية السرديات الكبرى، نهاية الجغرافيا، موت الإنسان، موت المؤلف، نهاية المثقف… إلخ.
طوال ألفيّاتٍ من السنين كان لدينا عوالم متعددة، استمر بعضها مُنعزلاً أو شبه منعزلٍ حتى القرن العشرين. لدينا اليوم «عالم حديث» واحد، تخترقه تناقضات وصراعات متنوعة، وهناك نزعات لانعزال عوالم ثقافية ودينية، أو انكفائها عن تجربة هذه العالم الجديد الممزق، هي الوجه الآخر لإعلان نهاية التاريخ في الغرب المعاصر.
وبينما لا يبدو أن هناك رجعة ممكنة عن العالم الواحد، وأنه في الواقع «اختراعٌ» مهم، لم تَجُد علينا به الطبيعة، فإن من شأن وقف التاريخ عند الأوضاع الفكرية والسياسية الحالية أن يؤدي إلى نزعاتٍ انفصاليةٍ عالميةٍ عنيفة، على نحو يتجسد اليوم في الإسلامية السلفية المعاصرة أكثر من غيرها، أو إلى خمود عالمي يشابه انحطاط عالم الإسلام بفعل متضافر من «انغلاق باب الاجتهاد» وفرض السُنّية القويمة بقوة السلطان، ومن الغزوات الصليبية والمغولية المُدمرة.
فرصة العالم هي في تغيّر العالم، في مقاومة السيطرة من فوق والانفصال من تحت ومن الجوانب. فرصة العالم هي في ثورة تُغيِّر نظام العالم.
المنفى
إذا مُنِعنا من الخروج من البيت يكفُّ البيت عن كونه بيتاً. يُمسي سجناً، ونمسي سجناء.
لكن ماذا إذا حُبسنا خارج البيت؟ مُنعنا من العودة إلى البيت؟
الحبس خارج البيت هو التشريد، وحين يُقصد به البيت السياسي، أي الوطن، فإن الحبس خارج البيت ومنع العودة إليه هو النفي. نفقد الحرية هنا أيضاً، وإن كنا نستطيع الحركة. هذا لأننا نفقدُ اختيار العودة. الحرية هو خروجٌ نعلم أننا راجعون بعده حين نريد أن نرجع. البيت كنقطة مرجع، وكذلك المحيط كعالم مُعلّم، مطروق وسبقت معرفته، عنصران أساسيان في بنية مفهوم الحرية، حيث نخسرها (البيت ومحيطه) في المنفى، نخسر الحرية معهما. الحرية، تالياً، لا تتعارض مع السجن وحده وتقييد الحركة، بل كذلك مع «الغُرْبة»، مع «عالم بلا خرائط»، أو نقاط علّام، نهيمُ فيه إلى ما لا نهاية، ونخسرُ فيه نقطة المرجع التي نقيس منها مكاسبنا الجديدة. ثم إن الحرية ليست الخروج من المكان إلى غيره فقط، وإنما أكثر إخراجُ المكان من حالٍ إلى حالٍ مغايرة كما سبق القول. وهذا البعد العمودي للحرية، إن جاز التعبير، نخسره في المنفى. يبقى من الحرية فقط بعدها الأفقي، مبتوراً فوق ذلك عن البيت/ البيوت/ الوطن، نقطة المرجع التي نخرج منها ونعود إليها.
للحرية دستورٌ باطن، أن نتعاون مع شركاء وأن نؤسس مجتمع أصدقاء، وأن يجمعنا بيت/ بيوت مشتركة. حين نكون بلا بيوت في المنفى، نخسر الشركاء والأصدقاء.
لكن من وجه آخر لعل المنفى، أي حيث نكون محبوسين خارج بيوتنا، هو المكان الوحيد ليكون لنا أصدقاء وشركاء حقاً، هم أولئك الغرباء مثلنا، اللاوطنيون.
يتكسر نظام زماننا أيضاً. مثلما في السجن، لنا في المنفى ماضيان نتعثر في التحرك بينهما. ماضينا قبل المنفى، وماضينا في المنفى. وكلما طال الأمد في المنفى تقادم ماضي ما قبل المنفى وشحب، وازداد تعذراً وصْل حياتنا بين ما قبل وما بعد. ويصعب في الوقت نفسه الاعتراف بماضي الحياة الجديدة، التي مثل كل حياة جديدة تبدأ بتحركات خرقاء وتعثراتٍ. وبينما في السجن يتضخم بُعْد الحرية الخاص بالحركة والخروج، في المنفى تتمثل الحرية بالأحرى في العودة إلى البيت. هذا يعرفه الفلسطينيون جيداً، وهم من أقدم المحبوسين في الخارج في العالم اليوم، ويعرفه جيداً السوريون اليوم. المستقبل المُتخَيّل تتناوشه صورة العودة المأمولة، وصورة الانخلاع المستمر. لزمن المنفيين نظامٌ خاص. ليس حاضراً حاكماً على ماضٍ يُعاد تركيبه في كل وقت، وعلى مستقبلٍ مُتخيل. الماضي هو ما يبدو فجأةً زمن الحرية، والحاضر ضياعٌ وقلق، المستقبل عودةٌ مأمولة أو ضياعٌ مستمر.
وليس للمنفي مجتمع يُقاوم تقاليده ويحاول الخروج منها. قد تتمثل مشكلته، بالأحرى، في أنه عارٍ لا تقاليد له، بلا أعراف وعادات، أحوج إلى المرجع والبيت منه إلى «حرية» يحوز منها كثيراً، لكنه لا يعرف ماذا يفعل بها ولمن يتخلى عنها. ذلك أننا نحتاج الحرية كي نتكرس لشأنٍ ما، كي نتخلى عنها لأحدٍ ما.
لكن إن كان النفي جماعياً، كحال السوريين اليوم، وحال الفلسطينيين من قبل، فقد يجري العيش في جماعات تحافظ على تقاليدها القديمة من باب تزويد نفسها بعالمٍ تعرفه، وكمقاومةٍ لإمحاء الشخصية. يعيش عموم المنفيين مُلتصقين ببعضهم بحثاً عن أمانٍ بعد تجربة اقتلاع راضّة، ومن باب بناء وطنٍ بديل. حتى في التجمعات الاحتجاجية التي يُبادر إليها سوريون في الشتات، تجدهم يشغلون أصغر مساحة في الحيز المتاح، كأنما انحفرت في أجسادهم غريزة خوفٍ من التبعثر.
يتعذر على المنفيّ كذلك الانفصال عن نفسٍ مضطربة جديدة تحتاج، بالأحرى، إلى رعايته، هذا إن لم يتمسك بنفسه القديمة بحذافيرها، معتبراً ذلك فعلَ مقاومة. لكن الانفصال هو وحده ما يحرره. التمسك بالنفس القديمة وفاءاً للوطن هو الخيانة الحقيقية. نحتاج في المنفى، كما في السجن، إلى أن نغير أنفسنا، كي نتحرر.
لهذا الاعتبار بالذات يمكن للمنفى أن يكون تجربة مُحرِّرة جداً: بداية تَعلُّم جديد وإصلاحاً لاختلالات قديمة وانخراطاً في مجتمعِ غرباءَ عالمي، ومساهمةً في إنشاء تقاليد مغايرة، منفتحة. هذا ممكنٌ إذا كان الواحد منا شاباً بخاصة، وإن اضطلع بتجربة المنفى واعترف بها، وأخذ يبني عليها. لا نستطيع نفي المنفى إن لم نؤكده ونعترف به. إنكار المنفى يمكن أن يأخذ شكل انعزال عن المجتمع الجديد في انتظار «عودةٍ إلى البيت»، قد تتأخر كثيراً أو لا تأتي أبداً. لكنه يمكن أن يأخذ شكل «ذوبانٍ» في المجتمع الجديد، ومحوٍ تامٍ للماضي. هذا يفعله لاجئون سوريون وغيرهم، لا يلبثون أن يطوروا ايضاً مواقف عدائية، وحتى عنصرية، حيال أحدث الوافدين من بلدانهم ذاتها. لا يمكن للذوبان في المجتمع الجديد أن يكون تجربةً مُحرّرة في رأيي، لا أحد يستفيد منه ولا يصنع قيمة عامة. نحن لا نتحرر بأن نستهلك حريةً لم نتعب من أجلها ولم نغامر. هذه تجربة تبعيةٍ والتحاق بالأحرى، وليست تجربة حرية.
ننفي المنفى بأن نقبل استقلاله، ونحاول توسيع مساحات تحركنا وشراكاتنا في شروطه.
الإنسان
هل يتغير الإنسان، النوع وجميع الناس؟ يتحرر ويرتقي أخلاقياً مثلما يرتقي مادياً بعضُ الناس؟ يُنشئ عوالم جديدة تطوي أزمنة التمييز وحضارات القوة وأديان التفضيل الذاتي؟ يغدو أكثر حرية وعدالة واحتراماً لغيره ولبيئة الحياة من حوله؟ عَمِل من أجل ذلك مصلحون، ومن جهودهم ظهرت عقائد وأديان وفلسفات، وتولدت أنماط حياة. وانبثق عن هذه الجهود موجاتٌ من خروج عدد أكبر من المألوف من الناس عن المألوف، وتغيّرُ شروط الحياة لجماعات بشرية كبيرة. ليس نحو عدالة أكبر وحرية أكبر ومساواة أكبر واحترام أكبر حتماً، لكن نحو تفوقٍ وقتي للجماعات على نفسها يتيح لها تفوقاً على غيرها. منهج المصلحين هذ ينجح وقتياً في نطاقات محددة، ويخفق على المدى الأطول. ففوق أنه لم تظهر حركات إصلاح عالمية، لا تحمل في باطنها انحيازات إلى ثقافة أو عقيدة أو قوم، وعدا أن صلاح اليوم ليس صلاحاً في الغد بل قد يكون منبعاً للخراب والطغيان عل نحو يجسده إسلاميونا أكثر من غيرهم كله، فإن الجماعات التي تتكون حول دعوات المصلحين قلما تتمثل روح الصلاح بالقدر نفسه، والأشيع أن يكون أكثر المنسوبين إليها مُتّبعين ضعفاء محدودي الصلاح، يتماثلون مع نفسٍ جمعية تقررها العقيدة.
ولطالما قام أناسٌ بأعظم أعمالهم في مواجهة أناسٍ آخرين. أبطال الأمم كلهم هم من هذا الصُّنف، أي أنهم مُعتدون ومجرمون في عين غيرهم. وفي الأزمنة الحديثة قامت بعض أعظم الأعمال العلمية والتقنية في مواجهة الطبيعة وبيئة الحياة، ما قد يُنظَر إليه يوماً كجرائم متمادية تُهدّد حياة النوع، والحياة بعمومها، والكوكب ذاته.
وطوال ألفياتٍ من السنين تطورت هذه الجماعات تطوراً غير متكافئ، وهي تجهل بعضها والاتصالات بينها محدودة.
والواقعة الأساسية عند التكلم على الإنسان هو تعدد الثقافات والمجتمعات والامبراطوريات، العوالم، أي عيش البشر في مجموعات تعمل على حفظ نفسها وتنصب الحواجز في وجه غيرها، وخصوصاً حين تكون هذه الجماعات غنية قوية قديرة. الأغنى والأقوى والأقدر أميلُ إلى عزل نفسه عن غيره وحماية نفسه من غيره، أو السيطرة على غيره والتحكم به. وغالباً يمارس النهجان معاً: نسيطر عليهم ونتحكم بهم ونعزلهم عنا، فلا نسمح لهم أن يكونوا مِثلنا أو منّا، ننصب دونهم الحواجز ونفرض عليهم القيود كي لا يصيروا مِنا. هذا ظاهرٌ جداً بخصوص الغرب الرأسمالي الحديث المسيطر.
لكن الناس يَعرفون بعضهم اليوم أكثر من أوقات سابقة، وإن يكونوا موزعين على دولٍ هي سجونٌ من حيث المبدأ.
وتبدو القوة، والاستعداد للحرب ومُراكَمة وسائل الحرب، فضيلة الدول بما هي كذلك، وواجبها الأول. ومع الحرب يوجد السجن لعزل الخصوم في الداخل، والمنفى لعزلهم في الخارج.
فهل تكون الحروب والسجون والمنافي نتاجاتٌ حتمية لمحدوديات الإنسان، أو لنموه غير المُتساوي؟ بل لطب الامتياز والسيادة. لم يكن الأسبان مضطرين لأي حرب في «العالم الجديد» وقت «اكتشفوه» قبل خمسمائة عام ونيف. ولا كان البريطانيون وقت احتلوا الهند. ولا المسلمون وقت توسعوا في العالم القديم، وقرر فقهاؤهم وجوب قتل من يخرج من دينهم منهم. ولا الصهيونيون وقت جاؤوا إلى فلسطين. كل ذلك له علاقةٌ ببناء الإمبراطوريات والدول، بمنطق التملك، وليس بتطلع إلى العيش مثل الغير، ولا بدواعي المعرفة أو العدالة أو الحرية أو المساواة أو الكرامة.
اليوم، يبدو عالم الإنسان على مفترق طرق: إمّا سير البعض نحو حواضر مزدهرة، لكنها محافظة وعالية الأسوار، يتدهور حال من هم خارجها نحو البربرية، أو عمل الكلّ على معالجات وحلول إنسانية وعالمية لمشكلات إنسانية وعالمية، من فوارق الحرية والقدرة إلى مشكلات البيئة.
غيَّر الإنسان الحديث، بدءاً من الغرب، الطبيعة من حوله، وغير أنماط عيشه واجتماعه، وطرح على نفسه تغيير العالم. لا يزال هذا واجباً، لكنه يبدو أنه يمر بتغيير النفس، صور النفس القائمة على النجاح والسيادة، على الحرية التوسعية المزدهرة في الغرب، لا الحرية التشاركية التي تطلع إلى مثلها ماركس وغيره، فضلاً عن صور تمييزية قائمة فيما يخصنا على «الشريعة»، ليصير الإنسان أعدل وأكرم، ليصير غيْر وكثيرين.
ليس هناك ما يحول حيلولة جوهرية دون ذلك، لأنه ليس الإنسان مبرمجاً على «طبيعة» قارة لا تتغير. طبيعة الإنسان هي عاداته، وهو ينتجُ العادات، الثقافات والأديان، كي يُعطي نفسه طبيعة، أو ربما كي يُغْمِضَ قليلاً من نمو دماغه، ويحدَّ من تشتُّته وقلقه و«حريته». الثقافات والأديان ينتجها ذكاؤنا كي نتزود بطبيعة، فنغدو أقل ذكاءً وحرية، وهذا لأننا لسنا مزودين تكوينياً بطبيعة، بدليلٍ للتصرف في العالم على نحو محدد. والتصرف على أنحاء غير محددة يبدو خطيراً وغير مأمون. الثقافات برامج مثل برامج الكمبيوتر، وهي تزودنا بـ«طبيعة» لأنه ليس لنا طبيعة، نحتاجها كي نتصرف على أنحاء محددة، كي نكون أقل حرية. نتّقي الخطر باتِّقاء الحرية.
طبيعتنا شيءٌ مضافٌ إلينا، ليست برنامجاً مستبطناً، وإنما هي ثقافةٌ مكتسبة. طبيعتنا هي الثقافة. والثقافة تاريخية، متشكلة في التاريخ ومتغيرة في التاريخ، بما يُبيح القول أيضاً إن التاريخ هو طبيعة الإنسان. أو، من زاوية نظرٍ أخرى، إن الإنسان في كل وقت مشروعٌ تاريخي، تتكشف له قدراتٌ ومسالك تتخلق في التاريخ، استناداً إلى المُتاح من أدوات وأفكار وتجارب وأساليب تأهيل.
ويبدو أن الصفة الثقافية، أي الاصطناعية، لطبيعتنا مما لا يقبل التغيير، لكن الثقافة مجال التغيير. لا نستطيع أن نغيّر واقعَ أنه ليس لنا طبيعةٌ مستقلة عن الثقافة والتاريخ، لكن هذا بالذات ما يجعل تغيير النفس ممكناً دوماً، وما يجعل الثقافة بوصفها جملةَ ما يُنتِجه الإنسان لتنظيم حياته مجالَ عملٍ بالغَ الحيوية، وأهم من أن يترك لبعض الناس، من أنبياء وفلاسفة و«مثقفين»، أو من أمم «مثقفة».
تقاوم الثقافات التغير باسم طبيعةٍ إنسانيةٍ ثابتة أنتجتها هي، وربما سمّتها «الفطرة» مثلما هو الحال في الإسلام. يجري تجميد الإنسان على طبائع مُعيّنة: عبد الله، مواطن الدولة، الإنسان الشيوعي، «الديمقراطية الليبرالية»، نمط الحياة الأميركي…، وهذه الطبائع تقاوم تصورات مغايرة للإنسان، وتعمل على تأبيد نفسها.
لكن ربما يكون افتقار الإنسان إلى طبيعة وهماً إنسانياً بين أوهام الإنسان الكثيرة. فلعلّه من وجهة نظر النعجة أو الحمار أو شجرة التوت للإنسان طبيعة ناتئة جداً: يميل ميلاً «طبيعياً» إلى امتطاء غيره وحَلْب غيره وذبح غيره وأكل غيره وتسخير غيره. ولعله الكائن الوحيد الذي يمتطي أبناء جنسه ويذبحهم ويسخرهم أيضاً. نحن نسميها ثقافة، لكن لعلها ليست غير طبيعتنا من وجهة نظر الخروف. «الثقافة» المزعومة ليست غير جملة التقنيات والتسويغات لفعل كل ما نريد فعله.
لكن، يا أخانا الخروف، لعلنا نحتاج إلى تسويغٍ لأنه ليست لنا طبيعة. الطبيعة لا تُسوِّغ نفسها، ولا تبحث عن مُسوِّغات.
المُخاطرة والمأساة والثورة
الحرية، كما هو ظاهر من الفقرات السابقة، ليست وضعاً أو نظاماً، أنها موقفٌ نشطٌ يجنح إلى الخروج من كل وضع أو نظام، وإلى الخروج بصورٍ مختلفة، الخروج على الخروج. الحرية مضادة للاستقرار على نسق أو حال أو «طبيعة»، متمردة على المألوف. ليست شيئاً يناله الخاملون أو الكُسالى، أو من وجدوا آباءهم «على أُمّة» فاقتدوا بهم.
أفعال الحرية كلها، الخروج من البيت، الخروج من الحاضر، الخروج من التقاليد، والخروج من النفس، الخروج من الدين… والخروج على الخروج، كلها أفعال مغامرة، شاقةٌ دوماً، وقد تكون مأساوية: يطلب المرء الحرية فيخسر الحياة.
نظام النفس والمجتمع، ومعها الحركة في المكان والزمان، تجنح إلى التصلب في صور تستعصي على التغيير، صور «قدرية» أُسبغ عليها الثبات والقداسة، أو العقلانية والنجوع. الخروج عليها يمسي كُفراً أو فعل تمردٍ أرعن، يستنفر في «النظام الاجتماعي» وعموم البيتيين (= الوطنيين) «الدفاع عن النفس» بعنفٍ قد يكون مميتاً. وحتى حين لا يكون التغيّر فعلاً عنيفاً، فإنه مأساويٌ في كل حال، يفضي إلى انتهاكِ الحميمي والدافئ، وتَقطُّعِ روابط وأحوالِ ضياع، وموت كثيرين.
هل الأمر يستحق؟ هل تستحق الحرية كل ذلك، ومنه تحطم الحياة؟ المسألة وجهة نظر. لدينا استعدادات للخروج والتغيير لا تبدو خاصية لبعض البشر دون غيرهم، وإن تغايرت أشكالها الاجتماعية والتاريخية. لكن هل السيادة هي شكل الحرية الوحيد؟ هل العلاقة بين الحرية والتدمير ضرورية، أم أنها عارضة تاريخية، ويمكن العمل من أجل حرية وإعمار عالميين وبيئيين دون دمار؟ ناقشتُ في الفقرة الأولى أنه يمكن تصور بيوت مفتوحة، تجمعها علاقة تراحب وتواسع وشراكة. يمكن تصور خروجٍ من البيت نلتقي فيها بغرباء فلا نعاملهم كأعداء، بالعكس، نتعامل بيننا باحترام ونحاول بناء شراكة. هذا شيء يمكن التوظيف فيه والعمل عليه، عملاً عالمياً، وليس عمل تيارٍ أو مجتمعٍ أو ثقافة. إنه اختيارٌ غير مضمونٍ تماماً، لكن تطوير استعدادات أقوى في هذا الاتجاه، ما دام ممكناً للبعض الآن ودوماً فهو ممكنٌ لأكثر من البعض، فضلاً عن كونه مرغوباً. وهو تالياً يستحق الجهد في كل وقت.
في عالم اليوم تفاوتٌ كبير في الحرية، مصدر بعضه على الأقل هو التوسع والحرب والسجن والمنفى، وافتراض أن الحرب والسجن والتوسع والمنفى من طبائع السياسة والمجتمع والنفس البشرية. وفي أساس ذلك نفسه أولوية الامتياز والسيادة على المساواة والشراكة، وما ترتبه «ثقافة» الامتياز والسيادة من نظرةٍ إلى الغير كمنافسين وخصومٍ حصراً، لا شركاء ومُكمِّلين أولاً. والمشكلة أنه في حالات كثيرة يرى البعض أن شرط حريتهم هو حرمان غيرهم جذرياً من الحرية. هذه حال الفلسطينيين أمام الإسرائيليين، وحال السوريين أمام الأسديين، وحال سوريين كثيرين أمام الإسلاميين من دعاة الحاكمية الإلهية (أي سيادتهم هم). وهو منبع لمآسٍ كثيرة، تصيبُ بخاصة من يجتمع عليه الإسرائيليون والأسديون والإسلاميون.
لكن لا بديل عن المخاطرة، عن الخروج من هذه القيود المضاعفة. مضاعفة لأنه خلافاً لما جرت مناقشته حتى الآن هناك تقييدٌ بالإكراه والقسر، وليس فقط بقوة العادة وثقل التقليد وجاذبية البيت والدفء. ليس الضعف البشري وحده ما يحدُّ من حرية البشر، بل بخاصة الخُبث البشري، وهو وثيق الصلة بالسيادة والعنصرية. الثمن رهيب، هذا يعلمه السوريون جيداً. هل يجب دفعه؟ ما البديل؟
لا تتقابل الحرية مع الموت، ما يقابل الموت هو الحياة. الحرية التي تتعادل مع الحياة وتقابل الموت ليست غالية جداً كما قد يبدو لأول وهلة، بل هي الحرية التي يجري تقديمها قرباناً سهلاً لآلهة كبيرة: الوطن، الأمة، الدين، الحزب… وهذه آلهةٌ زائفة لا تستحق افتداءً. الحياة تستحق التضحية بها فقط افتداءً لإنسان آخر، ومن أجل حياة إنسان آخر. والحرية أيضاً: فقط افتداءٌ لحرية إنسان آخر.
أو بالتحديد فداءاً لإنسان آخر. أُعطي حريتي، وحياتي، لإنسان، أو ربما لحيٍّ ما، من حيوان الأرض ونباتها، لبيئة حية ما، لكن ليس لتلك البهائم المتوحشة، المفترسة للبشر والأحياء، التي تسمى الوطن والدين والحزب والأمة والطائفة.
افتداء إنسان أو حي آخر هو تعريفٌ للحرية، وليس خاصية عارضة لها. نمتلك الحرية ليس من أجل أن نستأثر بها، بل لأن ما نملكه لنا الخيار في شأنه. والخيار هو حرية إنسان آخر. أريد حريتي من أجل حرية غيري.
الحرية والكرامة
من يخرجُ ويخرجُ على خروجه، يُغامر ويتعرض للمخاطر، يُوسّع مساحته الداخلية ونطاقات حركته، «يتحرر»، يُطوِّر تقديراً لذاته قد ينقلب إلى أنانية وغرور. وإلى عنصرية حين يخص الأمر مجتمعات أوسع. العنصرية النشطة نمت في كنف مجتمعات طوّرت قطاعات متسعة منها شعوراً بالحرية، في الغرب الحديث والمعاصر بخاصة. وإن كان ينبغي القول فوراً إنه في مجتمعات أكثر تحرراً ظهرت المقاومات الأنشط للعنصرية والتفكير الأكثر تجدداً فيها.
ربما يتكثف هذا الضرب من الحرية في مفهوم السيادة، منسوباً إلى الدولة كألوهة مُعَلمنة (كارل شميت)، أو إلى الفرد الأبيض الحر الغربي الذكر الذي ربّاه التنوير وكانط وهيغل، أو إلى الإنسان كمالكٍ للطبيعة وسيدٍ لها بعبارات ديكارت. هذه السيادة اقترنت بالتوسع والاستعمار، وبالغرور والعجز عن تَقمُّص الغير.
المغرور، فرداً أم دولة أم «حضارة»، سجين نفسه، سجين ما حقق، ماضيه، ليس حراً. في العربية نُميز بين الغرور والاعتداد بالنفس. المغرور يتعالى على غيره، أما المعتد بنفسه فيتعالى على نفسه، ولا يسمح لها بالتدني. لكن الاعتداد بالنفس بدوره موقف ذاتي، شكل أناني من الكرامة. يمكن تصور شكل غيري من الكرامة، يمزج بين الاعتداد بالنفس وبين الاحترام، وقد رآه كانط «تمثلاً لقيمة تلحق الأذى بغرورنا»، وإن لم يعرض الفيسلوف الألماني غير الغرور حيال من ليسوا بيضاً وأوربيين.
لكن غرور الأفراد يبقى محدود الأثر طالما هم لا يتحكمون بمصائر غيرهم. المشكلة في غرور صاحب الولاية، الفرد أو الجمع، لأنه سيحرص على أن يُبقى الجميع أقل منه شأناً كي يحمي غروره. حافظ أسد وصدام حسين ومعمر القذافي أمثلة في منطقتنا على مغرورين سجناء أنفسهم، حولوا بلدانهم إلى سجون. المشكلة أكثر في الظواهر الثقافية الجمعية المغرورة مثل أديان التوحيد، ومثل الحداثة اليوم. هذه تنقلب أيضاً إلى سجونٍ بعد حينٍ يطول أو يقصر. ورأيي أن الحداثة ومؤسساتها السياسية، ومثال الفرد فيها، واقتصادها الرأسمالي، ربما علومها، هي سجنُ العالم اليوم، أو في سبيلها لأن تكون سجناً أضيق. وهي منذ اليوم تُثير تمرداتٍ تبدو مرشحة للانتشار والتكاثر.
الخاصية الأبرز للحداثة اليوم، هي الغرور الذي لا يطاق، وهي السينيكية وقلة الاحترام، احترام المجتمعات والثقافات الأخرى، واحترام الكوكب وبيئة الحياة. الحداثة مغرورة، حققت نقلةً في الحرية لكثيرين، لكن مالكي الحداثة تقاضوا ثمناً باهظاً، ولا يزالون يتوقعون احتراماً لا يشعرون بوجوب إبداء مثله لغيرهم.
أنتجت الحداثة أدوات القضاء على نفسها، وعلى الكوكب عبر الأسلحة النووية، وهذه كلما طال عمرها يوماً إضافياً اقتربَ موعد استخدامها. وغرور الحداثة يجعل هذا الاستخدام مرجّحاً جداً، ما لم يجر تدمير تلك الأسلحة، اليوم قبل الغد. مصير سلاح الدمار الشامل هو أن يُستخدم لما صنع له: الدمار الشامل.
تتدهور حرية هذه الحداثة إلى غرور وسيادة لأنها بلا احترام، أو بالضبط بلا كرامة. ومعلومٌ أنها أنتجت مقادير واسعةً من الذل والمهانة، ومن العنف، ومن الغش والخداع، بقدرٍ يُنافس ما أنتجت من كلامٍ عن الحق وعن الإنسان.
يمكن التفكير في تصورٍ مغايرٍ للسيادة، يفصلها عن القوة والسيطرة، ويقوم على الاحترام والخدمة: احترام الغير، ورهن احترام النفس باحترام الغير، واحترام الطبيعة والكوكب؛ السيد أيضاً هو من يخدِم لا من يُخدم. على هذه الصورة يمكن أن ترتبط الحرية بالكرم والتواضع، لا بالأنانية والامتياز والسلطة.
الكرامة هي ما يتجاوز الغرور والاعتداد بالنفس والسيادة، وارتباطُ الكرامة بالحرية هو ما يوفر أساساً صلباً للاعتراض على الذل والمهانة، وعلى الإغفال وانعدام الشأن، وعلى الامتياز والتمييز، على ما أظهرت الثورة السورية. هذه تجربةٌ يمكن تعميمها بالفكر، وهي ما يحاول هذا النص القيام به. فمثلما ليس هناك أحرارٌ إن كان هناك من هم مستعبدون، لا كرامة لأحدٍ إن كان أحد مذلولاً مُهاناً.
الطوبى
يبدو تصور البيوت المفتوحة على بعضها طوبى. وفي القرن العشرين، وبتأثير انقلاب اليوتوبيا الشيوعية إلى ديستوبيا، عالمٌ كابوسيٌ منزوع الحرية، تطورَ نقدٌ للطوبى يقرن بينها وبين الشمولية. هل هذا ضروري أم هو عارض تاريخياً؟ أميلُ إلى الإجابة الأخيرة، أما العلاقة بين هذا النقد الأصولي للطوبى والنزعة السياسية والاجتماعية، والعالمية المحافظة، فهو ما يبدو لي ضرورياً.
لكن الانزلاق الشمولي ممكنٌ حين نفكر في بيتٍ واحد، عام، يراقب فيه الجميع الجميع ويختنق فيه الجميع، بدل بيوتٍ كثيرة، يمكن التحرك بينها بحرية.
الطوبى ديناميةُ تَصَوّرِ فضاءات ومستقبلات مغايرة، تساعدُ على الانفلات من سجن البيت والحاضر، والوطن والدين والثقافة، وتبث الحياة في أفكارنا وتصوراتنا وأفعالنا. وهي لا تنقلب إلى سجن إلا إن فُرِضت كواقع نهائي لا يتغير. المشكلة ليست في الفاعلية الطوباوية إن جاز التعبير، بل في فرض المستقبل المتخيل حاضراً أبدياً.
فإذا عدنا إلى حدسِ الحرية الأول، المتصل بالخروج إلى مسافةٍ أبعد، فالطوبى هي المسافة الإضافية التي لم نذهب إليها من قبل، وهي تَصوُّر أوضاعٍ أخرى للفرد والجماعة والمجتمع والعالم لم يسبق تصورها، وهي صورةٌ مبتكرة وخيال يصنع لغة وأفقاً جديداً للتعبير، وهي أفعالُ خدمةٍ وكرم مُولِّدة لرابطة اجتماعية أعدل. وفي كل حال، ليست الطوبى شيئاً منسوباً إلى لا-واقعٍ مماثل لنفسه، بل إلى حركة خروجٍ وانفلاتٍ من واقع قائم. لكنها نسبيةٌ في كل حال، ولأنها كذلك فإنها البعد التحرري أو التجاوزي من أي وضع متحرك. ولأنها كذلك أيضاً فلا يمكن أن تقوم بذاتها منفصلةً عن الوضع المتحرك الذي ترتبط به. إن قامت منفصلةً عن أوضاع، مرتبطةً بالمقابل بتفضيلات أفرادٍ أو مجموعات خاصة، فإنها ستحتاج إلى عنفٍ مهولٍ كي تبقى. هذا درس شيوعية القرن العشرين، وسيكون درس الإسلامية المعاصرة من كل بد. وهو درس كل دعوة لتغيير العالم تنفصل عن العالم المتغير والممانع للتغير في آن.
وعليه، يمكن التمييز بين طوبى مُحايِثة، تُبطِّن الفاعلية التغييرية للبشر، يتشابكُ فيها المتخيل مع المحقق، وبين طوبى منفصلة أو متعالية، ينفصل فيها المتخيل عن شروط الحياة الفعلية وممكناتها، بحيث يمتنع تحققه دون عنفٍ رهيب. الطوبى المحايثة طوبى في العالم، هي فعلنا التغييري هنا والآن، «لامكان»ـها هو أفقٌ نستشرفه، وإن لم نذهب إليه بعد. أما الطوبى المتعالية أو المنفصلة فإن «لامكان»ـها مجردٌ، ومُستدعٍ للعنف.
لا بد من تغيير العالم في العالم، لأن العالم مصلحةٌ عالمية، أي هو مصلحةٌ للجميع ولكلٍّ منهم، مجتمعات ومجموعات وأفراداً.
مع عدم الاحترام للدول جميعها.