هذا النص هو حوارٌ مع فيفك تشيبر، وهو برفسور مساعد في السوسيولوجيا بجامعة نيويورك، حول الماركسيّة والنظريّة ما بعد الكولونياليّة، وحول مقارباتهما المختلفة لتفسير الرأسماليّة والاستراتيجيّة المعادية للرأسماليّة، وحول الاشتباك مع العالم اللاغربيّ، ودور المثقفين الراديكاليين.

نُشر الحوار في العدد 89 من مجلة International Socialist Review.

*****

– لماذا يجب على الاشتراكيين أن يعتنوا بالدراسات ما بعد الكولونياليّة؟

في السّنوات العشرين إلى الخمس وعشرين الماضية، اتخذت الدراسات ما بعد الكولونياليّة مكانها بوصفها البديل عن النظريّة الماركسيّة في أُطر الجامعة، وفيما بين المثقفين. إذ كانت الماركسيّة، على مدار القرن العشرين، هي النظريّة التي ارتكزَ إليها الاشتراكيّون لتفسير العالَم، ولفهم كيفيّة التنظيم ضدّ الرأسماليّة. ومع سقوط الاتحاد السوفياتيّ وانحدار الحركات وتراجعها، ومع الماركسيّة التي أصبحت هامشيّةً في الحياة الفكريّة، ومع يسارٍ اشتراكيّ طُردَ من الحركة العمّاليّة، فإنّ هذه هي المرّة الأولى في الحقبة الحديثة التي تجدُ فيها غياباُ للمثقفين الماركسيين ضمن الحركة العمّاليّة، وضمن الإنتلجانسيا على حدٍّ سواء. وما اتخذ مكان الماركسيّة الآن هي النّظريّة ما بعد الكولونياليّة، والتي ترمي إلى القيام بشيئين اثنين: الأوّل تفسير كيفية عمل الرأسماليّة، والثاني نقد ظُلم الرأسماليّة. ولدى الشيوعيين الشيء الكثير لوضع هذه النظريّة على محكّ الاختبار، ورؤية ما إذا كانت جديرةً بالاهتمام أم لا.

– يقدّم كتابُك الجديد، النّظريّة ما بعد الكولونياليّة وشبح رأس المال (Postcolonial Theory and the Specter of Capital)، انتقاداتٍ لاذعة للنظريّة ما بعد الكولونياليّة. لماذا تظنّ أنّها لا تبلغ كونها نظريّة راديكاليّة؟

إنّني ناقدٌ لأنّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة تحاول أن تقوم بما تقوم به الماركسيّة، أي بكلٍّ من تفسير العالم وإخبارنا كيف يمكن تغييره، وأعتقدُ أنّها تفشل في كلٍّ من هذين الجانبين.

فيما يتعلّق بتفسير العالم، بالرغم من أنّ النّظرية تتحدّث كثيراً عن الرأسماليّة، فإنّها تقدم تصوّراً للرأسماليّة يشوّش كيفيّة عملها، أو يمثّل نسخةً مؤسطرة ومطهّرة (sanitized) منها، وينزعُ المدافعون البرجوازيّون إلى الدّفع بهذه النّسخة إلى الأمام.

وبالنسبة إلى دورها بوصفها نظريّة نقديّة؛ حسناً، بادئ ذي بدء، وكما قال ماركس، لا يمكنك أن تنقد شيئاً ما في حال كونك لم تفهمه. فإذا لم يكونوا يفهمون كيف تعمل الرأسماليّة، فإنّهم لن يستطيعوا أن يساعدونا حقاً في نقدها.

ولا تقدّم النظريّة ما بعد الكولونياليّة نفسها على أنّها معادية للرأسماليّة فحسب، بل باعتبارها معادية للإمبرياليّة وللكولونياليّة. وفي الواقع، كما أوضّح في كتابي، فإنّها نظريةٌ أحيتْ وجعلت من المقبول ما نسمّيه الآن الاستشراق، والحال كذلك، فإنها أحيت الأفكار التي يختلف بها الشّرق عن الغرب بطريقة عميقة لا تتغيّر. من وجهة نظري، لم تفشل النظريّة فحسب، بل إنّ لها بعض المضامين المحافظة جداً.

– كثيراً ما ينتقد المنظّرون ما بعد الكولونياليّين «كونيّة» الماركسيّة، فماذا يعنون بذلك؟

لقد تمسّك الاشتراكيّون دائماً بالاعتقاد بأنّ الرأسماليّة -حيثما تكون- تُخضِع النّاس إلى ما أسماه ماركس «القهر الأبله» (dull compulsion) للعلاقات الاقتصاديّة. إذ تُقحم الرأسماليّةُ النّاسَ في علاقات استغلاليّة للغاية؛ وإنّها تقوم بذلك بصرف النّظر عن ثقافتهم، وعن خلفيّتهم، فالأرباحُ هي كلّ ما يعنيها.

وحتى مع تفشّي الرأسماليّة في جميع أنحاء العالم، فإنّها تنشرُ هذه الخواصّ في كلّ جماعة، وفي كلّ ثقافة، وفي كلّ مجتمع. إذ لا تهتم الرأسماليّة فيما إذا كانت هذه المجتمعات هنديّة، مسلمة، أو مسيحيّة. وبفعلها، تُخضع العالَم كلّه إلى مجموعة واحدة من القوى البنيويّة والاقتصاديّة، وهي القوى ذاتها، وتحملُ العالم بأكمله إلى نضالٍ مشتركٍ ضدّ تلك القوى.

وكثيراً ما تنكرُ النظريّة ما بعد الكولونياليّة هذا الأمر، إذ تصرّ غالب الوقت على أنّه عندما تعمل الرأسماليّة على تجذير نفسها في كلكتا، أو في نيروبي، فإنّك لا تستطيع أن تفهمها بالطريقة نفسها التي تفهمها حينما تكون في ديترويت أو مانشستر. إذ إنّك بحاجةٍ إلى نظريّة أخرى تماماً، نظريةٍ لا تشبه ما كانته نظريّة ماركس. حسنًا، جيّد، لعلّها لديك. فماذا هي هذه النظريّة؟

– ما هي هذه النظريّة؟ وماذا يقترح المنظّرون ما بعد الكولونياليين كبديل؟

لم أرهم يقدّمون نظريّة، إذ عادةً ما تُروَّج الحجّة بطريقةٍ سلبيّة، ومفادها أنّه يجب أن يُعاد النّظر في النظريّات الموجودة والقائمة. ولكن ما هي النظريّة البديلة حول كيفيّة عمل الرأسماليّة، إنّه أمرٌ يصعب العثور عليه.

– ولكن ليس من الصّعب أن نلاحظ الاختلافات الثقافيّة الواضحة في أجزاءٍ شتّى من العالَم، فكيف نوضّح ونفسّر هذه الاختلافات؟

يمكننا الاعتراف بما هو صحيح على نحو واضح، بأنّ كثيرين تهيمن عليهم فيما يقومون به عاداتُهم، والمعايير، والأعراف، وتوقّعات الآخرين لهم. وهذا يرقى إلى الاعتراف بأنّ للتنشئة الاجتماعيّة (socialization) وللتوجّه الثقافيّ تأثيراً كبيراً على سلوك واختيارات النّاس. ولا أرغب في النّزاع بذلك على الإطلاق، وإذا كان هذا هو ما ادّعاه المنظّرون ما بعد الكولونياليين، فلن يكون للمرء أيّ خلافٍ معهم.

بيد أنّ ادعاءَهم أقوى وأشدّ، فلا يتعلّق الأمر بأنّ الناس تُؤثّر فيهم ثقافتُهم؛ إذ إنّ ادعاءهم هو أنّ الناسَ يتمّ تشكيلهم من قبل ثقافتهم على طول الطّريق. وهذا يعني أنّ تنشئتهم الاجتماعيّة قويّة للغاية، وأنّ ثقافتهم والتلقين الثقافيّ أمرٌ جوهريٌّ جداً، لدرجة أنّه يمكن أن يمحو فهمهم لاحتياجاتهم واهتماماتهم الأساسيّة، مثل عِظَم الرفاهيّة الفيزيقيّة أو الضّرر الفرديّ.

هناك الكثير على المحكّ للقبول بذلك، وإذا كان ذلك صحيحاً، فإن هناك الكثير ليتبدّد، مثل أيّ تصوّرٍ لحقوق الإنسان.

– كيف تستنتجُ استحالة حقوق الإنسان، من التفسيرات المعتمدة على الثقافة؟

ليس بإمكانك أن تحدّد الحقوق إذا لم تكن لديك مصالح، وللثقافة كثيرٌ من الأهميّة والعِظَم. ولكن هل هي مهمّة لدرجة أنّه يمكنها أن تمكّن الناس من تجاهل رفاهيتهم الخاصّة؟ فإذا كانت النسبويّة الثقافيّة للنظريّة ما بعد الكولونياليّة على حقّ، فإنّها تقوّض دافعيّتنا لمناهضة مُصادرة الفلّاحين في بوليفيا، ومصادرة الفلّاحين في نيجيريا، وإفْقار (immiseration) سائقي العربات في كلكتا. وذلك لأنّه كما تعلم، فإنّ ثقافتهم قد تُثمّن تلك الأشياء، وتعتبرُ بأنّها أشياء جيّدة بالنسبة إليهم. فمن أعطاك الحقّ لأن تقول إنّ هذه الأشياء سيئة؟ وعلى أيّ أساسٍ ستقول بأنّهم سيعارضونها دائماً؟

– وهذا أمرٌ مختلف تماماً عن النظريّة الاشتراكيّة؟

لقد تمسّك الاشتراكيون أيضاً، جنباً إلى جنب، مع القول بأنّ الرأسماليّة تُخضِع العالم بأكلمه إلى مجموعة مشتركة من القوى، وبأنّ للبشر العاملين في أنحاء العالم مصلحة مشتركة ضدّ الرأسماليّة. ومرّة ثانية، بصرف النّظر عمّا إذا كانوا هنوداً، ومسلمين، أو مسيحيين، أو سوداً أو بيضاً. وبغضّ النّظر عن هذه الخصائص، فلديهم جميعاً مصلحة مشتركة. وهذا هو السبب في أن الصراع ضد الرأسمالية هو صراعٌ أمميّ وكونيّ.

وههنا أيضاً، كثيراً ما تقوّض النظريّة ما بعد الكولونياليّة هذا الأمر. وكانت سمتها البارزة أن تقول إنّ دوافعَ البشر الشّغيلة في المجتمعات اللاغربيّة ليست مبنيةً على الاهتمامات نفسها كما هو الحال في الغرب؛ إذ إنّهم لا يفكّرون حتى من حيث مصالحهم. إنّ لديهم وعياً مختلفاً بأكمله عمّا يقوم به النّاس في الغرب، وهذا يذكّرنا بما قالته الدّول الكولونياليّة والإمبرياليّة حينما أنكروا حقوق الأسيويين والأفارقة.

– إذاً ثمّة فارقٌ هامٌّ بين الطريقة التي تُنظّر بها الماركسيّةُ إلى الاختلاف، والطريقة التي تتبعها الدّراسات ما بعد الكولونياليّة. فماذا على المحكّ ههنا؟

ما هو على المحكّ، ما إذا كنّا نظنّ أنه حينما يتمّ التحكّم بعاملٍ أو شخصٍ فقير قُرب كلكتا، فأنّه يكون لديه الحقّ في المظالم والتعويضات نفسها التي يحظى بها شخصٌ ما في مانشستر أو ديترويت. وأنّه عندما تكون امرأة في نيجيريا ضحيّة للاضطهاد الجندريّ، فيتوجّب أن يكون لها الحقوق نفسها التي تكون لامرأة في لوس أنجلس.

وتسير الأمور على هذا النّحو، إذا كنت تعتقد بأنّ الناس في الثقافات ما بعد الكولونياليّة يستحقّون الحقوق نفسها كما هو حال النّاس في البلدان الغنيّة، فلا يمكنك إلّا أن تقدّم هذه الحجّة في حال كنتَ تعتقدُ أيضاً أنّ لديهم المصالح والاحتياجات نفسها كما الآخرين [في الدّول الغنيّة]. إنّ إنكار هذا الأمر إنّما هو إصرار على أنّ الشرقيين والغربيين يعيشون في عوالم مختلفة، وربّما لا يمكن لنظريّةٍ كهذه أن تساندَ وتدعم الحركات الأمميّة والدّولانيّة (internationalism) ضمن الطّبقة العاملة.

– هل تقول إنّه لا يوجد اختلافٌ بين الشّرق والغرب؟

لا! فالاختلاف بينهما هائلٌ في واقع الأمر، وما يُثير الاهتمام هو أنّ التقليد الماركسيّ منذ عام 1905 على الأقلّ، لم يُكرّس لشيءٍ آخر غير شرح هذا الاختلاف.

– إنّ الادّعاء المُقدّم من قبل المنظّرين ما بعد الكولونياليين -لدرجة أنّه أصبح مفهوماً في بعض النواحي- هو أنّ الماركسيّة ذات مركزيّة أوروبيّة (Eurocentric). وبأنّ الماركسيّة تركّز على التاريخ أو الثقافة الأوروبيّة لإقصاء العالم اللا غربيّ، أو تحاول أن تُركِّب النظريات «الأوروبيّة» على العالم اللا غربيّ.

هذا بطريقة أو بأخرى ما يميّز النظريّة ما بعد الكولونياليّة بمعزلٍ عن الراديكاليّات الأخرى، وعلى مدار القرن العشرين، وفي معظم ما نسمّيه الآن جنوب الكرة الأرضيّة، فإنّ البشر الذين كانوا يساريين والذين كانوا تقدّميين قد أخذوا الماركسيّة لتكون النّسق الطبيعيّ للاشتباك بالنسبة إليهم. وقد رفضَها قلّةٌ منهم، وقبلها أكثرهم، والذين رفضوها لم يرفضوها لأنّها كانت غربيّة أو ذات مركزيّة أوروبيّة. لقد فكرّوا فيها ببساطة على أنّها كانت غير مناسبة وعلى خطأ.

إنّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة هي النظريّة الأولى التي تدّعي كونها معادية للرأسماليّة، من جنوب الكرة الأرضيّة، وتهاجم الماركسيّة باعتبارها لا تختلفُ عن  الإيديولوجيا الكولونياليّة في أنّها ذات مركزيّة أوروبيّة كما أنّها كانت إيديولوجيا كولونياليّة. هذا ادّعاءٌ شاذ؛ بل إنّه ادعاءٌ زائف.

– هذه أنباء عظيمة للماركسيين الشبّان الذين قُذفوا باتهامات المركزيّة الأوروبيّة، فهل يمكنك التوضيح؟

إذا نظرتَ إلى تاريخ الماركسيّة في القرن العشرين، فإنّه بالفعل تاريخٌ لاشتباكٍ متواصل مع وقائع العالم اللاغربيّ. وإذا فكّرتَ في هذا التاريخ، فكيف يمكن أن يكون خلاف ذلك؟ إذ بدءاً من الثورة في روسيا عام 1905، كانت تجربة الاشتراكيّة في القرن العشرين هي أنّ البلدان التي أصبحت فيها الحركات الثوريّة الحركات الأقوى، غالباً كانت هي البلدان التي لم تكن رأسماليّةً متقدّمةً.

وهناك روسيا عام 1905؛ وألمانيا في 1918 (والتي كانت دولة صناعيّة لكن لا تزال دولة ذات أغلبيّة من الفلاحين)؛ والصّين في 1930؛ والهند 1930؛ وأمريكا اللاتينيّة في عام 1940و1950؛ وفييتنام؛ والسلسلة برمّتها للدّول المتخلّصة من الاستعمار. وفي أيّ مكان انطلقت الحركاتُ التي لديها قوة دافعة مناهضة للرأسماليّة، فقد كانت في العالَم اللاغربيّ والأقلّ تطوّراً.

لقد كان من الضرورة حينذاك، أن قادة تلك الحركات والمثقفين المرتبطين بهم، عليهم أن يدركوا المراد من الوقائع التي لم تتكيّف مع الركائز الأساسيّة للنظريّة الماركسيّة. وإنّه لصحيحٌ أنّ ماركس قد طوّر نظريته مركّزاً على الدّول الأكثر تقدّماً. ولكن على مدار القرن العشرين، حين انطلقت الحركات الثوريّة في البلدان الأقلّ تقدّماً، عمل الماركسيّون منذ البداية على أن يجتهدوا ويعدّلوا النظريّة لفهم الحقائق التي أفلتت من تنبّؤات النظريّة.

وفي الواقع، فإنّ الماركسيّة هي النظريّة الوحيدة في اليسار التي اشتبكت بلا هوادةٍ وبغير توقّف مع العالَم اللاغربيّ. والفكرة القائلة إنّ الماركسيّة نظريّةٌ تتجاهل اللاغرب، أو أنّها تفرض المقولات الغربيّة بشكلٍ اصطناعيّ، أو إنّها عمياء عن حقائق العالَم اللا غربيّ، هي فكرة خادعة.

– هذا التصوّر عن الماركسية هو تصورٌ مختلف للغاية عن التصوّر الذي عهدناه باستمرار، فهل يمكنك أن تضرب بعض الأمثلة عن «الاشتباك الذي لا هوادة فيه، والمتواصل مع العالَم اللاغربيّ»؟

ما هي نظرية تروتسكي بشأن التطوّر المتضامن وغير المتكافئ؟ إنّها نظريةٌ حول ما يحدث حين تأتي الرأسماليّة متأخرةٍ إلى بلدٍ أقلّ تطوّراً. وما هي نظرية ماو حول الديمقراطيّة الجديدة؟ قد تتفق أو تختلف معها الآن، لكنّها نظرية تدور حول ما يجب القيامُ به في بلد قرويّ.

وماذا كانت المساهمة الأولى لِلينين في النظريّة الماركسيّة، قبل أيّ شيءٍ آخر؟ لقد كانت مساهمته عبارة عن نظريّة حول الرأسماليّة المتأخّرة النموّ (late-developing) في كتابه الأوّل المعنون: تطوّر الرأسماليّة في روسيا. وما هي المساهمة الرّائدة لِلينين في السوسيولوجيا الزّراعية (agrarian sociology)؟ إنّها نظريّته حول الطّبقات داخل الرأسماليّة الزراعيّة، والتي قد طوّرها ماو. وماذا كانت مساهمة أميلكار كابرال في النظريّة الثوريّة؟ لقد كانت فكرةً حول البروليتاريا الثوريّة في محيطات متخلّفة. وماذا عن تشي جيفارا؟ أو عن العمل المُجدّد والمبتكَر لوالتر رودني عن إفريقيا الكولونياليّة؟ أو عن تحليل سيريل ليونيل روبرت جيمس لليعاقبة السّود؟ كان كل ذلك عبارةً عن محاولاتٍ لتجسيد وتحوير النّظريات الماركسيّة في الجنوب. والشاذّ والغريب هو أنّ أشخاصًا مثل روندي وجيمس يجري تقديمهم باعتبارهما منظّريْن ما بعد كولونياليين، وهذا خاطئٌ تماماً في واقع الأمر، وقد ظنّا نفسهما منتمين إلى التقليد الماركسيّ.

بوسع المرء أن يضيف إلى هذه القائمة دون توقّف، فمنذ وقتٍ مبكّر عام 1905 إلى أواخر عام 1980، لو أنّ هناك شيئاً واحداً قد قام به الماركسيّون، فهو التركيز على العالم اللاغربيّ.

– إذا كانت ادّاعاءات المركزيّة الأوروبيّة لا أساس لها من الصحّة، فلماذا يتّهم المنظّرون ما بعد الكولونياليين الماركسيّة بذلك طوال الوقت؟

إنّها صيغة معتمدة ورائجة، فإذا أردتَ أن تؤسّس نفسك في الأكاديميا باعتبارك راديكاليّاً، ولم ترغب بأيّ صدمة تُوجّه إلى عملك، والتي تُوجه في حال كونك ماركسيّاً، فالأمر الأوّل الذي يتوجّب عليك القيام به هو قول شيء ما سلبيّ حول الماركسيّة، وهو ما ينصّ على أنه بالرغم من أنّك في اليسار، فإنك لست «واحداً منهم».

– لذلك ليس لدى الماركسيين ما يحرجهم حيال هذا الأمر؟

الأمر على النّقيض تماماً، إذ لو أنّ ما أقوله صحيح، فالحقيقة من ثمّ هي أنّ بعضاً من التبصّرات الأكثر أهميّة في تحديث جنوب الكرة الأرضيّة، قد خرج من عباءة النظريّات الماركسيّة، أو من النّظريات المستوحاة منها. ففي عامي 1950 و1960 حتى  النّظريات السّائدة التي كانت تظهر حينها، والتي تحاول شرح التطوّر، والتحديث السياسيّ، ارتكزت جميعها إلى نظريات ماركس، حتى وإن لم تكن هي نفسها ماركسيّة. نظريّة ألكساندر جرشكنكرون؛ وعمل ألبرت فيشلو حول أمريكا اللاتينيّة؛ وعمل ألبرت هيرشمان؛ كلّ هؤلاء كانوا يستندون إلى نظريّة ماركسيّة. وكان ذلك صحيحاً حتى عام 1980.

ربّما كانت النظريّات التي ولّدوها خاطئةً؛ بيد أنّ كلّ هؤلاء المثقفين كانوا مكرّسين لطرح السؤال «كيف تفسّر التجارب المتشعّبة للشرق والغرب». والاتهام بأن الالتزام بكوننة النّظريات يُعميك عن الاختلاف الاجتماعيّ، إنّما هو مجرّد اتهامٍ زائف.

وليس فقط ما من شيءٍ يحرجهم حيال هذا الأمر، إذ يجب على الماركسيين حقيقةً أن يقلبوا الطاولة. وحينما نكون في مناقشةٍ سياسيّة أو في سيمينار أو في أيّ شيء، ويحاول أحدهم أن يوجّه هذه الاتهامات، فاطلب منه فقط أن يقول ما الذي جعلَ كلّ هذه المساهمات النظريّة المتراوحة بين الستّ مساهمات واثنتي عشرة مساهمة، تنبع من التقليد الماركسيّ. اطلب منه أن يشرح بالتحديد -بالتحديد- كيف أنّها مساهمات ذات مركزيّة أوروبيّة.

– كما قد أشرتَ سابقاً، كانت الماركسيّة في أغلب العهد الحديث هي القوّة الدّافعة في التفكير الثقافيّ الراديكاليّ، فكيف تفسّر اختفاءَها خلال العقدين أو الثلاثة الأخيرة؟

ليس اختفاء الماركسيّة أمراً يصعب شرحه، حيث كانت الماركسيّة قائمةً، طالما أنّ الأحزاب الماركسيّة وطبقة العمّال المنظّمة والمعادية للرأسماليّة كانت قائمة. وهزائم الأعوام الخمسة وعشرين الماضية لا مثيل لها في التاريخ الحديث: فلم يكن هناك حقبة زمنيّة شهدت غياب تيّار قويّ حقاً للاشتراكيين في صلب الحركة العمّاليّة، وغياب أحزاب كانت في بلاغتها على الأقلّ معادية للرأسماليّة. أما الآن فلا يوجد لدينا لا هذا ولا ذاك.

وفي وضعٍ كهذا، ليس واقعيّاً أبداً أنّ الماركسيّة كتيّارٍ فكريّ، سوف تبقى على قيد الحياة. وبمجرّد إخراج المثقّفين الماركسين خارج الحركة العمّاليّة، فإنّ المؤسّسة الوحيدة المتبقية والتي يمكن أن تخلق اشتغالاً فكريّاً هي الجامعة. فليست الجامعات مجرّد مكان ضيافةٍ بالنسبة إلى الماركسيّة، إذ إنّ الجامعات هي الأماكن التي يقوم فيها المحترفون المتنقّلون بما يتوجّب عليهم أن يقوموا به للارتقاء في السلم الوظيفي. إنّهم من الطبقة الوسطى، ولديهم الطموحات نفسها مثل أيّ شخصٍ من الطبقة الوسطى. وفي الغالب، ينجحون في حال تماهوا مع السّلطة وبُناها.

وهكذا، تمضي إلى إيجاد تحجيمٍ/تقليصٍ للماركسيين في العالَم الفكريّ بمجرّد أن تخُرجَ خارج الحركة العمّاليّة، وبمجرّد أن تصبح الأحزاب السياسيّة المعادية للرأسماليّة بالغة الصغر كما هي الآن.

– فمن أين انحدرت النظريّة ما بعد الكولونياليّة؟

فيفك تشيبر: هذا سؤالٌ حسن، فما كان من الممكن أن تجده بمجرّد أن تتراجع الماركسيّة هو الليبراليّة والنّزعة المحافظة، أي عودةٌ إليهما. فلماذا تجد شيئاً مثل النظريّة ما بعد الكولونياليّة؟ أعتقد أنّك تجدها لسببين اثنين. السبب الأوّل هو أنّ اليساريين المخضرمين منذ عام 1960، الذين تخلّوا عن كونهم معادين للرأسماليّة، لا يزالون يرون أنفسهم بوصفهم راديكاليين، ولا يزالون على حالهم. إذ بدءاً من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ظلّوا راديكاليين، لكنهم لا يريدون أن يتحدثوا حول الرأسمالية، وبالتالي انعطفوا صوب إشكالاتٍ أخرى. فهم معادون للعنصرية، ومعادون للجنسويّة، وانتقلوا إلى ما يُسمّى دراسات الاضطهاد (oppression studies).

ثانياً، لقد تغيّرت الجامعات كثيراً. فالجامعات أكثر تجانساً بكثير، وأكثر تنوّعاً ممّا كانت عليه. والطّلاب القادمون إلى تلك الجامعات حريصون للغاية على تحصيل الفرص نفسها التي يحصل عليها الطلّاب الذين هم أكثر امتيازاً، حيث يواجه كثيرٌ من الطلّاب في هذه الجامعات مصاعب بسبب الجنسويّة (sexism) والعنصريّة اللتين يواجهونهما. لذا؛ فإنّ هناك عاملَ عرْضٍ يدفع صوب دراسات الاضطهاد، لكن دون أيّ التفاتٍ وعنايةٍ بالرأسماليّة. وهناك عامل طلبٍ، من هؤلاء الطّلاب الذين يريدون أن يفهموا لماذا لا يصلحون في، وكذلك مع، الطلاب الآخرين، ولماذا لا يمتلكون الفرص نفسها.

وما تبقّى من هذه المعادلة بأكملها هي إشكاليّة الرأسماليّة، وبالتحديد لأنّه في الجامعات لديك النّاس الذين هم إمّا هم أنفسهم راقون وملائمون مثل الأساتذة، أو الذين يتوقون إلى أن يكونوا راقين، مثل معظم الطلبة. ومن ثمّ، فإنّ ما تخرج به هو إطار تسير فيه ليكون الناس مهتمّين بكونهم ناقدين للنظام المهيمن، لكن دون أن يكونوا معادين للرأسماليّة. وذلك ما تمنحك إيّاه النظريّة ما بعد الكولونياليّة.

– إنّك لتقدّم تصوّراً دامغاً جداً للنظريّة ما بعد الكولونياليّة. فهل لدى المنظرّين ما بعد الكولونياليّين أيّ مساهماتٍ إيجابيّة؟

نعم، هناك بعض الأعمال الإيجابيّة إمبريقيّاً. وقد أبقوا على الفكرة القائلة إنّ الكولونياليّة كانت مدمّرةً للغاية، ومولّدة لأيديولوجيا مُهلكة. لكن حينما نتحوّل إلى ثقافة اليسار، فإنّني أعتقد أنّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة جدّ واهنة.

ما هي مهمّة أيّ مثقّف راديكاليّ؟ ولا أعني بـ«المثقف» شخصاً يعمل في جامعة ولديه وجاهة. فالمثقف هو مجرّد شخص يُعزّز الأفكار المُمفصَلة، ويقوم الأساتذة بذلك أحياناً، وعادةً لا يقومون. بيد أنّ المنظّمين دائماً يقومون بذلك دون فشلٍ، وإن لم يكن بإمكانك أن تقوم بذلك، فلستَ منظّماً.

كيف أثّرت الدراسات ما بعد الكولونياليّة على عمل المثقّف بالنّحو الذي عرّفته به بالتحديد؟ لقد كانت سلبيّةً للغاية. حيث تشرّبت الدراسات ما بعد الكولونياليّة بعض الجوانب السيّئة من الثقافة الأكاديميّة، لأنّها نتاج الأكاديميا. إذ ليست الدراسات ما بعد الكولونياليّة نتاجًا للحركات (movements). وهي تقول بأنّها نتاجٌ للحركات وبأنّها موصولةٌ بها، لكنّ ذلك ليس صحيحاً. إذ تنبع الدراسات ما بعد الكولونياليّة من الأكاديميا تماماً، وما قد استدخلته ونشرته فيما بين اليسار هي الثقافة التي يتم فيها استبعاد التقييم المباشر والواضح للأفكار.

– لمَ هذا الأمر؟

في الأكاديميا، كثيراً ما يكون عرْضٌ واضح وبسيط للأفكار هو الطريق الأفضل لأن تجد نفسك مقصيّاً. إذ إنّه من الأسهل انتقادك حينما تكون واضحاً ومُوجِزاً، وتقدّم رؤاك بطريقةٍ تجعلها قابلةً للنّقد. وغالباً ما يعبّر الأكاديميّون عن أفكارهم بنثرٍ مبهم، وبرطانةٍ غير مفهومة، على مستوى التعقيد الذي يكون كثيفاً بحيث لا يمكن لأحدٍ اختراقه. وغالباً ما يكون هذا عوضاً عن تعقيد الفكر، فما تخرج به من الدراسات ما بعد الكولونياليّة هو تعقيد التعبير، مُستعاضاً به عن تعقيد الفكر.

– في حال كان هدفك يرمي إلى تنظيم أعدادٍ ضخمة من الأشخاض العاملين، فإنّ الاستراتيجيّة التي تقدّم أفكاراً بسيطة بطرقٍ مربكةٍ تبدو ذات نتائج عكسيّة.

تاريخيّاً في اليسار، دائماً ما تناول المثقفون ذلك باعتباره واجبهم للإمساك بزمام المسائل المعقدة، وتقديمها بطريقة واضحة وبسيطة. هذه هي الطريقة التي تنظّم بها الناس. وواقع الرأسماليّة يبدو أنّه ساحقٌ ومعقّد، الأمر الذي  يجعل النّاس من اليمين يستمرون في القول بأنّها ليست سهلة المنال للنّاس العاديين. فهم يصرّون على أنّك تحتاج إلى خبراء لفهم العالم، ومن ثمّ يجب أن تدع حوكمة المجتمع (governing of society) إلى المديرين والخبراء. لطالما قال اليمين ذلك، وقد حاول مثقفو اليسار أن يظهروا أنّه في الواقع، يمكن لأيّ أحدٍ أن يُدرك الحقائق بتعقّلٍ حصيف، سواء أكانوا في الكليّة أو لم يكونوا، طالما أنّهم يفكّرون بجديّةٍ في الأمر. وحاولوا أن يجسّدوا ذلك عن طريق تناول الأفكار المعقّدة للغاية، وجعْلها أفكاراً بسيطة.

يُفضّل نعوم تشومسكي أن يقول إنّه بالعودة إلى عام 1930، فإنّ المثقفين الشيوعيين قد كتبوا كتباً مثل الرياضيّات للملايين والفيزياء مُقدّمة بشكل بسيط. وكان ذلك تعبيراً حسناً عن المهمّة التي رأى المثقفون أنفسهم فيها حينما كانوا في اليسار.

وما قامت به الدراسات ما بعد الكولونياليّة هو النّقيض من ذلك، ويمكنك أن تغفر كلّ خطاياها، وأن تغفر كلّ أخطائها الفكريّة. ويمكنك أن تغفر كلّ إبهارها (grandstanding) وجهالتها حول ما تقوم به النّظريّة الراديكاليّة. لكن ما لا يمكن أن تغفره هو استجلاب الرطانة في ثقافة اليسار، والإطناب الفارغ الذي يمكن أن تجده في غرف الحلقات الدراسيّة. وفي السنوات العشرين الأخيرة رأيتم الاجتماعات الفاعلة تتحوّل إلى حلقات دراسية للخريجين، وأعتقد أنّ هذا الأمر مدمرٌ جدًّا.

– ما هي النتيجة المترتّبة حينما تتحول الاجتماعات الفاعلة إلى حلقات تخرّج؟

يتطلّب الأمر ثقةً بمنأىً عن النشطاء، إذ يُسمح لقلّةٍ أن تسيطر على الاجتماعات. وعادةً فإنّ أشخاصها من الذين لا يفهمون تماماً ما قالوه، لكنهم يستمتعون بالسيطرة على الاجتماعات بالفعل. وبطبيعة الحال، فإنّها تَسوق العقلاء خارج الفعاليّة (activism). والأشخاص المتبقون، هم إمّا الذين لا مانع لديهم من هذا الحديث الأجوف، أو الذين لا يعتنون إلًا قليلًا بفهم العالم، والذين لا يهمّهم ما الخطابات التي يُجرى تقديمها إليهم. تخيّلْ ما يفعل ذلك في ثقافة اليسار.

– تُكرَّس النظريّة ما بعد الكولونياليّة حالياً في الأكاديميا بشكلٍ جيّد، فما هي إمكانات صدّ تلك الهجمات عن الماركسيّة، أو على الأقلّ التشظية تدريجيّاً في بعض الافتراضات الأكثر ضرراً، التي شكّلت الحِس المشترك من قبل النظريّة ما بعد الكولونياليّة؟

إذا عدت إلى مدى الخمسة وعشرين إلى الثلاثين عاماً الماضية، فإنّ هذا ربّما يكون هو الزمن الأفضل للصدّ ضدّ بعض السخافات والظلاميّة (obscurantism) التي روّجتها النظريّة ما بعد الكولونياليّة، وأقول ذلك لعدّة أسباب.

يتمثّل السبب الأوّل في الأزمة الاقتصادية العالميّة التي اجتاحت أنحاء العالم بدءاً من عام 2008، فقد جلبت مفهوم الرأسماليّة مرّة أخرى إلى المناقشات السياسيّة. ويفهم الجميعُ الآن شيئين: بأنّنا نعيشُ الآن في عالم لا يزال القهر البنيويّ للرأسماليّة فيه هو القوّة الدافعة؛ وأنّها أزمة عالميّة، لأنّه لم يكن فقط الولايات المتحدة أو الصين أو ألمانيا أو اليونان هي التي نشبت فيها هذه الدوامة، وإنما كان العالم بأجمعه. لقد أوضحت على نحو صارخ للغاية أنّ مقولة الرأسماليّة التي عملت النظريّة ما بعد الكولونياليّة كثيراً على إخفائها أو جعْلها غير مرئيّة، لا تزال قوّة حقيقيّة في العالَم من حولنا.

أمّا السبب الثاني الذي يدفعني للاعتقاد بأنّه التوقيت الجيد، فهو الحشود الجماهيريّة الضخمة والنّضال الاجتماعيّ الذي انفجر على مدى السنوات الخمس الماضية. مرّة ثانية، في جميع أنحاء العالم، والذي يتبيّن منه أن الرأسماليّة ليست حقيقةً واقعةً في أنحاء العالم فحسب، وإنّما أيضاً أنّ إنسانيّتنا المشتركة ومصلحتنا المشتركة تتمثّل في النّضال ضدّها ومكافحتها.

وإذا كانت النظريّة ما بعد الكولونياليّة على حقّ، فيجب ألّا يكون هناك انفجارٌ في مصر، بميدان التحرير، والذي كان منذ عام ونصف. وإذا كانت صحيحة، حتى وإن كان هناك انفجار، فلم يكن ينبغي للناس أن يطالبوا بالوظائف، والعيش، وبالديمقراطيّة، تلك الأشياء الأساسيّة التي يطالب بها العمّال في الغرب. وإن كانت النظريّة ما بعد الكولونياليّة محقّة، فيجب ألا يكون هذا هو الحال بأنّ النشطاء في ماديسون وديترويت، أو في حركة احتلوا (Occupy)، يأخذون الإلهام من النشطاء في القاهرة، ويتآزرون على المطالب نفسها. لأنّه لو كانت النظريّة ما بعد الكولونياليّة على حقّ، فيجب أن يكونوا أساساً ذوي سيكولوجيّات وطموحات واحتياجات مختلفة ومتباينة. وما أوضَحَته لنا هذه الحركات هو أنّ الاحتياجات والطموحات، على الرّغم من أنّه قد يكون بينها بعض الاختلافات، فإنها تتشارك بعض القواسم المشتركة المصيريّة والحاسمة. لذلك، فإنّني أعتقد أنّ هذا هو أفضل زمنٍ قد رأيناه منذ فترة طويلة.

– برأيك، كم سيمر من الوقت قبل أن نرى تراجع افتراضات النظريّة ما بعد الكولونياليّة؟

لا أعتقد بأنّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة في طريقها لأن ترحلَ عمّا قريب. ورغم التصاعد العالميّ، فإنّنا لا نزال في حقبة الهيمنة البرجوازيّة دون منازعٍ فعليّاً. وفي الواقع، يزداد اليمين قوةً لا ضعفاً. وأيضاً في داخل الأكاديميا، فإنّ تراجع الماركسيّة هو تراجعٌ تامّ. وإذا ألقيت نظرة على النظريّة ما بعد الكولونياليّة وفرصها للالتصاق هنا وهناك، اعتماداً فقط على جاذبيّتها للأكاديميين. لا أعتقد أنّه كانت هناك مطلقًا نظريّةٌ مفصّلة خصيصاً للإبهار الأكاديميّ، كما هو حال النّظريّة ما بعد الكولونياليّة.

سوف يتطلب الأمر حركات اجتماعية بهذا المستوى مثل الذي شهدناه في أواخر الستينيّات، وبدايات السبعينيّات، وانبعاث منظّمة سياسيّة يساريّة معادية للرأسماليّة لتصبح منظّمة ضخمة. سيتطلّب الأمر شيئاً بهذه الأهميّة والمستوى ليلفت انتباه الأكاديميين المحترفين ثانيةً صوب الماركسيّة، وأن يكون على نطاقٍ هائل وواسع. وسيكون لديك الأفراد ههنا وهناك، لكنّني أظنّ أنّها ستأخذ كثيرأً من العمل.

ثمّة انفتاحٌ الآن، وأعتقد أن الشيء الأفضل الذي يمكننا القيام به هو أن نحاول الاستفادة من هذا الانفتاح، لكن مع تقدير واعٍ ومتّزن لماهيّة الواقع.