ثمة من يظن أنهُ يملكُ «الحل السحري» لكُل المُعضِلات السوريّة، وبالذات تلك التي تتعلقُ بـ«التناقُضات الداخلية» بين الجماعات الأهلية السورية، بشأن حقوقها ومطالبها ومظالمها؛ إذ يعتبِرُ أن «المواطنة» مشروعٌ وإيديولوجيا ورؤية خلاصية، تَحِلُّ فتُحَلُّ معها كُل تلك المعضلات. ما تطرحه هذه المقالة، هو تفكيك ذلك، ومحاولة الكشف عن الأبعاد السياسية والإيديولوجيّة المُستبطنة في تلك النزعة المتثوبة برداء «المعرفة العميقة»، مع كثيرٍ من «وهم» الرسولية الحداثوية.
*****
ببساطة، تَعتبرُ «النزعة المواطنية» أن الحل يكمنُ في اعتبار المواطنة معياراً وهويةً وحيدةً للمواطنين في القوانين العامة ومؤسسات الدولة والحيز العام، وألا يكون هناك أي امتيازٍ، إيجابي أو سلبي، لأيٍ منهم. وهي في حيزٍ أكثر شمولاً، تعني أن لا يكون لأي من المواطنين هوية قانونية أو ثقافية أخرى مُعترف بها في أجهزة ومؤسسات ووثائق الدولة، إلا كونهم مواطنين؛ وهو شيءٌ يعني مباشرةً أن لا يكون لهذه الأجهزة نفسها أي سمة إلا الهوية الوظيفية المُجردة، المُطابقة لهوية المواطنين،«المواطنية» نفسها، الوظيفية ببعدها الإجرائي التعاقدي مع الدولة وباقي أمة المواطنين، والمُجردة بخلوها من أي بُعد هوياتي ثقافي، ديني ومذهبي وقومي وعرقي.. إلخ.
السياق
ما يجب تمييزه أولاً في هذا المقام، هو التفريق بين المواطنة باعتبارها أحد الأدوات المهمة في الدولة الحديثة، التي لا يُمكن للدولة أن تحوزَ أي معنىً دون حدٍ معقولٍ منها، وبين «إيديولوجيا المواطنة».
فهذه الأخيرة تعتبر أن المواطنةَ جوهرُ المسألة السورية وتتويجٌ لحلها، وأن أي حل آخر متمايز عنها، ولو بشكل نسبي، إنما يفتقدُ المعنى والجدارة، حتى بالمُناقشة. شيء مُطابق تماماً لما يُمارسهُ «العلمانيون الجهاديون» السوريون، وما قد أرسوه في دفاعهم المُستميت عن «العلمانية» في سوريا، وتحويلها إلى أيقونة مُفارقةٍ لكُل القضايا الأخرى، ومتجاوزةٍ لها. إذ يعتبرون أن كُل «النِضال الوطني» يجب أن يتمركز حول «علمانية الدولة»، وأما غير ذلك فكله «نضالات» دون طائل ومعنى، بل تدخل في خدمة أجندة أطراف ونزعات معادية لـ«المصالح العُليا» للبِلاد، تلك المصالح التي خول «العلمانيون الجهاديون» أنفسهم تحديدها وتأطريها.
رُبما تكون المُشكلة مُشتركةً بين الطرحين، وهي تكمن في التجريد التام للمفهوم، وإعادة طرحه في السياق السوري دون أي وعي لتفاصيل وأدوار ذلك السوء في طرح واحتكار النقاش، واعتباره مُتعالياً ومُفارقاً لأي ظرف، ودون أي اعتبار للخدمات التي يُمكن أن تُقدمها هذه الأولية لغير طرفٍ في الصراعات البينية في البِلاد.
بكلامٍ أكثر دقةً ومُباشرة، تفعلُ «إيديولوجيا المواطنة» تماماً ما كان يفعله طرح «الإيديولوجيا العلمانية» في سوريا طوال العقد الأخير السابق للثورة، بوصفها «إيديولوجية خلاصية» ومُتعالية على أي نِضال سوري آخر، وهو ما كان يدخل مُباشرةً في خدمة الأسدية ويمنحها أطاراً واسعاً من شرعية الحُكم، ويشكك في جدارة وشرعية التيارات المعارضة، ويبني حولها شرطاً مُصطنعاً وبالغ القسوة للاعتراف بها، وهو رفضُ كُل التيارات السياسية التي لا تعتبر «العلمنة» أولويتها الجوهرية، حتى يعترف هؤلاء «العلمانيون الجهاديون» بجدارة وشرعية نِضال هذه القوى المُعارضة.
وبالضبط أيضاً، كما كانت «إيديولوجيا العلمانية» تصطنع معركة وقضية مُفتعلة، وهي «الخطر على الهوية العلمانية لسوريا»، أو تُضخم من خطورة تلك المسألة التي كانت موجودةً نسبياً، عبر تحويلها إلى جوهر ما يُمكن أن تُعاني منه سوريا مُستقبلاً، وذلك لإزاحة النظر عن خطر جوهري حقيقي ملموس، إلا وهو الاستبداد والغياب التام للحريات العامة والحياة الديمقراطية، فإيديولوجيا المواطنة، بدورها، تفعل شيئاً شبيهاً بذلك.
تذهبُ «إيديولوجيا المواطنة» إلى اعتبارِ أن المُعضلة المركزية في سوريا تكمن في «ضحالة المواطنة»، وأنه يجب أن يُستعاد لها الاعتبار، بينما الصحيح هو العكس تماماً. ففي سوريا كان ثمة نِظام سياسي يعتد بهذه «المواطنة»، ولا يُفرق في سلوكياته العامة بين مجموع السوريين، إن في مؤسساته الرسمية أو في مواثيقه أو في المجال العام للبِلاد. في سوريا كان ثمة «تُخمةٌ» من المواطنة، على حِساب الحقوق الجزئية والتفصيلية للمواطنين، على حِساب هوياتهم وخياراتهم الخاصة، الاجتماعية واللُغوية والثقافية والمناطقية.
هنا لا بُد من تسجيل نُقطة تفصيلية، فإذا كان النِظام الحاكم لا يحترم ولا يلتزم بتفاصيل ما تعنيه «المواطنة» في مفهومها الجوهري العالمي والتزاماتها، وإذا كان من تحت الطاولة، وبسلوكياته الفعلية، يخترق ذلك بألف شكلٍ ولون، فهذا صحيحٌ تماماً، بالضبط كما كان يفعل بمفهوم «العلمنة»، لكن ذلك لا يُغير من جوهر الفكرة شيئاً، فـ«المواطنة» كانت إيديولوجية هذا النظام وأداته ولُغته في قمعِ وكبت النزعات التفصيلية في البِلاد. أي أن المُعضلة لم تكن في «قلة المواطنة» في مؤسسات الدولة وفضائها العام وبين مجموع المواطنين، كما ترّوج «إيديولوجيا المواطنة» بل بالضبط في حيز استخدامها من قِبل النِظام الحاكم لقمع النزعات التفصيلية فيما دون المواطنة العامة، وهو شيء لا تعترف به «إيديولوجيا المواطنة»، ولا تفكر فيه، وبذلك تدخل بشكل موضوعي في خدمة ديمومة منطقِ النِظام الحاكم.
في تفصيلٍ أدق، كانت سوريا مُنذ هيمنة التيارات القومية في نهاية عقد الخمسينات، وبالتقادم والتراكم، تعاني من «مُشكلة الأقليات»، من قلة حضورها وحظوتها ومساهمتها في الهوية العامة للبِلاد، بمؤسساته وفضائه العام.
تحتَ ستار مدنية الدولة وعلمانيتها والمواطنة المتساوية، كانت يتم قمع تطلعات وهويات جماعات أهلية سوريا بعينها، جماعات كانت تسعى على الدوام لأن تحقق ذواتها وحضورها، وحتى فضاءها الخاص، ضمن هذا الخيار العام للمواطنة التي كانت الدولة تتبناها، وهو ما كان يُكبَت ويُحطَم تماماً بأدوات ونزعات «المواطنة المتساوية».
أي أن المُشكلة لم تكن في حصول أبناء الجماعات الأهلية السورية «الأصغر حجماً» على حقوق امتيازية تفوق نظيرتها التي للـ«الأكثرية الأهلية العربية المُسلمة السُنية»، أو وجود امتيازات لأي جماعة سورية أهلية وأخرى. بل كانت بالضبط أن ذوي «الجماعات الأهلية الأصغر» لم يكونوا يحصلون على حقهم الكامل في هوياتهم ومجالهم الخاص، عبر تلك النزعة الحازمة من «إيديولوجيا المواطنة». وأن ما يجب أن يحدث هو التقليل منها والقبول بتغير نمطها، واعتبار أن الامتيازات الجزئية والخاصة لأبناء هذه الجماعات لا تتعارض مع مفهوم المواطنة العام، وأن هذه الامتيازات والاعترافات والمُمارسات والخصائص لهؤلاء في مجالهم الخاص وفي مؤسسات الدولة، وحتى في الفضاء العام، هي حقٌ تامٌ يجب أن تحفظه الدولة تماماً، لأنه لا يتناقض مع مدنية الدولة وعلمانيتها والحيز التعاقدي في علاقتها مع مواطنيها. وهي تفاصيل تعترض عليها «إيديولوجية المواطنة» وتفعل عكسها تماماً، إذ توحي بأن ثمة خطراً داهماً على البِلاد، يتمثل بالاعتراف بحقوق وهويات هؤلاء المُنتمين إلى «جماعات أهلية» سورية أصغر عدداً، عبر المُطالبة بعدم الاعتراف بأي هوية أهلية، وهو ما يعني عملياً قمع الهويات الأهلية الاجتماعية الأصغر حجماً.
المسألة مثلاً هي في غياب حق الكُرد السوريين في تدريس أبنائهم بلغتهم في المدارس العامة، وفي عدم اعتبار لغتهم لغة رسميةً في المناطق التي يُشكلون فيها أغلبية سُكانية واضحة، في عدم الاعتراف الرسمي بهويتهم وحقهم في ممارسة ما يرونه مُناسباً في فضائهم الخاص، وفي عدم حضورهم في الحيز العام، وأن ذلك غير مُتناقض مع هويتهم وهوية البِلاد المواطنية. «النضال» في سبيل الاعتراف بكُل ذلك وتشريعه هو ما يجب أن يحدث، وليس التحذير منه والشك فيه، كما تفعل هذه الإيديولوجيا.
الأمر نفسه ينطبق على كثيرين من ذوي الهويات التفصيلية في البِلاد، إذ لماذا لا يُجرم زواج المسيحية من المُسلم؟ وما الخطر في ذلك؟ طالما أن القانون العام والعُرف في البِلاد يُجرم زواج المُسلمة من المسيحي. ولماذا لا يحمي ولا يُشرعن القانون العام التحول عن ديانة الإسلام إلى غيرها، مثلما يفعل العكس تماماً؟ ولماذا تحصرُ المناهج التربوية واللغة الرسمية والفضاء العام وعيها للإسلام بالمذاهب السُنية؟ لماذا لا تعترف بالطوائف الدينية الأخرى، الإسماعيلية والعلوية والدرزية والمُرشدية؟ وثمة العشرات من الأمثلة والاعتبارات التفصيلية التي تخص جميع الجماعات الأهلية السورية «الأصغر»، حيث الخطورة مُتأتيةٌ من عدم الاعتراف بهذه الثقافات والهويات، ومنع ظهورها في الحيز العام ومؤسسات الدولة ومواثيقها، في قمع هذه المؤسسات والفضاء العام لهذه الهويات وتهميشها بشكلٍ عامٍ وعملي.
الأغلبية و«المواطنة السورية»
ربما يكون مُفيداً العودة إلى الأصول التقليدية لبروز المواطنة في البُنية القانونية والسلوكية في مواثيق ومؤسسات الدول الحديثة، لفهمِ ما يُمكن أن تعنيه وأن تفعله هذه «المواطنة» في الحيز السوري في جزئياتها ومراميها غير الواضحة بشكل غير مُباشر، إذا تم تطبيقها دون الاهتمام بتفاصيل الحالة السورية وخصائصها.
باختصار، كانت المواطنية في منابتها الأولى الإغريقية تعني كُتلة الحقوق المتساوية لأبناء المُدن المُعترف بهم، الذكور الأحرار مالكي الأراضي وأبناء الطبقات العليا، بينما جرى استثناء النساء والأطفال والعبيد من حق المواطنة، مُقابل حظرها تماماً عن الذين هُم خارج هذه المُدن، الذين كان يتم ازدراؤهم ونعتهم بـ«البرابرة». لكن الإمبراطورية الرومانية عمقت من ذلك، وحولته إلى عُرفٍ وقانونٍ وحقٍ لكُل سُكان تلك الإمبراطورية الشاسعة.
صحيحٌ أن عصر الأديان المديد وجه ضربة قاسية لذلك الحق، وأعاد خلق مُجتمعاتٍ على أسسٍ امتيازيةٍ للمُنتمين إلى الأديان الغالبة ومذاهب الأكثرية، وأخلّت تماماً بالمساواة الافتراضية بالولادة بين الساكنين في الكيان نفسه. لكن إعادة الاعتبار للمواطنة، الذي بدأ مع الثورة الفرنسية الكُبرى وما تلاها، كان مُرتبطاً بشكل حثيثٍ مع النزعة القومية؛ أي أنها كانت بشكلٍ واسعٍ على حساب المُنتمين إلى الحساسيات العرقية واللغوية والجهوية والثقافية التي لا تنتمي للقوميات المركزية، وإن كان ذلك يمرُّ عبر كبت وتهميش وصهر ذوي هذه الحساسيات «الأقلياتية»، وليس عبر حرمانهم من الحق الممنوح للأغلبيات القومية هذه. بمعنى ما، مثلما كانت الكيانات الدينية تمنح ذوي الديانة الغالبة ومذهب الأكثرية امتيازات قانونية وسياسية وثقافية لهم وتحظرها عن غير المُنتمين لهذه المجالات، فإن الكيانات القومية «المواطنية» تفعل الأمر نفسه، عبر فرض ثقافة وهوية ولُغة الأغلبية المركزية القومية على باقي الثقافات والهويات، والسعي الحثيث لصهرهم ضمنها. أي أن «نزعة المواطنية» الحداثوية لم تكن حيادية في ولائها الذي يتبعُ لأغلبيةٍ سُكانيةٍ ما.
في تفكيك ومُتابعة ما جرى في فرنسا –أُم المواطنة- مُنذ عهد لويس الرابع عشر، وحتى الراهن، كثيرٌ مما يُمكن وعيه لأدوار هذه الإيديولوجيا. أذ بفرض لُغةٍ فرنسيةٍ بعينها تم القضاء على عشرات اللُغات الحية التي كانت في فرنسا قبل ذلك، ومع القضاء على تلك اللغات تم القضاء على ثقافاتها ومجالاتها وخصوصياتها. الأمر نفسه كان يتعلق بالتعليم العام وآلية عمل المؤسسات العامة، فمركزيتها الشديدة وواحديتها، محت غيرها من النزعات المُختلفة معها، وهي التي لم تكن بأي شكل مُجردة مثلما كانت توحي، بل دوماً مُحملة بكثيرٍ من الولاء لذوي هذه اللُغة والثقافة القومية المركزية، فهذه السيرة من المركزية وتحطيم الأطراف، دفعت بكثيرٍ من المفكرين الفرنسيين إلى تسمية الكيان والأمة الفرنسية الراهنة بـ«اختراع فرنسا»، الذي مر عبر معركة مديدة بين «باريس والصحارى الفرنسية». الأمر نفسه جرى في باقي الدول، وبالذات في الولايات المتحدة؛ حيث لم تكن «المواطنة» التي ظهرت في إعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1776، إلا على حِساب ملايين الأمريكيين الآخرين «الأصليين»، الذين تم محق ثقافتهم، وبالتالي محقهم.
لا يُمكن عزل سوريا «التقليدية» والراهنة والمُستقبلية عن ذلك السياق والمنطق، فإيديولوجيا المواطنة لا تطرحها بشكل مُجرد ومعزول عن مضامين قومية ومذهبية ولغوية ومركزية تخص الأغلبية الأهلية الإثنية/المذهبية العربية السُنية في البِلاد.
كان كاتب هذه المقالة قد كتب بحثاً في كِتابٍ مُشتركٍ نُشر مؤخراً بعنوان المواطنة والمكونات الاجتماعية في المنطقة العربية، وكان فيه ما معناه أنه منذ أوائل الستينات من القرن المنصرم، شكلت المسألة الكردية في العراق، وفيما بعد في سوريا، تحولاً نوعياً في النمط «التاريخي» التقليدي لمسألة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط. ذلك النمط الذي كان موروثاً عن سابق عهد السلطنة العثمانية، التي كانت بمعنىً ما سلطةً سياسية/رمزية للمسلمين السُنة الذين يشكلون العصب المركزي لتلك الدولة، في أغلب مراكز القرار ومفاصل السلطة الفعلية، وكانت ثقافتهم وهويتهم هي التي تطغى على المجال العام الفعلي والرمزي. مقابل ذلك كان مواطنو المجتمعات الداخلية كان ثمة أنماط من «الحياة الداخلية» الخاص لكثيرٍ من المجتمعات المحلية العثمانية، مثلاً أن تقوم إدارة دينية/مذهبية لطائفة ما بعينها بإدارة الشؤون الاقتصادية والقضائية والدينية والوقفية… إلخ، للمنتمين لهذه الطائفة، أو أن يكون التفاعل الاجتماعي بين المنتمين لهذه الجماعة شبه محصور فيما بينهم. شيء شبيه بالغيتوات اليهودية في أوروبا خلال القرون الوسطى، وإن بجغرافيات مفتوحة، ومفهوم «الحارة» في الثقافة الشامية التقليدية تعبيرٌ مباشرٌ عن ذلك. العثمانية من غير المسلمين السُنة، يحظون بحضورٍ فعليٍ ورمزيٍ في المركز ومؤسسات القرار والحُكم، أقل من نظرائهم من العثمانيين المسلمين السُنة؛ رغم هامش الحقوق والحُكم المحلي الذي كانوا يحظون به.
إلى حد كبير حافظت «مركزية» المسلمين السُنة على حضورها الرمزي والفعلي ذاك في مجمل دولنا، لكن اندلاع المسألة الكردية في العراق، كان له أن يُحدِثَ تحولاً في الوعي التقليدي لمسألة الأقليات في عموم الإقليم، فالأكراد ينتمون إلى «الأرومة» الدينية المسلمة السُنية، لكنهم كانوا أكثر المكونات الاجتماعية شعوراً بالغُبن والتهميش والصهر من قبل أجهزة الدولة والسلطة المجتمعية للأغلبية السكانية. وهو شيءٌ حوّلَ مسألة الأقليات من نمطها التقليدي «البسيط»، لتغدو مسألةً مركبةً تخصُّ جميع الجماعات المشكلة للعموم الوطني، وصارت مسألة تخص البنية الإيديولوجيّة للنظام الحاكم، وليست مُقتصرةً فحسب على الهوية الاجتماعية والدينية للأغلبية السكانية.
شكّلَ الكُرد في كلا البلدين أكثر ضحايا تلك العملية من القومنة البعثية وضوحاً وظهوراً، تلك القومنة التي مُرِّرَت برداء المدنية والعلمنة والمواطنية والحقوق المتساوية، والتي ادعت على الدوام تجاوز الخلل المكين الذي كان في نِظام الحُكم العُثماني التقليدي، المفرّق بين عموم المواطنين حسب أروماتهم الدينية والمذهبية.
جرى ذلك بحق الكُرد لحجمهم الديموغرافي الكبير، وتموضعهم الجغرافي المقلق لهذه النزعة البعثية، وأيضاً لنزعتهم القومية الحادة المضادة لهذه النزعة البعثية، حيث كانوا على الدوام متمايزين بذلك عن باقي الإثنيات القومية الأخرى في كلا الدولتين.
يمكن ذكر العشرات من الأمثلة عن «السياسات البعثية» المناهضة لحقوق المواطنين للكُرد في كلا البلدين، بِدءاً من تغيير الاسم الرسمي للبلاد إلى «الجمهورية العربية السورية» وصبغه بالسمة القومية العربية، إلى تغيير تعريف «الشعب» في البنية الدستورية، واعتباره جزءاً من ذوي الإثنية العربية فحسب، إلى تحديد هويات المؤسسات العامة التابعة للدولة «التلفزيون العربي السوري، الجيش العربي السوري.. إلخ»، وليس انتهاءاً بتعريب كامل المجال العام الثقافي والإعلامي والبيروقراطي والسياسي، وعدم السماح للثقافة واللغة والهوية الكردية بالاستفادة من مقدرات الدولة ومؤسساتها.
ضمن هذا السياق، فإن اصطلاح «المواطنة» بات متمركزاً في المخيلة العامة والعقل الجمعي للكُرد في كلا البلدين، بالقبول والمرور بتلك العملية من القومنة البعثية، أي بقبول الكرد للصهر والتماهي مع الأغلبية السكانية القومية العربية، فالمواطنة في المخيلة الكردية تعني «حتمية التعريب»، والقبول به. وهي بجزءٍ موضوعيٍ وشاملٍ منها كانت كذلك تماماً، فالمواطنية كانت رديفاً للقومنة العربية.
أحدثت هذه البعثنة خللاً بنيوياً في وعي هذه الجماعة الإثنية في كلِا البلدين لمفهوم المواطنة، بتعاريفها ومستوياتها القانونية والسياسية والرمزية المختلفة؛ بل بات أفراد هذه الجماعة يحملون في قرارة أنفسهم كثيراً من الرفض والتشكيك بها، وينزعون دوماً إلى المطالبة بكثيرٍ من الضمانات والامتيازات التي يجب أن تحميهم، خصوصاً فيما يتعلق بقومنة مضادة في مجالهم الجغرافي ضمن هذين البلدين، إلا أنه يجب أن يُضاف إلى ذلك نقطتان جوهريتان في سوريا الراهنة والمُستقبلية:
أولاً، لا يوجد ما يضمن حماية السوريين من غير العرب من تلك القومنة المثوّبة بالمواطنة مُستقبلاً، إلا إذا تمت مناقشة هذه المواطنية بشكل تفصيلي وموضوعي مُناسب، يحفظ الحقوق المشروعة للكُرد وباقي غير العرب، في عدم الذوبان والخضوع لأي هوية مركزية في البِلاد.
ثانياً، الشرطُ نفسه الذي كان طوال نصف قرنٍ يخص الكُرد في علاقتهم بالجماعة المركزية العربية السورية، قد يمس مُستقبلاً الأديان والمذاهب السورية غير المُسلمة وغير السُنية، حيث يجب أن يُضمن حقها كاملاً في حضورِ ذواتها في الحيز العام ومؤسسات الدولة ومواثيقها وبُناها، وأن تستشعر بأنها في مأمنٍ من الخضوع أو الذوبان في الأديان والمذاهب الأكثرية، تحت يافطة المواطنية. وأن يتم على الدوام الشك بالمرامي المُستبطنة في كل نزعة تمنع النقاش التفصيلي في هذا الشأن السوري، واعتبارِها نزعة تجاه الهيمنة تحت يافطة المواطنية.
الحل، المواطنة، والكيان المُركب
بعد كُل تلك المحاذير والشكوك، هل يعني ذلك أن المواطنة بجوهرها مرفوضة، وأن ثمة حلاً «أكثر عدالة»!؟
الجواب هو لا دون شك، فالمواطنة بجوهرها التعاقدي، وبما تعنيه من مساواة عموم أمة السُكان أمام القانون وفي مؤسسات ومواثيق الدولة، هي التتويج الأعلى و«الأنبل» للوحدة والمساواة في الوِلادة بين أبناء الجنس الآدمي. ولكن الخضوع لشَرطَيّ المواطنة نفسهما، أعني التعاقدية والمساواة، يُمكّننا من رسم ثلاثة خطوط عامة كبيرة، تخرجُ معها المواطنة من حيزها الإيديولوجي الإرغامي المُستبطِن للهيمنة على قطاعاتٍ من المُجتمع السوري، حيث التجريد هو أداتها في فعل ذلك، لتغدو المواطنة بعد هذه الشروط الثلاث، الأداة الأكثر تحقيقاً لفضاءٍ عامٍ سوري «عادل»، وغير قهري.
أولاً، الاعتبار والاعتراف بأن سوريا كيان سياسي وثقافي ولغوي واجتماعي مُركب، فيه مُجتمعات وجُغرافيات داخلية مُعتدة بنفسها وهويتها الداخلية المُشتركة، أكثر مما تعتد بالهوية العامة والمُشتركة مع عموم السوريين الآخرين. يجب الأعتراف بذلك واعتباره شيئاً طبيعياً وحقاً من حقوق أي جماعة سورية، وأن يتم السعي لخلق تعاقدات بينية مع هذه التكتلات، تحفظ لها شرط هويتها ونزعة أفرادها المُشتركة هذه، وألا تكون على حِساب مصالح وحقوق باقي السوريين الذين لا يُشاركونهم هذه الهوية، أي عدم نبذ هذه الهويات واعتبارها مُخلّةً بمبدأ المواطنة وواحدية الهوية والقانون العامة.
ثانياً، أن تعتبر «نزعة المواطنة» بأن المُشكلة المُلحة والموضوعية كامنةٌ في كبت وتهميش وإخفاء الهويات واللغات والثقافات السورية غير المركزية وغير الغالبة، وليس أبداً في ظهورها وقوننتها في المواثيق والمجال العام ومؤسسات الدولة. وفي السياق نفسه، الانتباه الدائم إلى أن «إيديولوجيا المواطنة» كانت موضوعياً وتاريخياً نزعة مستبطنة لهيمنة الثقافات المركزية تجاه الهوامش والجهويات من الثقافات والمجتمعات والجغرافيات، والانتباه الدائم لما يمكن أن يطابقها في المجال السوري.
ثالثاً، عدم المُطابقة بين «المواطنة» كتعاقد قانوني بين مؤسسات الدولة والسُكان، وبين أي هوية ثقافية أو نزعة سياسية أو عُرف اجتماعي أو جماعة أهلية. فالحق في المواطنة يجب أن يكون «مُطلقاً» وممنوحاً بالولادة، ولا يُمَسُّ ولا يُقلَّلُ منه، أياً كان موقع أو موقف الفرد من كُل «الهويات والنزعات والإيديولوجيات الوطنية»، بما في ذلك إدانته بما يُسمى ب«الخيانة العُظمى».
*****
في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام، قدمت وزيرة العدل الفرنسية كريستيان توبيرا استقالتها من الحكومة الفرنسية، اعتراضاً على مشروع القانون الذي قدمته الحكومة الفرنسية للبرلمان، والذي يُشرعن سحب الجنسية عن مُرتكبي «الأعمال الإرهابية»، حسب شروط معينة. يشعر كاتب هذه السطور بأن سلوك هذه المواطنة/الوزيرة الفرنسية، هو التتويج الأعلى لعلاقة فكرة المواطنية بالهوية الآدمية، لأنه يفصل تماماً بين أي سلوك إنساني وهوياتي، وبين الحق المُطلق في المواطنة، وبالتالي إبعاد المواطنة عن أي نزعة للمركزية الثقافية والهوياتية، الواضحة منها والمُستبطنة. لمقام تلك الوزيرة وأمثالها، ينحني كاتب هذه السطور.