مقدمة المترجم: هذا نص كتبه مجموعة من الأصدقاء الألمان، من جمعية «قافلة درسدن-البلقان»، وقد بدأ على شكل يوميات رحلة دامت ثلاثة أسابيع في اليونان على مقربة من الحدود المقدونية، نهلوا خلالها ما استطاعوا نهله من الحكايات الكثيرة التي في جعبة اللاجئين السوريين هناك. وقد وجدت هذا النص جديراً باطّلاع الجمهور العربي عليه. النص الأصلي نُشر على صفحة الجمعية في فيسبوك.

*****

كيف شهدَ أعضاء جمعية «قافلة درسدن-البلقان»، آثارَ السياسات الأوروبية على الحدود المقدونية اليونانية.

الأسبوع الأول

مع المطبخ الميداني وكثيرٍ من الشاي، وصلنا هدفنا في 21 شباط، وصلنا المكان الذي أصبح رمزاً لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين: إيدوميني. يقيم هنا ما يقارب الـ4000 لاجئ في خيم بيضاء كبيرة، في مخيمٍ على الحدود مع مقدونيا.

اللاجئون قادمون بشكلٍ أساسيٍ من العراق، سوريا وأفغانستان، كل يوم تأتي باصات جديدة.

في المخيم نقوم بتحضير الشاي مع اللاجئين، ونتبادل معهم القصص، عن أي الممثلين هو الأفضل بالنسبة لهم، أو عن المادة الأحب في أيام المدرسة. وأيضاً عن الأسباب التي جعلت بلدانهم غير آمنة، وما الذي يدفعهم لخوض الرحلة الشاقة والخطرة إلى أوروبا. القصص التي نسمعها مؤثرة وحزينة، ورغم ذلك يبدو أكثر الناس متفائلين ومليئين بالحماس، على أمل بدايةٍ جديدةٍ في أوروبا. كانوا يسألوننا فيما إذا كان سيُسمح لهم بالدارسة في ألمانيا؟ وعمّا إذا كان الألمان يحبون الأطفال أم لا؟

محمد، 12 عاماً، يلوح بملعقة الطبخ، ويطلب من الناس أن يصطفوا بانتظام. نحن لا نتكلم لغةً مشتركة، إلا أن حيويته وطاقته مفهومةٌ دون كلمات. محمد سيزورنا في الأسابيع المقبلة كل ليلة تقريباً، لمساعدتنا في توزيع الشاي.

في الوقت ذاته، بعيداً باتجاه الشمال، تقرر حكومات بلدان طريق البلقان إغلاق الحدود في وجه الناس القادمين من أفغانستان. تم تنفيذ القرار بشكلٍ متتالٍ باتجاه الجنوب، والآن تمنع مقدونيا دخول أي شخصٍ يحمل أوراقاً أفغانية.

لم نعرف بماذا نجيب الناس الذين يسألوننا عن أسباب هذا القرار؟ لماذا لا يستحقون الحماية نفسها والحقوق نفسها كما اللاجئين الآخرين؟

رأينا نتيجةً لذلك كيف أصبح المخيم أقل ازدحاماً، لقد تم إجبار كل الأفغان تقريباً على الصعود إلى الباصات، ومغادرة إيدوميني.

الأسبوع الثاني

يستمر المخيم بالتضخم، وعلى اللاجئين الذين يستحقون رسمياً الدعم والحماية الدولية أن ينتظروا على الحدود. كلُّ واحدٍ منهم يأملُ أن يكون من القلائل الذين يُسمح لهم كلَّ يومٍ بالعبور، يقفون كل يوم لساعات عند السياج الحدودي، وغالباً ما يتم تأجيلهم حتى اليوم التالي. لا يكدّرُ كلُّ ذلك مزاجَ محمد، يشاركنا نهاراً شطيرته التي اضطر للوقوف في طابورٍ طويلٍ للحصول عليها، وليلاً يغني عن رحلته أمام الجمهور الذي يشرب الشاي. يراقب محمد أيضاً بانتباهٍ المظاهرات التي تهتف «افتحوا الحدود» و«ألمانيا ساعدينا». في 29 شباط تم قمع المتظاهرين الذين حاولوا اختراق السياج باستخدام الغاز المسيل للدموع، في ذلك المساء لم يعد الناس يسألوننا عن أسعار الإيجارات في ألمانيا، وإنما فيما إذا كانت ألمانيا تود استقبالهم أم لا، وعن السبب الذي يجعل الحدود مغلقةً بهذا الشكل؟

 Idomeni- Imago/Zuma Press
Idomeni- Imago/Zuma Press

بينما يتحدث السياسيون في أوروبا في مكاتبهم المكيّفة عن حقوق الإنسان غير القابلة للتفاوض، يعيش حوالي 7000 لاجئ في المخيم، ويجبرون على الانتظار السلبي، وهذا من العواقب المباشرة لإغلاق الحدود. هناك نقصٌ في الخيام والبطانيات والمواد الغذائية، وفي الليل تنخفض درجة الحرارة ويصبح الطقس بارداً. الوضع الصحي حرج، وبعض المتطوعين من جميع أنحاء العالم يسعون للتخفيف من معاناة اللاجئين، ومكابدة الحالة الإنسانية الصعبة. هم وكثيرٌ من الناس الذين يرسلون التبرعات إلى اليونان، يحاولون إظهار الوجه الآخر، الوجه المتضامن لأوروبا، ولكنهم رغم كل ذلك عاجزون، لأن ما يحتاجه الناس هنا هو الحدود المفتوحة، وحرية التنقل والسفر التي نتمتع بها نحن عن طريق أوراقنا الأوروبية.

لم نعد نرى محمد، ويتملّكنا القلق حياله.

الأسبوع الثالث

يسقطُ المطر، وقمة الاتحاد الأوروبي المنعقدة في 7 آذار لم تقدم أي حلٍّ لسكان المخيم، الذين يقارب عددهم الـ14000. لا توجد أمكنةٌ كافية للنوم، وهطول الأمطار حوَّلَ المخيم إلى كتلةِ وحلٍ مليئة بالقذارات، يلعب فيها كثيرٌ من الأطفال.

قرر الاستراتيجيون في بروكسل إغلاق طريق البلقان، وتحريك اللاجئين كبيادق، في ومن اليونان. برنامج «إعادة التوزيع» الذي سيتم عن طريقه توزيع الناس على دول أوروبية مختلفة، يبدو من الناحية العملية غير قابلٍ للتنفيذ. يستطيع اللاجئون في أوقات محددة (ثلاث ساعات في الأسبوع) أن يأخذوا موعداً لتقديم طلب اللجوء. والأسوأ من ذلك، أن هذا البرنامج يتجاهلُ أسباب اللجوء وحقَّ الإنسان باللجوء، ويقيّم الناس وفقاً لفائدتهم. نحن هنا نسأل أنفسنا، هل اطلعنا فعلاً على معنى «إنسان» في اتفاقية الاتحاد الأوروبي.

في خضم هذه الفوضى، رأينا محمد مرةً أخرى. لقد كان مريضاً جداً في الأيام الأخيرة، مثل العديد من سكان المخيم الآخرين، زارنا في خيمة الشاي التي قمنا ببنائها مع مجموعة أخرى من المتطوعين تدعى (Solidari Tea). لم يعد يرغب بالتلويح بملعقة الخشب، ابتسامته المتوهجة لم نعد نراها إلا نادراً، وطاقته جرفتها الأمطار التي لا تتوقف عن الهطول.

 Idomeni- Milos Bicanski/Getty Images
Idomeni- Milos Bicanski/Getty Images

اليأس محسوسٌ في جميع أنحاء المخيم، في ليل الثالث عشر من آذار جاء بصيص أمل، تم توزيع منشورٍ يحوي ما يفترض أنه طريقٌ سالك لاجتياز الحدود عبر نهر، ويحوي أيضاً معلومات كاذبة عن ترحيلٍ قسريٍ للاجئين. نتيجة لذلك حزم الآلاف من الناس في اليوم التالي أمتعتهم القليلة وحاولوا عبور النهر، بما في ذلك العديد من الأسر التي لديها أطفال، وحتى معوقين على كرسيٍ متحرك. ذهبَ معهم متطوعون حاولوا إقناعهم عبثاً بالعدول عن هذه الخطوة غير المحسوبة، وعندما فشل ذلك، حاول المتطوعون فقط ألا تتكرر مأساة الناس الذين غرقوا في النهر الليلة الماضية أثناء محاولتهم عبوره. تمت مقاضاة المتطوعين لاحقاً، واتهامهم بتوزيع المنشور الذي اعتبر سبباً لكل ما حدث. اللاجئون ليسوا كائنات مسلوبة الإرادة تتبع بعماء أي دعوة، كثيرون منهم كانوا على علمٍ أن المعلومات خاطئة، وأن الطريق خطر، ولكن عندما لا يكون لدى المرء شيءٌ يخسره عدا خيمةٍ مغمورة بالوحل والمطر، تبقى هذه المغامرة الخاسرة أفضل من الانتظار بلا معنى. قد يكون ذلك على الأقل فرصةً لكسر الجمود القاتل المفروض عليهم.

كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ أن تكون كل أوروبا على علمٍ بالحالة المأساوية في إيدوميني دون أن تحرك ساكناً؟ لقد تعرفنا على العديد من ضحايا تكتيكات الردع هذه، إنهم محمد وأربعون ألف إنسانٍ آخر في اليونان، ينتظرون.