تُشكِّل مسألة إعادة دمج المقاتلين السابقين الذين شاركوا في الحرب في الحياة المدنية، إحدى أهم التحديات التي تواجه الدول بعد انتهاء الحرب الداخلية. ويكمن التحدي في قدرة هذه الدول على إعادة تأهيل المقاتلين السابقين ومساعدتهم على الانخراط في حياة اجتماعية مستقرة، وممارسة نشاط اقتصادي منتج، بما يضمن عدم عودتهم لحمل السلاح وجرِّ البلاد إلى العنف المسلح مجدداً، خاصة وأن قابلية الانجرار للعنف المسلح في الدول الخارجة حديثاً من الحرب، أكبر منها في الدول الأخرى التي تنعم بالسلام منذ زمن طويل.

وتعدُّ عملية إعادة الدمج جزءاً أساسياً وأصيلاً من عمليةٍ متكاملة، تُعرف على المستوى الدولي باسم عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، «Disarmament, Demobilization and Reintegration»، وتتم مناقشتها والاتفاق على بنودها في إطار معاهدة السلام التي يتم التوصل إليها عادةً بين الأطراف المتنازعة.

من هم المقاتلون السابقون؟

لا يوجد تعريفٌ دقيقٌ وجامع لمصطلح «المقاتل السابق» حتى الآن، فوفقاً للأمم المتحدة، المقاتل السابق هو كل  مقاتلٍ تم تسجيله في عملية نزع السلاح الرسمية. ويبدو هذا التعريف قاصراً، لأنه لا يحدد من هو المقاتل بشكل دقيق، فقد يكون هناك من كان بحوزته السلاح ولم يستخدمه، ولكنه قام بتسليمه رسمياً في عملية نزع السلاح، وبالتالي فهو يعدُّ مقاتلاً سابقاً وفقاً لهذا التعريف. في حين ذهبت الوكالة السويدية للتنمية والتعاون الدولي لتعريف المقاتل السابق بأنّه كل شخصٍ قام بدور مباشر في العمليات القتالية لصالح أحد أطراف النزاع، وتم تسجيله فيما بعد في عملية نزع السلاح الرسمية.

ويرى باحثون أن في هذا التعريف قصوراً، إذ أنه يستبعد المقاتلين الذين لم يتم تسجيلهم في عملية نزع السلاح الرسمية، فهناك من يترك السلاح بشكل فردي دون التسجيل رسمياً في عملية نزع السلاح، نتيجة الخوف على أمنه الشخصي، كالمقاتلين الذين ارتكبوا أعمالاً وحشية والمقاتلات النساء والمقاتلين الأطفال. هذه الملاحظات جعلت الوكالة السويدية ذاتها تجري تعديلاً جديداً، ليكون المقاتل السابق كل شخص قام بدور مباشر في العمليات القتالية لصالح أحد أطراف النزاع، وتم تسجيله رسمياً فيما بعد في عملية نزع السلاح، أو أنه ترك طوعاً المجموعة القتالية التي كان يخدم في صفوفها.

ويرى اختصاصيون أنّ إشكالية التعريف ليست مسألة شكليةً أو ثانوية، لأنه يحدد الفئة المستهدفة من برامج إعادة الدمج، وبالتالي فإن عدم دقته أو قصوره قد يؤدي إلى استبعاد مقاتلين سابقين فعليين من الاستفادة من هذه البرامج، و/أو إدراج مدنيين لم يشاركوا في الحرب ضمن قائمة المستفيدين منها.

عملية إعادة الدمج وأهميتها

مع بدء تطبيق اتفاقية السلام يبدأ المقاتلون السابقون بالعودة إلى منازلهم وأسرهم، حيث يجدون أنفسهم وقد أصبحوا بلا عملٍ أو مصدرٍ لكسب الرزق، فقد خسروا سلاحهم الذي كان يشكل مصدراً للقوة والسلطة، كما فقدوا رصيدهم المتمثل في شبكة العلاقات الاجتماعية التي بنوها إبان الحرب. وما لم تتم إعادة تأهيل هؤلاء المقاتلين ودمجهم في حياة مدنية طبيعية بأسرع وقت ممكن، فقد يودي بهم شعورهم المتصاعد بالتهميش والعوز، وخاصة فيما لو لمسوا عدم تقبّل المجتمع لاحتضانهم، إلى عودتهم لحمل السلاح مما يشكل تهديداً حقيقياً للسلم الأهلي والأمن المجتمعي.

وهنا تتركز الجهود لإعادة الدمج، والانتقال بالمقاتل للحياة المدنية ليحصل على عمل ودخل مستدامَين، وهي في جوهرها عملية اقتصادية-اجتماعية-سياسية تتم على مستوى المجتمعات المحلية، وقد تتضمن المشاركة في الشأن العام والمنظمات السياسية ووسائل الإعلام ووظائف القطاع العام ومنظمات المجتمع المدني وقطاع الأعمال، كما قد يتم بموجبها ضم المقاتلين السابقين إلى القوات المسلحة للدولة.

خصائص المقاتلين السابقين

لا ينحدر المقاتلون السابقون من خلفيات اجتماعية واحدة، ولا ينتمون إلى فئة اجتماعية واحدة متجانسة، بل هم مجموعات متمايزة ولكل منها خصائصها واحتياجاتها، ولذلك يؤكد اختصاصيون على ضرورة التمييز بين هذه المجموعات المختلفة، وتصميم برامج إعادة الدمج لكل منها بما يتوافق مع خصائصها ويلبي احتياجاتها. فهناك مجموعات المقاتلات النساء والمقاتلين الأطفال، وهي فئات هشة غالباً ما يتم إهمالها بعد الحرب نظراً لكونها تتحاشى التسجيل في عملية نزع السلاح بدافع الخوف على أمنها، مما يمنع انتفاعها من برامج إعادة الدمج. وفي هذا الشأن تشير إحصائيات اليونسكو إلى أن عدد الأطفال الذين انضموا إلى المجموعات القتالية في كولومبيا يقدر بـ (11-14) ألف طفل، تم تسجيل 15% منهم فقط في برامج التسريح وإعادة الدمج. أما المرأة، سواء تلك التي حملت السلاح فمنحها الإحساس بالقوة، أو تلك التي أصبحت معيلةً لأسرتها فأصبح لها دورٌ في صنع القرار في الأسرة، فتعود صعوبة إعادة دمجها إلى مقاومتها الناجمة عن خوفها من خسارة دورها الجديد.

وبالنسبة للعسكريين، فإن الفروقات في الرتب العسكرية تستتبع التمايز في آليات الاستهداف. كما أن هناك مقاتلين حملوا السلاح تحت الإكراه أو بسبب العوز والحاجة المادية، هذا بالإضافة إلى المقاتلين الجرحى والمصابين بالإعاقات الجسدية المختلفة. ومن جهةٍ أخرى، فإن الاختلاف الناجم عن البيئة المُستقبِلة للمقاتلين (حضرية/ ريفية) يلعب دوراً واضحاً في تحديد آليات الاستهداف المناسبة.

كل هذه الاختلافات وغيرها، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لدى تصميم برامج إعادة الدمج.

استراتيجيات التدخل

حتى الآن، هناك استراتيجيتان معتمدتان على المستوى الدولي لإعادة دمج المقاتلين السابقين. الاستراتيجية الأولى أو استراتيجية إعادة الدمج على المدى القصير، وتكون بتوجيه الدعم المباشر للمقاتلين السابقين وأُسَرِهم فقط، وهذا ما قد يخلق الشعور بالاستياء لدى السكان المحليين في المجتمع الحاضن، ما يجعل الاستيعاب الاجتماعي لهؤلاء المقاتلين أكثر صعوبة. والاستراتيجية الثانية أو استراتيجية إعادة الدمج على المدى البعيد، وتتلخص بضرورة استهداف المجتمعات المستقبِلة (الحاضنة) لهؤلاء المقاتلين وفق مقاربة تنموية-مجتمعية شاملة، وذلك عبر تطبيق برامج أوسع، تشمل، بالإضافة إلى المقاتلين السابقين وأُسَرِهم، الفئات المتضررة من الحرب من المدنيين، كالجرحى وذوي الاحتياجات الخاصة والأسرى المحرَّرين واللاجئين والنازحين العائدين إلى مناطقهم والفئات المهمشة كالنساء والأطفال.

وأياً تكن طريقة الاستهداف، ينصح مختصون بعدم نسخ تجارب إعادة الدمج التي تم تطبيقها مسبقاً في الدول الأخرى من العالم التي شهدت حروباً داخلية، ويؤكدون على ضرورة تصميم برامج الدمج التي تراعي الاختلافات المجتمعية ليس على مستوى الدول فحسب، بل على مستوى الفروقات بين المجتمعات المحلية في الدولة الواحدة، وبالتالي سيترتب على المعنيين تفصيل برامج مخصصة للبيئة المحلية tailor-made design تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات البَينية للمجتمعات المحلية، وتراعي في الوقت نفسه الفروقات بين مجموعات المقاتلين السابقين المختلفة. كما يشيرون إلى أهمية أخذ قضايا المرأة بعين الاعتبار، والتركيز على إعادة دمج المرأة التي حملت السلاح في الحياة المدنية، وإلا فإن ذلك يعكس محاولة ضمنية أو صريحة لاستعادة الأدوار الجندرية التي كانت سائدة قبل الحرب وتعزيز دور المرأة النمطي السابق.

برامج إعادة الدمج

ووفقاً للاستراتيجيتين المذكورتين أعلاه، يتم تطبيق برامج إعادة الدمج. وهي تتضمن بشكل عام برامج الصحة الجسدية والنفسية والإرشاد النفسي، وبرامج لتهيئة المجتمع المحلي لاحتضان المقاتلين السابقين، وبرامج بناء وتنمية القدرات (التواصل والتمكين والتعليم والتدريب على المهارات المولدة للدخل وإدارة المشاريع والدعم الفني) وبرامج التشغيل وبرامج الدعم المالي والقروض بالإضافة لتقديم الدعم المادي والنقدي المباشر.

ويتم اختيار البرامج والنشاطات المدرجة فيها تبعاً لاحتياجات الفئة المستهدفة وخصائص المجتمع المحلي، فمثلاً قد تكون برامج الدعم النفسي و/أو الرعاية الصحية أكثر جدوى من تقديم الدعم النقدي المباشر لفئة المحاربين السابقين من الجرحى وذوي الإعاقات وأولئك الذين تعرضوا لصدمات نفسية شديدة. في حين أن المقاتلين السابقين من الأطفال قد يحتاجون بالدرجة الأولى لبرامج التعليم والتوعية والإرشاد النفسي والمجتمعي. بينما يمكن استهداف المحاربين السابقين الذين يتميزون بمستوى تعليم منخفض ومهارات ضعيفة ببرامج تنمية المهارات المولدة للدخل، وبرامج التشغيل في مشاريع إعادة الإعمار كبناء وترميم البنى التحتية مثلاً.

في السلفادور مثلاً، تم تصميم مجموعة من البرامج المعززة للسلم peace-related programs، منها برنامج إعادة الدمج من خلال تنمية المشروعات المتناهية الصغر، وبرنامج إعادة توطين النازحين وبرنامج السلاح مقابل الأرض arms-for-land program وهو أهمها، وتقوم الدولة بموجبه بمنح قروض لحاملي السلاح السابقين من الطرفين ومؤيديهم المدنيين الذين كانوا فاعلين في الحرب، لتمكينهم من شراء الأراضي الزراعية وتوفير الدعم الفني لهم لمساعدتهم على العودة للحياة المدنية والنشاط الإنتاجي بهدف ضمان عدم العودة للعنف.

المعنيون بعملية إعادة الدمج

عملية إعادة الدمج مسؤولية وطنية، والملكية الوطنية للمشروع لا تعني إطلاقاً الملكية الحكومية له، بل لا بد من مشاركة فاعلة لمؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وأيضاً اللجان المشكلة على مستوى المجتمعات المحلية.

إن عملية إعادة دمج المقاتلين السابقين في الحياة المدنية مسألة هامة يتوجب بحثها خلال مفاوضات السلام، وفشل هذه العملية يؤدي إلى العودة للعنف المسلح وتقويض السلم الأهلي الهش والضعيف نسبياً، خاصةً في ظل استعداد هذه المجتمعات للعودة للعنف. وفقاً لإحدى الدراسات التي قامت بتحليل 66 حالة لدول نامية تعرضت لحروب داخلية، فإن الدول النامية الخارجة من الحرب معرضة لمخاطر الانزلاق إلى العنف مجدداً خلال العقد الأول من السلام بنسبة 40%، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 9% بالنسبة للدول النامية التي تنعم بالسلام منذ فترة طويلة نسبياً.