نُشر النص الأصلي على موقع Kronikk النرويجي في 25 نيسان الماضي.
***
بعد ثلاثين وربما أربعين سنة من الهجرة إلى النرويج، ورغم المناداة بمجتمعٍ متعدد الثقافات، وبعد نقاشات مطولة حول سياسة الاندماج، وبعد آلاف المقالات حول التسامح وروح «فريدتيوف نانسن» الإنسانية، تصل النرويج إلى وضعٍ صار فيه الجيل الثالث من (المسلمين) المهاجرين يدعون إلى حجاب البنات في عمر الطفولة، أو ينتمون إلى مجموعة «نبي الأمة» التي تؤمن بممارسة الشريعة حرفياً كما في السعودية وكما تمارسها داعش. أو «شبكة الإسلام»، وهي منظمة إسلامية للجيل الثالث من المهاجرين، وهم أصوليون مسلمون يرفضون قيم المجتمع المتحضر. ومنهم من هذا الجيل من أصبح من محاربي داعش، إضافةً إلى تطوّرٍ يشير إلى زيادة مخيفة في التحول نحو التطرف بين الشباب المسلمين في النرويج.
والأن تتطلع النرويج إلى الوضع في السويد، وهي تتوجس انتقال الحالة إليها، ويبدو عليها القلق من أن يكون مستقبلها مطابقاً لجارتها السويد. لماذا وصلنا إلى هذه الضحالة؟ لا بد أن خطأً ما قد حصل.
لم تدرك السلطات ولا وسائل الإعلام ولا النقاشات بشكلٍ مبكرٍ الإشارات والعلامات المحذرة. إذا لم نستطيع وضع تشخيص صحيح لظاهرة توجه الجيل الثالث من المهاجرين (المسلمين) إلى التطرف، وهو الجيل الذي ولدَ وترعرعَ في النرويج، فإن الوضع سيتحول بالتدريج إلى دراما.
تُرعبُ التقاريرُ الواردة من السويد النرويجيين. المشكلة راهنةٌ، ومع ذلك لا ينبغي أن يجري التركيز على المسلمين وعلى الجيل الجديد فقط، إذا ما أراد المرء معرفة الروابط والصلات.
لا يُلام المسلمون فقط في هذا الأمر، وإنما النروجيون هم أيضاً الذين يقع اللوم عليهم، لأن آباء وأمهات أفراد هذ الجيل الجديد هم أيضاً تربّوا على يد نرويجيين: في المدرسة، وعبر سياسة الهجرة، وعبر النقاشات في وسائل الإعلام، وليس فقط على يد العائلة.
النرويج تنقصها الخبرة في سياسة الاندماج
نادى النرويجيون خلال ثلاثين سنة بالاندماج، ولكن سياسة الاندماج صارت مثل ثوب القيصر الجديد (القيصرُ العاري الذي يسأل الرعايا إن كان ثوبه الجديد جميلاً. ولا يجرؤ أحدٌ أن يخبر القيصر أنه عارٍ) ببساطة لأن النرويج لا تتمتع بالخبرة في دمج المهاجرين. على العكس تماماً، للنرويج خبرة في تذويب الأقليات، وهو ما تعرفه جيداً أقلية «الساما». أمّا التكيف والاندماج فهي بالنسبة للنرويج سياسة أن يحتفظ المرء بثقافته الخاصة، ويمضي في الوقت ذاته عبر مصفاة القوانين والقيم النرويجية، إضافةً إلى غياب نظام يمكن من خلاله قياس مدى نجاح سياسة الاندماج. ولقد بقيت كلمة «اندماج» كلمةً عائمةً غائمة، ولم يفهم أحدٌ ماذا تعني في الواقع، ولذلك لا يمكن أن يتحمل المسلمون ذنب فشل سياسة نرويجية.
اكتسبت سياسة الاندماج مفهوماً يقتضي أن المرء لا يحتاج إلى تغيير أوضاعه، ولا أن يتخلى عن بعضٍ من «بقجته» الثقافية التي لا تتوافق مع النرويج الحديثة. ليس هذا فقط، وإنما نُصحنا أن نحتفظ بكل أوضاعنا، وأننا يمكن أن نندمج عبر شيئين: تعلم اللغة، والحصول على عمل.
لو أن فرنسيين أو إنجليز أو دنماركيين أرادوا أن يقيموا في النرويج، لكان العمل واللغة كافيين بالنسبة لهم لأن يندمجوا. أما بالنسبة لنا نحن القادمون من ثقافة إسلامية، فنحتاج إلى تحديث ثقافتنا إضافة إلى اللغة والعمل، وإلا فإننا سنعيش هنا كأقلية غير عصرية، أو بمعنىً آخر كجسمٍ غريبٍ في مجتمع نرويجي حديث. والحال أن شيئاً من هذا لم يُراعَ، لذلك ليس من الغريب، وبعد سنين وسنين، أن نعود إلى الحديث عن القصور في سياسة الاندماج، وإلى الحديث عن صراع الحضارات.
الفهم الخاطئ لمفهوم «مجتمع متعدد الثقافات» أدّى إلى أن يُفهم وكأنه مطابقٌ لـ«مجتمع متعدد الأديان»
كان يمكن لمفهوم «تعدد الثقافات» في المجتمع أن يغني المجتمع، ولكنه فُهِمَ على أساس أنه هو ذاته تعدد الأديان، وهذا ما جعل السلطات تُموّل المنظمات الإسلامية، وتفاوض الناطقين باسم المجموعات الإسلامية. فكانت النتيجة «اندماجاً» جمعياً، وليس اندماجاً فردياً. النتيجة كانت اندماج منظمات وليس أشخاصاً مواطنين.
وفجأة رحنا نسمع عن إمام جامع من الجوامع المركزية المرتبطة بالمجلس الإسلامي، وهو يدعم قاتلاً نفذ اغتيالاً لوزير باكستاني. والحال كما نرى، فإنه ليس كافياً أن يبرر ناطقٌ باسم منظمات المهاجرين ويتحدث بحذرٍ ضمن إطار القانون النرويجي، وإنما يتوجب على الأعضاء والممثلين المعنيين أن يسلكوا ضمن إطار القانون وحقوق الإنسان. ولهذا فإن «المجتمع متعدد الثقافات» لم يتحقق على أرض الواقع، وإنما أُعلنَ موته من قبل قادة سياسيين أوروبيين مثل الألمانية أنجيلا ميركل، والبلجيكي يفس لاتيرمه، والديمقراطي الهولندي المسيحي مكسيم فرهاغن، والفرنسي نيكولا ساكوزي، والاشتراكي الديمقراطي الفرنسي فرانسوا هولاند، والانجليزي دافيد كاميرون.
لا أحدَ في النرويج يتحدث الآن عن دولة النرويج متعددة الثقافات، فقد أقام النرويجيون مجتمعاً متعدد الثقافات، يحولنا نحن المسلمين إلى أرانب تجارب، ويحوّل مستقبل البلد إلى تجربة مخبرية. ومع ذلك يبدو الأمر اليوم كما لو أن الذنب في فشل هذه السياسة، هو ذنب المسلمين بالذات.
للجيل الجديد من المسلمين قدوات دينية فقط
عبر ثلاثين سنة، خلقت وسائل الإعلام صورةً عنا ليس فيها أمل. في البداية استقبَلنا النرويجيون بعطف، فإيديولوجيا الضحية كانت تحتاج إلى مواضيع من نوع «الـمَسْكَنة». قُدّمنا كضحايا ضعفاء، كأناسٍ ليس لديهم المقدرة على أن يتغيروا وفقاً لعملية التكيّف. كنّا موضوعاً للعطف.
كيف يمكن أن يُطلب الالتزامُ بسياسة الاندماج من كائن مسكين ضعيف؟
ثم ظهر خبراء وأنثروبولوجيون مسلحون بأحكامهم الأكاديمية المسبقة عبر عقلية تفكير «النسبية الثقافية»، والتي مُورست كإيديولوجيا. هذه النسبية رسمت لنا صورة نُرى فيها ككائنات دينية، ما يعني أننا مختلفون عن النرويجيين. فالنرويجيون وفقها أفرادٌ مستقلون، أما نحن فمخلوقات مرتبطة ببعضها بعضاً عن طريق الدين.
عبر إيديولوجيا «النسبية الثقافية» المسيطرة هذه، جرى النظر إلينا وجرى تقييمنا نحن المسلمون. نُظرَ إلينا كمنتجاتٍ لثقافتنا، ولذلك أجرت وسائل الإعلام نقاشات يقودها إما مسلم محافظ، أو إمام، أو ناطق باسم منظمات إسلامية، أو امرأة بحجاب. وبهذا خلقت وسائل الإعلام النرويجية قدواتٍ دينية للجيل الجديد، الذي أخذ متأثراً طريق الدين. وإلا كيف يمكن تفسير تنامي عملية التطرف؟
تجاهلُ «النصف» العلماني
في وقتٍ ركزت وسائل الإعلام على المتدينين، جرى تجاهل العلمانيين. إنهم غائبون، علماً أنهم يشكلون نصف الأقلية المسلمة. وفقاً للإحصاء، يمثل المجلس الإسلامي 60000 مسلماً مرتبطين فعلياً مع المسجد أو بالطوائف الإسلامية، بينما تعداد الأقلية المسلمة 106000 مسلماً. هذا يعني أنه يوجد 46000 مسلماً علمانياً لم يرتبطوا أبداً مع المسجد أو الطائفة. أين هؤلاء؟
أصوات مثل شاكيل رحمان، محمود فرحمند، وكمال يوكل، قُدّمت على أنها نخبةٌ معزولة فقط، على الرغم من أنها أصواتٌ تمثل نصف الأقلية المسلمة. لقد خُنقَ الأملُ لسنوات، والحقيقة أن هذا الجزء (الذي يمثل نصف الأقلية المسلمة) هو الذي يمكن أن يوازن صورة المسلمين. ولكن أين هم؟
لماذا لم يُستخدم هؤلاء لإخبار النرويجيين أن نصف الأقلية المسلمة علمانيون مثل النرويجيين؟
من هو المستفيد في أن يتم إخفاء وجود نصف عددنا نحن المسلمين؟
لقد خلقت هذه الصورة ردود فعلٍ غاضبة لدى أكثرية الناس، والنرويجيون ينظرون إلينا نظرتهم إلى روبوتات دينية، رُكّبتْ بحيث تعيد توليدَ الصراعات الدينية في النرويج، وتمارس الدين مثلما مورس منذ مئات السنين، وأننا أنتجنا ثقافةً مستنسخة، وأننا نقلنا ثقافتنا أتوماتيكياً ودون تبصّرٍ إلى النرويج.
تاريخ أوروبا يعطينا درساً
أكثرية الناس منفتحة، وضد التمييز والعنصرية، لكن كيف يمكنهم تحمّل أقليةٍ مسلمة متزايدة العدد، تطلب احتراماً ومكانةً في المجتمع من خلال تركيبة دينية موروثة من القرون الوسطى؟ هذه التركيبة شهدتها أوروبا أيضاً في قرونها الوسطى، ولكنها قد وضعت لها نهاية بالإصلاح، والتنوير، والنهضة، والعملية الديمقراطية.
ولذلك نلاحظ أن كثيرين من النرويجيين أصبحوا متشككين تجاه الأقلية المسلمة، الأمر لا يتعلق فقط بالنخبة اليمينية المتطرفة، وإنما أيضاً أكثرية الناس صارت متشككةً فيما يخص الإسلام والمستقبل.
وبينما تخشى النرويج تطور التطرف بين الشباب المسلمين، أعتقدُ أنه يفترض بنا في الوقت ذاته أن نراقب الأغلبية النرويجية الصامتة. يعبر المزاج الشعبي النرويجي عن نفسه بالصبر والصمت، لكنه وبغتةً قد ينقلب إلى عدم قبول أي صلحٍ ومساومة، ويصبح شعباً جبّاراً.
التاريخ الأوربي يعلمنا درساً: عندما تعيش القارة في أزمة اقتصادية تتزامن مع إشكالية تتعلق بالأقلّيات، وعندما لا تستطيع الديمقراطية التصدي للتحديات السياسية المصيرية، فإن الفاشية تربح في الانتخابات الديمقراطية والأمور تنتهي إلى المحرقة والهولوكوست، أو إلى المذابح ضد الأقليات، أو إلى أشكال جديدة من الكراهية ضد الأقليات.
ها نحن نشاهد تصاعد الأحزاب اليمينية التي تفوز بالانتخابات وهي أحزابٌ تعادي الأجانب. فهل سنستوعب من ذلك علامات المستقبل؟