لم ألتقِ بـ«جركس حمرة» جركس حمرة اسمٌ مُستعار لأن أبناءه رفضوا ذكر اسمه الحقيقي، بينما كُل تفاصيل الأحداث والوقائع حقيقية، كما سمعها الكاتب من عددٍ من الرواة. إلا مراتٍ قليلة أيام الطفولة، كُنتُ في الصف الأول حين اغتيلَ بثلاث رصاصات في بهو منزله، ثم أطلق قتلته عشرات أمشاط الرصاص احتفالاً باغتياله، فعلوا ذلك فوق جثته الغارقة بدمها، ودون أي رهبةٍ من ذويه. ظلوا متسمرين في مكانهم، إلى أن خرج عليهم أحد ملالي الحارة وهو يحمل عمته بيده، وما أن وصل قُربهم حتى رماها على جثة «جركس حمرة»، وأغمض عينيه وبدأ بقراءة الفاتحة؛ وقتها فقط توقف القتلة عن إطلاق رصاص البهجة، وبدأوا يغادرون وسط بحرٍ من نظرات الجيران المذهولين.
بعد ساعاتٍ قليلة، حمل ثلاثة فقط من رِجال الحارة جُثة «جركس حمرة» إلى الجامع، حيث غسلوه وكفنوه هُناك، وكانوا وحدهم من خرجوا في جنازته المتواضعة.
***
بقي ذلك الشخص، الذي اختفت سيرته تماماً بعد ذلك اليوم، يخطر لي بين حينٍ وآخر بشكل شبه سنوي، بالذات حينما أمر بالقُرب من تلك الغُرفة الصغيرة جامع حارتنا، حيث يغسلون الموتى عادة، أو حين أزور قبري جدي وجدتي، فأخمن بأن ذلك القبر الوحيد الذي لا شاهدة له هو قبرُ «جركس حمرة» وليس غيره، لأن تلك الحادثة جرت قبل وفاة جدي لجهة أبي بقُرابة شهرٍ واحد. وتعاقُبُ هذين الحدثين، كان سبباً في انقطاع سيرة ذلك الشخص «الغريب» عني كطفل.
طوال سنوات اليفاعة بقيتُ أسمعُ نثريات من هُنا وهُناك عن ذلك الشخص، كانت تبدو غريبة بالنسبة لي، ليس فقط لحجم الأسطرة فيها، بل لأنها كانت مقتصرةً على وصفه كشخصٍ مُحارب و«شرير» غير مأمون الجانب، وهو كان يُخالف تماماً الصورة التي ثبتت في ذاكرتي عنه، في المرات القليلة التي رأيته بها. فقد كان شخصاً فارع الطول، تميلُ بشرته للشقرة المُنمشة، بعينين حادتين وأنفٍ بالغ الكبر وشامةٍ في أسفل الذقن، والغريب أنه كان بابتسامة لا تفارق مُحياه قط، وبكثيرٍ من حبات التمر في جيبه على الدوام، يُعطيها لأطفال الحارة، وأغلبهم لم يكن يتقبلها منه قط، فقد كان الأهل يُحذرونهم عن ذلك تماماً.
***
بعد سنواتٍ كثيرة، في الطريق بين مدينتي أربيل ودهوك في كُردستان العراق، التقيتُ شخصاً سبعينياً شبيهاً بجركس حمرة في ملامحه العامة، لكن لم يخطر لي أن يكون هناك أي علاقةٍ بينهما. بعد حديث تقليدي بين كُردٍ سوريين يلتقون في المنافي، حيث السؤال عن العائلات والمنابت والقُرى والحارات، اكتشفت بأن جليسي هو أصغر أبناء جركس حمرة. بعد عدة لقاءات في أربيل، وحديثنا الدائم عن أشخاص حارتنا القديمة، استطعتُ أن أكون صورةً عامةً عن سيرة جركس حمرة الغامضة، وفيما يلي تفاصيلها التي أُرجح صحتها، ليس فقط لأن ثمة تطابقٌ بين النثريات التي كُنت قد سمعتها وما رواه الابن لي فيما بعد، بل لأن هذه الأشكال الشقيّة والمُركبة من العُنف والهيمنة في سبيل تحقيق الذات، كانت جوهر حيوات كثيرين من أبناء تلك المنطقة الجُغرافية والديموغرافية القاسية للغاية، الفاصلة بين جبال جنوب شرق تُركيا وسهول شمال سوريا حسب التسمية الرسمية، أو بين شطري كُردستان الشمالية والغربية حسب مُصطلح القوميين الكُرد، أو بين «سرخت» و«بنخت» كما يُسميها السُكان المحليون، نسبةً لقطار الشرق السريع الذي يفصم بينهما.
تُشكّل سيرة جركس حمرة سردية تقليدية لكثيرٍ من أنماط الشخصيات العامة التي نمت في منطقتنا، القبضاي الفتوة الأزعر، أو الشبيح في أحدث أنماطه. لكن كثيراً من الزعمات المحلية والمناطقية والاجتماعية في منطقتنا، إنما كانوا بالأساس نماذج بائسة عن ذلك، ساعدتهم تحولات الظروف والمناخات لأن يعززوا من مكانتهم المالية والاجتماعية والسياسية عبر استخدام تعنيف المُجتمعات المحلية، والولاء للقوى السياسية المُهيمنة. وتتكرر سيرة جركس حمرة في منطقتنا مُنذ قُرابة قرنٍ وحتى الراهن.
***
تقول مروية أولاد جركس حمرة إنه كان يحتفظ بأدوات خياطة ونِجارة ألمانية بقيت عزيزة على قلبه طوال حياته، حازها كهدايا من جنودٍ ألمان في أولى سنوات يفاعته، وبقي يحتفظُ بها طول العُمر، لطبيعتها ومكانتها الخاصة في نفسه. تجتمع مرويات أولاد جركس حول «حربه الألمانية» مع عددٍ آخر من المرويات التي تُطابقها، فأنا أتذكر جيداً كيف كان العم أبي المُعمر «الحاج محمود معمو» يروي عن أيام صِباه، حين هاجم جنودٌ ألمانٌ مع خيالة كُردٍ قريتهم «موزان»، وبعد أن أخلوها من سُكانها قصفوها بالمدفعية، تلكَ كانت تُسمى الحرب الألمانية بالنسبة لسُكان تلك المنطقة.
يذكرون بأن حرب أبيهم مع الجنود الألمان كانت أولى «حروب» حياته، وأنه لم يكن مُحارباً بما تعنيه تلك الكلمة بدقة، بل كان عمله أقرب إلى دليلٍ عسكريٍ للجنود الألمان. فهؤلاء الجنود ظلّوا يحرسون الفرق الهندسية الألمانية، التي كان لها كثيرٌ من المراكز في تلك المنطقة، للإشراف على أعمال تأسيس سكة حديد «برلين-بغداد» حتى عام1911سكة قطار «برلين-بغداد» كانت نتيجةً للاتفاقات السياسية الاستراتيجية بين ألمانيا والدولة العُثمانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهي سكة مركزية تمتد من برلين وحتى مدينة البصرة، وفيها مئات السكك الفرعية. تم إنشاؤها خلال عشرات السنوات، وتوقف بناؤها مراتٍ كثيرة، نتيجة الاعتراضات البريطانية والروسية والفرنسية على تلك العلاقة الاقتصادية المتينة بين ألمانيا والدولة العثمانية. الشطرُ الذي يمرُ راهناً في أقصى جنوب تُركيا، والذي اعتُبِرَ أساساً الخط الفاصل بين سوريا وتُركيا، كانت الورش الهندسية والفنية الألمانية تعمل به في سنوات متأخرة بعد إنجاز أجزائه الأوربية والأناضولية، تقريباً منذ العام 1910 وما تلاه، وكانت الفرق العسكرية الألمانية تحرس الموظفين الألمان والمراكز الهندسية هُناك.. وكانت تلك المراكز الهندسية الموجودة في البراري عُرضةً لهجمات «الأشقياء» الكُرد والعرب على الدوام؛ وكان الجنود الألمان يسعون لمُعاقبة القُرى القريبة، التي يظنون أن هؤلاء الأشقياء إما ينحدرون منها أو يختبؤون فيها، أو يشاركون أهلها المغانم.
حسب المرويات فإن جركس شاركَ الجنود الألمان حربهم تلك، وبتوكيلٍ ودفعٍ من قائم مقام مدينة نُصيبين، الحاضرة السهلية الوحيدة في تلك البرية، حيث كان جركس حمرة يعمل سائساً لأحصنة القائم مقام. ومن الأمور الكثيرة التي رشحت جركس حمرة للعب ذلك الدور، كانت شجاعته ومعرفته بتفاصيل الجبال والسهول والقُرى المُحيطة، فضلاً عن أنه كان، أيضاً، شخصاً دون عائلة وعشيرة، حيث أن العائلات والعشائر كانت ترفض مشاركة الجنود الألمان في جولاتهم العِقابية لأهالي تلك القُرى، لأن أي مُشاركةٍ من أي عائلة أو عشيرة، كانت ستعني اندلاع حرب أهلية محلية بين مُختلف الجماعات هُناك، وهو أمرٌ كانت السُلطات العُثمانية ترفضه وتسعى لطمره قبل الأهالي.
يُقال إن جركس حمرة، بالرُغم من سنوات عمره التي لم تكن قد تجاوزت العشرين بعد، قد تحول إلى شخصٍ مرهوب الجانب، خصوصاً وأنه بات له عددٌ من الأتباع المُخلصين، المزودين بالبواريد الألمانية النوعية، ويمتلك مبالغ وفيرة من الأموال، حيث هذه الأخيرة لم تتأتى فقط من العطايا والرواتب التي حصل عليها من الألمان، بل أيضاً، كما تقول مرويات أخرى، من أنه بات شريكاً لكثيرٍ من الأشقياء أنفسهم، حيث كان يُخبرهم بأمكان المراكز الهندسية التي تفتقد إلى حراسات جيدة في بعض الأوقات، ومن ثم يتقاسم معهم المغانم. ومن جهة أخرى، فأنه بات يتعهد للفرق الألمانية بالعُمال والحُراس المحليين، وفوق كُل ذلك يُقاسم قائم مقام مدينة نُصيبين بعض الأعمال التجارية الخاصة بالجنود الألمان.
ما حمى جركس حمرة في تلك السنوات من انتقام العشائر الكُردية القوية أمران مُركبان: من جِهةٍ كان أتباعه شديدي الولاء له، وأي فعلٍ من ذلك القبيل كان سيعني بأن تلك العشيرة ستتلقى عِقاباً شديداً. الأمر الآخر كان يتعلق بالأدوار الوسائطية التي بات يلعبها بين زُعماء هذه القبائل، والمسؤولين العسكريين الألمان والعُثمانيين في تلك المرحلة. فوق ذلك، فإن جركس حمرة كان معروفاً للجميع بأنه يحترم الخطوط الحُمر الاجتماعية، فهو في مُرافقته للجنود الألمان كان يمنع أي اعتداٍء على النساء أو الأملاك، أو أي شكلٍ من العِقاب الجماعي للقُرى الكُردية.
***
كانت السنوات التي تلت انسحاب الجنود الألمان وفرقهم العسكرية بعد انتهاء تأسيس سكة الحديد، مثالية ليُتابع جركس حمرة طريقه التي بدأها من قِبل. فالحرب الكُبرى التي دخلتها الدولة العُثمانية في مواجهة الدول العُظمى، كانت في بُعدٍ مُنها تعني اندلاع العديد من الحروب الداخلية الأهلية، خصوصاً تلك الجماعات الأهلية التي لم توالِ سياسات السلطنة، كالأرمن والسُريان والآشوريين والأكراد والعرب المُتمردين، والمُتحالفين مع دول الحُلفاء. فهؤلاء رُفعَ غِطاء حماية الدولة عنهم، وباتوا أقل قُدرةً على حماية أنفسهم، لأن الدولة عمدت إلى تسليح كثيرٍ من الجماعات الأهلية المحلية.
يُقال إن جركس حمرة اختفى لقُرابة ست سنوات، وأنه شارك الفرق العسكرية الحميدية، التي أسّسها الجيش العُثماني من العشائر والزُعماء المحليين، في حملاتها التأديبية والترحيلية بحق الأرمن والسريان. وأن رحلته تلك امتدت في مناطق كثيرة، من مناطق أضنة وعنتاب غرباً، وحتى «بُحيرة وآن» في أقصى الشمال الشرقي لتخوم السلطنة العُثمانية، مروراً بقصبات دياربكر وموش وباتمان، ومن الجبال القاسية في هكاري وشمذينان إلى الصحاري المديدة جنوب الموصل وغربها. هذه السنوات التي سُميت فيما بعد بـ«سنوات الإبادة الأرمنية»، والتي كانت بشكلٍ موضوعيٍ عملية إبادة جماعية بحق مسيحيي شرق الدولة العُثمانية، من أرمن وآشوريين سريان.
كانت السنوات التي تلت عودة جركس حمرة إلى تخوم منطقته الأولى مليئةً بالمرويات الفظيعة التي رواها عما رآه في تلك البِقاع الكثيرة، فعضويته وقيادته لفوج من المُقاتلين الموالين للجيش العُثماني، مكّنته من رؤية الأمور كما كانت بالضبط، وهو كان يروي بروح المُنتشي المُنتصر على مُتمردين، يُستحلُّ تحطيمهم بأي شكلٍ كان.
شيئان كانا قد تغيرا في حياة جركس حمرة بعد رحلته تلك، فقد تحول إلى شخصٍ مُتزمت دينياً، على الأقل فيما كان يُظهرهُ للآخرين، فقد فرض الصلاة على أتباعه الذين كانوا يحرسونه ويخدمونه، وفرضَ الحِجاب على نسائهم، وقيلَ إنه حجَّ في ذلك العام، وأصرَّ على الذهاب للحج وحده، وحين عاد كان برفقة زوجةٍ لم يعرف أحدُ أهلها وذويها. الأمر الآخر كان استقراره في مدينة ماردين، وشرائه لأراضٍ في القُرى المُحيطة بها، وبذا بات ملاكاً يسكُن المدينة، وكان هذا الفعلُ الأخير مصدراً لأولى «معارك» جركس حمرة التي خاضها لنفسه.
إثرَ عودته من حروبه في السنوات الخمس واستقراره في مدينة ماردين وشرائه لبعض القُرى والأراضي، باتَ يبحث عن اعتبارٍ ومكانةٍ اجتماعية في تلك الجُغرافيا القاسية، والتي كان فيها «زُعماء» محليون عشائريون مُستقرون، وذوو اعتبارٍ واعترافٍ بالمكانة الاجتماعية الخاصة مُنذ عشرات السنوات، أباً عن جد.
خاض جركس حمرة وموالوه عدداً من المعارك الصغيرة ضد أكثر من زعيمٍ محلي؛ لكن مُشكلتهم الرئيسية كانت في عدم استنادهم إلى قوى عشائرية محلية موالية له بحزم، مثل باقي الزُعماء المحليين. وهو شيءٌ دفعه إلى اللعبِ على التناقضات بين هؤلاء الزُعماء المحليين من طرف، ما خوَّله امتلاكَ قرىً في المناطق الفاصمة بين ثلاث عشائر دائمة التناحر، فكُلٌّ منها كانت تفضل جيرة جركس حمرة على جيرة زُعماء العشائر الأقوياء. الأمر الآخر كان تمتين حمرة لعلاقاته البينية مع السُلطات المحلية الحاكمة في تلك المنطقة، بما في ذلك حاكم ولاية ماردين نفسه. فسنوات الحرب الطويلة التي خاضتها السُلطات في النصف الأول من عشرينات القرن المُنصرم، كانت مثاليةً للحُكام المحليين كي ينفردوا بالسُكان المحليين، ويسيطروا على أكثر من موردٍ اقتصادي، وكان جركس حمرة بتجربته المديدة، رُغمَ صغر عُمره الذي لم يتجاوز الثلاثين عاماً، الشخص المثالي ليكون محل ثقة هذه السُلطات المحلية، وشريكها في أكثر من مجال، ووسيطاً بينها وبين الزُعماء المحليين المُنافسين له.
يذكرُ أبناءُ جركس حمرة أسماء العديد من القُرى التي امتلكها والدهم في المناطق التي تقع الآن بين الحدود السورية- التُركية، ويذكرون، نقلاً عن كثيرٍ من الرواة، أن والدهم بات وجهاً اجتماعياً واقتصادياً في تلك المنطقة، وأنه بالرُغم من صُغر عُمره وعدم وجودِ أية حمولةٍ اجتماعيةٍ له، فإنه فتح مضافة عامة في حيه بمدينة ماردين، وبات وجيهاً له سمعته الواسعة.
***
لم يُمضِ جركس حمرة إلا سنتان أو ثلاث على وضعه ذاك، فقد غابَ مع زوجته وأولاده وبعض رِجاله لأكثر من سنتين، لكن كثيراً من أتباعه ظلّوا يحرسون أمواله وأملاكه التي أبقاها، والتي كان حاكمُ ماردين يحرص على إبقائها محفوظةً دون مسٍ من باقي الزُعماء المحليين.
أغلبُ الظن أن رحلته الأخيرة كانت في تخوم منطقة أزمير، فوالي مادرين قد انتقلَ إلى هُناك، وأرسلَ في طلبه. فالمدينة التي كانت بأغلبية سُكانية يونانية واضحة، تعرضت لحريقٍ ضخم بقيت مدينة أزمير التُركية راهناً، مركز تصارع أثناء الحرب التُركية-اليونانية، والتي امتدت خلال سنوات 1919-1922، وانتهت بسيطرة الجيش التُركي الموالي لمُصطفى كمال أتاتورك على المدينة، حيث شهدت الأيام الأولى من السيطرة حدوث حريقٍ رهيبٍ في المدينة، اتُهمَ الجيش التُركي بإحداثه، لإخراج المدنيين اليونان من المدينة وتتريكها. وعمليات الحرق والنهب العام للمدنيين اليونان كانت شيئاً شهدته كُل الأرياف اليونانية المُحيطة بالمنطقة وقتها، حسبما روى المؤرخ البريطاني الشهير «أرنولد توينبي»، الذي كان في المدينة في ذلك الوقت.، واتُفِقَ على تهجير سُكانها إلى الشطر اليوناني، مقابل استقدام الأتراك وعموم المُسلمين من الشطر اليوناني. في تلك الأوقات تنامت تجارة نفائس البيوت والقصور، منها ما تم شراؤه بشكل شرعي وإن بأبخس الأسعار، لكن أغلبها كانت نتيجة النهب العام الذي طال بيوت وأسواق وقصور مئات الآلاف من اليونانيين، الذين كانوا يسكنون أزمير ومُحيطها.
كان دور جركس حمرة وأمثاله هو التجارة الوسائطية لصالح الولاة وكِبار قادة الجُند، فهؤلاء كانوا يعتبرون أنفسهم قادة تُركيا الجديدة، التي حرروها من الأغراب الإنكليز والفرنسيين والطُليان، ويجب أن ينالوا جزاء ما قد فعلوه في سبيل أوطانهم، وبالذات إن كان ذلك على حساب العُثمانيين غير المُسلمين، كيونانيي أزمير مثلاً، لأنهم خانوا أوطانهم وباتوا أدواتٍ للغريب وحربه.
عاد جركس حمرة بعد أٌقل من ثلاث سنوات من رحلته «الأزميرية»، لكنه عاد وهو شخص جديدٌ تماماً. فقد صار شخصاً بلباس أفرنجي وطربوشٍ قصير، ومع زوجتين جديدتين غير زوجته الأولى، واحدة يونانية شقراء، وأخرى شركسية قُتلَ ذووها في تلك الحرب الأزميرية. كما أنه من طرفٍ آخر قد غير شيئاً ما من مهنته، فبالإضافة إلى عمله وأملاكه الزراعية، افتتحَ محلاً ضخماً لصياغة الذهب والتجارة به، إلى جانب ما كان يُسمى وقتها «تجارة الأنتيكا»، والتي كانت أغلب الظن تجارةً للآثار القديمة التي كانت شائعةً في تلك الأوقات. وأخيراً، فإن اسمه بات «جركس أفندي».
تُذكرُ جميع هذه الأحداث والتفاصيل عن حياة جركس حمرة من قِبل المُقربين منه، بمزيجٍ غامض من الفخر والحنين والتفسير بأن ذاك الزمان كان بتلك المعايير. لكنهم جميعاً يحاولون جاهدين الالتفاف على السبب الذي دفع بجركس حمرة لترك كُل ذلك النعيم وتلك المكانة، والنزوح جنوباً إلى ما قد خُطَّ وقتئذٍ وبات سوريا.
***
تكاد جميع المرويات تُجمعُ على أن جركس حمرة كان من المُشاركين الفاعلين في الحملة العسكرية التُركية الضارية الموجهة لقمع ثورة الشيخ سعيد بيران الكُردية عام 1925. فهذه الثورة الكُردية التي حدثت في ذلك العام، كانت عملية الفِصام الأولى بين الدولة التركية الحديثة التي كانت امتداداً للدولة العُثمانية، وبين مواليها من الطبقات التقليدية الكُردية، الذين بقوا يدعمونها طوال الحرب العالمية الأولى، وشاركوا في جميع معاركها. وقتها سعت الحكومة التركية إلى طلب المساعدة من الزعماء المحليين الأكراد في قمع تلك الثورة، التي جمعت بين الروح الدينية والنزعة القومية، لكن قليلاً فقط من هؤلاء الزعماء المحليين استجابوا لطلبات السُلطة المركزية.
جميع الزُعماء المحليين الكُرد، وهم كانوا أقلية على العموم، الذين شاركوا آلة الدولة العسكرية في قمع تلك الثورة القومية الكُردية الأولى في تاريخهم الحديث، باتوا محل نبذٍ ورفضٍ من السُكان والقواعد الاجتماعية في مناطق سُكناهم، على عكس مُشاركاتهم في الحملات التأديبية بقيادة فرق عسكرية من الدولة وبمُشاركتهم، والتي كانت تطال الجماعات الأُخرى غير الكُردية، وكانوا يستطيعون أن يُبرروها للعامة ويحولوها إلى مبعثٍ لفخارهم.
ما أن انتهت معارك تلك الثورة التي كانت طوال صيف ذلك العام، حتى بدأت حروب أهلية صغيرة بين العشائر الكُردية التي شاركت في تلك الثورة مع الزُعماء والعشائر التي وقفت إلى جانب السُلطة. وقد كان ذلك في جُزءٍ منه بقبولٍ وتحريضٍ من السُلطة نفسها، لأن تلك الحروب المُتنقلة كانت أداةً لكسر شوكة المُجتمع الكُردي وميوله للانتفاض على السُلطة المركزية الحديثة في تُركيا الجديدة الأتاتوركية. كان الصمود بوجه تلك الحروب الأهلية صعباً بالنسبة لشخصٍ مثل جركس حمرة، بدون أية حمولة عشائرية واضحة تسنده.
نزح جركس حمرة إلى الأراضي السوري في فترةٍ ما من النصف الثاني من عشرينات القرن المُنصرم، نزح وحده مع زوجته الأولى فحسب، دون زوجتيه اللتين أتى بهما في رحلته الأزميرية، وكانت كثيرٌ من المقولات تذهبُ إلى أن والي ماردين الجديد قد فرض عليه تطليق زوجتيه وبقاءهما كمحظيتين له، كشرطٍ لقبوله بنزوح جركس حمرة نحو الجنوب.
***
في سوريا، كان جركس حمرة رجُلاً ثرياً بمعايير تلك الأيام، وذو صيتٍ وشهرةٍ بالغة، وهو مُقاتلٌ شرسٌ وذو تجربة مديدة في «تأديب» المُتمردين، وفوق ذلك فإنه ما زال في أوائل الثلاثينات من عُمره. جميعُ تلك السمات كانت مُناسبةً تماماً للسُلطات الفرنسية التي كانت تحتل سوريا وقتئذٍ، وكانت في أوائل مرحلة حُكمها المُباشر لمنطقة الجزيرة المُعقدة ديموغرافياً.
دخل جركس حمرة في تلك الشبكة المُعقدة من العلاقات الوسائطية والخدمية العسكرية والأمنية والسياسية مع السُلطات الفرنسية والقوى المحلية، ولم يكن ينقصهُ شيءٌ ليتحول إلى «زعيمٍ محلي» إلا امتلاكه لقُرىً وقصباتً واسعة، عبر قانون تمليكٍ فرنسيٍ خاصٍ صدر بعد سنوات قليلة من فترة نزوحه.
خلال «حياته» في الزمن الفرنسي، بدّلَ جركس حمرة من ولاءه أكثر من مرة. فقد كان شخصاً على علاقةٍ وطيدةٍ مع الجاليتين اليهودية والكاثوليكية في مُدن المنطقة، وله نشاطٌ اقتصاديٌ وتجاريٌ حميمٌ معها، وعن طريقه خلق تحالفاً مع المؤسسة العسكرية الفرنسية، التي كان يمدها بالخدمات والمتطوعين المحليين. وفي سبيل ذلك كان قد شارك القوات الفرنسية في عشرات حملات «التأديب» والعِقاب، التي ما كانت تود القوات الفرنسية أن تقوم بها بنفسها.
في نهاية الثلاثينات غيرَ جركس حمرة من كُل ذلك، بالذات حين بات يستشعر قُرب نهاية الحضور الفرنسي الفعلي في المنطقة، فحاول التقرب من الزعامات المحلية «الوطنية»، وحاول اقناعها بقبوله كوجيهٍ سياسيٍ في المنطقة.
***
بقي جركس حمرة على تحولاته السياسية تلك، من عضوٍ فعالٍ في شبكات تهريب الأسلحة بين الموصل وحلب، إلى شخصٍ يشجع أولاده على الانخراط في المؤسسة العسكرية السورية، إلى قوميٍ عربيٍ «ناصري» مُعادٍ للشيوعيين السوريين، إلى قوميٍ كُرديٍ متعصب، إلى شريكٍ وعضوٍ في شبكات المخابرات السورية في أوائل وأواسط السبعينات.
أما مسألة اغتياله بتلك الطريقة فقد بقيت من الأشياء المجهولة، إذ إن زوجاته كنَّ قد هجرنه، وكذلك فعل أولاده الخمسة وابنته الوحيدة التي انتحرت. عاشَ جركس حمرة السنوات العشرين الأخيرة من عُمره وحيداً ومنبوذاً من قِبل كُل المحيط الاجتماعي، خصوصاً وأنه كان قد فقد قُدرته على النُطق مّنذ سنواتٍ كثيرة.
ماتَ جركس حمرة، ولم يحضر جنازته سوى ثلاثة أشخاص، كانت جثته تتأرجح بينهم من باب الجامع وحتى المقبرة، بالضبط كما كانت حياته وسيرته.