عندما نقف على أنقاض بقايا وطن، لا نستحضر سوى حكايات أجداد صنعوا تاريخ تلك الحقبة التي صنعت سوريا اليوم، حروب متوالية وانهزامات واستقلال. هم اختصارٌ لتاريخنا المعاصر الذي نحصد اليوم غراس مساوئه وحسناته، إن وجدت أصلاً. وعلى أمل أن تولدَ مدينتنا من رحم الأحزان، أُخبركم ما رواه لنا أحد صناع ذلك العصر القديم البعيد، الذي عاش وعشق هواء مدينة حمص العديّة.
الأجواء التي أسمع فيها هذه القصة هي ذاتها في كل مرة: بعد الغداء في شرفة منزل جدي في حمص، وهو يلبس رداءه الرمادي المفضل ممسكاً بيده ثمرة قطفتها جدتي من شجر الحديقة، وباليد الأخرى سكيناً لقطعها، والأحفاد مجتمعون حوله، متشوقون للاستماع إلى روايته بين قضمات الخوخ والتفاح، ومداعبة نسمات حمص لقسمات وجوهم المبهورة.
تتربع مدينتي فوق هضبة ترتفع حوالي 400م عن سطح البحر، وتقع أمام نافذة بين سهول عكار اللبنانية، تسري من خلالها نسمات عليلة محملة برائحة البحر المتوسط، فتضفي على هواء حمص روعةً لا مثيل لها.
يسري بنا جدي في ذكرياته الى عام 1945، حين كانت تعمُّ البلادَ احتجاجاتٌ ضد الاستعمار الفرنسي الذي رزحت سوريا تحت نيره. يخبرنا عن طالبٍ لطيفِ الطبع كان يخرج من مدرسته ليشارك آلاف الطلاب الذين توافدوا الى شوارع مدينة حمص، يتغنون بشعارات وطنية ويحملون لافتات كتب عليها «سوريا للسوريين» باللغتين العربية والفرنسية. لكن ما هي إلا دقائق حتى يبطئ هذا الصبي ذو الـ17 ربيعاً في مشيته، ليسمح لأقرانه بالتقدم أمامه، ثم ينزوي إلى زقاق جانبي ويستند إلى جدار ليذاكر دروسه استعداداً لامتحاناته المقبلة.
ذلك الفتى هو جدي سُهَيْل القُصيِّر نفسه، وقد روى لأحفاده هذه القصة عن شبابه لسنوات عديدة، حتى أصبحت هذه القصة مرجعاً خاصاً لنا، نحن الأحفاد، عن تاريخ بلدنا.
كانت تحمل النسمات زخات من الماء الهارب من نافورة حديقة جدي، ونحن نستمع إليه وهو يعلن لنا بفخرٍ أنه لم يكن ليضحي ولو بساعةٍ من الدراسة من أجل الاحتجاجات ضد فرنسا، التي كانت قد فرضت سيطرتها على سوريا بعد أن تقطعت أوصال الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لم يلقَ الوجود الفرنسي ترحيباً من السوريين قط، واستمرت باريس تحاول قمع حركات المقاومة لما يزيد عن النصف الأول من العشرينات.
في خضم موجة الغضب والتمرد ضد الانتداب، ولدَ جدي عام 1927 وكان الأصغر بين ثمانية أشقاء. توفيت والدته عندما كان دون الرابعة، ثم توفي والده أثناء امتحانات البكالوريا عام 1945، وهو العام الذي اندلعت فيه انتفاضة الاستقلال التي أعقبها بعد فترة وجيزة انسحاب فرنسا وإقامة الجمهورية السورية.
ورثَ جدي من والده 70 ليرة ذهبية، فحثّه شقيقاه اللذان يكبرانه على الاحتفاظ بالمال والعمل عندهما في أحد متاجرهما، غير أن جدي كان لديه مخطط آخر. سافر إلى دمشق ليدرس الصيدلة فيما كان يعرف بالجامعة السورية، والتي كانت الجامعة الوحيدة في البلاد حينذاك، وقد تم تغيير اسمها فيما بعد إلى جامعة دمشق عندما تأسست جامعةٌ ثانية في حلب في أواخر الخمسينات.
لم تجذب جدي بهرجة العاصمة، وعاش حياة بسيطة ليدخر ميراثه في سبيل تحقيق هدفه. تخرج بمرتبة الشرف عام 1950، ومنحه شهادته رئيس البلاد شكري القوتلي، أول رئيس لسوريا عقب الاستقلال. قام بوضع هذه الشهادة في برواز نحاسي وعلقها في مكان بارز على جدار «صيدلية حمص الكبرى»، التي افتتحها نهاية ذلك العام.
تقع صيدلية حمص الكبرى عند منحنى شارع رئيسي في وسط مدينة حمص، شارع صاخب يعج رصيفه بباعة الخضار والبهارات ومحال الكتب والملابس، مقابل دوار الساعة القديمة.
كان الصيدلاني الشاب في الأشهر الأولى يخرجُ قوارير الدواء من عبواتها، ويعرض القوارير والعبوات جنباً إلى جنب على الرفوف الخشبية ليخلق منظرا أكثر امتلاءً لزبائنه. حدّد جدي ساعات العمل بين السابعة صباحاً والحادية عشرة مساءً طوال أيام الأسبوع، كما أنه كان ينام في الصيدلية أيام الجمعة من أجل خدمة الزبائن أثناء الليل.
نظراً لموقعها وعملها لساعات طويلة، سرعان ما أصبحت صيدلية حمص الكبرى، التي كانت سابع صيدلية تُفتتح في حمص، الأشهَرَ في المدينة.
بيض الأيام، وسودها
باتَ جدي يشتري بالأموال التي كان يحصدها كل أسبوع ليرتين ذهبيتين، يحتفظ بهما في صندوق حديدي أخضر اللون موجود في حجرته إلى يومنا هذا. تلك كانت خطة الادخار المثلى لدى غالبية سكان المدينة، الذين لم يكن لديهم أدنى فكرة عن كيفية عمل البنوك.
عندما بلغ جدي الثلاثين من عمره في عام 1957، اشترى أرضاً في حيٍ راقٍ وشيّدَ عليها بناءً من أربعة طوابق، وبشيء من الجرأة، طلبَ من أحد التجار الأكثر نفوذاً في المدينة أن يزوجه ابنته البالغة من العمر 20 عاماً.
ابتسمت الحياة لجدي أكثر من أي وقت مضى، فاشترى أسهماً في شركاتٍ خاصة، مثل مصانع السكر والإسمنت، ثم وبمشاركة أربعة صيادلة آخرين، قاموا بإنشاء معمل للأدوية أسموه «ميديكو».
إلا أن حُسنَ حظه لم يدم طويلاً، في عام 1958 تمت الوحدة بين سوريا ومصر تحت قيادة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي أمر بتأميم الشركات الخاصة، ففقد جدي كل استثماراته بين عشيةٍ وضحاها. أما معمل الأدوية، فبالكاد كان يغطي مصاريفه.
عندما يتذكر جدي تلك الأيام المريرة، كثيراً ما كان يكرر عبارة «ثقتي بالله كبيرة». بقيت صيدلية حمص الكبرى مصدر جدي الثابت للدخل، إذ لم يتأثر عملها بالانقلابات الثلاثة وبالتغييرات الرئاسية التي التي مرت بها البلاد، والتي بلغت ثلاثة عشر تغييراً خلال الخمس عشرة سنة الأولى من عمر الصيدلية. تتذكر والدتي كيف كانت الصيدلية تشبه المخبز، حيث كانت تتهافت عليها طوابير الزبائن الملوحين بوصفاتهم الطبية.
كان خالي نبيل، أكبر أبناء جدي سناً، يقضى كثيراً من وقته في الصيدلية. هو يذكر كيف كان يزورُ الصيدلية ممثلو العديد من الأحزاب السياسية، مدججين بمنشوراتهم وأفكارهم اليسارية التقدمية، محاولين استمالة جدي إلى صفوفهم. موفدون من الحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب السوري القومي، كلهم كانوا يعودون أدراجهم بخفي حنين، فجدي لم يكن يولي للأيديولوجيات والخطابات السياسية إلا القليل من الاهتمام.
هذا لا يعني أن جداي لم يكن لهما منحىً ثوريٌ خاصٌ بهما، فجدتي، رضية السباعي، تبين أنها كانت تحمل كثيراً من سمات الرجل الذي هو زوجها. فقد كانت من أوائل النساء في حمص اللواتي قدن السيارة. كانت تقود «أوبل» بيضاء ألمانية الصنع إلى الصيدلية في نهاية كل أسبوع لتسلم جدي السرير القابل للطي، فيركض الأطفال وراءها مبتهجين بالمنظر. هي تضحكُ الآن عندما تتذكر كيف كان خالي نبيل يخفي رأسه تحت لوح السيارة من شدة الحرج. لم تكن جدتي تتحدى التقاليد من حيث المبدأ، بقدر ما كان الأمر من باب الضرورة، إذ إن وجودها مع أبنائها الخمسة بينما يعمل زوجها ليلاً ونهاراً، تطلَّب منها أن تكون قادرة على التحرك بنفسها.
في يوم من أيام شتاء عام 1970 سمعَ جدي هتافاً خارج الصيدلية، خرج ليعرف سبب الضجة، فشاهد حافظ الأسد، زعيم أحدث انقلابٍ في البلاد ورئيسها الجديد، على شرفة مقر حزب البعث على بعد بضعة أمتار من محله، في أول زيارة له للمدينة منذ استيلاء الجيش على السلطة فيما أُطلق عليه «الحركة التصحيحية».
لم تكد تمر دقيقة حتى عاد جدي لخدمة زبائنه، ودوي صوت الأسد يملأ أرجاء المكان. لكن هذا لا يعني أن جدي لم ينجرف ولو قليلاً في موجة التفاؤل التي اكتسحت أنحاء البلاد في تلك الفترة، حيث اعتقد السوريون أن حكم الأسد سيجلب الازدهار والاستقرار الاقتصادي. وعلى الرغم من الفساد والقمع السياسي، شهدَ عهدُ الرئيس الجديد تطوراً في القطاع الخاص، وانخفضت حدّة السياسات الاشتراكية الراديكالية التي انتهجتها الحكومات السابقة.
بحلول الثمانينات فرضَ الأسد الحظر على واردات الأدوية من أجل خفض العجز التجاري للبلاد، وارتفع الطلب على المنتجات الدوائية المحلية، فنُفِخَت الروح في معمل الأدوية «ميديكو» الذي كان منسياً خلال العقود الماضية، وسرعان ما أصبح المعمل الأكبر في حمص، ومن ثم أحد أكبر معامل الأدوية في سوريا.
تضاعفت ثروة جدي، فاشترى فيلا بالقرب من طريق دمشق، وشاليه في مدينة طرطوس الساحلية، وبساتين في قرية الحولة – والمعروفة حالياً بموقع مذبحة في 2012، كما شيّدَ جدي مسجداً أطلق عليه اسم والده «مصطفى».
لم يتغيب جدي يوماً طوال هذا الوقت عن العمل، ولم تترك ثروته المكتسبة أثراً على ملبسه حيث ظل يفضل القمصان المقلمة قصيرة الأكمام، بدلاً من القمصان والحلل الرسمية التي لطالما ألحّت جدتي عليه أن يرتديها، لأنها على حدِّ قولها تناسب عمره ومقامه.
حتى دائرة أصدقائه بقيت نفسها، لم تتسع أبداً لتضم رجال أعمال أو مسؤولين، بل كان جدي يفضل مجموعة من الرجال البسطاء الأتقياء، الذين كانوا يرافقونه الى الفيلا بعد أداء صلاة الجمعة في المسجد، حاملين معهم أسياخ اللحم المشوي وصينية معدنية كبيرة من الكنافة بالجبن المزينة بالفستق الحلبي المبشور.
أسدٌ جديد، وسوريا مختلفة
في مساء يوم السبت في صيف عام 2000، توقفت الحياة فجأةً أمام صيدلية حمص الكبرى عند دوار الساعة القديمة، والذي كان يعلوه صورة للرئيس كُتبَ تحتها «قائدنا إلى الأبد».
عندما أعلن المذيع الذي ملأت وجنتاه الدموع وفاة حافظ الأسد على التلفزيون السوري الرسمي، أغلقت المحلات التجارية، بما في ذلك الصيدلية، وأُخليت الشوارع من البشر، فالجميع قد انتابه القلق حيال ما سيتبع موت الرئيس الخالد. غير أن انتقال السلطة إلى ابن حافظ، بشار الأسد، كان أكثر سلاسةً مما توقعه الناس.
وعدَ الرئيس الجديد بإصلاحات اقتصادية تهدف إلى تحرير الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الأجنبي، غير أن مشاريع التنمية وخصخصة الصناعات القديمة المملوكة للدولة لم تُفِد إلا دائرة الرئيس الضيقة وشركاءه التجاريين، فأصبح ابن خال الأسد رامي مخلوف، مهيمناً على شبكة من الشركات التجارية المربحة، ليصبح أغنى رجل في البلاد، وليكون من وجهة نظر السوريين رمزاً للفساد.
أما في حمص فقد تمّ تعيين إياد غزال، أحد أصدقاء الأسد، محافظاً، فتحول إلى «مخلوف المدينة». وعدَ غزال بإنعاش المدينة اقتصادياً من خلال مشروع يحمل اسماً رومنسياً، «حلم حمص». وكان أحد أهداف المشروع هدمَ أجزاءٍ من مركز المدينة التاريخي والسوق المغطى، ليحل محلها ناطحات سحاب ومراكز تسوق حديثة، بحيث تشبه نموذجاً مصغراً لدبي.
بدأت مصادرة الأراضي بحلول عام 2009، وأدرك أصحاب المحلات أن دورهم آتٍ قريباً، حتى صيدلية حمص الكبرى التي عمرت لستة عقود كان مصيرها مهدداً.
يمكن القول إن تلك الفترة كانت بداية تفشي الغضب في الأوساط الحمصية، وفي مارس عام 2011، تفجرت مظاهرات في أنحاء البلاد، مطالبة بالحرية والديمقراطية والقضاء على الفساد، ولم يكن من السهل احتواؤها. وبعد أسبوعين فقط من بدء الحراك الشعبي، اندلعت احتجاجات في وسط حمص، على مقربة من صيدلية حمص الكبرى. صبَّ المتظاهرون غضبهم في البداية على مخلوف وغزال، ولكنهم سرعان ما بدأوا ينادون برحيل الأسد نفسه.
ردّت قوات الأمن بحملة قمع خلفت مئات القتلى خلال الأشهر الأولى للانتفاضة.
بدأتُ أشعرُ بالإلحاح والوتيرة نفسهما، اللذين كان جدي يروى بهما قصته حول انتفاضة 1945، إذ كان حريصاً على أن يقع ما يرويه على آذان أحفاده الأكثر تمرداً، خشية تورطهم في الحماس الذي اجتاح البلاد، وحتى لا ينسوا رجاءه لهم بالتركيزِ على التعليم والتطوير الذاتي. كان يتفهم آمالهم وتطلعاتهم، وغضبهم أيضاً، غير أنه كان يؤكد أنه لا شيء يستحق فقدان الحياة.
حاولَ جدي، كغيره من معظم أصحاب الأعمال في وسط المدينة، أن يُبقي على صيدليته مفتوحة، ولكن مع تصاعد العنف في أوائل عام 2012، اضطر للمرة الأولى منذ عام 1950 إلى إغلاقها إلى أجلٍ غير مسمى.
استولى الثوار على أجزاء من المدينة، بما في ذلك المنطقة التي كانت تقع فيها الصيدلية، واستخدمت الحكومة ترسانتها العسكرية لاستعادة المناطق التي فقدت السيطرة عليها. دمرت مدفعية الجيش المباني حول الصيدلية، كما تم تفجير دوار الساعة القديمة، وأُحرقت عربات الباعة الجوالين حتى تحولت إلى ركام، ونُهِبَت صيدلية حمص الكبرى تماماُ، وأُفرغت حتى من رفوفها البنيّة وبلاطها المبرقع.
انتقل جداي، عندما اشتد الصراع المسلح في مسقط رأسيهما، إلى دمشق. وهناك، أصبح جدي يجوب الشوارع ويدلف إلى كل صيدلية يمرّ بها ليطالع منتجاتها، ويستأذن الصيدلاني ويدفعه جانباً ليقف وراء منضدة البيع للحظاتٍ يعيش خلالها دور ملك الصيدلية.
عندما عاد جدي وجدتي إلى حمص، ساعده أبناؤه في إنشاء صيدلية صغيرة في حي الوعر، الذي أصبح ملجأً لآلاف الأسر التي فقدت منازلها في أماكن أخرى من المدينة. غير أنه عندما اندلعت اشتباكات في الوعر بعد أشهر قليلة، سقطت قذيفة في وسط الصيدلية الجديدة، ولحسن الحظ كانت مغلقةً في ذلك الوقت.
رجع جدي وجدتي الآن إلى الفيلا الخاصة بهما، لتعود جدتي إلى الاعتناء بالورود وأشجار التفاح، وليشغل جدي وقته بقراءة القرآن بينما يرى على شاشات الفضائيات بلاده وهي تنهار من حوله، ويتساءل إن كان سيتمكن من إعادة فتح صيدلية حمص الكبرى في يوم من الأيام. أعتقدُ أن أيامه تمرُّ ببطءٍ أكثر الآن، بل قد كبر سنه بشكلٍ ملحوظٍ على مدى السنوات الثلاث الماضية، وأصبحت التجاعيد أعمق، وشعره الفضي أكثر رقة، بل أصبح هو نفسه أكثر حزناً وضياعاً، كحزن وضياع سوريا ذاتها.
قال لي جدي مؤخراً: «لا توجد حقيبة تتسع للعمر»، فالعمرُ غدا مبعثراً في كل زاوية من مدينتنا المدمرة، حتى الذكريات أصبحت أكثر ألماً، ونحن نعاصر وداع وطن عشناه وتنفسناه وعشقناه في كل حالاته.