كنت أعرفُ أشياء قليلة عن السياسة والصراعات والتيارات الفكرية في بلادي يومَ غادرتُ مدينتي الصغيرة نحو العاصمة للدراسة في جامعتها، كنت أعرفُ أن التظاهر ممنوعٌ في بلادي، وأن التجمعات غير المرخصة ممنوعة، وأن ثمة شيوعيين مع السلطة، وشيوعيين خارجها، وأن أولئك الشيوعيين خارجها يذهبون إلى السجون سنواتٍ طويلة.

ثمة تفاصيل غيرها تتعلق بالناصريين والتنظيمات الفلسطينية والإخوان المسلمين، لكن الذين أعرفهم عن قرب من ضحايا النظام السوري كانوا شيوعيين، بعضهم قضى أكثر من عشر سنوات في السجن. لكن هذا لم يكن مهماً كثيراً بالنسبة لي في ذلك الوقت على أي حال، ما كان يهمني هو الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة، والموقف منها، وانتصارات حزب الله، ولاحقاً غزو العراق والتهديد بغزو سوريا.

كنت أعتقد جازماً أن خلاصنا يبدأ من هناك، من فلسطين.

في واحدةٍ من أمسيات أواخر عام 2002 كان هناك بضعة مئات من المتظاهرين يتجمعون في شارع أبو رمانة الصاعد نحو السفارة الأميركية في ساحة الروضة، وقربهم يتجمع بضعة عشرات من عناصر حفظ النظام، وفي مقدمة الحشد راياتٌ حمراء بمناجلها ومطارقها. كان هناك أيضاً صورة حمراء كبيرة لغيفارا في مقدمة الحشد، وتياراتٌ أخرى، ناصريون يحملون صور زعيمهم الراحل، وبعض الشبان الفلسطينيين برايات الجبهتين الشعبية والديمقراطية.

لم تكن تلك مسيرةً، بل كانت مظاهرة، أو أن هذا ما بدت عليه. لا صورَ للرئيس الشاب أو والده القائد الخالد، وهتافاتٌ تشق عنان السماء لفلسطين، وتدعوا جميع الأنظمة العربية لفتح حدودها أمام المقاومة، وتتهم الأنظمة العربية دون استثناء بالخيانة والتواطؤ.

خارج الثنائيات

كان هؤلاء الشبان براياتهم الحمراء رفاقاً في فصيلٍ شيوعي بدأ يظهر على الساحة بعد موت حافظ الأسد، وكان الاسم الشائع له ’تيار قاسيون’، أما الاسم الرسمي فقد كان ’اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين’.

في الوقائع، أن مجموعةً من سبعة وعشرين رفيقاً في الحزب الشيوعي السوري (تيار بكداش)، أبرزهم الدكتور قدري جميل، كانوا قد أعلنوا ميثاق شرفٍ للشيوعيين السوريين في 15 آذار 2001، وقالوا فيه إنهم ينوون العمل على إعادة الوحدة للحزب الشيوعي السوري المتشظي، وشكلوا لجنة لمتابعة تنفيذ الميثاق، وعُرفت هذه المجموعة باسم مجموعة قاسيون. اجتمعت اللجنة مع عشرات الشخصيات الشيوعية الحزبية والمستقلة في دمشق في 18 تشرين الأول 2002، وأعلنت ولادة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين.

لم يحظَ نشاط هذه اللجنة بأي تغطية قانونية، لكنه لم يتعرض لأي قمعٍ في الوقت نفسه، وبدأت صحيفة قاسيون بالصدور بوصفها لسان حال اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين أواخر عام 2003. والصحيفة بدورها لم تحصل على ترخيصٍ قانوني، كما أنه لم يتم حظرها في الوقت نفسه أيضاً، وكان لها مكتبٌ معروف في الجسر الأبيض في دمشق.

على الرغم من طروحات اللجنة التي كانت ترفض اعتبار نفسها حزباً شيوعياً جديداً في البلاد، إلا أنها في واقع الحال كانت تياراً مستقلاً لم يلقَ عملُه كلجنة توحيدٍ أي صدىً تقريباً. مارست اللجنة نشاطها كتيارٍ شيوعي مستقل، واعتبرها الحزب الشيوعي السوري انشقاقاً.

استقطبَ التيار عشرات الشبان اليساريين المستقلين في أنحاء البلاد، واستقطب أيضاً شباناً عديدين من الحزبين الشيوعيين المنضويين في الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة، وأعاد الرايات الشيوعية إلى الشارع، ووصل الأمر بنشاطه الميداني إلى حدّ تنظيم اعتصامات وتظاهرات دورية شبه أسبوعية في عددٍ من مراكز المحافظات السورية.

رفضت اللجنة الوطنية وصحيفتها تصنيفات نظام-معارضة، واعتبرت أن هذه الثنائية وهمية، وكرّست جلَّ جهدها لمواجهة السياسات الليبرالية لفريق عبد الله الدردري الاقتصادي. وواقع الحال أن مقولة الثنائيات الوهمية احتلت حيزاً واسعاً في خطاب اللجنة، ذلك لأن «في النظام وطنيون وغير وطنيين، وكذلك الأمر في المعارضة». وعلى الرغم من أن نشاطها بدأ في الأجواء نفسها التي أتاحت وجود لجان إحياء المجتمع المدني، وسمحت بحراكٍ سياسيٍ في حقبة ما يُعرف بربيع دمشق، إلا أنها كانت على خصومة مع جميع تيارات المعارضة، والشيوعية منها على وجه الخصوص، كحزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي-المكتب السياسي، كما كانت على خصومة مع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ومع الحكومة، ولكن ليس مع نظام الحكم.

على أي حال، نجح التموضع الذي قاده قدري جميل في الحفاظ على وجود تيار قاسيون بعد أن قام النظام السوري بخنق كل أشكال الحراك السياسي في منتصف العقد الماضي، وبدا في الأعوام من 2005 وحتى 2010 أن هذا التيار هو المساحة الوحيدة المتاحة أمام الشباب اليساريين السوريين للعمل السياسي والصحفي، والقيام بنشاطاتٍ خارج الهيمنة المباشرة للنظام السوري، ودون أن يكونوا مجبرين على الهتاف لرئيسه.

كانت بعض اعتصامات اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تُقمع أحياناً دون أسباب واضحة، وكان بعض أعضائه وكتاب صحيفته يتعرضون للاعتقالات والمراجعات الأمنية على نحوٍ غير منتظم، وكان تفسير ذلك على لسان قيادات التيار، أنه ناتجٌ عن صراعِ قوىً داخل النظام السوري.

بلغ نشاط اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين ذروته مطلع عام 2009، عندما نجحت في حشد عشرات آلاف المتظاهرين في ساحة عرنوس بدمشق، للتنديد بالهجمات الاسرائيلية على قطاع غزة، ودعم خيار المقاومة المسلحة. وكذلك في إحياء ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي السوري في صالة الفيحاء بدمشق يوم 9 كانون الأول 2009، والذي امتلأت فيه صالة الفيحاء عن آخرها حتى أنه لم يبقَ فيها موضعٌ لقدم.

كانت الأهمية الرمزية لهذه النشاطات تنبعُ من أنها لا تطرح خطاب النظام السوري وشعاراته نفسها، وأنها لا تتضمن صوراً للقائد الشاب ووالده، وأنها تبدو حراكاً يسارياً مستقلاً يفرض نفسه على النظام السوري، أو على أجنحةٍ في النظام السوري كما كان يقول خطاب أعضاء وقيادات اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين.

الشرذمة التروتسكية

دأب الحزب الشيوعي السوري (تيار بكداش) على وصف جماعة قاسيون منذ ولادتها بالشرذمة التروتسكية، في حين تمسكت اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين بالماركسية اللينينية، متهمةً حزب بكداش بالجمود العقائدي والتعالي على الشارع، والانتهازية في علاقته بحزب البعث ونظام الحكم.

يبدو الأمر طريفاً إلى حد بعيد، إذ ليس للاتهام بالتروتسكية أي محلٍ في سياق الخلاف بين الجماعتين، ولم يكن ثمة خلافٌ عقائدي معروف، كما أنه يبدو مثيراً للسخرية تبادل الاتهامات بالتروتسكية والجمود العقائدي في سياق الحركة الشيوعية السورية في مطلع الألفية الثالثة. لقد كان الخلافُ سلطوياً وعائلياً إلى حدٍّ بعيد كما يعرف جميع القريبين قليلاً من أجواء الشيوعيين السوريين، ويرجع في أصله إلى توريث زعامة الحزب الشيوعي من الراحل خالد بكداش إلى زوجته وصال وابنه عمار، وهو ما لم يكن صهرُ العائلة قدري جميل راضياً عنه.

على أي حال، كانت الطروحات النظرية الأساسية لـ«الشرذمة التروتسكية» تتعلق بضرورة التمسك بالماركسية اللينينة منهجاً ناظماً للتفكير والتحليل والعمل، مع مرونةٍ تربط بين المسـألة الاقتصادية ومسألة الحريات العامة والمسألة الوطنية، ما سمحَ باستيعاب يساريين «متشردين» من هنا وهناك. كذلك مع نقاشٍ بدا جدياً في حينه حول الماركسية، وحول ما إذا كانت «أداة تحليل» أم «إيديولوجيا». يضاف إلى ما تقدم، طرحٌ «لامعٌ» للدكتور قدري جميل، هو طرح شعوب الشرق العظيم، الشعوب التي تقاوم الهجمة العسكرية الإمبريالية الشرسة على الشرق من أفغانستان إلى قطاع غزة مروراً بإيران والعراق وسوريا ولبنان، وهو ما أمن غطاءاً نظرياً يسمح بتبرير الدفاع المطلق عن حركات المقاومة الإسلامية بتنويعاتها، ويسمح باستيعاب محبين للنظام السوري في صفوف التيار، بذريعة أن أجنحة في هذا النظام تشكل عموداً أساسياً من أعمدة المقاومة «المبعثرة» التي تقوم بها «شعوب الشرق العظيم»، شعوب الشرق العظيم التي تعيش ظروفاً اجتماعيةً واقتصاديةً وسياسيةً متشابهةً على الرغم من الاختلافات القومية والدينية، وهو أمرٌ مستمدٌ بشكلٍ من الأشكال من مقولة نمط الإنتاج الآسيوي الماركسية.

كانت تلك المقولات، مضافاً إليها مقولة الثنائيات الوهمية المشار إليها أعلاه، تشكل العدة النظرية الأساسية لتيار قاسيون وصحيفته. ومن نافل القول اليوم –على ما أرى- أن حراك قاسيون كان مسموحاً به من قبل النظام، بل وربما كان مرغوباً، وأن لقيادته علاقة وثيقة بدوائر في النظام السوري، وفي روسيا الاتحادية، لكن هذا لم يكن من نافل القول تماماً بالنسبة لنا قبل اندلاع الثورة، وهذه الـ«نا» ترجع إلى شريحة كبيرة من أعضاء التيار، وأصدقائهم الذين كانوا يشاطرونهم بعض نشاطات التيار، وأنا واحدٌ منهم.

كنا نريد مساحةً نشعر من خلالها أننا على قيد الحياة، وكان في خطاب التيار وأطروحاته ما يضمن ذلك، وعلى وجه الخصوص مقولة أن التيار في نشاطه السياسي يتموضع فوق تناقض مصالح ورؤىً داخل نظام الحكم، وأنه يؤمن مساحةً مقبولةً لبعض العمل والكتابة والقراءة والتفكير، في ظروف الصحراء السياسية التي قادنا إليها الأسد الابن، وفي ظروف انغلاق الأفق السياسي الداخلي، وتعلق الأبصار والأفكار بالصراع الإقليمي الدائر حول سوريا.

كنا نعتقد أن لحظة الحقيقة قادمة، وأن ما نراكمه من عملٍ ونشاطٍ وعلاقاتٍ وجدالٍ في فضاء «الشرذمة التروتسكية»، قد ينضج ذات لحظة ويتحول فعلاً حقيقياً، أو هذا ما كنا نمني النفس به، ألا تقول الماركسية إن التغيرات الكمية تنقلب تغيرات كيفية في لحظةٍ من اللحظات؟

دروب الرفاق الوعرة، ولحظة الثورة الكاشفة

«تأخذنا الدروب الوعرة.. فلنتزود»، كانت تلك العبارة التي كتبها مدير تحرير صحيفة قاسيون جهاد أسعد محمد على صفحته على فيسبوك على ما أذكر، وهي لا تزال مزروعةً في ذاكرتي لأنها كُتبت في أعقاب خطاب بشار الأسد الأول بعد بدء الاحتجاجات. كان هذا يعني بالنسبة لي أن جهاد يرى بوضوح أن الأسد يقود البلاد إلى حربٍ لا تبقي ولا تذر، ذلك مع أنني لم أسأله وقتها عن معنى عبارته تلك، كان هذا تحليلي فحسب.

كانت أعداد قاسيون الثلاثة الأولى بعد الخامس عشر من آذار 2011 ناريةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكانت تشي باحتمال ذهاب التيار إلى موقفٍ جذريٍ وحاسمٍ من نظام الأسد، لكن الانعطافة نحو خطاب المؤامرة والجماعات المسلحة هي التي كانت جذريةً وحاسمة.

ترك جهاد صحيفة قاسيون واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين بعد فترة لا أتذكر طولها بالضبط، وهو اليوم معتقلٌ منذ ما يزيد على عامين ونصف، ومصيره مجهولٌ تماماً. لقد سلكَ جهاد الدروبَ الوعرة التي تحدث عنها بشجاعةٍ وحسم، وكان موقفه إلى جانب الثورة السورية واضحاً، وهو لم يكن «القاسيوني» الوحيد الذي فعلها على أي حال.

 

جهاد أسعد محمد

عند جهاد محمد وغيره من أعضاء تيار قاسيون وأصدقائه، على اختلاف درجة قُربهم أو بعدهم من التيار وأفكاره ونشاطاته قبل الثورة، مواقفُ حاسمةٌ وجذرية من النظام السوري وتوريث السلطة وتحويل الجمهورية الناشئة إلى سلطنة، مواقفُ مبنية على معرفة عميقة ببنية النظام المافيوية، ونهجه الاقتصادي الذي يكاد لا يجمعه رابطٌ بالاشتراكية، وخاصة في السنوات العشرين الأخيرة، واستخدامه الوقح والمستمر للمأساتين الفلسطينية واللبنانية من أجل تدعيم سلطانه.

لم تكن تلك المواقف بوضوح أساسها المعرفي، وأبعادها النفسية والوجدانية، وليدة زمن الثورة دون شك، بل كانت لحظة الثورة كاشفةً ومكملةً لها، ولهذا بالضبط تبدو محاولة الإجابة على سؤال: «ما الذي كنا نفعله هناك؟» ضروريةً اليوم.

يقول محمد أبو حجر، الذي كان مُنَظَّمَاً في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين: «كنت شيوعياً، وكانت الأحزاب الشيوعية التي لديها مواقف ثورية من النظام السوري لا تفعل شيئاً، أو لنقل إنها لم تكن تستطيع أن تفعل شيئاً. شعرتُ بانعدام جدوى النقاش في المجالس الضيقة، فذهبتُ إلى اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، حيث يمكن لي أن أفعل شيئاً في الشارع، أن أعتصم وأتظاهر وأرفع الراية الحمراء، أن ألتقي بالناس الذين يشبهونني في فضاءٍ عام، أن نفكر معاً فيما يمكن فعله».

ولكن هل كان ما يقوله التيار حول نجاته من قمع السلطات الشامل للحياة السياسية، بفعل تناقض رؤىً ومصالح بين أجنحة في النظام، مقنعاً؟ يجيب أبو حجر: «لم أكن أصدق هذا الكلام، وكنت مقتنعاً أن ثمة تنسيقاً بين قيادة التيار ودوائر أمنية في النظام السوري، لكن وجودي في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين كان ممراً إلى توازنٍ نفسي، وتآلفٍ واقعي بين رغبتي في مناهضة نظام الأسد وتغييره، وبين ما يمكن القيام به فعلاً. كان الذهاب إلى خيارٍ آخر، كحزب العمل الشيوعي مثلاً، يعني أمراً من بين أمرين، ألّا تفعل شيئاً أو أن تذهب إلى السجن».

لكن ما الذي قد يستفيده النظام من أمرٍ كهذا؟ ثم إنه إذا كان هذا الحراك مسموحاً به وربما مطلوباً من قبل النظام، كيف يمكن أن يكون للمشاركة فيه علاقةٌ بالرغبة في تغيير النظام؟

يقول أبو حجر: «تيار قاسيون كان يوسع قاعدته ومكانته على أمل أن يحدث تغيير يقوده إلى حصة من السلطة، والنظام كان يستفيد من التيار في تجميع الشباب اليساريين والشيوعيين الساخطين، وسوقهم إلى حيث لا يفعلون شيئاً جدياً يسبب له إرباكاً، وعلى هذا اللقاء بين المصالح، وفي المساحة الناتجة عنه، كنا نعمل وننشط. ثم إن الحكم على تجربتنا آنذاك بمعايير اللحظة الراهنة ليس عادلاً، وفيه كثيرٌ من جلد الذات. لم يكن هناك أي أفقٍ لحراكٍ شعبي آن ذاك، لم نكن في زمنٍ ثوري، وعندما جاء الزمن الثوري، أصبح جميع الشباب الثوريين خارج التيار تماماً».

وماذا عن الأيديولوجيا؟ يجيبُ محمد: «لم تكن المسألة تتعلق بالأيديولوجيا، كانت تتعلق بأن نكون موجودين أو لا نكون. النقاش الأيديولوجي كان هزيلاً وفاقد القيمة تقريباً، وكان ثمة جدالٌ واحدٌ بدا جدياً في أروقة التيار يتعلق بالترابط بين المسألة الاقتصادية والمسألة الديمقراطية، لكن الأمر لم يكن يُطرح في العلن على نحوٍ حاسم. لقد كنتُ ماركسياً لينينياً، وفي هذه كان خطاب التيار يمثل قناعاتي بالحدود الدنيا، ولكنني لم أعد ماركسياً لينينياً اليوم، وإن كنت لا أزال أرى في الماركسية أداة تحليل صالحة لفهم الواقع والسياسة.

كانت ردة الفعل النفسية على انحياز تيار قاسيون، وعشرات الأحزاب الشيوعية في العالم، إلى جانب النظام السوري، من بين الأسباب التي دفعتني بعيداً عن الشيوعية، ودفعتني إلى إعادة القراءة والبحث والتفكير، لكن ينبغي القول الآن إن الماركسية اللينينية ليست هي التي دفعت هذه الأحزاب إلى اتخاذ هذا الموقف، لا يمكن أن تقود الماركسية إلى الانحياز لنظامٍ فاشيٍ في زمنِ ثورة شرائح شعبية واسعة عليه، إنها الذاتية والتعصب والعداء غير الواعي للإمبريالية. هنا في ألمانيا أرى هذا الأمر بوضوح، ثمة شيوعيون ألمان منحازون لنظام الأسد لأنه يقارع الولايات المتحدة كما يعتقدون، أين هي الأيديولوجيا في تحليلٍ كهذا؟».

على المقلب الآخر، لدى واحدٍ من أصدقاء التيار السابقين آراءٌ أخرى، إذ يعتقد أن: «ما كنا نفعله هناك كان (دون قصدنا) مساهمةً في التضليل، وتشتيت أنظار الشباب الشيوعيين واليساريين السوريين عن خصمهم الحقيقي. لقد كانت المعركة المزعومة البلهاء مع الفريق الاقتصادي الذي كان يرأسه عبد الله الدردري، مجرد تغطية على مركز صنع القرار الاقتصادي في البلاد، الموجود حصراً في يد آل الأسد وآل مخلوف. لم يكن قدري جميل سوى واحدٍ من صبيان المخابرات السورية المدللين، أما الشباب الرائعون الذين ثبتَ أنهم مناضلون مخلصون، كجهاد أسعد محمد والعشرات غيره، فقد كانوا يهدرون وقتهم وجهدهم في صفوف التيار، وكان يتم استثمار عملهم لصالح قدري جميل الذي يريد أن يرفع من موقعه، ويزيد من حصته في عملية السطو المنظمة على البلاد».

هذا الشاب الذي رفض أن يُذكَرَ اسمه، يقول أيضاً: «ها أنا صامتٌ اليوم، وأعتقد أنني سأبقى صامتاً حتى يكون ثمة أوضاعٌ تسمح بقول ما أفكر به، أو حتى أجد في نفسي الاستعداد لدفع الثمن. لقد كان قول جزءٍ من قناعاتنا خطيئةً كبرى، إما أن نقول ما نفكر به كاملاً، مع الاستعداد لدفع الثمن، أو الصمت. والصمت هو ما أفعله اليوم، وهو ما كان يجب نفعله آن ذاك، الصمت وإعداد العدة للمواجهة إن أمكن».

غير أن محمد أبو حجر يرفض القول إن نشاطه ونشاط من يشاركونه الموقف من النظام السوري في صفوف قاسيون كان خطيئةً، ويرفض القول إن الصمت والامتناع عن العمل كان أجدى:

«لا أعتقدُ أن ما كنا نفعله فاقدٌ لأي قيمة، يكفي ما راكمناه من خبرة وتواصل وتعارف وتفكير جماعي، ذلك فضلاً عن التوازن النفسي الضروري. صحيحٌ أنه كان هناك تهربٌ من الأسئلة الرئيسية الكبرى، لكن الإجابة الواضحة عليها لم تكن لتعني سوى المزيد من اليأس والعجز. كذلك ليس صحيحاً أن ما فعلناه هناك لم يُنتج شيئاً. على سبيل المثال مجموعة «الشباب السوري الثائر» التي كانت تنظم مظاهراتٍ في ركن الدين في قلب دمشق، هي امتدادٌ لمجموعةٍ من الشبان الذين تعارفوا وتكون وعيهم وتراكمت خبرتهم التنظيمية في صفوف قاسيون، فضلاً عن عشرات الشبان الآخرين أفراداً ومجموعات، الذين عملوا في مجالاتٍ كثيرة، من بينها الإعلام والصحافة والإغاثة وتنظيم التظاهرات. وعلى المستوى الشخصي أمّنت بطاقة العضوية في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين غطاءاً أمنياً للحركة واللقاءات بالنسبة لي، وأمّنت العلاقاتُ التي كونتها في صفوف التيار مساحات واسعة للعمل الثوري في مراحل الثورة الأولى، ذلك قبل أن أبتعدَ عن التيار نهائياً في وقتٍ لاحق، ثم أغادر البلاد».

عن الذي كنا نفعله هناك

ليس ثمة إجابةٌ حاسمةٌ على سؤال هذا النص دون شك، لكن المعنيين بها، الذين هم أنصار الثورة السورية ممن كانوا أعضاءً في تيار قاسيون أو أصدقاءً له، ينبغي أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال جيداً، ذلك لأن هذا السؤال يفتح معه أسئلة كثيرة عن اليسار ومعناه ودوره ومآلاته، وعن السياسة والثورة والدولة.

تبدو مُساءلة الذاتِ والتجاربِ اليوم راهنةً تماماً، واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين سارت في طريقها المحتوم لتصير حزب الإرادة الشعبية، الشريكَ (على هزالة دوره) في تغطية المذبحة الرهيبة التي يرتكبها نظام الأسد. أما الذين تركوها احتراماً لأنفسهم وعذابات السوريين، مثل جهاد وغيره، فقد ساروا على دروب المعتقلات والمنافي، والمقابر.

تبدو المُساءلة راهنةً على وجه الخصوص، لأن المذبحة السورية مفتوحةٌ على أوضاعٍ مشابهة، أوضاعٍ قد يكون فيها قول ما نعتقده صائباً طريقاً باتجاه واحد، الموت أو الاعتقال، وقد نكون مجبرين فيها على الاختيار بين العمل السياسي تحت سقفٍ مرسومٍ بدقةٍ وحسم، أو الامتناع عن العمل نهائياً. لا نعرفُ ما الذي قد يقوله جهاد أسعد محمد اليوم عن الدروب الوعرة التي يسلكها السوريون، ولا نعرف ما إذا كانت لديه إجاباتٌ أخرى على سؤال: ما الذي كنا نفعله هناك؟ لكن كفاح السوريين من أجل الحرية مستمر، هذا الكفاح الذي كان جهاد وغيره من اليساريين والشيوعيين السوريين شركاء فيه، ودفعوا أثمانه الباهظة، فيما كان «أخوتهم في المنهج» ورفاقهم السابقون يواصلون الشراكة مع النظام، وتأليف الأطروحات النظرية «الكبيرة واللامعة»، لتبرير مواقفهم.