كان الخوف من العودة إلى حلب، كزائرٍ هذه المرة، يصيب قدرتي على التفكير بالشلل، ويدفعني إلى التراجع عن هذا القرار. قررتُ ألّا يراودني الشِّعرُ هذه المرة عن نفسي، وألّا يشدّني صوت الجواهري في حنينه الأخير إلى دجلة:

«وددتُ ذاك الشراع الرخص لو كفني … يخاطُ منه غداة البين يطويني»

كان الصوت عالياً في داخلي، فاستعنتُ بتحريك رأسي كقطٍ مبلول كي يغيب الصوت أو يتناثر عقلي على التراب، لم تكن عقدة المياه ما ينقصني حتى يمتلئ قلبي، كان للشوارع حضورها الطاغي الذي ينتزع ابتسامة العيد في يوم صائم.

هو اليوم الأخير مَنْ حَزَمِ حقيبتي الصغيرة، التي دسستُ فيها على عجلٍ قميصاً أسوداً كنتُ قد ادخرته لأرتديه في أيام الحزن الطويلة، أنا المستمتع بالعرق المالح الذي يزين ياقته، وغبار الطرقات الذي علق على أكمامه فلم تعد مساحيق الغسيل مجدية في إعادة لونه، هي فقط تزيده بوحاً وألواناً متداخلة. ومعه أيضاً بنطالٌ من الجينز، وكعادة المنفى قنينةُ ماءٍ بارد أحملها في يدي كسائح.

كانت المسافة بين كيليس، المدينة التي اكتسبت فيها سمة اللاجئ، ومعبر باب الهوى نحو 150 كم، وكان سائق التاكسي لاجئاً مثلي، يعرف كيف يشغل الطريق بالصمت. المسجّلُ أمامه يصدح بالقدود الحلبية، ووجهه الغائب عن أي تعبير يسمّرك في مكانك حيث تكتفي بسجائر تدخنها على عجلٍ، وبقراءة اللافتات الزرقاء على جوانب الطريق.

كان ناشطٌ في الثورة السورية قد كتبَ على صفحته على فيس بوك أن الأتراك وضعوا حواجز على بعد 8 كم عن معبر باب الهوى، وأنهم ينهالون على السوريين بالضرب والشتم والإهانة. تحسستُ موقع الشتيمة في وجهي وارتعدتُ خوفاً، أعدتُ على مسمع سائق التاكسي الصامت ما قرأت، فاكتفى بحركةٍ واحدة من يده، كان كل ما فهمته منها أن عليَّ ألّا أهتم.

حلب على بعد 95 كم، كانت هذه اللافتة التي تتوسطُ الطريق هي الحدُّ الفاصل بين هواءين، لا أعرفُ إن كنت كاذباً لكن رئتي عبَّت هواء جديداً لا يشبه هذا الشيء الذي كنت أتنفسه. رميتُ قنينة الماء التي في يدي، فلا يجوز أن أدخلَ هواء مدينتي كسائح، وقلتُ في نفسي «ضيفاً على نفسي أحلّ». بدا كل شيء قريباً جداً، التراب كان بحقٍ برزخاً بين الملوحة والعذوبة، بين الثورة واللجوء، بين الانتماء والمنفى.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً حين وصلتُ إلى أول النقاط المغلقة، أخرجتُ حقيبتي الصغيرة ونزلتُ من السيارة أتفحصُ الوجوه التي هدّها التعب والانتظار. كنّا قرابة الألفي شخصٍ موزعين على الطرقات بحقائب ولكناتٍ مختلفة، وبوجوه مختلفة أيضاً، يوحدنا الترقب في انتظار أن يفتح الحاجز أمامنا طريقه للعبور، وتوحدنا سمة اللاجئ والهويات التركية التي ستسمح لنا بالعودة، العودة هذه المرة إلى الوطن البديل.

تنقلتُ بين الكتل البشرية الساهرة على الأرصفة لألتقط كثيراً من الأحاديث الغريبة التي ولّدت عندي حالة إحباط. للوهلة الأولى شعرتُ أن حلم العودة الذي يراودنا جميعا ينتمي إلى أزقة الشوارع التي عرفناها وخبرناها، إلى اللغة الحرة غير المكبلة بكثيرٍ من الإشارات الخرساء التي صارت جزءً من تعبيرنا عن الأشياء التي نريدها هنا في المنافي التي اعتقدتُ أيضاً أنها فُرضت علينا، ولم تكن حالةَ ركونٍ واستسلامٍ قدري لطبيعتنا البشرية في بناء أحلامٍ لا تشبهنا ولكنها تسيطرُ علينا. لعلّي وقتها حاولت عصر مخيلتي لأتذكر تفاصيل الطريق إلى بيتي في مدينة حلب، وتعمدتُ أن أتذكر أثاث المنزل ووجه أمي وبائعي الخضار وصاحب الدكان في بنايتي. عددت أسماءهم كمن يغتنم الدقائق القليلة المتبقية لامتحان الانتماء، اطمأنَ قلبي لما أسعفتني الذاكرة به وشعرتُ أن الانتماء يحتاج إلى كثيرٍ من الحبر والأوراق لإفراغ قلبك كله على الورق.

فكرة التعايش مع القذائف والطائرات وحجم القتل الذي عانته مدينتي يوم كنت فيها، والذي ازداد حدةً بعد خروجي، جعلتني أشعرُ بقزامة ما أفعله، أنا الذي أطمئنُ لختم العودة والسماح لي بالدخول مرة أخرى هرباً من جحيم المدينة التي أدعي أن كل ما فيَّ يشدني إلى ترابها وتفاصيلها الصغيرة.

لم أخف يوماً كما خفتُ حين فُتحَ باب الحاجز وسمحوا لنا بالتدفق عبره لنبدأ رحلة الدخول إلى الضفة الأخرى، خفتُ من العيد الذي بدأت تكبيراته على بعد كيلومترات قليلة، وهو يرفض العبور وكأنه أراد أن يتأخر عن الزحام وأحلام الخوف والحواجز وتصريح العبور وختم العودة، فاختارَ أن ينتظر يوماً كاملاً آخر على الحدود. خفتُ من ثقافة القطيع ونظرية «دبر حالك» التي امتهناها على مرِّ العصور فأنجبت كل هذا القتل الذي نعيشه اليوم، وكل هذا البعد غير الأخلاقي في التزاحم والفرح بانتصار جزئي، كأن تدخل متقدماً على طفلٍ صغير أو امرأةٍ ضعيفة أو رجلٍ مسالم، تأخذ مكانهم وتنظر إليهم بطرف عينك.

ساعةٌ واحدة فقط وكنتُ على كوة تسليم الهويات في الجانب التركي، تمنيتُ لو استطعتُ في تلك اللحظة أن أتكلم مع الناشط الإعلامي الذي تحدث عن حجم الإهانات والذل والضرب الذي يعانيه السوريون على الحدود الفاصلة، أردتُ أن أخبره أنه لا يليق به أن يحمل همومنا ويتاجر بكذبه ليكتب سبقاً صحفياً، وشعرتُ أن خطرنا على الثورة يتجاوز خطر الطائرات.

دقائقُ مرّت قبل أن تطأ قدمي الضفة الأخرى، أخذتُ نفساً عميقاً كمن أراد أن يختبر ما كتبه أبو العلاء المعري يوماً حين قال: هذا ماؤها فكيف هواؤها. للحقيقة أقولُ إن قشعريرةً سرَت في داخلي لم أستطع تفسيرها ولا الوقوف عليها بالمفردات، حتى لا أقتل الشعور باللذة الذي انتابني وأنا اشرب من الماء المثلج الذي وضعه المعبر السوري على طرفي الرصيف احتراماً للقادمين الجدد وترحيباً بهم، يا لغباء من كان يحمل في يده قنينة ماء.

أعطونا على كوة المهاجرين رقماً جديداً، لعلّنا منذ غادرنا البلاد ولعنةُ الأرقام تلاحقنا. في كيليس ليس عليك إلا أن تحفظ رقم الكهرباء خاصتك ورقم فاتورة المياه، ورقم منزلك، ورقمك الوطني الذي يجب أن يبدأ برقم 9، ورقم هاتفك. وعليك كبداية أولى أن تحفظ الأرقام حتى عشرة، قبل أن تجيد السلام على جارك وسؤاله عن حاله. كل الحياة تتحول إلى أرقام، وعبثاً يحاول الإنسان أن يقف في وجه الحضارة الرقمية، فقط في شارعي في طريق الباب كل الناس تناديني بأبي شمس، ويترحمون على والدي ويدعون لوالدتي بالبقاء. الأرقامُ ليس لها آباء ميتون ولا أمهات منتظرات على مسطبة البيت.

امتلأت السيارة خلال دقائق قليلة وبدأ الطريق إلى حلب، كلنا يحاول من خلال النافذة أن يتفحص وطنه، كنّا نبحث عن نشرات الأخبار وصوت الطائرات وأثر القذائف والبيوت المهدمة. الطريقُ كان مزدحماً بالسيارات والمارة، وقرأتُ في وجوهنا خيبة أمل، إذ لعلَّ حلم الحياة كان آخر ما أردنا مشاهدته لنثبت لأنفسنا أنا كنّا على حقٍ يوم غادرنا هذا الجحيم، نحملُ أطفالنا وكثيراً من الخيبة والذل. في الأتارب كانت الأسواق عامرةً والحياة على قدمٍ وساق، مرّت بنا السيارة من شارع السوق، وقفة العيد لم تتغير والألوان قد زينت المحال بثيابها، وعربات الخضار والفواكه أيضاً، وكأنكَ عدت بآلة الزمن من ثقب الماضي، كأن شيئاً لم يكن.

بدأ الخوف في داخلي يتبدد ليأخذ مكانه شعورٌ آخر بالفرح وربما الأمن، وبدأتُ أشعرُ بالانتماء لأصوات الباعة الذين ينادون على بضائعهم، هنا أعرف كل الكلمات ولا أحتاج لمترجمٍ ولا لجهازي الخليوي الذي تحول إلى قطعةٍ حديديةٍ في جيبي. هنا أفهم كل الكلمات والنكات والسباب والوجوه، هنا أنا أشبهني ولا أعاني من عقدة اللغة ولا أمارس دور الأخرس في الإشارة إلى ما أريد.

وصلت بنا السيارة إلى طريق الكاستيلو، الطريقُ كان محفراً والقذائف قد أخذت مكانها في الإسفلت العجوز. نظرتُ إلى القلق الذي اعتلى وجه السائق فزاد من سرعته وكأنه هاربٌ من الموت، سادَ الصمت لدقائق طويلة مرت بثقلها علينا وأصابتنا بالعدوى، فنحن نسينا أو تعمدنا نسيان الخطر الذي هربنا منه قبل أشهر، وبعضنا قبل سنوات.

استقبلتنا حلب، المدينة التي لا تموت، بكثيرٍ من الدمار والموت. على مدخل دوار الجندول لم يكن هناك ما تقف عليه من مظاهر الحياة، كل ما حولنا يوحي بأن ستالينغراد أخرى قامت من جديد لنراها بأم العين، وليس من خلال فيلم وثائقي أو رواية. كانت الصورة واضحة، لم يتبقَ إلا آثار الأقدام والعرق وبقايا الطلقات الفارغة التي تملأ الطريق، ورائحة الدم، وأشباح الأموات.

بدت حلب مدينةً مرهقة التفاصيل، حزينةً خائفةً تجري وتترك لك حرية عدِّ المباني المهدمة التي لا تنتهي، وحرية تخيُّلِ أعداد الشهداء الذين كانوا يسكنون في أزقتها. تغيبُ عن صباحاتها رائحة القهوة وأصدقاؤها القدامى، حواريها وحواريوها وطوابق أبنيتها العليا، ويلتصق حطام منازلها بالأرض.

نزلتُ من السيارة وكانت الساعة قد قاربت منتصف الظهيرة، في طريق الباب رحتُ أبحث عن بيتي بين الأبنية المهدمة. كل شيءٍ كان يوحي بالدمار وكأن إعصاراً مرَّ على المدينة قبل وصولي بدقائق، رائحةُ التراب التي تغيبُ في المدن ونستنشق عطرها في صباحات القرى الهادئة وحدها استعادت حضورها في حي طريق الباب من جديد. لا شرفات زجاجية تستقبلني بانعكاساتها، فيما أخذت الخرق البالية مكانها في ستر عورات البيوت، أو ما تبقى منها.

تلفّتُّ في المكان وحاولتُ أن أستعيد خارطة الحي، أبنيةٌ كاملةٌ كانت قد انتقلت من مكانها، وشوارع جديدة شقّت لنفسها مكاناً بحكم الفراغ الذي خلفته الطائرات، ولعلّي أردتُ أن أصدقَ ما كتبه عبد الفتاح قلعجي في افتتاحية كتابه: «إلى حلب التي ما ترفع فيها حجراً إلا وتجد تحته وجه مقاتل.. أو رسالة عاشق، وما تحفر فيها أساساً لبناء إلا وتجد فيه أثراً لحضارة عريقة».

أردتُ أن أبحث عن الوجوه وعن رسائل العشق وعن وصايا الشهداء، أردتُ للحظةٍ أن ألتقطَ صراخ الأطفال ومراجيح عيدهم، وتكبيرات المساجد، وهدوء المقابر، وكعك العيد، ورائحة أمي، كي توصلني إلى الطريق الذي تهتُ في استحضاره أنا الغريب عن المكان والوجوه والدكاكين، وحتى اللغة.

على باب منزلنا القديم وجدتُ أمي تنتظرني بفرحِ المدينة، أمي أم الشهداء وسيدة العيد تلتفُ بملاءتها وتراقبُ الشوارع المفضية إلى الحنين، وتقنعكَ أن الموت سيأتي وحده دون مظاهر وتكلف ومارشات جنائزية. قبلتُ يدها فاحتضنتني وأدخلتني إلى المنزل، كانت قد أعدت كعك العيد لحضوري، ومعه كثيرٌ من البكاء.

معظم الذين التقيتهم في المدينة يشعرون بالعجز، وينقلون لك تارةً بكلمات مبطنة وتارةً بجمل فجة قاسية وجعهم، وما بدأ يتسرب إلى نفوسهم من لومٍ ربما يصل عند بعضهم إلى الحقد علينا نحن الذين تركنا المدينة لقدرها. يصفنا بعضهم بالهاربين، ونحمل عند كثيرٍ منهم صفة المتخاذلين، وحسب المصطلحات الدخيلة على لغة المدينة «مولّيي الدبر».

قبل أن أسافرَ إلى تركيا منذ ستة أشهر فقط كانت النظرة العامة مختلفة، كنا نستقبل العائدين في العيد بكثيرٍ من الغبطة والفرح، نسألُ عن أحوالهم ونطمئن لقدرتهم على العيش، ونحزن لما يعانونه في الاغتراب من صعوبة اللغة وحتى ساعات العمل الطويلة. تجنبَ معظم الذين رأيتهم البوحَ بما في داخلهم من شكوى، وحملوا وجوهاً صامتةً متحديةً وكأنهم أرادوا القول: «ما عدتَ تنتمي للمكان».

تنقل المدينة جوَّها العام إلى وجوه أبنائها ولغتهم، فالحديثُ عن دخول الجيش إلى بعض نقاط منطقة الملاح، وخوف الأهالي من انقطاع شريان حلب الوحيد، وقلة الحيلة التي يشعر بها معظم الباقين في مدينة حلب، وعدم القدرة على المغادرة بسبب الحدود المغلقة وتجار الحروب في المناطق المحررة الأخرى، الذين استبدلوا الليرة بالدولار أمام عجز أبناء المدينة بعد أن أكلت الحرب ما تبقى من مدخراتهم.

حوّلَ كلُّ ذلك الطيبةَ المُرَاهنَ عليها في قلوب أبناء مدينتي إلى غضبٍ أفهمه، ولكنني لا أستطيع ردّه. بدأ العجز يتسربُ إلى داخلي، ومع علو أصوات الحصار حزمتُ حقيبتي من جديد وغادرتُ المكان محملاً بصور المدينة المهدمة. بدا وجهي ثقيلاً وعيناي مليئتين بالبكاء كحلٍّ فرديٍ باستطاعته أن يريح روحي ويحررها.

حملني الكاستيلو مرةً أخرى وربما أخيرة قبل ساعاتٍ من الحصار الذي أُعلن في المدينة، الطريقُ كان طويلاً جداً.

على باب المعبر السوري سجلتُ هويتي للعودة، كنتُ من أوائل العائدين. الحافلاتُ نقلتنا إلى المعبر التركي، ابتسامةٌ علَت وجه الضابط التركي ونحن ندخل الوطن البديل من جديد، أظنه كان يقول في نفسه أننا لم نحتمل الحياة في أوطاننا.

كل ما كان يدور في داخلي: في حلب عليك أن تدخّنَ بمعظم ما في جيبك من نقود، أن تهدرَ ما تبقى من وقت وأنت تنظر إلى المرآة جائعاً، وأن تحبَّ كي لا تموت.