حفّزني لكتابة هذا المقال حوارٌ أطلقته رسالةٌ وجهها الصديق حازم صاغيّة إلى موقع «الجمهورية» اليساري السوري ردَّ عليها الكاتب كرم نشّار تلاه ردٌّ من حازم. ولأن حوار حازم والجمهورية ينقل النقاش السياسي حول رؤية اليسار للثورة السورية وتحليله لطبيعتها إلى مستوى الفكر، فهو يتطلّب الانتقال به إلى ميدان الصحافة الأرحب.
موقف حازم بسيط: «ما تُدافعُ عنه هذه الأسطر أنّ المسألة برمّتها، مسألة اليمين واليسار، ليست راهنةً في ما خصّ الموضوع السوريّ، ولا يبدو الموضوع السوريّ راهناً في ما خصّها»، «لأن موضوعة الاستبداد والحرّيّة، وهي لبّ الثورة السوريّة في ما أظنّ، ليست موضوعة يساريّة بأيّ معنىً كان لليسار». يردّ نشّار مؤيداً: «إن موضوعة الاستبداد والحرية هي لبُّ الثورة السورية [لكن حازم] يُغفلُ أن هذه الموضوعة ارتبطت بسؤال: حرية من تحديداً؟».
سؤال الثورة لدى طرفي النقاش ملتبس (وليسمحا لي بالقول بصراحة: خاطئ). هل للثورة لبّ؟
لا الثورة السورية ولا غيرها من الثورات قابلة للاختزال إلى استبدادٍ مقابل حرية. لم تنتصر الديموقراطية في الثورة ضد الشاه التي كان «لبّها» النضال ضد استبداد الشاه والدعوة إلى الحرية. ولم تنتصر الديموقراطية في الثورة الروسية التي كان شعارها «الخبز والحرية». انتصر الاستبداد والظلامية هنا وهناك، لأن الثورة تتغير بتغير فاعليها وقادتها الاجتماعيين، ومع هذا التغيّر تتغيّر أهدافها وشعاراتها وبشَرها.
إن كانت الثورة السورية فعلاً جماهيرياً ضد الإستبداد ومن أجل الحرية، وهو ما أطلقها، فالثورة انتهت (وقد كتبت هذا في الحياة قبل عامين على الأقل) وباتت حرباً بين عصابات نهّابة تتشارك في استعباد المدنيين وفي ممارساتها الاستبدادية، وتتفارقُ في شكل السلطة المستبدّة التي تطمح لترسيخها. ولأن الثورة السورية تعسكَرَت واستطالت زمناً فقد تآكل بعدها التحرري الديموقراطي قبل أن تنتصر، على عكس الثورتين البلشفية والإيرانية وغيرهما.
مثيرٌ للحيرة، إذن، أننا نناقش مضمون الحرية التي تسعى الثورة السورية لتحقيقها، والحرية لم تعد مطروحة على جدول أعمال أي من أطراف الصراع الفاعلة. تتوافق الرؤيتان، الليبرالية واليسارية، على اعتبار الصراع الدائر في سوريا اليوم ثورة ضد استبداد، وتتفارقان حول رؤية مفهوم الحرية المنشود من قبل الثوار. حرية غير قابلة للاختزال في العين الليبرالية، وحرية تعكس المصالح الطبقية للثوار وجمهورهم في العين اليسارية.
اليسار محقٌ إذ يرى أن لانتماءات السوريين الاجتماعية دوراً حاسماً في تفسير مآل الثورة السورية، والمواقف المختلفة منها. ولكن ليسمح اليساريون لي بالقول إن الانتماء الاجتماعي إن أُحيلَ إلى طبقات مجردة يتحول إلى كاريكاتير. اقترحتُ في دراسةٍ كتبتها عن الموضوع تحليلاً يقوم على التمييز بين أبناء المدن التي تمثل قلب سوريا وهي دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية وطرطوس، والبلدات المعتمدة في نشاطها على تلك المدن برغم أنها المنتج الأكبر للثروة وهي درعا ودير الزور والرقة والحسكة وإدلب، والعشائر، والمهمّشين والمهاجرين المقيمين على حواف المدن الكبرى. في تقسيمٍ كهذا سنجد بالفعل تمظهرات متباينة لرؤى كل من تلك الفئات للثورة وأهدافها وسنقترب، وهنا الأهم، من فهم تحولات الثورة حتى وصلت إلى شكلها التدميري المنفّر لكثيرٍ من السوريين من أبناء الحضر منها، لا لكونهم برجوازيين بل لأن الثورة باتت تعدهم بمستقبل لا يقل سواداً عن واقع حالهم في ظل سلطة البعث. واستباقاً لنقدٍ متوقع، فإن تحوّل التكوين الاجتماعي للثورة كان أمراً محتّماً إذ دفعها النظام إلى العسكرة التي تنطوي على انخراط الجمع الأكبر من المعادين للنظام والمستعدين لحمل السلاح فيها، وهم الكتلة الهائلة من المهاجرين والمهمّشين التي هاجرت بزخم ندر أن شهدته منطقتنا خلال العقد السابق للثورة.
محقٌ اليساري في أن يرى أن ثمة خوفاً من سيطرة «الرعاع»، لكنه ليس محقّاً في توصيفه الأمر خوفاً من «ديموقراطية»، الفلاّحين ولا هو محقّ في إدانة هذا الخوف وقصره على البرجوازيين، ولا هو محقٌ في دق جرس الإنذار من «النزوع الفاشي» للبرجوازيين لسحق الثورة. إذ لن يغيّر واقع الحال إغماض أعيننا عن تصاعد الخوف بين جمهرة واسعة من أبناء المدن بوجه عام، من فئات اجتماعية تريد القضاء على استبداد نظام الأسد الاستبدادي بنظام يضيف إلى الاستبداد السياسي استبداداً اجتماعياً وقيمياً ودينياً.
فهل يصدّق اليساريون أن ما يدور اليوم هو صراعٌ لإقامة ديموقراطية الفلاحين؟ وهل يصدق الليبراليون أن ما يدور اليوم هو صراعٌ بين استبداد وحرية؟
يهرب اليسار من العالم الملموس إلى فضاء رومانسي متخيَّل. الصراع في رأيه «دفاعٌ عن الأهلية السياسية والقيمة البشرية لأكثرية الناس من فقراء ومهمشين، وأن الانتصار لهؤلاء، الذين هم قادة الثورة ومادتها وأكثر من ضحى لأجلها، لا يكون إلا بالنضال ضد تراتبيات السلطة والمال والثقافة والجغرافيا التي تعمل بنيوياً».
الواقع بسيطٌ لمن يريد رؤيته: جيوش وأحرار وفيالق الشام والإسلام والرحمن لم تعد ترفع شعارات الحرية ناهيك عن الديموقراطية، برجوازية كانت أم فلاحية. والثورة السورية حتى قبل تشظّيها لم تكن ثورة فلاّحية، إذا كان مفهوم الثورة الفلاّحية هو ما تعارفنا عليه: أريافٌ تحتضن الثوّار وتطعمهم وتؤويهم، وثوّارٌ يبشّرون الفلاحين بمستقبل يقضي على «تراتبيات السلطة والمال و…». ثوّار سوريا ما عادوا يبشّرون أحداً بالقضاء على شيءٍ من هذا، لا لعوز في عدّتهم التبشيرية بل لأنهم لا يريدون ذلك. ولا يبدو أن كثيرين التفتوا، أو يريدون الالتفات، إلى الانقلاب الجذري الذي حصل في تكوين الثورات المسلّحة منذ عقود، متمثّلاً بترييع الثورات (والحركات المسلحّة عموماً) وافتتحته منظمة التحرير الفلسطينية في منطقتنا، وليست هي المسؤولة عنه. الريع النفطي لم يقلب العلاقة بين دولنا وبين سكّانها فقط، بل هو عبر المساعدات والإمدادات من دول الريع حوّل قادة الحركات المسلّحة إلى أرباب عمل يدفعون رواتب شهرية ثابتة ومكافآت، ويعظمّون ثرواتهم بانتزاع الأتاوات ممن يخضعون لهم مقابل حمايتهم. هذه ظاهرة لم تعرفها حركات الستينات المسلّحة وما قبلها. الثائر الريعي، إن أصرّ اليسار على استخدام المفردات الطبقية، هو عامل مقابل أجر لدى رب عمل مع فارق أن العامل غير المسلّح يتعرّض إلى التسريح من العمل إن لم يؤدّ واجبه كما ينبغي، فيما يتعرّض العامل المسلّح إلى التسريح من الحياة إن شق عصا الطاعة. وبهذا المعنى فإن قادة الحركات المعارضة المسلّحة معنيون بالضبط بتكريس التراتبية الإجتماعية في المناطق التي يسيطرون عليها، ومعنيون بأن يعي الناس لا بوجود تلك التراتبية فقط، بل بالإذعان لها بوصفها من طبائع الأمور.