تشكلت أوضاع الشرق الأوسط المعاصر من تفاعل صراعي مديد لثلاث قوى: قوى السيطرة الدولية، الغربية على نحو خاص، ومعها إسرائيل طبعاً، ومعهما روسيا في صورتيها السوفييتية سابقاً والبوتينية اليوم؛ ثم قوى السيطرة المحلية المتحكمة بالدول، وقد استقرت على النسق نفسه منذ سبعينات القرن العشرين؛ وأحدثها أخيراً القوى الإسلامية العنفية التي ظهرت لاعباً ثالثاً مع استقرار نظامَي السيطرة المحلي والدولي، وانغلاق أبواب التغير السياسي والاجتماعي والإقليمي. ويبدو أن من الممتنع التفكير في أوضاعنا اليوم بالاقتصار على قوة واحدة من هذه القوى، أو بتقليص إداري فوقي لحقل التفكير، لا يبرز بعضها إلا كي يغفل غيرها.
تقترح هذه المقالة ترسيمة بسيطة لفعل هذه القوى الثلاث: قوى السيطرة الدولية تجرد دولنا المعاصرة من السيادة، وبخاصة من القدرة على الحرب الخارجية، فيما قوى السيطرة المحلية تجردها من السياسة وتمنعها من التغير، أما القوى الإسلامية العنفية فتجرد سكان بلداننا من الاجتماع ذاته. تفصيل هذه الترسيمة المجردة هو ما تنظر فيه هذه المقالة.
نزع السيادة
كانت آخر حرب خاضتها الدول ضد غير سكانها في مجالنا هي حرب احتلال نظام صدام حسين للكويت بالتواقت مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الشرقية، ثم طرد قواته منها على يد تحالف دولي واسع، شاركت فيه دول عربية. قبل تلك الحرب بسنوات كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية أخرجت قسراً من لبنان على يد الإسرائيليين وسندهم الأميركي، وقبلها بسنوات أيضاً، 1973، هزمت مصر وسورية عسكرياً في مواجهة متجددة مع إسرائيل، وكان سجل أدائهما الحربي متفاوتاً، لكنهما واجهتا قوة متفوقة، كفلت القوة العالمية الأعظم، الولايات المتحدة، ألا تهزم.
خلال ذلك وقبله وبعده كانت إسرائيل قادرة على الحرب ومستمرة فيها متى عنّ لها، ضربت في العراق وفي تونس، وطبعاً في لبنان وفلسطين، واليوم في سورية حين ترتئي ذلك، دون أن تلقى هجماتها الأحدث حتى ذلك الاعتراض الطقسي الخافت الذي كانت تلقاه في أوقات سابقة من داعمي إسرائيل الأقوياء، أو من الأمم المتحدة. الولايات المتحدة احتلت العراق عام 2003، ولها قوات وقواعد في شبه الجزيرة العربية، وتتمتع بدرجة عالية من التحكم الأمني والاقتصادي بمصر. الحرب لم تعد ممكنة، وبخاصة في مواجهة من تتلاقى الثقافة والسياسة على تعريفه كعدو، ومن لم يكف عن التصرف كعدو يوماً: إسرائيل. وهذا ليس حال الكويت وقت احتلالها من قبل نظام صدام عام 1990، وإن عمل على ربط احتلاله بالصراع ضد «العدو القومي» عبر مبادرة طرحها وزير خارجيته وقتها، طارق عزيز، وكانت تقضي بأن ينسحب جيشه من الكويت وينسحب الجيش الأسدي من لبنان، والجيش الإسرائيلي من الضفة والقطاع (رفض الأميركيون مجرد النظر في المبادرة).
خرجت العلاقة بإسرائيل من نطاق الحرب، فهل هي عدو أم لا؟ أحد أبرز وجوه المشكل السيادي للدولة العربية اليوم هو أنها إن عرّفت العدو بصورة تتوافق مع هويتها الاجتماعية الثقافية، لم يكن لتعريفها أثر سياسي بحكم تعطيل المركز الامبراطوري الراعي لهذا العدو لقدرتها على الحرب ضده، فإن حكّمت موازين السياسة في تعريف العدو، خرجت إسرائيل من هذا التعريف، ولن يكون للدولة من عدو غير الأضعف منها. وعلى هذا النحو تنفصل السياسةُ عن السيادة والدولةُ عن الهوية، وتخسر الدولة المُروّضة بهذه الصورة البعد الثقافي لشرعيتها. هذه ثغرة واسعة جداً، هي التي سيدخل منها الإسلاميون إلى حقل السياسة، ومن باب «الهوية» و«الأمة»، وفي انفصال متزايد عن الدولة والسياسة.
الدولة التي خسرت المشروع والشرعية، ولم تعمل على توسيع الداخل الاجتماعي والسياسي وتطوير شرعية سياسية وقانونية، ارتدّت إلى سلطة محض، مشروعها هو الحكم المؤبد، وجاهزة للتسليم أمام أي خصم قوي. حافظ الأسد سلّم لكل المطالب التركية عام 1998 بدون مماطلة. حافظ هو من وجهٍ آخر مؤسس السلالة الأسدية، مشروعه هو «الأبد» كما يعلم جميع السوريين، وهو ما توافق على الدوام مع تضييق الداخل الاجتماعي والسياسي السوري.
تطورت دولنا المشرقية الرئيسية إلى دول ناقصة، لا تملك الحرب أو صدقية التهديد بالحرب ضد أي عدو، وهذا مع وجود العدو وقدرته على شن الحرب، وشنها فعلياً حين يناسبه ذلك. وبما أن الحرب أهم مقومات سيادة الدولة الحديثة، صحَّ القول إن دولنا هذه منقوصة السيادة، أي منقوصة الدوْلية.
مجال الحرب الداخلية اتسع وتضخم، بالمقابل.
كان حافظ وزيراً للدفاع عام 1967، وقد كافأ نفسه إثر تلك الحرب الكارثية باستلام السلطة في البلد، وبعد إخفاق حرب 1973 أحكم قبضته على الحياة السياسية والاجتماعية في سورية. بعد سنوات كان ينفجر صراع اجتماعي سياسي عنيف، سيتوسع النظام فيه في قتل خصومه والتنكيل بهم وببيئاتهم الاجتماعية على نحو ما يمارس حيال عدو. وقبل ذلك وأثناءه تم تحطيم أي قوى سياسية معارضة نشطة. أما صدام حسين، صُنوّه، فبعد ثماني سنوات من حرب اختيارية مدمرة مع إيران، أعقبت فتكه بالحزب الشيوعي العراقي القوي، غزا الكويت، ولم تكد قواته ترد منها، وقد خسرت الألوف، حتى كان يتوسع في قتل المنتفضين الشيعة على نظامه. وهذا بعد أن كان قتل عشرات ألوف الكرد، منهم 5000 بمذبحة كيماوية عام 1988. وفي مصر هرب السادات من الاحتجاجات الاجتماعية نحو صلح مع إسرائيل جرى تسويقه بأنه جالب للازدهار، وتوسع إثر ذلك الصلح في قمع معارضيه، واغتيل بينما المئات في سجونه. وخلال 30 عاماً من حكم مبارك وضعت القوى السياسية تحت الرقابة الأمنية، بينما تمركزت السياسة الخارجية حول حراسة الصلح مع إسرائيل. وظل معمر القذافي يتصرف بغرور امبراطوري مستفيداً من غطاء التوازن الدولي في عقود الحرب الباردة، فيتدخل في تشاد، ويدعم الجيش الجمهوري الإيرلندي ضد بريطانيا، وكان ضربه من قبل الأميركيين عام 1986 مؤشراً مبكراً على انتهاء الحرب الباردة لمصلحة القوة الأميركية المستأثرة على نحو متصاعد بالسيادة عالمياً، والمستحقة لوصف الامبراطورية بفضل هذا الاستئثار (يربط أنطونيو نغري ومايكل هارت بين السيادة والامبراطورية في كتابهما الامبراطورية، وإن كانت امبراطوريتهما غير مشخصة في دولة، وأقرب إلى شبكة عالمية لإدارة العولمة). في عزلته لم يبق للعقيد الأرعن غير تعذيب محكوميه، وفي عام 1998 ارتكبت أجهزته مجزرة بحق سجناء إسلاميين ذهب ضحيتها نحو 1200 منهم، وتذكر بمذبحة سجن تدمر السورية عام 1980.
ينبغي أن نلاحظ أن دولنا الناقصة لا تُجرّد من كامل سيادتها، تُجرد تحديداً من القدرة على الحرب الخارجية، أي من أهم ما يجعلها فاعلاً سياسياً له كلمة على الساحة الدولية، وقادراً على مفاوضة القوى السيدة. الخصائص السيادية الأخرى للدولة، ومنها الولاية العامة على المحكومين وجباية الأموال منهم، وقتلهم عندما تقرر الدولة الناقصة لزومه، حوفظ عليها وعُزّزت.
نزع السياسة
فوق أن ما شهدنا من عنف الدول في ثمانينات القرن العشرين وما بعدها غير مسبوق في تاريخها المعاصر (أقرب شيء إليه هو عنف الفرنسيين حيال المجتمع الجزائري أثناء الثورة 1954-1962، وبدرجة أقل عنف الصهيونيين حيال المجتمع الفلسطيني وقت النكبة)، فقد جرى تطبيع العنف، وجعل القسوة الوحشية أداة سياسية عادية. واقترن ذلك بتحطيم ما تعذر استتتباعه وترويضه من منظمات سياسية واجتماعية مستقلة، وإباحة كرامة عموم السكان وإذلالهم، وتدهور نوعية الحياة في مجتمعاتنا وتحطم فرصها في المشاركة العالمية الإيجابية. خيّم هذا الحال المذل على حياة السكان نحو جيلين إلى اليوم. حين نرى الوحشية السريالية لداعش اليوم، يجب ألا ننسى أن وراءنا عقوداً من وحشية بدت سريالية جداً في وقتها، وعلى يد «الدولة»، بخاصة في بلدين مثل سورية والعراق.
بين سبعينات القرن العشرين وموسم الثورات في مطلع العقد الثاني من القرن انحكم العالم العربي في عمومه بنظم مُعمّرة، جردت محكوميها من حرياتهم وحقوقهم السياسية، واستأثرت بالسياسة والحرية لنفسها، وكانت أربع جمهوريات منها، فوق «الجمهورية العربية السورية» التي سبقت إلى الانقلاب إلى سلطنة أسدية، تتهيأ لتوريث الحكم عبر خط النسب (مصر، ليبيا، تونس، اليمن). وهو ما يعني انتقال حكامها من حكم بلدانهم إلى تملكها، وتحولهم إلى مؤسسي سلالات مالكة، هذا هو درس السابقة السورية.
الدول المُجرّدة من السيادة جردت محكوميها من السياسة. ردتهم عملياً إلى رعايا، وهو نكوص إلى ما قبل زمن الدولة الحديثة في بلداننا، ودون ما كانت تحظى به الدولة السلطانية التقليدية من سيادة (سيادة متراجعة في واقع الأمر في سياق القرن التاسع عشر وحتى تفككها في الحرب العالمية الأولى). كان «مواطنون، لا رعايا» شعاراً نهضوياً في سنوات السلطنة الأخيرة، وكان خالد محمد خالد ألف بهذا العنوان كتاباً اشتهر بين خمسينات القرن العشرين وسبيعيناته. علائم السلطانية المحدثة أخذت بالظهور في ثمانينات القرن الماضي، ويصلح توقف التغير السياسي في العالم العربي نقطة علّام زمني لبدئها.
المجتمعات المنزوعة السياسة، أي الصفة العامة، ارتدت إلى «مجتمعات أهلية»، نطاقاتٍ للخاص المنعزل عن غيره، لا قول لها في الشؤون العامة في البلد. ومثلما لا يقول حاكموها لا للمركز الامبراطوري، لا يقول الرعايا في الجماعات الأهلية لا للحاكمين. ويلزم أن نلاحظ أن نُظُمَ التجريد السياسي هذه دامت طويلاً، وأن دولنا توسعت في الاستئثار بالسياسة والبقاء المديد في الحكم بصورة تتناسب (وإن لم يكن الارتباط سببياً) بخروجها من الساحة السياسية الدولية وفقدانها السيادة. وعلى هذا النحو تشكل جدار مضاعف بالغ الصلابة أمام تحرر مجتمعاتنا وامتلاكها زمام أمرها، وهو جدار لم تستطع ثورات «الربيع العربي» هدمه في أي مكان.
وهذا الوضع المتمادي، وفي بيئات تمعن في العزلة والفقر السياسي والمادي، ومنع المستقبل من القدوم عبر تأبيد الحاضر، أهّل شروط إمكان أولية لظهور مجموعات إسلامية عنفية، ستحاول امتلاك السياسة عبر الدين، لكن تشكيلاتها الأكثر تشدداً ستعمل على تجريد الواقعين تحت سلطتها من الحياة الاجتماعية حتى في النطاقات الخاصة. المجموعات الدينية المحاربة ظهرت في مجالنا في شروط تفاقم عجز الدولة عن الحرب مع العدو.
نزع الاجتماع
في مواجهة دول تجردهم من السياسة دون أن تستطيع صون السيادة، بل مع استبطان شرط التجريد من السيادة والتسليم بالخروج من الساحة السياسية الدولية، وجد السكان المجردون من السياسة في بلدانهم أمامهم واحداً من سبيلين: إما مواجهة التجريد السياسي، بما قد يفسح الطريق لاستكمال الصفة الدولية واستعادة السيادة يوماً، وهو كان خيار «الديموقراطيين»، أو مواجهة التجريد من السيادة مباشرة، على ما سيفعل السلفيون الجهاديون، دون أي انشغال بالمسألة السياسية، أو مع جعل الدين سياسة مباشرة (وهو ما يقصى غير الشركاء في الدين من السياسة). السياسيون، بمن فيهم تيارات «الإسلام السياسي» فضلاً عن الديموقراطيين، أخفقوا في كل مكان على يد جهاز التجريد السياسي، المسمى «الدولة». وهو ما فتح الباب أمام المنازعة السيادية، والصدارة في هذه للسياديين من دعاة الحاكمية الإلهية. القوميون العرب الذين يأخذون على «الدولة» أنها لا تحارب «العدو القومي» استكانوا لها مع ذلك، وخرجت عقيدة الممانعة من هذا المزيج: التحفظ على الدولة والتسليم لها. لكن نواميَ التاريخ غير المتوقعة أوقعتهم في ركاب الجهادية الشيعية في لبنان، وقد حاربت هذه إسرائيل دفاعاً عن مجتمع جنوب لبنان، ولكن في سياق تجدد التطلعات الامبراطورية الإيرانية من وراء غلالة شيعية.
كانت الحاكمية الإلهية، أي اختصاص الله بالسيادة والسلطان، تتضمن برنامجاً سياسياً يتطلع إلى دولة إسلامية واحدة، سيدة، تحكم باسم الله. ظهرت عقيدة الحاكمية في أربعينات القرن العشرين على يد أبو الأعلى المودودي، وذلك في زمن كانت معظم بلدان المسلمين محتلة من قبل قوى غربية، ولا يشكل أي مسلمين قوى سيدة مالكة لأمرها (سيصير المودودي مواطناً لباكستان بعد قيامها أواخر أربعينات القرن العشرين). واعتمد سيد قطب عقيدة الحاكمية في سنوات الناصرية التي جردت المصريين، ومنهم الإسلاميين، من السياسة، وإن حاولت التصرف كدولة سيدة، وسُحقت بفعل ذلك. قطب الذي دعا إلى نزع السياسة (والسيادة) من الحاكم بنسبتها إلى الله، «سُحِق» على المشنقة قبل سحق مصر الناصرية في حزيران 1967 بأقل من عام واحد.
ومن تلاقي الحجر السياسي على السكان وارتدادهم إلى رعايا أهليين مع فقدان الدول للسيادة، ومع المتخيل الامبراطوري لسيادة المسلمين، على نحو ما انعكس إيديولوجياً في تصور الحاكمية الإلهية، ثم مع تحريك من المحرك الأول الأميركي وتوابعه العربية في الساحة الأفغانية في العقد الأخير من الحرب الباردة، ولدت السلفية الجهادية شاكية السلاح مثلما ولدت أثينا من رأس رب الأرباب زوس في الأسطورة اليونانية.
ظهرت السلفية الجهادية خارج أفغانستان عبر ظاهرة «الأفغان العرب» عام 1990 بالتواقت مع آخر حروب الدول، ونهاية الحرب الباردة بانتصار الغرب، وإدارة الأميركيين ظهرهم لأفغانستان التي كانو هم بالذات من رعوا غرس الظاهرة الجهادية فيها طوال عقد.
في سورية، أكثر حتى من العراق، أظهرت المجموعات الجهادية عدوانية شديدة حيال المجتمع بالذات. ولا أعني بمعاداة المجتمع فقط العداء الموتور للجماعات غير السنية، بل التصرف كقوة احتلال أجنيبة حيال المجتمعات المحلية السنية بالذات، ومعاداة النساء، والتوسع في التنكيل بالسكان وترويعهم، وضرب أي اختلافات عامة أو مظهر لحياة اجتماعية مستقلة بين المحكومين. الإكراه ليس أداة السلفيين الجهاديين لفرض سلطتهم، بل هو دينهم، ولهم فيه نظرية: «إدارة التوحش». وما إن نتكلم على إكراه وتوحش، فإننا نتكلم أيضاً على تحطيم الروابط الاجتماعية، ووضع حياة الناس الخاصة، وليس العامة فقط محل مراقبة وضبط. الإجبار على الصلاة مثلاً، وعلى مظهر بعينه مثلاً، وطمس شخصية النساء مثلاً، والحضور الكثيف للعنف الجسدي واللفظي في الشارع مثلاً، هذه أفعال مدمرة للمجتمع وليست أفعال تقييد سياسي فظ، وهي تدشن عالماً من الوحشية يتجاوز حتى عالم الطغيان الشمولي في أشنع أشكاله. نحن هنا حيال قوى تدمير ذاتي، تستقطب اللااجتماعيين من السكان والناقمين والغاضبين، وأعدادهم تزايدت في بلداننا كلها على يد دولة التجريد السياسي التي وفر حجرها السياسي على السكان الشروط الأنسب للاستيلاء على الموارد العامة وظهور برجوازية جديدة، تشكل الجناح المالي لمراتب الحكم العليا.
أقول: كان الجهاديون معادون للمجتمع في سورية أكثر حتى من العراق لأن داعش ظاهرة عراقية أساساً ولا روابط اجتماعية تشدها إلى بيئات سورية حية خلافاً للعراق، ولأنها في سورية واجهت أولاً وأساساً الثورة وبيئات الثورة وتشكلت بهذه المواجهة. خارجية داعش السورية خارجية مضاعفة: خارجيتها الاجتماعية بحكم كونها قوة احتلال عراقية، وخارجية مثالها العقدي والاجتماعي عن أي مجتمع حي. نحن هنا حيال «نظرية مستوردة» بكل معنى الكلمة، ومفروضة قسراً.
المجموعات السلفية الأخرى معادية للمجتمع أيضاً بفعل خارجية مثالها، وإن ليس بمثل بهيمية داعش. في سجل «جيش الإسلام» في دوما، و«جبهة النصرة» في الشمال السوري من أفعال معاداة المجتمع ما يصمد أمام أي تشكك.
دوائر السيطرة وعلاقاتها
في سورية التعيسة تلاقت وطأة القوى الثلاث، المُجرِّدة من السيادة، والمجردة من السياسة، والمجردة من الاجتماع.
المهندس العام والمتحكم العام بالتفاعلات الكبرى والمحدد للوجهة التاريخية هو المركب الأميركي الإسرائيلي، المنتقص من سيادة الدولة في مجالنا. المنفذ الأساسي والمتحكم المباشر بحياة ملايين الناس والمشرف على تجريدهم السياسي، ومن الحياة إذا اقتضى الأمر ذلك، هو الدول الناقصة نفسها التي كانت ارتدت إلى حكم سلالي. أما القوى المؤذية المعادية للاجتماع البشري والحياة فهي التشكيلات الجهادية الطفيلية (لا تنتج شيئاً، اقتصادها اقتصاد غنيمة وريع). الحرب كاختصاص سيادي تنحدر عند اللااجتماعيين إلى أفعال توحش عدمية عشوائية، دون فرق بين التعامل مع السكان المحكومين ومع أي قوى معادية، ودون تمييز بين خصم وعدو، ودون فرق بين مدنيين ولا مدنيين في البلدان المستهدفة، أي دون سياسة إطلاقاً. ومآل حروب اللااجتماعيين هو تدمير المجتمعات التي جعلوا منها بيئات لتوحشهم، الواقعة بين سندانهم ومطرقة القوى الدولية السيدة.
بفعل نزعها لسيادة دولنا، واستئثارها مع شريكها الإسرائيلي بالسيادة، شغلت الولايات المتحدة موقع دولة الدول السيدة في مجالنا، أي موقعاً امبراطورياً يمكنها من التحكم بالتفاعلات بين الدول بالصورة الأنسب بها. ولعل جذور مشكلتنا السيادية تمتد في واقع سياسي ثقافي حديث نسبياً، وواعٍ ذاتياً ومتقارب الإرادة، يطلق عليه في الغرب بخاصة اسم «الغرب». ظهر هذا الواقع بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزز بنهاية الحرب الباردة. التأكيد على الغرب والصفة الغربية الجامعة حاضر بكثافة من وسائل الإعلام إلى مؤلفات الفلاسفة، وهو ما يساعد الدول الأوربية على تحمل نقص السيادة وتراجع قدرتها على الحرب (مقابل الولايات المتحدة)، وهذا في عالم قائم على مبدأ الدولة السيدة، أي على القوة وامتلاك الحرب. الامبراطورية اليوم ليست تلك السيادة الشبكية المجردة التي تكلم عليها نغري وهارت، ولا هي الولايات المتحدة حصراً (وإن تكن القوة القائدة للامبراطورية)، بل هي «الغرب». وإسرائيل جزء منها لسوء حظنا الكبير. لا تخلو الامبراطورية من منازعات داخلية، لكن ملمحها الجوهري هو خروج المنازعات المحتملة بين مكوناتها من الحرب إلى نطاق السياسة، والميل الصاعد إلى الانخراط المشترك في الحروب، من الحرب الباردة إلى «الحرب ضد الإرهاب». تراجع فرنسا وألمانيا أمام أميركا بعد حرب احتلال العراق الذي تحفظتا عليه يندرجُ ضمن هذا الميل الصاعد.
وتتبع للامبراطورية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الجزيرة العربية وسلالاتها الحاكمة، وبخاصة السعودية، أكبر مستودع للنفط في العالم، والتي تقوم شرعية سلالتها الحاكمة على تحكمها بهذا الريع ممزوجاً بـ «حماية الحرمين الشريفين». كان هذا المزيج منبعاً هائلاً للخراب في إقليمنا، وفي العالم.
يلزم استدراكٌ بخصوص الامبراطورية للقول إنها لا تقتصر حصراً على نزع سيادة الدول دون الاقتراب من دوائر السياسة. فهي تعمل على التأثير على التفاعلات السياسية في بلداننا بصورة تضمن انضباط الحاكمين، على ما أظهر موقف الأميركيين والاتحاد الأوربي من فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، واليوم في سورية عبر الحرص على «البنية التحتية الأمنية» (هيلاري كلنتون)، أي في أحسن الأحوال على الأسدية دون أسد. ليست دولنا وحدها غير حرة في مواجهة الامبراطورية، بل وقوانا السياسية، ومحاولات مجتمعاتنا امتلاك السياسة كذلك.
ومقابل ذلك لا تخضع قرارات الدولة العليا الامبراطورية التي يتأثر بها كل التأثر محكومو الدول الدنيا الناقصة للمساءلة من طرفهم ولا تأثير لهم عليها، ولا هي، دولة الدول، تشعر بوجوب تقديم أي كشف حساب أو توضيح شيء لهم. هذا يعني أن الدولة العليا غير ديموقراطية وغير مسؤولة كما كانت طوال الوقت حيال بلداننا، وإن تكن ديموقراطية في بلدانها. والسؤال الذي يُطرح في عالم يزداد تشابكاً هو: هل تصمد الديموقراطية في بلدان امبراطورية الغرب بينما هي قوى لا ديموقراطية جوهرياً خارجه؟ جوابي هو لا، و«الحضارة» مرشحة أكثر وأكثر لأن تحل محل الديموقراطية.
دولنا المنزوعة السيادة انحدرت إلى مرتبة أحزاب سياسية، وهي بالفعل دول حزبية، يحكمها غالباً حزب واحد تدهور في العقدين السابقين للثورات في اتجاه الحكم العائلي. وهذا بينما كانت المجتمعات المحرومة من السياسة تفقد صفتها العامة كما سبق القول، وتُحاصر في دوائر خاصة.
الدولة الناقصة لا تقاوم دولة الدول الامبراطورية، بل هي طورت استعداداً قوياً لتقديم الخدمات الأمنية لها، بما في ذلك «كتابة التقارير» بمواطنيها ومن في حكمهم لأجهزة الامبراطورية، على نحو ما كانت تلك الدولة الناقصة تجبر محكوميها المناكيد على أن يشتغلوا مخبرين عندها، يكتبون التقارير بأشباههم. وهو ما تجده دولة الدول وشريكاتها كافياً لمكافأة الدولة الناقصة المخبرة وضمان بقائها، إن لم يكن ذلك البقاء مكلفاً لها. حين يغدو مكلفاً، تحسب الخسائر والأرباح، ويتخذ القرار. المُخبر ليس له قيمة ذاتية.
ولم يعد لأي من دولنا قول في الشؤون السياسية الدولية، أو قدرة على الاعتراض على المركز الامبراطوري أو حلفائه في المحافل الدولية، أو محاولة تشكيل حركات وتحالفات من دول أضعف للاعتراض على الامبراطورية. حركة عدم الانحياز ماتت في سياق فوز امبراطورية الغرب بالحرب الباردة. ولم تعد دولنا فاعليين سياسيين على الساحة الدولية على نحو ما إننا، أفراداً أو مجموعات منظمة، لم نعد فاعلين سياسيين في بلداننا.
ومثلما أن نزع السيادة على يد دولة الدول الامبراطورية لا يعني أنها لا تراقب السياسة، فإن نزع السياسة على يد الدولة الناقصة لا يعني أنها تقتصر عليها، ولا تراقب التفاعلات الاجتماعية للسكان وتتحكم بها. في سورية جرى الاستيلاء على المجتمع منذ ثمانينات القرن العشرين، وصولاً إلى الحياة العائلية، مروراً بمعظم أنشطة الحياة اليومية من فتح دكان إلى حفل عرس إلى احتفال ديني. كله تحت رقابة المخابرات. وجرى تفخيخ المجتمع السوري بالمخبرين، فضلاً عن تطويقه بأجهزة مخابرات بالغة القسوة. ويشكل هذا الاختراق نموذجاً باكراً للاختراق الداعشي اللاحق الذي تربى قادته في أجهزة صدام حسين الأمنية والعسكرية.
القصد أن الدولة الناقصة لا تقمع المنافسين السياسيين والأحزاب المستقلة والمعارضة وحدها، بل هي تجرد عموم السكان من الحرية، فلا يبقى حراً فيها غير الفرد أو السلالة الحاكمة، على نحو ما كان هيغل قرر قبل قرنين بخصوص «الشرق» (على الأرضية التاريخانية لمذهبه، هيغل جعل من «حرية الواحد» خاصية ماهوية لـ «الشرق» ومرحلة دنيا على درب الغرب الذي تعي الروح ذاته فيها كحرية وحي كل إنسان حر؛ في واقع الأمر لا تفهم حرية الفرد الواحد، الطاغية، اليوم دون نظام محدد للعلاقة بـ «الغرب»، على ما تحاول هذه المقالة أن تظهر).
وفي ظل التجريد المزدوج: من السيادة على يد المركز الامبراطوري، ومن السياسة على يد الحزب الواحد المنحدر إلى قوقعة لحكم عائلي، هناك فرص أكبر لتفجر العدمية المعادية للمجتمع والدولة والعالم. لا يتعلق الأمر هنا بمقاومة، بدفاع عن المجتمع، بجهد من أجل التملك العام للسياسة، مما كان محركاً أعمق للثورة السورية، ولا بالتملك الوطني للسيادة الذي حفز حركات التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار، بل بمزيج عدمي من كاريكاتير امبراطوري متوحش ومن دولة حزب واحد متوحشة من الصنف الأسدي، ومن مخيلة مسكونة بأفعال التوحش الدينية الإلهام.
ومثلما تراقب الامبراطورية الأفعال والتحركات السياسية غير مكتفية بنزع السيادة، وتراقب الدولة الناقصة المجتمع وتتحكم بتفاعلاته غير مقتصرة على نزع السياسية، كذلك لا يقف التأثير المُجرِّد للجهاديين على الاجتماع، وإنما يتعداه إلى التحكم بالأجساد: كيف تبدو وكيف تتحرك وكيف تتكلم وكيف تجتمع، وماذا تأكل وتشرب. هذه قارة استشرفها بالكاد نظام حافظ الأسد حين كان يتشكك في الملتحين، ويراقب من لا تعمهم السعادة في مناسباته الخاصة السعيدة ومن لا ينتحبون في مناسباته الحزينة. لكن تدخلاته في مظاهر الناس غير ذلك ظلت محدودة، وكذلك في نطاقاتهم الخاصة. التجريد الأقصى من الحرية مُسجل باسم السلفيين الجهاديين، هنا لا أحد حر إطلاقاً، ولا حتى في النطاقات الخاصة. هنا لسنا في «شرق» هيغل، إننا في جهنم. ومن يحكم هنا هو الشيطان شخصياً، الشر المحض. وهنا المادية المطلقة والخلو التام من الروح، ومن الثقة، ومن الحب. وحده الخوف حاضر في كل مكان.
وما يجعل الجهادية ظاهرة تدمير ذاتي بكل تشكلاتها هو أنها، بمعاداتها للمجتمع، وفرت للدولة الأسدية الناقصة وأشباهها قضية إيجابية ما (الأسدية لا تستوقف الناس في الشارع بسبب مظهرهم، ولا تدفن النساء في خيم سوداء)، وهذا دون أن يتوفر في ظلها الحد الأدنى من السياسة للعموم، ودون صدقية تذكر للزعم السيادي الخاص بامتلاك الحرب. وهو بعد ذلك كارثة ثقافية، بل ودينية، وتعبر بالفعل عن تسليم مسلمين كثيرين أرواحهم للشر والكراهية، أي بالضبط للشيطان.
من يتحكم بشروط إعادة إنتاج الوضع العام هو المركب الامبراطوري الذي يشغل موقع الدولة الأعلى أو دولة الدول كما سبق القول، ويشكل سلطانه الطبقة الأعمق من طبقات السيطرة (هو استئناف للسيطرة الاستعمارية في أزمنة سبقت، والحلقة الإسرائيلية كفلت استمرارية غير منقطعة). ومن يتحكم بشروط التجريد السياسي في حالتنا السورية هو الدولة الأسدية، وهي تدعم التجريد السياسي للمحكومين باحتكار الحرب في الداخل، أي بانقلاب سيادتها إلى الداخل، مع التوسع في العقوبة السيدة، القتل. ومن يتحكم بشروط التجريد الاجتماعي في مناطق سيطرتهم هم الجهاديون، وهم الطبقة الأحدث من طبقات التجريد، خلافاً لما تقوله النظريات الثقافوية، نظريات الإسلامييين أنفسهم ونظريات الثقافويين العلمانيين، التي تجعل من إسلاميي اليوم استمراراً لا انقطاع فيه لإسلام متماثل مع ذاته طوال 1400 عام. لكن هؤلاء الأخيرين لا يتحكمون بغير أنفسهم وبالواقعين تحت سلطتهم، فيما تتحكم الدولة الأسدية بجانب من شروط إنتاجهم وإنتاج ذاتها، والمتحكم العام يبقى الامبراطورية، مركز القيادة الأميركي بخاصة، وشريكه الإسرائيلي القريب.
والدلالة المباشرة لعلاقات السيطرة هذه تتمثل في أننا في وضع سيء لمواجهة التجريد السياسي بسبب التجريد الامبراطوري، أننا في وضع سيء لمواجهة التجريد الاجتماعي على يد الجهاديين بفضل التجريد السياسي على يد الدولة الناقصة، وأننا في وضع سيء لمواجهة الدولة الناقصة ودولة الدول معاً بفضل غير مشكور للعدميين الجهاديين المعادين للمجتمع.
أنماط القتل
ويعزز من تراتب المسيطرين ما هناك من فوارق حاسمة في القوة والتكنولوجية بين القوى الثلاث. يحوز العدميون الجهاديون أسلحة متوسطة وخفيفة تقتل مئات وألوف ممن يطالونهم مباشرة. وتحوز الدولة الناقصة أسلحة أثقل تقتل عشرات الألوف ومئات الألوف، ومنها سلاح الطيران الذي لا يحوزه الجهاديون أو أي من مقاومي الدولة الناقصة، التي تشغل من هذه الجهة موقعاً إسرائيلياً حيال محكوميها. وتحوز دولة الدول أو الامبراطورية أسلحة تمكّن من قتل الملايين وعشرات الملايين، منها السلاح المطلق، النووي. واستخدام هذا ليس وراءنا حتماً. إذا وُوجهت دولة الدول وشركاها بتمرد واسع يهدف إلى المشاركة في السيادة، فقتل الملايين وارد. في تموز الماضي قالت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، إنها يمكن أن تضغط على الزر النووي وتقتل 100 ألف إنسان. السيدة كان يمكن أن تجيب على سؤال بهذا الخصوص بطرق متنوعة مما لا يكف السياسيون عن فعله، لكنها فضلت أن تُضيِّفنا قطعة من خيالها تعطي انطباعاً بأنها قائدة حازمة.
وعلى كل حال يمكن لهندسة مقتل نصف مليون سوري أن تكون سابقة مسوغة لقتل ملايين يدأب نظام المعلومات الدولي المسيطر على تجريدهم من الإنسانية، وليس من السيادة وحدها، أو منها ومن السياسة، أو منهما ومن الاجتماع. والتعامل العالمي مع العدميين الجهاديين منذ الآن، ومنه تعامل منظمات حقوق الإنسان الدولية، هو ذاته تعامل عدمي نازع للإنسانية، لا يعترف للجهاديين بحق في العدالة، ولا ينهج في مواجهتهم غير نهج الإبادة. هذا التعامل يمكنه بدوره أن يكون مثالاً تدريبياً يمهد لقتل الملايين يوماً.
وغير الفوارق التكنولوجية هناك فوارق مهمة في محسوسية القتل وتجريديته. القتل عند الجهاديين محسوس جداً، باليد مباشرة أو بالسلاح من قرب شديد. نمط القتل هنا حسي، وفردي غالباً، أو تنتجه ورشات قتل أقرب إلى البدائية. يقتل الدواعش أفراداً، قد يكونون كثيرين في حملات القتل المنظمة، لكنهم يبقون في مراتب العشرات والمئات. القتل عند الأسديين في مرتبة وسطى من التجريد، يعتمد في صيغه المحسوسة على التعذيب وعلى المذابح بالسلاح الأبيض أو هرس الرؤوس بكتل الاسمنت، وفي صيغه الأقل محسوسية على البراميل المتفجرة، وفي صيغ أكثر تجريداً على القصف بالطيران وبالغازات السامة، فضلاً عن القتل غير المباشر بالحصار والتجويع. ونمط القتل الروسي مشابه لنمط القتل الأسدي، قصف للمدنيين في الأسواق والمشافي والأحياء الآهلة بالسكان، يطال الأطفال والمسنين والنساء والجميع. أما القتل الامبراطوري فهو الأشد تجريداً، والأكثر جمعية. لكن ينبغي القول إن دولة الدول لا تتدخل في صراعنا السوري بكل طاقتها ولا حتى بعُشر عشرها، لذلك في رقبتها حتى اليوم مئات الضحايا المدنيين فقط.
هل تمايز أنماط القتل هذه مؤشر على «تقدم»؟ هل القتل الأسدي بالبراميل المتفجرة متقدم على القتل الداعشي بالساطور، والقتل الامبراطوري بطائرات الإف 16 متقدم أكثر من القتل بالبراميل؟ وهل هناك تفاوت في الجدارة بالإدانة؟ كأن يُدان القتل المحسوس بقوة أكبر من القتل المجرد؟ هذا ما يبدو أن نظام المعلومات الدولي يراه، ولست على اطلاع على نقد حقوقي أو فلسفي لهذه المقاربة.
أعتقد أن القوى الغربية عموماً تمعن في «الحضارة»، أي في مركب بالغ التعالي من الثقافة الخاصة والثروة والتنظيم والقوة، تقل فيه الديموقراطية أكثر وأكثر، ليس على المستوى العالمي وحده، بل وفي الغرب ذاته. وهذا مرتبط بالامبراطورية، بامتياز القوة والثروة والتنظيم، وما يخلفانه على مستوى الثقافة من تعال وغطرسة ورفض للمساواة. وبعد أن كان ممكناً قتل ملايين اليهود وغيرهم على يد الألمان قبل ثلاثة أرباع القرن، فلن يكون قتل ملايين وعشرات الملايين من قليلي الشأن خارج الغرب، وفي الغرب نفسه، ذلك الاحتمال المستبعد. وظاهر أن never again التي قيلت بعد الهولوكوست ليست عامة. من يملك السلاح المطلق وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، ومن استبطن في الثقافة سردية تفوّقٍ صارت تحول دونه ودون الاهتمام بشيء خارج الغرب، وتغنيه عن الخروج من نفسه وتعلم شيء من غيره، وفوق ذلك سرديات تحقير نازعة لإنسانية المتدهورين، من حاله كذلك، سوف يقتل الملايين. المسألة مسألة وقت.
نزع الإنسانية
تكتمل الدورة عبر أربع حركات، نزع السيادة من الدول التي تفقد دوليتها وتنحدر إلى حكم حزبي أو فئوي، ونزع الدول للسياسة من المحكومين الذين يفقدون مواطنتهم ويرتدون إلى أتباع وجماعات أهلية، ونزع العدميين الإسلاميين الاجتماع من هؤلاء والتحكم بأجسادهم وبحياتهم الخاصة وردهم إلى كائنات مبرمجة على برنامج خارجي اسمه الشريعة، ثم نزع الإنسانية على يد الامبراطورية التي تتحكم بإعادة إنتاج الكل، والقادرة على إبادة الكل.
نزع الإنسانية مشترك، على كل حال، بين النازعين الثلاث وإن تفاوتت قدراتهم الإبادية، وإنتاجيتهم من المعاني المبيدة. دولة الدول الامبراطورية هي الأقدر في هذا الشأن. لكن الدولة الناقصة للسلالة الأسدية عرضت قدرات مثيرة للإعجاب الامبراطوري، وترجمت قدراتها بالمجازر وبالبراميل المتفجرة والقتل تحت التعذيب، فضلاً عن ترويج الخطابات النازعة للإنسانية: عراعير، متخلفون، إرهابيون بالملايين حسب بشار الأسد، جهلة، حثالات. والشبكات العدمية التي جعلت من دين المسلمين تكنولوجيا سياسية للتحكم بالأجساد واستخدامها كأسلحة، لا تحسد سابقيها على نزع الإنسانية. لا كرامة للإنسان هنا، ومفهوم الإنسان مردود هنا أصلاً إلى بعده البيولوجي، بحيث أن ذبحه أو التفنن في قتله وترك جثته في العراء أو رميها في أخاديد الأرض لا يغاير في شيء طرق التعامل مع حيوانات ميتة.
تقدمنا الدائب نحو البدائية متولد عن هذا التجريد من السيادة والقدرة على الحرب في شرط عالمي لا يقتصر على عدم نفي الحرب، وإنما هو قائم عليها كشرط جوهري للدولة والسياسة، وحرمان المجتمعات من السياسة والحركة والفعل على المستوى المحلي، وهو بدوره معنى الدولة في المجتمعات المعاصرة، ثم حرمان الجماعات من الاجتماع والحركة والفعل على مستوى البيئات المحلية، وهو ما لا تستقيم جماعة بشرية من دونه. هذا يقود إلى تصنيع البدائية والتدهور الشامل مما نعانيه على نطاقات تتسع في مجتمعاتنا.
وما يمكن استخلاصه بنظرة واسعة هو أن ما نعيشه من انحدار حضاري وسياسي وأخلاقي متولد عن هذا السجن ثلاثي الجدران، والفعل المتضافر لسجانيه الثلاثة: الامبراطوري والدولتي والديني. ووراء هذا الجدار الثلاثي يجري تعذيب رهيب.
إنها، مرة أخرى، الغيلان الثلاث، وإن الدفاع عن إنسانيتنا، وليس فقط عن سيادتنا وسياستنا واجتماعنا، يمر بمواجهتها، بالحرب والسياسة والثقافة، بالثلاثة معاً. انتزاع السيادة من الامبراطورية (أو السير معاً نحو عالم بلا سيادة ولا حروب)، والسياسة من الدول الناقصة، والاجتماع من دين الإكراه، هذا الانتزاع هو الوجهة العامة لتحررنا.
تبدو مواجهة الغيلان مأساوية ومستحيلة في آن، لكن لم يتأنسن الإنسان في أي وقت إلا عبر مواجهة المستحيل وتقبل الموت في سياق المواجهة.
لا مناص من ترويض الغيلان لإنقاذ الإنسان، والحياة ذاتها.