هذا النص هو محاولة قد تكون الأولى لكتابة تاريخ مدينة الميادين في زمن نظام الأسد وزمن الثورة عليه، وقد اعتمدتُ فيها على مصادر قليلة ومتناثرة، وعلى لقاءات مع عددٍ من أبناء المدينة وناشطيها، الذين لم تُذكر أسماء بعضهم مطلقاً، وذكرت أسماءٌ مستعارة لبعضهم الآخر، ووافق اثنان منهم على ذكر الأسماء الصريحة، ولهم جميعاً أتوجه بجزيل الشكر والعرفان.
سيجد القراء في هذا النص ثغرات ونواقص كثيرة دون أدنى شك، لكن كتابة تاريخ سوريا، ومنطقتها الشرقية على وجه الخصوص، تصطدم بعقبات أبرزها شحُّ المعلومات عن الحياة تحت حكم الأسدين، والفوضى وتضارب المصادر والروايات في زمن الثورة، والخوف الذي عاد ليُحكم قبضته على حياة أبناء الفرات، بعد أن حطموه بثورتهم الشجاعة عام 2011.
سيتم نشر النص على قسمين، وهذا هو القسم الأول.
*****
«لم يكتب تاريخها كاتبٌ ولا مؤرخ، لا قديمٌ ولا حديث، لا عربيٌ ولا أجنبي»، كان هذا ما قاله الراحل عبد القادر عياش عن مدينة الميادين في ريف دير الزور الشرقي مطلع سبعينات القرن المنصرم، في أول القسم المخصص للحديث عن «الرحبة» من كتابه حضارة وادي الفراتالكتاب مجموعة من المخطوطات التي تركها الراحل عبد القادر عياش، قام بإعدادها وتجميعها وليد مشوّح، ليصدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1989 عن دار الأهالي للطباعة والنشر في دمشق. وعبد القادر عياش هو محامٍ وباحثٌ من أبناء دير الزور، ولد عام 1911 وتوفي عام 1974، وعمل إلى جانب المحاماة على الكتابة في كل ما يتعلق بدير الزور وريفها، وأصدر مجلة صوت الفرات على نفقته الخاصة على ما يقول الأديب عبد السلام العجيلي في تقديمه لكتاب حضارة وادي الفرات..
والرحبة هي الحاضرة القديمة التي قامت على أنقاضها مدينة الميادين، رحبة مالك بن طوق في التراث العربي الإسلامي، وتسمى الرحبة الشامية أيضاً، وكذلك الرحبة الفراتية. وهي بيت رحوب الآرامية، ويرجِّحُ كثيرٌ من مفسري الكتاب المقدس أنها رحوبوت النهر نفسها، الوارد ذكرها في الإصحاح 36 من سفر التكوين في العهد القديمجاء في سفر التكوين، في الإصحاح 36، أن أحد ملوك آدوم الذين حكموا أرض إسرائيل هو «شاول من رحوبوت النهر»، ورحوبوت النهر هي رحوبوت على نهر إفراتة وفق تفسيرات كثيرة، فيما تذهب تفسيرات غيرها إلى أن المقصود هو منطقة على الضفة الشرقية للبحر الميت، أو ما يعرف في الكتابات التوراتية بأرض مؤاب..
رحلَ عبد القادر عياش عام 1974، قبل أن يُحكِمَ الأسد الأب قبضته على حاضر المدينة ومستقبلها وتاريخها، ولعله لم يكن يتوقع المآلات المظلمة القادمة على هذه البلاد، التي من أسبابها إقفالُ التاريخ وجعله رهينة بيد الأبد، الأبد الأسدي الذي انتهى بالميادين إلى ما هي عليه اليوم، مدينةً مشرعةً أمام الغبار والموت والطائرات.
رحبة مالك بن طوق
تقع مدينة الميادين على الضفة الغربية لنهر الفرات، على بعد 45 كيلومتراً جنوب شرق مدينة دير الزور. وتوجد جنوبها قلعة تعرف باسم رحبة مالك بن طوق، ويقول عبد القادر عياش إن «سكان المنطقة عزّ عليهم أن يُنسى ذكر الرحبة وذكر مالك بن طوق مجدد بنائها، فأطلقوا على قلعة آشورية قديمة اسم رحبة مالك بن طوق أميرها العربي الأول، وشاع الاسمان مقترنان، إلى يومنا».
أما رحبة مالك بن طوق فهي المدينة التي قامت على أنقاض بيت رحوب، الإمارة الآرامية القوية المزدهرة بسبب خصوبة أرضها وموقعها الاستراتيجي، التي سيطر عليها الآشوريون مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأقاموا قربها قلعةً يحيط بها خندق. تهدمت المدينة جراء غزوات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وبقيت كذلك حتى عيّنَ الخليفة العباسي المأمون مالكَ بن طوق العتابي التغلبي والياً على الجزيرة الفراتية، فأعجبه موقعها على الطريق الواصل بين العراق والشام، المشرفِ على بادية الشام وبادية السماوة، وكذلك على بادية الجزيرة الفراتية حيث كانت منازل بني تغلب آن ذاك، وقام بإعادة إعمار المدينة وترميم وتدعيم قلعتها، وعَرَفَت منذ عهده ازدهاراً كبيراً، وكتبَ الشعراء فيه وفيها القصائد، ومنهم أبو تمام ودعبل بن علي الخزاعي وكلثوم بن عمر التغلبي.
تلا عهد الازدهار هذا حروب ومعارك متعددة، وانتقلت السيطرة عليها بين عدة إمارات وسلطنات في عهود تصدع الخلافة العباسية، فحكمها تباعاً الحمدانيون والقرامطة والفاطميون والزنكيون والأيوبيون والسلاجقة والمماليك، ثم خضعت كسائر بلاد الشام للسلطنة العثمانية. وفي كل تلك المراحل كانت السهول الخصبة المحيطة بها محطاً للجيوش ومعسكراتٍ للمقاتلين، وفي كثيرٍ منها كان السكان يعتصمون في القلعة القديمة المجاورة طلباً للأمن.
منذ أن استولى العثمانيون على وادي الفرات، أدركوا أهمية موقع الرحبة فعينوا لها حاميات عسكرية بمراسيم سلطانية، واعتصم سكانها في القلعة عقوداً، لكنهم بدأوا منذ منتصف القرن التاسع عشر بالنزول تدريجياً بسبب استتباب الأمن، ولأنها ضاقت عليهم وأصبح صعباً تأمين مياه كافية للسكان فيها.
أحدث العثمانيون سنجق دير الزور عام 1868، وأُتبعت الرحبة وقلعتها لقضاء العشارة التابع له، وكانت العشارة وقتها أكبر من الرحبة، وسكانها أكثر عدداً ويسكنون في بيوت خلافاً لأبناء الرحبة الذين يقيم معظمهم في قلعتها.
شجّعَ التنظيم العثماني الإداري المزيد من سكان الرحبة على مغادرة القلعة وبناء المساكن في موقع المدينة القديم، فاستخدموا حجارة الأبنية القديمة المتداعية وحجارة السور حتى ضاعت معالم المدينة القديمة تقريباً، كما أنهم استخدموا جزءاً من حجارة القلعة نفسها، وذلك لصعوبة الحصول على أحجارٍ مناسبة للبناء في تلك المنطقة.
مآذن الفرات الشاهقة
كان العرب يطلقون على موقع الرحبة القديمة شمال القلعة اسم المواذين، بسبب المآذن الشاهقة الباقية من عصر عمرانها وازدهارها، ثم انقلبت الواو ياءً، وحملت هذا الاسم عندما أُعيد إعمارها وسكنها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولاحقاً دُونت في سجلات الدولة السورية الناشئة باسم الميادين لصعوبة لفظ الذال، ويقول عبد القادر عياش إن الديريين كانوا لا يزالون ينطقون اسمها بالذال.
كبرت المياذين واتسعت، وقصدها أبناء عشائر أخرى من سائر حواضر حوض الفرات في العراق والشام، وسكنوا فيها إلى جانب أبنائها المؤسسين النازلين من القلعة، والمعروفين حتى اليوم باسم «الكلاعيين» باللهجة المحلية، أي القلعيين، النازلين من القلعة.
اتسعت الميادين حتى فاقت العشارة، ونقلت السلطنة العثمانية مقر القضاء من العشارة إليها لاتساعها، ولأنها تتوسط الطريق بين البوكمال ودير الزور مركز السنجق، وأنشأت فيها داراً للحكومة «سرايا» عام 1904، ومدرسة زراعية عام 1916، وكان عدد سكانها آن ذاك 4 آلاف نسمةأغلب المعلومات عن الرحبة والميادين حتى عام 1918، مأخوذة من كتاب الراحل عبد القادر عياش حضارة وادي الفرات، بعد مطابقته مع مصادر ومقالات وأحاديث متناثرة..
دخلت الميادين تحت سيطرة الجيش الإنكليزي القادم من العراق مع انهيار السلطنة العثمانية عام 1918، ودخلت بعدها تحت سلطة الانتداب الفرنسي عام 1920 تطبيقاً لاتفاق سان ريمو، ليبدأ عهدها مع الدولة السورية الناشئة.
التقيتُ بالعم «أبو القاسم » (اسم مستعار- 72 عاماً) من أبناء الميادين، وقد أبدى رغبته بعدم الكشف عن اسمه لأسبابٍ شتى، وتحدث طويلاً عن المدينة وتاريخها بناءً على مشاهداته منذ الطفولة، وعلى مرويات سمعها ممن يفوقونه سناً، وكان لحديثه بالغ الأثر في تكوين صورة عن الميادين وحياة أهلها، بعد مطابقته مع أحاديث متفرقة سمعتُها من بعض أبناء الميادين، ومع تفاصيل وردت في كتاب الراحل عبد القادر عياش.
الميادين.. من الشاميّة إلى السوريّة
عُرِفَ موقع الميادين بالرحبة الشامية لأنها أول الديار الشامية بالنسبة للقادمين من العراق، ولأنها تقع على الضفة الشامية لنهر الفرات، وهي مرتبطةٌ سكانياً وجغرافياً بالأراضي العراقية، ولعل موقعها المتوسط كان من أسباب تنازع السيطرة عليها طويلاً، ولهذا الارتباط بالعراق أثره التاريخي المستمر حتى اللحظة.
دخلت الميادين في سلطة الدولة السورية الناشئة تحت الانتداب عام 1920، ومنذ ذلك الوقت بدأت أوضاعها بالتحسن على المستوى الاقتصادي، إذ تم تعبيد الطريق الواصل بينها وبين دير الزور والبوكمال، ما أدى إلى انتعاشها وانتعاش ريفهاعبد القادر عياش – ص73..
أحدثَ خط نفط كركوك-طرابلس، الذي بدأ عمله صيف 1934 وكانت محطة الضخ الثانية (T2) فيه قرب الميادين، أثراً في حياة السكان هناك، واستوعبت المحطة عمالةً كبيرة من أبناء الميادين وريفها، حيث كانت «كل محطة ضخ تحتوي منشآت نفطية ودوائر ودور سكنية للعاملين فيها»للمزيد حول خطوط النفط ومحطات الضخ والاتفاقيات المتعلقة بها آن ذاك، الاطلاع على هذا المقال البحثي بعنوان النفط واكتشافه في العراق بقلم غانم العناز في موقع الموصل التراثي..
لم تشهد مدينة الميادين انتفاضات شعبية أو ثورات كبيرة ضد الانتداب الفرنسي، لكنها شهدت حوادث متفرقة من بينها مهاجمة سيارة المستشار الفرنسي في أربعينات القرن الماضي على ما روى لنا العم أبو القاسم.
يقول أبو القاسم: «كان اقتصاد أبناء الميادين قائماً على الزراعة وتربية الحيوانات والتجارة، وكانت الزراعة في ريفها الخصب على ضفاف الفرات عاملاً مهماً في ازدهارها التجاري. ولا تزال تعتمد على هذه المصادر الثلاث، مضافاً إليها في البداية عملُ قسم من أبنائها في محطة الضخ 2، ثم توجههم بكثافة إلى التعليم والوظائف الحكومية بعد الاستقلال. ذهبَ العشرات من أبنائها للدراسة في جامعة دمشق، أو جامعات خارج البلاد، وعلى وجه الخصوص في مصر. وفي ذاكرتي من الخريجين الأوائل من جامعاتٍ خارج البلاد اسماعيل حسني الرحبي، والد المخرج السوري هيثم حقي، الذي تخرج من إحدى كليات الفنون الجميلة في إيطاليا في مطلع خمسينات القرن الماضي».
من أبناء الميادين أحدُ أبرز مؤسسي الكتلة الوطنية، ورئيسُها عام 1937، وهو سيف الدين الراوي. وبعد الاستقلال، شهدت مرحلة الخمسينات فيها حراكاً وصراعاً سياسياً بين التيارات الأساسية، وكان أقواها وأوسعها انتشاراً في المدينة آنذاك الحزب السوري القومي الاجتماعي، إضافة إلى الإخوان المسلمين والبعثيين والشيوعيين، وكحال البلاد كلها كانت هذه التيارات تتنافس على الحشد الشعبي من خلال التظاهرات، التي كانت تنتهي أحياناً بعراكٍ غير دموي على ما قاله أبو القاسم.
يقول العم أبو القاسم إن «اغتيال عدنان المالكي أدى إلى تراجع شعبية السوريين القوميين، ثم جاءت فترة الوحدة مع مصر، التي كانت نهاية لعصر الحراك السياسي، لتكتبَ نهاية التواجد الفعل لهذا التيار في الميادين، حيث سافر أغلب أنصاره خارجها، أو كفوا عن النشاط السياسي، ولم يعد أحدٌ من أبناء المدينة إلى الإعلان عن انتمائه إلى الحزب السوري القومي حتى عهد بشار الأسد».
تم تنوير الميادين بالكهرباء عام 1953، وافتتحت فيها أول دار للسينما عام 1955، وفي الستينات تم تنفيذ مشروعٍ لمياه الشرب فيها، وافتتاح حديقة عامة ضخمة، وبنيت فيها وفي ريفها عدة مدارس للذكور والإناث، حتى أنه لم تخلُ قريةٌ من قراها من مدرسة ابتدائية على الأقلعبد القادر عياش – ص 73، 74..
لم يكن ثمة إقطاعيات كبيرة في الميادين وريفها، وكانت أغلب الملكيات صغيرة المساحة قياساً بمناطق أخرى من البلاد، ويقول العم أبو القاسم إن «أغلب المُلاك الكبار عرفوا بقرب التأميم الذي جاء على مراحل بدءً من عهد الوحدة مع مصر، فقاموا بتوزيع الملكيات على أبنائهم وعوائلهم لتفادي التأميم، ولم يطل التأميم سوى مشاريع الري الخاصة، وهي عبارةٌ عن مضخاتٍ تسحب مياه الفرات إلى قنوات ري طويلة، وكان الفلاحون على امتداد القنوات يدفعون مبالغ مالية لأصحاب هذه المضخات، التي تم تأميم أغلبها في عهد الوحدة مع مصر».
في قبضة الأسدين
تزايد نفوذ البعثيين وتواجدهم في الميادين، وخاصة بعد أن أصبح البعث حاكم البلاد عقب انقلاب عام 1963، لكن تواجد أنصار تيار الإخوان المسلمين بقي قوياً في المدينة، وكذلك الشيوعيون على نطاقٍ أضيق.
دفعت الميادين كغيرها من أنحاء سوريا الثمن الرهيب لسلطان حافظ الأسد، الذي قام بتصفية واعتقال خصومه داخل حزب البعث، ثم خارجه من الإخوان المسلمين والشيوعيين في أواخر سبعينات وفي ثمانينات القرن الماضي. ويقول أبو القاسم إن «نظام الأسد اعتقل المئات من أبناء الميادين في تلك الحقبة المظلمة، معظمهم من شباب الإخوان المسلمين الذين لم يعد كثيرون منهم إلى بيوتهم مطلقاً، والأرجح أنه تمت تصفيتهم في السجون، فضلاً عن الشيوعيين من رابطة العمل الشيوعي، الذين قضى بعضهم أكثر من 15 عاماً في السجن، وكذلك بعثيو الجناح العراقي، الذين كان لهم حضورٌ غير قليلٍ جراء الروابط الاجتماعية والعشائرية القوية مع العراق. كما أن الميادين خسرت مئات آخرين من أبنائها الذين نجحوا بالفرار بأنفسهم خارج البلاد، غالباً إلى غير رجعة».
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أحدث جسر الميادين الذي وصل ضفتي نهر الفرات من الميادين إلى بلدة ذيبان المقابلة تحولاً كبيراً جديداً في حياة سكان المنطقة. ومنذ أن تم افتتاحه عام 1976، أصبحَ التنقل ونقل البضائع بين الضفتين أكثر سهولةً، وتحسنت الأوضاع الاقتصادية نسبياً، رغم أن الزراعة كانت لا تزال متخلفةً في الميادين وريفها، إذ كانت تغيبُ تقريباً الخضار وأشجار الفاكهة على ما يقول عبد القادر عياش.
تحسنت الزراعة نسبياً في السنوات اللاحقة في ريف الميادين، وأصبحت المنطقة مع تطور أساليب مكافحة الأمراض الزراعية وإنتاج البذار غنيةً بسائر أنواع الخضار والفاكهة، فضلاً عن القمح والقطن والسمسم والشوندر السكري، وتحسنَ المستوى الصحي والتعليمي نسبياً أيضاً. غير أن تحولاً كبيراً قد حدث، وكان يُفترض به أن يدفع الأوضاع نحو الأفضل، لكن أثره كان معاكساً، وهو البدء في استثمار حقل العمر النفطي أوساط الثمانينات، ويقع على بعد نحو 15 كم شمال شرق المدينة.
يتفق جميع من التقيتهم من أبناء الميادين أن استثمار الحقل، وغيره من حقول حوض الفرات النفطي، كان وبالاً على المنطقة أكثر مما كان مفيداً لها. قلةٌ من أبناء الميادين عملوا في الحقل، ويقول أبو القاسم إنه اتبع دورة تدريبية في حمص في الثمانينات كان الهدف منها تأهيله للعمل في الحقل، وكان أغلب عماله العرضيين وموظفيه ومهندسيه من مناطق سورية أخرى، ومن الساحل على وجه الخصوص، رغم أن في الميادين وريفها مئات المهندسين.
عادَ الحقل على أهالي الميادين وريفها بالتلوث والأمراض وارتفاع نسبة السرطانات، وأيضاً بسخافات شركة «شيل» الأميركية المستثمرة للحقل، التي وزعت على أطفال المدارس الحقائب والقرطاسية للتقرب من السكان كما يقول أبو القاسم، كما أنها كانت تقوم بحملات تشجير محدودة للحفاظ على البيئة!
لم تكن آلية إنتاج النفط في حقل العمر تحقق الشروط البيئية اللازمة، ولم يكن في كل المنطقة الشرقية من سوريا مستشفى واحد لعلاج السرطانات. كان جميع أبناء المنطقة الشرقية يتجهون إلى دمشق لعلاج مرضاهم، وكانوا ينتظرون طويلاً حتى يحين دور المريض وينفقون مبالغ طائلة على إقامتهم هناك، وعندما تم بناء مستشفى الطب الحديث في الميادين، وبمساهمة من شركة «شيل» نفسها، لم يكن فيه قسمٌ مختصٌ بعلاج السرطانات.
يقول أبو محمد «اسم مستعار – من أبناء المدينة وناشطيها» إن «قوانين عقود النفط تلزم الشركات المستثمرة بإنفاق جزءٍ من أرباحها على منطقة عملها، على البنية التحتية وحماية البيئة والصحة العامة، لكن الحكومة السورية كانت مصرةً على أن يتم صرف هذه النسبة عبرها حصراً، وليس من قبل شركة «شيل» المستثمرة للحق بشكل مباشر، ولم يكن هناك عدالة في إنفاق هذه النسبة من قبل الحكومة السورية. ومن أمثلة ذلك أن الشركة اشترت على نفقتها 15 سيارة لجمع القمامة، لكن الحكومة السورية قامت بتوزيع معظم السيارات على محافظاتٍ أخرى، وتم تخصيص واحدة فقط لمدينة الميادين، وذلك بعد مطالبات من الأهالي».
لم يكن هناك صناعةٌ في الميادين وريفها، بل كان فيها ورشٌ لتصليح المضخات الزراعية وبعض الحرف البسيطة المحلية، ومعمل واحدٌ فقط في كل المنطقة، هو معمل الكونسروة الذي افتتح في الثمانينات، وتراجع إنتاجه حتى توقف تقريباً قبيل اندلاع الثورة السورية بسبب البيروقراطية وسوء الإدارة كما يقول أبو القاسم.
كان ريف الميادين أقل تأثراً بموجات الجفاف التي ضربت البلاد، بما فيها موجة الجفاف التي أدت إلى جفاف الخابور وهجرة الآلاف من أبناء الجزيرة في العقد الأول من القرن الحالي، ويرجع ذلك إلى اتساع السهول في ريفها وسهولة ريها من مياه الفرات، لكن رفع الدعم عن المحروقات والأسمدة أدى إلى تراجع عوائد الزراعة، وحصل أن أحرق المزارعون محاصيلهم عدة مراتٍ لتجنب المزيد من الخسائر خلال السنوات القليلة السابقة على عام 2011.
كان في الميادين وريفها آلاف العاطلين عن العمل، بمن فيهم مئات الخريجين الجامعيين، وصارت الأموال التي يرسلها المغتربون من الخليج عموداً أساسياً من أعمدة الحياة في الميادين خلال العقدين الأخيرين، إلى جانب الوظائف الحكومية والزراعة والتجارة البسيطة.
الميادين عشية 2011
بلغ عدد سكان الميادين نحو 44 ألف نسمة حسب إحصاء عام 2004، ويُرجَّحُ أن عدد قاطنيها بلغ نحو 60 ألفاً عام 2011. ينقسم أبناء الميادين إلى عشائر أبرزها البوخليل والبومصطفى، وهي أبرز عشائر «الكلاعيين»، مؤسسي المدينة الأصليين النازلين من القلعة قبل نحو 150 عاماً، ومن الكلاعيين أيضاً البوناصر والسنانيون والويسات.
في الميادين أيضاً المشاهدة والراويون والعانيون، وينتسبون إلى مدن مشهد وراوة وعانة في العراق. بالإضافة إلى عائلات من عشيرة البوسرايا المنتشرة غرب دير الزور، وعائلات من العكيداتثمة عدة أقوال متداولة حول عشائر العكيدات، منها أن نسبها يرجع إلى «علي سالم الصهيبي» الذي ينحدر من أرض عقدة في حائل، لكن أكثر المرويات شيوعاً أنها مجموعة عشائر لا رابطة دم بينها، بل تعاقدت في أربعينيّات القرن الماضي، لتشكّل فيما بينها قبيلةً وجيشاً قادراً على قتال عشيرة شمّر التي كانت تغزو مناطق تواجدها على ضفاف الفرات والخابور.. والديريون أيضاً، وهم عائلات من مدينة دير الزور. والسخانيون من السخنة بين دير الزور وتدمر، والمواصلة من الموصل العراقيةعبد القادر عياش – ص72-73.. ويروي لنا العم أبو القاسم أن في الميادين عائلة مسيحية واحدة هي آل بابيك، ولا يُعرَف وقتُ استقرارهم فيها، لكنه يرجع إلى نحو مائة عام، ويؤكد أن العائلة بقيت في المدينة حتى سيطرة تنظيم الدولة عليها.
تنقسم محافظة دير الزور إدارياً إلى ثلاث مناطق هي الدير والبوكمال والميادين، ويتبع للميادين نواحٍ وبلداتٌ وقرى أبرزها: العشارة، ذيبان، القورية، الطيانة، الشحيل، محكان، بقرص فوقاني وتحتاني، الجرذي، صبيخان، الحوايج، وغيرها. وأغلب سكان هذه الأرياف والبلدات من عائلات وعشائر العكيدات.
تحضر في الميادين وريفها كما في سائر البلاد، التناقضات الاجتماعية التي لم يعمل حكم الأسد على حلها، بل فاقمها واعتمد عليها في تثبيت أركان حكمه، ومن بينها التناقضات العشائرية، فضلاً عن تناقض الريف والمدينة السائد، وكان التناقضان متداخلين وملتبسين معاً في منطقة الميادين.
يقول العم أبو القاسم إن «العشائرية كانت آخذةً في التراجع في الستينات، لكن تغيير نظام الأسد للقانون الانتخابي بعد عام 1970 أدى إلى تصاعدها مجدداً، حيث جعل القانون الجديد محافظة دير الزور دائرة انتخابية واحدة، بعد أن كانت دوائر متعددة، وهو ما دعا كل مرشحٍ إلى الاعتماد على أصوات أبناء عشيرته، وأصبح أبناء العشائر الصغيرة بلا أي تمثيل، بعد أن صار انتخاب جميع أبناء العشيرة لمرشحهم أياً كان شخصه عرفاً ثابتاً».
سكان الميادين محافظون اجتماعياً ودينياً، لكن مظاهر السلفية والتشدد الديني لم تكن ظاهرةً في المدينة على الإطلاق، غير أن حرب العراق لعبت دوراً بارزاً في هذا المجال، إذ ذهب العشرات من أبناء المدينة وريفها للقتال في العراق، وعاد كثيرون منهم محملين بأفكار السلفية الجهادية، ومنهم من ثبتت عودته إلى سوريا لكنهم لم يعودوا إلى أهلهم، وقيل إنه تمت تصفيتهم أو أنهم في سجون النظام، دون أن يكون هناك ما يثبت مصيرهم. كما لعبت حرب عراق دوراً في انتشار السلاح الخفيف على نطاقٍ أوسعكان السلاح موجوداً أصلاً بين أيدي أبناء العشائر، ومعلومٌ أن الدولة لم تكن تتدخل لفض النزاعات العشائرية، وكانت كل عشيرة تسلح نفسها لإحداث توازن يحمي أبناءها.، خاصة في ريف الميادين، وهما الأمران اللذان سيلعبان دوراً بارزاً في مسار الثورة السورية لاحقاً.
عانت الميادين كما سائر مدن وبلدات المنطقة الشرقية من التهميش الاجتماعي والثقافي في سوريا الأسد، ويُمكن تكثَّيفُ هذا التهميش في كيفية استخدام لفظِ الشوايا الذي يُطلق على جميع سكان أرياف حوض الفرات، وكان كثيرون من أبناء المدن والمناطق السورية الأخرى يقصدون به الحط من شأنهم، فيما يفخرون هم أنفسهم بهذه التسمية، ويثير استياءَهم استخدامها بقصد الإساءة. ثم يأتي هذا الاستعلاء مركباً من عدة طبقات إذا عرفنا أن كثيرين من أبناء الميادين ينفون عن أنفسهم صفة الشوايا، مصرّين على أنهم أبناء مدينة، وليسوا من أبناء ريف الفرات.
يقول عبود الصالح، وهو صحفيٌ سوريٌ من أبناء الميادين من مواليد 1990: «منذ بدأت أعي ما حولي وحتى قيام الثورة السورية لم يتغير شيءٌ في الميادين، وكأنها خارج التاريخ، كانت العشائرية متحكمة بمفاصل الحياة، وكان اعتماد النظام عليها واضحاً في تثبيت سلطته. كانت المدينة مهملةً حتى أن تنقيباً جدياً في مواقعها الأثرية لم يحصل أبداً، هذه منطقة ضاربة في التاريخ لا يعرف عنها أحدٌ شيئاً تقريباً».
في الميادين أعداد كبيرة من الشباب الجامعين والمثقفين، الذين لم يكن التهميش الثقافي والاجتماعي للمنطقة الشرقية في سوريا يناسب طموحاتهم، فكانوا يتجهون إلى دمشق وحلب للدراسة، وكان بعضهم يستقر هناك نهائياً، كما استقرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم في دول الخليج العربي.
عمل نظام الأسد على إلقاء عموم السوريين خارج التاريخ، وكان نصيب أرياف الفرات مضاعفاً من هذا الإلقاء المديد، ثم حطّم السوريون ومنهم أبناء الميادين هذه الغلالة مقتحمين التاريخ، لكن ثمن هذا التحطيم كان كبيراً جداً. وكما كان التهميش مضاعفاً في سوريا الشرقية، كذلك كان ثمن الخروج على السلطان مضاعفاً أيضاً.
أبناء الميادين في ميادينهم وشوارعهم
تقاطعت روايات من تحدثتُ إليهم على أنه في يوم الخميس الرابع والعشرين من آذار عام 2011 كسرَ عددٌ من أبناء الميادين صمتَ أربعين عاماً في سوق المدينة المقبي القديم، ولا يوجد تصويرٌ لهذه المظاهرة وما تلاها من مظاهراتٍ حتى الثامن من نيسان، ويبدو أنه لم يكن هناك من يفكر في مسألة التصوير والإعلام.
كانت الهتافات للحرية ودرعا الثائرة، ويبدو أن النظام واجه تلك المظاهرات المحدودة وقليلة العدد باعتقالات وملاحقات أمنية، هذا ما تثبته مظاهرة جمعة الصمود في الثامن نيسان، وهي أول المظاهرات التي تمكنتُ من العثور على تسجيلات مصورة لها، ويظهر فيها عشرات الشبان الغاضبين، الذي يطالبون بإطلاق سراح أسرى.
قليلةٌ هي المعلومات عن الحراك السابق لجمعة الصمود، لكن الهتافات فيها توحي بوجود أعدادٍ من المعتقلين من أبناء المدينة، أمّا يوم الخروج على الطوق فقد كان يوم الجمعة العظيمة 22 نيسان 2011، عندما تجمع آلاف المتظاهرين أمام فرع الأمن العسكري محطمين جدار الخوف في المدينة.
يروي علي الرحبي، وهو ناشطٌ من الميادين، تفاصيل ذلك اليوم: «شعرنا بقوة كبيرة عندما تجمعنا بالمئات ثم بالآلاف نهتف ضد النظام أمام بوابة واحدٍ من مقرات الرعب، الأمن العسكري. اتجهنا بعدها نحو مقر البلدية وتزايد عددنا حتى تجاوزنا خمسة آلاف متظاهر، وتم ربط تمثال باسل الأسد هناك بخرطوم سيارة إطفاء، ثم انتزاعه من مكانه. توجهنا بعدها إلى دوار البكرة قرب مبنى الحزب حيث تمثال حافظ الأسد وقمنا بتحطيمه، وبعدها اتجهنا إلى مشفى الطب الحديث حيث ما يعرف بالبانوراما، وهي لوحة سيراميكية ضخمة عليها صورة حافظ الأسد وابنيه باسل وبشار. كان تحطيمها صعباً، فقمنا بإشعال دواليب قربها حتى غطاها هباب الفحم. لاحقاً كان يقوم عناصر النظام بتنظيفها كل ما قمنا بالأمر نفسه في المظاهرات التالية، حتى تم تحطيم الصورة بالمطارق في النهاية».
اعتمد النظام في محاولاته لإيقاف التظاهرات على حملات الاعتقالات الواسعة التالية لكل تظاهرة، وعلى تفريق المظاهرات بالعصي وإطلاق الرصاص في الهواء، وكان يقوم بهذه المهمة على وجه الخصوص شبيحة للنظام يُقال إنهم من بلدة ذيبان المجاورة، ويرجع ذلك إلى أن واحداً من أبرز رجالات النظام، وهو أديب السطام، نائب جامع جامع، رئيس فرع الأمن العسكري في دير الزور، كان من أبناء ذيبان. وكان يحرّض أبناء عمومته من رجال الشيخ خليل عبود الهفل خليل الهفل من مشايخ العقيدات في المنطقة، وعضو سابق في مجلس الشعب السوري. على ذلك.
يقول أبو أحمد «اسم مستعار – ناشطٌ من شباب الميادين – 25 عاماً» إن «النظام كان يزج بهؤلاء في مواجهة المتظاهرين في محاولة لإذكاء الفتنة العشائرية، وكانوا ينزلون لتفريق المظاهرات ملثمين، لإدراكهم خطورة ما يقومون به على الصعيد العشائري. ولم يكن هؤلاء معروفون بالاسم، ولكن كان يقال إنهم من ذيبان. ومن الحوادث الجديرة بالذكر أنه في أحد الأيام من النصف الثاني من عام 2011، جاء أديب السطام بنفسه إلى الميادين، وأجبر الموظفين الحكوميين على المشاركة في مسيرة تأييد للنظام أمام شعبة الحزب، لكنها تفرقت بعد عشر دقائق، وتحول عدد كبير من المشاركين فيها مع غيرهم من أبناء الميادين إلى مظاهرة في المكان نفسه، وقاموا بإحراق سيارة أديب السطام، التي قيل إنها كانت سيارته الخاصة، وأن فيها سلاحاً تم الاستيلاء عليه، وعلى إثر ذلك اعتُقِل عدد من أبناء الميادين».
لم تؤدِ تلك المظاهرات إلى كسر ذراع النظام الأمنية، بل بقي النظام صاحب اليد الطولى وقادراً على اعتقال من يشاء ساعة يشاء، وبقي الطرفان حذرين في تعاملهما، إذ ينضبط النظام بعدم سفك الدماء في التظاهرات لمعرفته بحساسية البنية العشائرية وانتشار السلاح في المنطقة، وينضبط المتظاهرون والناشطون بعدم دفع شبح الاعتقال عن أنفسهم بالسلاح، الذي كان الحصول عليه بالغ السهولة.
يَظهرُ هذا الحذر المتبادل جلياً في أحد مقاطع الفيديو، حيث وصلت مظاهرةٌ إلى آخر جسر الميادين على الضفة المقابلة للفرات قرب ذيبان، ليهرب عناصر الأمن العسكري والشبيحة عن الحاجز نحو البساتين خوفاً من المتظاهرين، ويقوم أحد المتظاهرين بانتزاع بندقية أحد عناصر الأمن العسكري ويطلق بعض الأعيرة النارية في الهواء، فينهال عليه بعض المتظاهرين الآخرين بالشتائم طالبين منه إعادة البندقية. ويقول علي الرحبي إن «الشاب الذي انتزع البندقية كان عمره 16 عاماً، وقد تمت إعادة البندقية في اليوم التالي إلى الأمن العسكري بدون الرصاص الذي كان موجوداً في مخزنها».
توسعت المظاهرات في ريف الميادين أيضاً، وشملت القورية والعشارة والشحيل وغيرها، ولم يكن ممكناً أن يستمر الأمر على هذا النحو على كل حال، فالنظام كان قد أصبح والغاً في دماء السوريين، في حمص ودرعا وريف دمشق على وجه الخصوص، كما أنه كان يعتقل ويبالغ في إذلال وتعذيب عشرات الآلاف، ومنهم المئات من أبناء الميادين.
فارقَ عددٌ من أبناء الميادين وريفها حياتهم جراء حوادث إطلاق نار متفرقة في الريف في تلك الأيام، كما توفي الشاب محمود أكرم طعمة في 21 أيار 2011 في الميادين، وكان قد أحرق نفسه بعد أن خرج من اعتقالٍ قصير في فرع الأمن السياسي في البوكمال، وساهمت هذه الحوادث في تراكم الاحتقان والغضب.
كان محمد توفيق الدحام، ابن السبعة عشر ربيعاً، قد توجه إلى مدينة دير الزور لتقديم امتحانات الشهادة الثانوية، وكانت المظاهرات هناك قد أصبحت أكثر اتساعاً وتتعرض لقمع أكثر عنفاً، وفي مظاهرة الخامس من حزيران الغاضبة في دير الزور، والتي جابت شوارع المدينة بعد تشييع أحد الشهداء، أصيب محمد بطلق ناري أدى إلى استشهاده. كان تشييع محمد حاشداً في مدينة الميادين، وهو أول شهيد يتم تشييعه في مظاهرة غاضبة في المدينة، وكان نقطة تحولٍ في مسار التظاهر الذي أصبح أكثر انتظاماً وأوسع مشاركةً.
تصاعدت المظاهرات بعدها وأصبحت شبه يوميةٍ في شوارع الميادين وساحاتها، وسجل الحراك السلمي فيها محطات بارزة من بينها تسمية ساحة الباسل باسم الشهيد حمزة الخطيب في جمعة أطفال الحرية، وكذلك مظاهرة جمعة سقوط الشرعية التي شارك فيها عشرات الآلاف من أبناء المدينة وريفها، والمظاهرة الطلابية التي نظمها طلاب الجامعات العائدون من امتحاناتهم.
لم يغير النظام السوري من أسلوب عمله، إذ لم يلجأ إلى القمع الدموي للمظاهرات في الميادين، لكنه كان يستمر في شن حملات الاعتقال، وفي استخدام الشبيحة لإرهاب المتظاهرين، وإطلاق الرصاص في الهواء عند اقترابهم من مقراتهفيديو يُظهر مراحل التظاهر في الميادين حتى أواخر حزيران.، ويستمر كذلك في عمليات الترغيب ومحاولة استمالة السكان عبر الضغط على وجهاء العشائر، وعبر توظيف أعدادٍ من أبناء المدينة، وتقديم الوعود بالإصلاح، وكانت إحدى محاولات الترغيب عبر دعوة بشار الأسد لمجموعة من وجهاء الميادين لمقابلته، وتم اختيارهم عن طريق الأمن العسكري وشعبة الحزب كما يقول أبو أحمد.
يقول علي الرحبي إن «النظام كان متواجداً بشكلٍ كبير في مدينة الميادين باعتبارها مركز المنطقة الإداري، وكان هناك مقرات للأمن العسكري والسياسي وأمن الدولة وقوات الهجانة، فضلاً عن البلدية وعشرات الحواجز والمفارز، في حين كان تواجده ضعيفاً في الأرياف، ومقتصراً على بعض المفارز والمخافر. ومنذ أواخر الشهر السادس أصبح تنفيذ النظام للاعتقالات والمداهمات أصعب في ريف الميادين، الذي كان السلاح منتشراً فيه بكثافة منذ أيام حرب العراق».
منذ ذلك الوقت كان أبناء الميادين يسمعون ليلاً وبشكل متواتر رشقات من الرصاص وأصوات اشتباكاتٍ محدودة، دون أن يعلن أحدٌ مسؤوليته عن هجمات أو قتلى، ودون تشييع أي ضحايا في المدينة. وبدا ريف الميادين آمناً بالنسبة للناشطين والمطلوبين والفارين من الخدمة والمنشقين، ويؤكد علي الرحبي أنه «منذ ذلك الوقت كان يكفي أن يغادر أي منا الميادين عبر أي طريقٍ فرعي لا تتمركز عليه قوات النظام الأمنية، حتى يصبح بمأمن من خطر الاعتقال».
بدأت قبضة النظام الأمنية تضعف في سائر مناطق محافظة دير الزور، وخاصة مع بدء الانشقاقات، ثم الإعلان عن تأسيس الجيش السوري الحر أواخر تموز، حيث أمّنَ عنوان الجيش السوري الحر وشعارُ مقاومة النظام بالسلاح غطاءً شرعياً مقبولاً شعبياً لكل عمليات التصدي للدوريات الأمنية. لكن ذلك لم يكن يعني تحولاً عن سلمية الثورة، إذ لم تكن فكرة التحرير وطرد النظام بالقوة من البلدات والمدن شائعةً، بل كان الجميع ينتظرون أن تتصاعد المظاهرات إلى اعتصاماتٍ كبرى تجبر النظام على إجراء تحولٍ سياسي، وكانت تباشير الاعتصامات تلك قد ظهرت في حماة ودير الزور على وجه الخصوص. كان هذا ما يدور في بال أغلب الناشطين ومنظمي المظاهرات، فيما كانت أصوات من يطالبون بفتح المواجهة العسكرية مع النظام تتصاعد رويداً رويداً.