ثمة طقس متكرر لدى موظفي الدرجة الأولى في حكومات الدول المهمّة (الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص) والهيئات الدولية الكبرى، إذ يعيش عدد كبير منهم حاجةً للمصارحة والمراجعة وإبداء المواقف «القوية» بعد تركهم لوظائفهم، أو في اللحظات الأخيرة لوجودهم في المنصب. لمحاولة عدم الوقوع في محاكمة نوايا، لا يمكن القطع بوجود مآرب خفية حتمية وراء حُمّى الصراحة هذه في جميع الحالات، ولو أن مراجعة تاريخ الظاهرة يجعل التفكير مشروعاً في أهدافٍ مثل البحث عن منصب آخر بعد نهاية فترة المنصب الحالي، أو على الأقل لفت انتباه وسائل إعلام قد تسعى لاستضافتهم كنجوم، و/أو دور نشر تهتم بنشر مذكرات هؤلاء المسؤولين المهمّين، التي غالباً ما يذكرون فيها معلومات كانت ستكون مهمة لو قيلت في حينها، أو «يسجّلون للتاريخ» تحفظهم أو عدم رضاهم عن إجراءات أو قرارات اتخذتها الحكومات أو الهيئات التي كانوا يعملون لصالحها، إجراءات أو قرارات عملوا على تنفيذها كموظفين أو مستشارين، ثم يقررون الحديث عنها لاحقاً للتبرؤ من تبعاتها، دون أن يكونوا قد استقالوا لرفضهم لعب دور متواطئ معها، أو يُصرّحوا علناً بتحفظهم عليها لحظتها. لا أحد منهم يتحفظ أو يصارح بعدم رضاه على قرار «ناجح»، بل تكثر السكاكين -بأثر رجعي- على قرارات وإجراءات فشلت في إنجاز أهدافها.
خلال فعاليات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهي آخر جمعية عمومية تُعقد خلال عهد بان كي مون، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، بدا واضحاً أن المسؤول الأول عن المنظمة الأممية الأكبر يسعى للخروج من رتابة التعبير البيروقراطي عن «القلق» (و«قلق» بان كي مون هذا أضحى منذ سنوات أداة فكاهة أكثر بكثير من الاهتمام به كتصريح رسمي مهم) إلى إصدار مواقف وتصريحات، عبر حوارات صحفية عديدة، ثم خلال خطابه في الجمعية العمومية، اعتُبِرَت «قويّة» مقارنةً بما هو معهودٌ منه. ففي حوار مع أسوشيتد برس، تحدّث الأمين العام بمرارة عن عطالة آلية اتخاذ القرار في الأمم المتحدة بسبب البنية الإدارية والسياسية المُسخّرة لخدمة اتفاق مصالح الخمسة الكبار، دائمي العضوية في مجلس الأمن، واستحالة القفز فوق الجمود الذي يحصل حين يختلف أصحاب حق الفيتو، كما هو الحال في «الأزمة السوريّة». أبدى بان كي مون امتعاضه من هذا الواقع في خطابه أمام الجمعية العمومية، حين أشار إلى أنه شهد مناسبات عديدة عُطّلت فيها مبادرات إيجابية لحلّ مشاكل العالم بسبب اعتراض عضو واحد فقط من مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي حواراته الصحفية الأخيرة كرر هذا الامتعاض، مشيراً في بعضها بشكل خاص إلى العطالة الدولية تجاه المسألة السوريّة، ومصرّحاً لأسوشيتد برس: «ببساطة لا أستطيع أن أفهم كيف عجزنا عن إيجاد حل (للأزمة السوريّة) حتى الآن».
في نفس الحوار مع أسوشيتد برس، يُدافع بان كي مون عن نفسه أمام الانتقادات التي وُجهت له لعدم اهتمامه بما فيه الكفاية بحقوق الإنسان بالقول أنه، في الواقع، اهتم بحقوق الإنسان «أكثر من أي مسؤول غربي».
يأتي امتعاض الأمين العام هذا قبل ثلاثة أشهر من نهاية ولايتين دامتا عقداً كاملاً. عقدٌ ظهر فيه بان كي مون كأكثر أمين عام للأمم المتحدة انضباطاً ضمن هذه العطالة الدوليّة المزمنة. لم يُعرَف للرجل أي موقف قوي مصطدم مع الأمر الواقع المُحبِط في منظمته، أو أي خلاف جدّي مع دولة كبرى حول دورها في الساحة الدوليّة، رغم كثرة الأحداث والمواقف الصعبة التي حفلت بها السنوات العشر الأخيرة. ليس من المتعارف عليه أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة «مناضلاً»، لكن ليس من الغريب أن يعيش صاحب المنصب، على الأقل، لحظة سجال مع عجزه. حصل ذلك مع كوفي عنان، حين أعلن صراحةً رفضه لمشروع الحرب الأميركية-البريطانية على العراق عام 2003، ليعود ويعلن أن هذه الحرب «غير مشروعة» ربيع 2004. أما سلف عنان في المنصب، المصري بطرس غالي، فاستحق الفيتو الأميركي على بقائه في المنصب لفترة ثانية، ليكون أول أمين عام للأمم المتحدة يفشل في التجديد لولاية ثانية. لا يُعرَف لبان كي مون أي موقفٍ صدامي من هذا النوع، حتى لو كان مجرد فعلٍ رمزي لا أثر حقيقي له على أرض الواقع، فقد كان سلوكه على الدوام انسيابياً، سابحاً مع تيارات النفوذ والقوّة، وليس فقط مع الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، فسلوكه أثناء الأزمة مع المملكة العربية السعودية، التي غضبت بسبب إدراج التحالف الذي تقوده في اليمن ضمن تقريرٍ أصدرته الأمم المتحدة نهاية الربيع الماضي يدين الجهات والدول التي تتسبب بانتهاكات خطيرة لحقوق الطفل مثال ساطع: وافق بعد أيام من إصدار التقرير على سحبه نتيجة الضغط السعودي، وأشار بوضوح في تصريحٍ صحفي أنه قرر ذلك لتلقيه ضغوطات وتهديدات بسحب السعودية وحلفائها تمويل مشاريع إغاثية وإنسانية للأمم المتحدة في مناطق مختلفة من العالم.
بطبيعة الحال، سيكون من الظلم اتهام بان كي مون بالمسؤولية عن الواقع المتكلّس والعاطل للأمم المتحدة والهيئات الدولية التابعة لها، أو إعطاؤه دور صاحب القرار في عجز الأمم المتحدة المديد عن تخطّي الوقائع التي تفرضها الجيوسياسة، لكن ليس ظالماً اعتباره موظفاً تنفيذياً مثالياً لهذه البنية، يتصالح مع ديناميكياتها البيروقراطيّة ويعمل ضمنها دون ضجيج. لذلك، ليس من الظالم أيضاً اعتبار «استيقاظ الضمير» في آخر الثواني في ربع الساعة الأخير من ولايتيه ضرباً من الرياء الخطابي.
بالعودة لخطاب بان كي مون أمام الجمعية العمومية، الذي اعتُبِر «قوياً» من قبل وسائل إعلام عديدة، نجد أنه لم يقل أكثر من «الكلام القوي» الذي يمكن أن يصدر عن جون كيري نفسه، أو سيرغي لافروف. تحدث عن «أيادي ملطخة بالدماء» حاضرة في الجمعية، كما أشار إلى مسؤولية دولية في تمويل وتغطية وتنفيذ انتهاكات لحقوق الإنسان على يد «كل الأطراف» في الحرب السوريّة. صحيحٌ أنه ذكر بشار الأسد بالاسم، رفقةً بزملاء مثل أنظمة كوريا الشمالية وجنوب السودان، أي «أجسام لبّيسة» لا تُزعج الإشارة إلى وحشيتها أحداً، بما في ذلك داعميها الدوليين، لكن إشارته لبشار الأسد، إدانةً لتمسّكه بالسلطة ومسؤوليته «الأكبر» عن ضحايا الحرب السوريّة لم يكن من المفترض أن تُزعج حتى بشار الأسد نفسه، «الطبيب» الذي يحب أمثلة بتر الأعضاء (أو الرؤوس، حسب تصريحه الحرفي الأوّل) لعلاج جذري للغرغرينا لـ «تبسيط» شرح خطته لحل «الأزمة» للصحافة الغربية.

في الواقع، ليس لدى نظام الأسد أسباب، قوية كانت أم ضعيفة، للحنق على بان كي مون. صحيحٌ أن الخارجية السوريّة أدانت تصريحات «خريف الأمين العام» هذه، لكن مراجعةً سريعة لسلوك الأمم المتحدة في الأزمة السوريّة تكفي لتبيان سلوك «غير مزعج» للنظام السوري، ومتواطئ في مراحل عديدة. مجدداً، ليس بان كي مون صاحب قرار على مجلس الأمن، الذي عاش مسبحةً من الفيتوهات الروسية-الصينية على أي مشروع قرار يمكن أن يُستخدم ضد النظام الأسدي، ولم ينجح إلا في تمرير قرارات اتفق عليها الأقوياء (بمباركة واحتفاء كبيرين من بان كي مون، يجدر الذكر) بخصوص المبعوثيات الدولية لكوفي عنان وستيفان دي ميستورا، أو لتغطية الاتفاق الروسي الأميركي المشين بعد المجزرة الكيماوية في الغوطة بشهر. لم يكن لبان كي مون صلاحيات سياسية مباشرة على المعالجة الدولية للشأن السوري (ولم يكن هذا سبب امتعاض له طوال خمس سنوات)، لكن على الآلية الإدارية للأمم المتحدة، وهي مسؤولية بان كي مون أخيراً، إشارات استفهام كبرى، ترتقي لمستوى الفضيحة المزلزِلة، في عملها في الساحة السوريّة. ففي حزيران الماضي، أصدرت «حملة سوريا» تقريراً تُدين فيه انقياد الأمم المتحدة لتسلّط النظام السوري على عملها الإنساني في الداخل، مشيرةً لإحصائيات مريعة، مثل اختلاف نسب توزيع المعونات من الداخل بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخارجة عن سلطته (88% لمناطق النظام و12% لمناطق خارج سيطرته في نيسان عام 2016؛ و99% لمناطق النظام و1% لمناطق خارج سيطرته في آب 2015). وبعد هذا التقرير بشهرين، أي في آب الماضي، نشرت جريدة الغارديان البريطانية تقريراً يتّهم، بالأدلة الموثّقة، مؤسسات الأمم المتحدة بتمويل جهات تابعة مباشرة للدائرة الضيقة للنظام، إما باعتبارها جهات تنفيذية لمشاريعها (مثل جمعيات تابعة لأسماء الأسد أو رامي مخلوف) أو بإنفاق مبالغ طائلة على خدمات لوجستية تقدّمها شركات يملكها رموز النظام.
في سجلّ عهد بان كي مون نجد أيضاً معالجة بطيئة وقاصرة ومشينة لفضائح الاعتداءات الجنسية التي ارتكبها جنود قوات حفظ السلام في أفريقيا وهايتي، إذ لم تتحرّك الأمم المتحدة بسرعة وحزم يتعدّيان تعبيرات أمينها العام عن «القلق» إلا بعد قيام أحد موظفيها، السويدي أندرس كومباس، مدير العمليات السابق في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بتسريب تقرير داخلي يوثّق تورط جنود فرنسيين في الاعتداءات الجنسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، وتسليمه للسلطات الفرنسية كي تتصرّف مباشرةً مع جنودها، بعد أن سَئِمَ قصور الإجراءات التي اتخذتها الأمم المتحدة داخلياً. اتُخذت الأمم المتحدة حينها إجراءات منقوصة وبطيئة، أولها، لضرورة البيروقراطية الدولية، ضد أندرس كومباس نفسه.
يُشار في هذه الأيام إلى «إنجاز كبير» يُسجّل لبان كي مون، ألا وهو نجاحه في الخروج من قمة باريس حول التغيّر المناخي عام 2015 بقرار وافقت عليه الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من بينها الولايات المتحدة والصين، الدول الأكثر إشكالية في هذا المجال. ليس للقرار آليات تنفيذية واضحة مُلزمة بشكل فاعل، كما أنه لا يحوي خطوات عقابية جدّية للدول غير الملتزمة، لكن الدبلوماسية الدولية تعتبره إنجازاً كبيراً لم يكن متوقعاً على الإطلاق حتى انعقاد القمّة. ربما ينفع هذا الإنجاز كي يكون لبان كي مون مستقبل دبلوماسي دولي في هذا المجال، أو ليُرشح لجائزة دولية، نوبل للسلام مثلاً. ليس بالإمكان التكهّن إن كان هذا مشروعاً يدور في رأسه خلال وثبته الخطابية في الأيام السابقة في جمعيته العمومية الأخيرة، التي كانت أيضاً الجمعية العمومية الأخيرة في عهد باراك أوباما، الرئيس الأميركي الذي اشتكى كثرة الشيب بسبب الاجتماعات حول المسألة السورية. اشترك الرجلان خلال هذه الأيام في حديثهما عن سوريا، وتعبيرهما عن الأماني الكبرى بأن تجد الحرب السورية حلاً قريباً. كلاهما مسؤول عمّا وصلت إليه مآسي السوريين، لكن مسؤولية الرئيس الأميركي، بطبيعة الحال، أكبر بما لا يُقاس، ويُتمنّى أن يُسجِّل التاريخ عليه هذا الذنب.
لكن التاريخ، للأسف، غالباً ما يتصرّف كموظف رفيع المستوى في الأمم المتحدة.