هذا النص هو محاولة قد تكون الأولى لكتابة تاريخ مدينة الميادين في زمن نظام الأسد وزمن الثورة عليه، وقد اعتمدتُ فيه على مصادر قليلة ومتناثرة، وعلى لقاءات مع عددٍ من أبناء المدينة وناشطيها، الذين لم تُذكر أسماء بعضهم مطلقاً، وذكرت أسماءٌ مستعارة لبعضهم الآخر، ووافق اثنان منهم فقط على ذكر الأسماء الصريحة، ولهم جميعاً أتوجه بجزيل الشكر والعرفان.
سيجد القراء في هذا النص ثغرات ونواقص كثيرة دون أدنى شك، لكن كتابة تاريخ سوريا، ومنطقتها الشرقية على وجه الخصوص، تصطدم بعقبات أبرزها شحُّ المعلومات عن الحياة تحت حكم الأسديين، والفوضى وتضارب المصادر والروايات في زمن الثورة، والخوف الذي عاد ليحكم قبضته على حياة أبناء الفرات، بعد أن حطموه بثورتهم الشجاعة عام 2011.
سبق أن تم نشر القسم الأول من هذا النص، وهذا هو القسم الثاني.
*****
الجيش الحر في أحياء الميادين
زجَّ نظام الأسد بالجيش والمدرعات في المواجهة على نطاقٍ واسعٍ اعتباراً من أواخر تموز 2011، ساحقاً جميع الآمال بإمكانية إجباره سلمياً على أي تحولٍ سياسي، بعد أن احتلت مدرعاته ساحات الاعتصامات في طول البلد وعرضها.
توجهت أرتال الجيش النظامي لحصار دير الزور واقتحامها بعد أن شهدت هي ومدنها وأريافها مظاهرات واعتصامات شارك فيها مئات الآلاف، وترافقت تلك العمليات العسكرية الواسعة مع انشقاق أعدادٍ كبيرة من جنود النظام، والبدء بتحول الثورة من المسار السلمي إلى المسار المسلح.
بدأ النظام بعد اقتحام دير الزور بتوسيع دائرة الاقتحامات لتشمل بلدات في ريف الميادين، من بينها القورية في 24 آب، ودخلت بعضٌ من آليات الجيش إلى الميادين في اليوم نفسه في محاولة لترهيب السكان. ولم يكن ممكناً بالنسبة لقوات النظام السوري الاستقرار في ريف الميادين الواسع والمسلح، بل كانت السيطرة على دير الزور ومراكز المناطق كالميادين والبوكمال أكثر أهمية بالنسبة لها، حيث كانت تنفذ اقتحاماتٍ في بلدات الريف ثم تنسحب إلى ثكناتها، وهكذا بات سائر ريف الميادين أشبه بمناطق محررة بحكم الأمر الواقع، فيما بقيت الميادين نفسها تحت سيطرة النظام السوري.
يقول أبو أحمد «أحدث الجيش ثكنتين عسكريتين كبيرتين في الميادين، الأولى كتيبة المدفعية، والثانية ثكنة مسبق الصنع، وهي أبنية حديثة غير مسكونة وغير جاهزة في حي البلعوم شمال غرب الميادين. أدى اقتحام الجيش وتمركزه في هاتين النقطتين، وتدعيم المقرات الأمنية بآليات عسكرية، إلى توقف الحراك السلمي فترةً من الزمن عندما وجد المتظاهرون أنفسهم في مواجهة الجيش، ثم عودته بشكل تدريجي على شكل مظاهرات خاطفة في داخل الأحياء، وبإعداد أقل من المتظاهرين».
عادت سلطة النظام إلى التآكل في الميادين مع عودة المظاهرات إلى الأحياء، وإن بأعداد محدودة قياساً بما كان عليه الحال قبل دخول الجيش، وذلك بالتزامن مع تآكلها في عموم حوض الفرات رغم محاولات الاقتحام والإخضاع المتكررة، ورغم القصف المدفعي اليومي الذي كانت كتيبة المدفعية تنفذه على أهدافٍ كانت مجهولةً وقتها بالنسبة لسكان الميادين كما يقول أبو أحمد.
تأخر تنظيم العمل المسلح في الميادين لأسباب شتى أبرزها «القبضة الأمنية القوية وشبكة المخبرين التي تعمل لصالح النظام، وعدم رغبة أهل الميادين في عسكرة الحراك» كما يقول عبود الصالح. وتأخر ظهور كتائب الجيش السوري الحر بشكلٍ علني في ريف الميادين أيضاً قياساً بمناطق أخرى في البلاد، وربما يرجع ذلك إلى البنية العشائرية في الريف.
لعل أولى كتائب الجيش السوري الحر التي أُعلن عن تأسيسها في ريف الميادين، كانت كتيبة القعقاع في القورية في 25 تشرين الثاني 2011، تلاها تأسيس كتائب تباعاً في العشارة والشحيل وغيرها من بلدات ريف الميادين، ورغم أن الحراك السلمي في منطقة الميادين لم يكن يمكن الفصل فيه بين حراك المدينة وحراك ريفها، إذ كان أبناء الأرياف يشاركون في مظاهرات المدينة، وكان الناشطون الملاحقون يلجؤون إلى بلدات الريف عند المداهمات الأمنية، إلا أن الأمر كان مختلفاً فيما يتعلق بتنظيم الحراك العسكري، لأسبابٍ شتى أبرزها أن عشائر المدينة غير عشائر ريفها.
بدأ أبناء الميادين الانتظام في كتائب تحت مسمى الجيش السوري الحر أسوة بأبناء الريف اعتباراً من أوائل عام 2012، ويقول أبو محمد الذي عاش تلك الأيام في الميادين، وكان واحداً من ناشطيها: «الكتائب التي تشكلت تباعاً من أبناء المدينة هي كتائب: أبو الحسنين، أسود التوحيد، أسامة بن زيد، عباد الرحمن، جنود الحق، والرحبة، وغيرها. ولم يكن لهذه الكتائب مقرات علنية في البداية، وكان تواجدها في محيط الميادين وفي الأحياء على نحوٍ غير معلن. أما قادة هذه الكتائب فقد كانوا من المثقفين والجامعيين، وكان بينهم أطباء أسنان وصيادلة على وجه الخصوص».
يصعب تتبع مسار هذه الكتائب وأسلوب عملها ومصادر تمويلها وأسباب تعددها بدقة، وذلك لأسبابٍ شتى أبرزها صعوبة توثيق أشياء كهذه لسريتها وتداخلاتها العشائرية والسياسية، وعدم اهتمام هذه الكتائب بالجانب الإعلامي، ولأنها لم تكن تتمركز في أماكن معلومة ولم تكن تخوض مواجهات عسكرية، بل اعتمد عملها على الاغتيالات والكمائن الخاطفة خلال النصف الأول من عام 2012. ولم أتمكن من العثور على بيانٍ مصورٍ لتأسيس أي كتيبة من هذه الكتائب، سوى كتيبة أسامة بن زيد، ويبدو عناصرها ملثمين ويقومون بتصوير الفيديو داخل أحد المنازل.
يقول علي الرحبي إن «هذه الكتائب كانت خلال الأشهر الأولى تعتمد في تسليحها وتمويلها على السلاح المحلي المتوافر، وعلى تمويل تجار ومشايخ ووجهاء عشائر سوريين، ولكنها لاحقاً تحولت إلى الاعتماد على التمويل الخارجي من دول الخليج العربي على وجه الخصوص».
مع اتساع العمل العسكري وتزايد متطلباته، بدأت محاولات مأسسة عمل المعارضة السياسي والعسكري عبر المجلس الوطني السوري، وعبر المجالس العسكرية الثورية، ومنها المجلس العسكري الثوري في المنطقة الشرقية، الذي تم تأسيسه في 29 حزيران 2012.
ترافق وجود هذه الكتائب مع استمرار المظاهرات السلمية، وكان في الميادين عدة تنسيقيات وتجمعات ثورية مدنية تقوم بتنظيم الحراك السلمي بالتنسيق مع الكتائب المسلحة، وكانت المظاهرات التي بدأت تعود بشكل أوسع تتجنب التوجه نحو المقرات الأمنية ومراكز النظام المدعمة بالجيش، الذي بات الوضع بالنسبة له مختلفاً الآن، بعد أن أصبح مسلحو الجيش السوري الحر في كل مكان داخل الميادين وحولها.
التحرير
بدأت كتائب الجيش السوري الحر تدخل في تحالفات أوسع، وتتجه إلى تشكيل ألوية أكثر تنظيماً، وتنسق العمل العسكري فيما بينها، ولم يعد يقتصر عملها على حماية الأحياء والمظاهرات وإرباك النظام في محيط المدينة، بل انتقلت اعتباراً من مطلع تموز إلى مهاجمة مقرات النظام والمفارز الأمنية في الميادين ومحيطها، في سياق حرب التحرير التي كان ثمة اعتقادٌ سائدٌ أنها ستنتهي بطرد النظام من سائر مناطق سوريا تباعاً، وصولاً إلى العاصمة.
كذلك بدأت بالظهور في تلك الفترة مجموعات تابعةٌ لأحرار الشام وجبهة النصرة، لا ترفع شعار الجيش الحر ولا علم الثورة السورية، وتتبنى السلفية الجهادية وتشارك في العمل العسكري، وكان تواجدها في الأرياف أوسع منه في المدينة، وبدأت الشحيل في ريف الميادين تُعرف بوصفها معقل جبهة النصرة الأبرز في سوريا منذ ذلك الوقت.
يرتبط طرد النظام من مدينة الميادين نهائياً، والسيطرة على جميع مقراته ومفارزه فيها، باستشهاد الشاب لؤي عادل البطاح، إذ خرجت مظاهرة سلمية في مدينة الميادين باتجاه شارع الجيش في 26 تموز 2012، وتعرضت لإطلاق نارٍ من قبل عناصر الأمن العسكري ما أدى إلى استشهاد لؤي، وهو ما أعقبه انطلاق عملية تحرير المدينة.
يقول علي الرحبي: «كان لؤي شاباً محبوباً ومعروفاً على نطاقٍ واسع في الميادين، وأثار استشهاده غضب الجميع، والأرجح أن هذا الغضب أمّن الأجواء المناسبة وكان شرارة إشعال معركة تحرير الميادين التي انطلقت في اليوم التالي». أما أبو محمد، فيؤكد أن تحرير الميادين لم يكن مخططاً له بدقة، لكنه أيضاً لم يكن ردة فعل على استشهاد لؤي بالمعنى المباشر، ويقول في التفاصيل: «كانت كتيبة أسود التوحيد قد خططت لضرب سيارتين تابعتين للأمن العسكري، وتصادفَ استشهاد لؤي في اليوم السابق للعملية. وبالفعل تم تنفيذ الهجوم ومقتل عدد من عناصر الأمن العسكري، من بينهم العنصر الذي أطلق النار على المتظاهرين يوم استشهاد البطاح، ويبدو أن الغضب العارم جراء استشهاده، والثقة بعد تدمير السيارتين، والرغبة العارمة في الخلاص من النظام، قد دفعت جميع كتائب الميادين إلى البدء بمهاجمة حواجز النظام ومقراته، ليصبح النظام خارج الميادين في غضون أسبوعين أو أكثر بقليل».
يقول عبود الصالح: «كان ثمة تخطيطٌ لتحرير المدينة ومحيطها، وخاصة كتيبة المدفعية التي أذاقت الريف الأمرين، وتشهد على ذلك العمليات العسكرية التي تصاعدت في محيط الميادين خلال شهر تموز 2012. كان هناك آراء تقول بضرورة تحرير كتيبة المدفعية أولاً لتجنيب المدينة الدمار فيما لو تم تحريرها أولاً، في حين ذهبت آراء أخرى إلى ضرورة تحرير المدينة أولاً لتأمين حركة المقاتلين في المنطقة أثناء خوض معركة المدفعية التي ستكون صعبةً جداً، لكن الأحداث ذهبت باتجاه تحرير المدينة قبل المدفعية، ولعل استشهاد البطاح قد لعب دوراً في اتخاذ القرار بضرب الأفرع الأمنية وإزالتها من المدينة».
شاركت في تلك العمليات فصائل الميادين وفصائل ريفها التي لعبت دوراً بارزاً، فتمت السيطرة على مقر أمن الدولة في الأول من آب، ثم الأمن السياسي في 4 آب، ثم الأمن العسكري في 7 آب، وأخيراً كتيبة الهجانة في 24 آب. يستذكر أبو محمد تلك الأيام فيقول: «قامت مجموعة من الناشطين بالتوجه نحو السرايا الحكومية أثناء عمليات التحرير، وتم إفراغها من وثائق النفوس ووثائق الملكية العقارية، وحفظها كلها في مكان آمن. وبدأنا التفكير بضرورة تأسيس لجنة مدنية من وجهاء وأعيان ومثقفي الميادين لإدارة حياة السكان فيها بعد اكتمال التحرير، والاستعداد لمرحلة جديدة ستكون أكثر دموية بعد أن زجّ النظام بالطيران الحربي بكثافة، وبدأ بارتكاب مذابح عبر القصف الجوي والقصف المدفعي من ثكنته المجاورة المعروفة بكتيبة المدفعية.
انعقد اجتماع أول للأهالي في جامع الشرعية للنقاش العام حول مسألة إدارة المدينة، والثاني في جامع الحسن، وكان هناك بالتوازي مع الاجتماعين عمل مكثف لترتيب الأوضاع. تم إطلاق تجمع أحرار الميادين، وتم تشكيل لجنة مدنية وعدة مكاتب: إعلامي – عسكري – علاقات عامة، وجرت محاولات لتنسيق عمل مكاتب الإغاثة المتعددة. لم تتخذ اللجنة مقراً، ولم تعلن عن نفسها تجنباً لكثير من التعقيدات المحلية والعشائرية، ورغبةً في عدم الخوض في مسائل تتعلق بالصلاحيات ومصدرها.
كان هناك تكاتفٌ كاملٌ بيننا كناشطين مدنيين وبين مسلحي الفصائل، وكان تجمع أحرار الميادين الناشئ حديثاً يقوم بإعداد الوجبات بشكل يومي لجميع المقاتلين المشاركين في المعارك».
بحلول الرابع والعشرين من آب، كانت الثكنة العسكرية الوحيدة للنظام في منطقة الميادين هي كتيبة المدفعية المجاورة لقلعة الرحبة، التي كانت عبارة عن مستودعات كبيرة لمؤسستي الأعلاف والكهرباء، تحصن فيها النظام مع قطع مدفعية ثقيلة راحت تمطر الميادين وريفها بالقذائف يومياً موقعةً كثيراً من الضحايا.
في تلك الفترة حصلت تحولات في وضع الفصائل العسكرية، وبدأت تأخذ مقرات علنيةً لها، وتحالفت كثيرٌ منها معلنةً تشكيل لواء أسود السنة في 14 أيلول 2012، كما حصلت انشقاقات عن بعض الكتائب، أبرزها انشقاق حسام الشلوف مع عدد كبير من المقاتلين عن كتيبة أبو الحسنين، وإعلان تأسيس كتيبة الشهيد صدام حسين، وتجدر الإشارة إلى أن الموقف من شخصية الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان إشكالياً، إذ كانت صوره تُرفع في بعض التظاهرات، ما كان يسبب توتراً وخلافات بين الناشطين، وتبدو هذه الحساسية واضحة في فيديو إعلان تشكيل الكتيبة، المذيل بعبارة: عذراً من الإخوة الذين يختلفون معنا في الرأي.
في مطلع شهر تشرين الثاني بدأت فصائل الميادين وريفها معركة تهدف إلى تحرير كتيبة المدفعية، وبدأت بقطع خطوط الإمداد عنها ثم حصارها، بالتزامن مع عمليات تحرير مدينة البوكمال، لتصبح اعتباراً من منتصف الشهر ثكنة النظام العسكرية الوحيدة على طول حوض الفرات من الحدود العراقية وحتى مشارف دير الزور، ولتنتهي المعركة باقتحام الكتيبة والسيطرة عليها في الثاني والعشرين من تشرين الثاني.
بتحرير كتيبة المدفعية، لم يعد النظام قادراً على استهداف الميادين إلا من الجو، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة المدينة.
دروب الحرية المغلقة
كان لعام ونصفٍ من المظاهرات والمعارك أثرٌ بالغٌ على الميادين وأهلها وبنية العلاقات الاجتماعية فيها، إذ تصاعدَ دور الانتماء العشائري والعائلي لجهة الدور الحمائي الذي تلعبه العشيرة بالنسبة لأبنائها في ظل غياب دور الدولة الذي كان ضعيفاً في هذا المجال أصلاً. لكن هذا التصاعد ترافق مع ما قد يبدو نقيضاً له، وهو تراجع الأحقاد العشائرية والعائلية، واستعدادٌ واسعٌ للتعاون في مواجهة الأخطار الوجودية العامة، وكذلك تحسن العلاقة بين الريف والمدينة، خاصة بعد المشاركة الواسعة لكتائب الريف في تحرير المدينة.
من أمثلة ذلك ما يرويه علي الرحبي: «كان هناك خلافات وثارات قديمة بين عائلتي الوهيبي والجبر في المدينة، والعائلتان من عشيرة البوخليل، لكن قصفاً لقوات النظام استهدف أحد بيوت عائلة الجبر وأدى إلى استشهاد أكثر من 18 شخصاً منهم. كان المشهد مخيفاً، وفوجئ الجميع بعائلة الوهيبي قد جاءت إلى مستشفى نوري السعيد للمساعدة والتبرع بالدم، كان هذا غير مألوفٍ في النزاعات العشائرية والدموية التي كانت تستمر عقوداً».
أيضاً قصدَ مدينة الميادين التي كانت آمنةً نسبياً، ولم تتعرض لقصفٍ مدفعي أو جويٍ على نطاق واسع إلا بدءً من معركة تحريرها، عشرات آلاف النازحين من أنحاء البلاد، سواء من دير الزور وريفها أو من حمص وغيرها، وأدى ذلك إلى تضاعف عدد سكانها، وأحدث تغييراً في بنيتها السكانية.
أما التغيير الثالث فكان تزايد حضور الخطاب الإسلامي، والسلفي منه على وجه الخصوص، في المدينة وريفها، واختلاط خطاب الثورة الداعي لإسقاط النظام وتحرير البلاد من استبداده، مع طروحات الدولة الإسلامية وضرورة تحكيم الشريعة.
يبدو صعباً تتبع مسار الأحداث وتفسيرها في ظل شحُّ المعلومات عن تلك الفترة، وعدم وضوح مسارها، لكن السمة الأساسية لعام 2013 في الميادين كان تراجع الجيش الحر وشعاراته وخطابه، وخنق تجربة المجلس المحلي والإدارة المدنية، لصالح صعود السلفية، وسيطرة جبهة النصرة وخطابها.
لم يتعرض شبيحة النظام في بلدة ذيبان لأي أعمال انتقامية بعد التحرير، ويقول عبود الصالح إن «الفصائل اتخذت قراراً بذلك لتجنب الفتنة العشائرية، وتقديراً لتضحيات كثيرٍ من أبنائها الذين قاتلوا في صفوف الجيش الحر وفقدَ بعضٌ منهم حياته. أما أديب السطام فقد تم تسريحه من الأمن العسكري، وعاد إلى ذيبان مستفيداً من التوازن العشائري، لكنه تعرض لمحاولة اغتيالٍ كادت تودي بحياته لاحقاً، على الرغم من التسويق له بوصفه ضابطاً منشقاً» الجدير بالذكر أن أديب السطام استفاد من التوازن العشائري مرة أخرى، حيث اعتقله تنظيم الدولة بعد سيطرته على المنطقة، وأطلق سراحه بعد شهر ليواصل حياته في ذيبان بشكل طبيعي..
تزامنَ تحرير كتيبة المدفعية مع تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في 11 تشرين الثاني، وتوسيع العمل على تأسيس مجالس محلية في المناطق المحررة، ويقول أبو محمد عن تلك الأيام: «لم تعلن اللجنة المدنية عن نفسها في البداية كما قلنا، لكن الائتلاف أعلن عن أعضائها بوصفهم مجلس الميادين المحلي، وأبلغهم أنه تم تخصيص مبلغ 100 ألف دولار لمجلس الميادين المحلي.
أثار هذا غضب السكان، الذين كانوا يعتقدون أن أعضاء اللجنة المدنية خططوا للاستيلاء على السلطة في المدينة دون التشاور مع أحد، وكان هناك اعتقادٌ شائعٌ أن المجالس المحلية ينتظرها مستقبلٌ كبيرٌ في البلاد. اجتمع أعضاء اللجنة مع الوجهاء والأعيان ومن أراد من أبناء البلد في أحد المساجد، وتعرضوا لهجومٍ حاد، لكنهم شرحوا أنه إذا لم يكن هناك مجلسٌ محليٌ في هذه اللحظة، فإن الميادين ستخسر مبلغ الـ 100 ألف دولار المخصص، وهي بحاجة ماسة إليه، وخاصة لشراء مطحنة ضخمة لمخزون القمح، حيث كانت المدينة تحتاج إلى 10 أطنان يومياً من الدقيق، وهو ما لا تستطيع المطاحن الصغيرة الموجودة تأمينه.
تم التوافق على أن يستمر أعضاء اللجنة المدنية مجلساً محلياً مدة شهرين، يقومون خلالها باستلام المبلغ أصولاً وإنفاقه على الخدمات في المدينة، على أن يتم خلال هذين الشهرين وضع آليةٍ لتأسيس مجلس محلي يكون محل إجماعٍ وتوافق.
نصت الآلية المقترحة على تقسيم المدينة إلى قطاعات جغرافية هي الشرق والوسط والغرب، وأن يكون هناك هيئة عامة على أساس عشائري ومناطقي من 75 عضواً تختارهم العشائر، كل عشيرة وفق عددها، ومن الهيئة العامة ينبثق المجلس المحلي المُجمَع عليه.
لم يكن عمل المجلس المحلي مُرضياً، وبدأ أغلب أعضاء الهيئة العامة يتخلفون عن حضور الاجتماعات، فاقترحنا كناشطين مدنيين بعد التشاور مع حقوقيين وقضاة آلية جديدة تخفف من العشائرية وتشرك مؤسسات المجتمع المدني. كان قد تأسس في الميادين أكثر من 35 منظمة عمل مدني، ونصت الآلية الجديدة على أن يكون لكل منظمة ممثل في الهيئة العامة من أصل 75 عضواً، والباقي من وجهاء العشائر وفق الآلية السابقة، وهو ما خفف من تأثير العشائرية، وأدى إلى انبثاق مجلسٍ محلي أفضل عملاً».
يسلط ما تقدم الضوءَ على صعوبات الإدارة المحلية في ظل العشائرية، لكن يبدو أن هناك خطوات متقدمة كان يتم إنجازها رغم ذلك، وكان المجلس المحلي يعتمد على تبرعات الداعمين والمغتربين، وعلى المشاريع المشتركة مع الائتلاف والحكومة المؤقتة، ولكن هذا لم يكن كافياً على ما يبدو، وكان هناك تناقضات وعوائق أخرى حالت دون نجاح تجربة العمل المدني.
يقول علي الرحبي إن «سمعة فصائل الجيش الحر بدأت تسوء، بسبب عدم انضباطها والفوضى في عملها وقيام بعض عناصرها بالاستيلاء على محتويات الدوائر الرسمية وبيعها أو استخدامها. وفي وقتٍ لم يكن فيه المجلس المحلي قادراً على تأمين كل احتياجات السكان، بدأت المجموعات السلفية وعلى رأسها جبهة النصرة وأحرار الشام تقدم كثيراً من الخدمات، ومن أمثلتها تأمين جبهة النصرة الغاز المنزلي للسكان بعد سيطرتها على حقل كونيكو في ريف دير الزور الشرقي. كذلك، كانت جبهة النصرة أكثر انضباطاً وتنظيماً، وتحمل مشروعاً واضح المعالم، خلافاً للجيش الحر وفصائله المتعددة. وترافق ذلك مع صعود المد الديني وتصاعد أسهم السلفية وحضورها في عموم سوريا».
يتحدث أبو أحمد عن تلك الفترة فيقول: «كانت السلفية تغزو عقول الشباب، والجامعيين منهم على وجه الخصوص، في ظل الصراع الدموي مع النظام وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في عموم سوريا، وكان حزب التحرير الإسلامي نشطاً ويقوم بطباعة آلاف المنشورات التي يدعو فيها لقيام خلافة على منهاج النبوة، ولم يكن لهذا الحزب جناح عسكري كما هو معروف، لكن صدى دعواته ودعوات عشرات المشايخ ودعاة السلفية كان يظهر من خلال انضمام الشبان إلى جبهة النصرة وغيرها من الفصائل السلفية والإٍسلامية، فيما كانت فصائل الجيش الحر غارقة في خلافاتها وفساد بعض قادتها، وتغيب جميع المشاريع الأخرى التي يمكن تنافس الخطاب الإسلامي على عقول وقلوب الناس، وفيما كان المجلس المحلي يفشل في تقديم ما يلزم من خدمات بسبب قلة موارده، وبسبب رفضِ الخطاب السلفي والكتائب الإسلامية للتعاون معه بوصفه مرتبطاً بجهات علمانية وغربية كافرة وفق المصطلح الذي بدأ يشيع وقتها».
كانت بوادر تشرذم قوى الثورة السورية في المنطقة قد بدأت منذ أواخر 2012، ويقول عبود الصالح: «أثناء معركة المدفعية، وبدل العمل على دعم المجلس العسكري الثوري، الذي كان ضعيفاً ويعاني من انعدام القرار المركزي وسوء التخطيط واتهامات بالفساد، تم الإعلان في 11 تشرين الثاني 2012 عن جبهة الأصالة والتنمية، التي ضمت عدداً من كتائب الجيش الحر التي كان بعضها منضوياً أصلاً في المجلس العسكري. وعلى الرغم من أن الجبهة لعبت ولا تزال دوراً عسكرياً بارزاً في مواجهة النظام، إلا أن قيامها على ذلك النحو كان خطوة غير مفهومة، وساهمت في تشتت قوى الثورة المسلحة. كذلك أعلنت فصائل إسلامية على رأسها جبهة النصرة، التي كانت بلدة الشحيل في ريف الميادين معقلها الرئيسي في سوريا، في العاشر من آذار 2013، عن تأسيس الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية، واتخذت من مدينة الميادين مقراً لها، وبدأت تعمل على فرض رؤيتها ومنهجها، وأدت هيمنة النصرة عليها إلى انسحاب عدة فصائل لاحقاً. وعلى التوازي تشكلت الهيئة الشرعية العليا المدعومة من بقية فصائل الجيش الحر، لكن دورها كان ضعيفاً».
يقول أبو محمد إن المجلس المحلي منذ تأسيسه عمل على «تأسيس كتيبة أمنية تابعة له، وعمل بالتعاون مع محامين وقضاة على إعادة صياغة قانون العقوبات بما يتوافق مع الشريعة الإٍسلامية، لكن هذه التجربة لم يكتب لها كثيرٌ من النجاح.
تصادم عناصر جبهة النصرة مع عناصر الكتيبة الأمنية وحاولوا اقتحام مقرها مرتين بغية إنهاء عملها، لكن قسماً من الأهالي دافع عن الكتيبة الأمنية، إلى أن تمكنت جبهة النصرة من اقتحام المقر والسيطرة عليه قبل نحو شهرٍ من سيطرة داعش على المدينة».
من الأحداث البارزة في تلك المرحلة، والتي تحمل دلالات حول وضع قوى الثورة السورية، تعرض العقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش الحر، لمحاولة اغتيالٍ في الميادين في آذار 2013. كان العقيد في زيارة سرية تتعلق بالجيش الحر ووضعه في المنطقة الشرقية، وانفجرت عبوة لاصقة مضبوطة بمؤقت زمني بسيارته وأدت إلى بتر ساقه. لم يوجه الجيش الحر رسمياً أي اتهامٍ لأي جهة، ولاحقاً تم تحميل شريطين مصورين يظهران رياض الأسعد في الميادين وقرب قلعتها قُبيل محاولة اغتياله.
في التاسع من نيسان عام 2013، تم الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهو ما رفضته قيادة جبهة النصرة، لتصبح الدولة الإسلامية فصيلاً جديداً في الساحة السورية. وقد انعكس ذلك شقاقاً في عموم سوريا، لكن تواجد أنصار تنظيم الدولة في الميادين كان ضعيفاً، وكان هذا الإعلان دافعاً لجبهة النصرة إلى محاولة تدعيم سيطرتها وفرض إرادتها في المنطقة خوفاً من تمدد أنصار تنظيم الدولة.
كان ثمة مقاومةٌ من نوعٍ ما لهيمنة جبهة النصرة على المنطقة، لكنها كانت مقاومةً غير مجدية، ولم يكن لها سندٌ عسكري، وخرجت عدة مظاهرات ضد جبهة النصرة نظمها ناشطون في المدينة، ولم أتمكن من العثور على أي تسجيلٍ مصورٍ لها، لكن جميع من التقيتهم من أبناء الميادين تحدثوا عن مظاهرة طالب فيها بعض أبناء المدينة جبهة النصرة بإخلاء مقرها المجاور لمشفى الأطفال في المدينة بسبب قصفه المتكرر من قبل طائرات النظام، واقترحوا على الجبهة نقل مقرها إلى مستودعات الأعلاف والكهرباء التي كانت سابقاً مقر كتيبة المدفعية، فكان رد جبهة النصرة غاضباً إلى درجة أنها قامت بنسف المستودعات.
يقول أبو أحمد إن «جبهة النصرة وأنصارها ودعاة الخلافة الإسلامية بدأوا منذ ذلك الوقت يطلقون على كل معارضٍ لهم وصف ’الصحوات‘، في استعارةٍ للمصطلح العراقي، ويتهمونهم جميعاً بالردة والكفر». ويروي أبو محمد أن «المجلس المحلي حاول تجنب الاتهامات الموجهة له بالكفر والعلمانية والارتباط بالغرب من خلال إصداره بياناً يقول فيه إنه ليس تابعاً للائتلاف، وإنه مستعدٌ لتلقي الدعم من أي جهة تريد دعم الشعب السوري، لكن هذا لم يمنع أنصار جبهة النصرة والسلفية من مواصلة التحريض ضده».
مع التحالفات والارتباطات المتغيرة، وعدم وضوح نهج وهدف الفصائل متعددة الارتباطات والتبعيات، كانت تبدو جبهة النصرة الأكثر تماسكاً وقوةً ووضوحاً في مشروعها، وخاصة بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية الأكثر تطرفاً، وصعود جبهة النصرة بوصفها حامياً للمنطقة من تمدده ومن قوات النظام. ويعتقد عبود الصالح أن «فصائل الجيش الحر تتحمل مسؤولية كبرى في ذلك، لأنها لم تكن مهتمةً بتأمين احتياجات الناس، ولم تكن تدعم المنظمات المدنية، ووجدت جبهة النصرة في ذلك ممراً إلى قلوب الناس، عبر تأمين احتياجاتهم. كانت جبهة النصرة تعمل بصبرٍ وذكاء على كسب الحاضنة الشعبية، فيما كانت فصائل الجيش الحر غارقة في العسكرة وشؤونها، وفي خلافاتها وارتباطاتها المتضاربة».
انشغل كثير من أبناء العشائر باستثمار النفط الموجود في أراضيهم بشكل عشوائي وبوسائل بدائية، وأدى ذلك إلى تلوثٍ في البيئة وصراعات على النفوذ والسيطرة، كانت من بين عوامل ضعف المنطقة والشقاق بين أهلها وزرع بذور الفرقة والتشكك بينهم. ويرى عبود الصالح أن «النفط كان كارثة المنطقة، لكن استثماره من قبل العشائر كان في أحد وجوهه ردة فعل على حرمان طويل من عوائد النفط، وكان له فائدة اقتصادية كبيرة للمنطقة التي تخلى عنها العالم، وكان نقمةً كبرى جاءت بالصراعات في الوقت نفسه».
أما أبو أحمد فيقول إن «استثمار النفط كان كارثة كبرى، لأنه أدى إلى صراعات وإهدار طاقات ودماء كثير من شباب المنطقة. كما أنه أدى إلى إثراءِ كثيرين على حساب عذابات الناس، ومنحِ الكتائب والمجموعات التي استأثرت به سلطة وثروات لم يتم استغلالها لتحسين أوضاع السكان، بل لتدعيم سيطرة وهيمنة تلك الجهات، ويعكس تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان في نيسان 2014 جانباً من أثر النفط على عموم دير الزور» لم أتمكن من الحصول على الرابط الأصلي لتقرير المرصد الذي تحدث عنه أبو أحمد، لكن موقع كلنا شركاء كان قد أعاد نشره على هذا الرابط..
بقي حقل العمر النفطي بيد قوات النظام عبر اتفاقٍ غير معلن، حتى سيطرت عليه جبهة النصرة في 23 تشرين الثاني 2013، بمؤازرة بعض الكتائب، ويبدو أن هذه السيطرة جاءت استباقاً لسيطرة تنظيم الدولة عليه، وكانت المعركة محدودة وقليلة الخسائر.
هكذا غدت جبهة النصرة مع أواخر 2013 القوة الأكبر والأكثر سيطرةً في الميادين، بالاعتماد على دعم معقلها الأبرز في الشحيل، وعلى سائر الظروف التي تحدثنا عنها. وبقي في الميادين فصائل أخرى تابعة للجيش الحر وجبهة الأصالة والتنمية، بالإضافة إلى أحرار الشام المنضوية في الجبهة الإسلامية التي تأسست أواخر 2013، وعدة كتائب صغيرة مستقلة، فضلاً عن قوى وتجمعات مدنية والمجلس المحلي وهيئته العامة، ولكن لم يكن أي من هذه القوى العسكرية والمدنية يخوض مواجهةً جديةً مع جبهة النصرة وهيمنتها.
الاحتلال
كان ثمة توترات وصدامات قد حصلت بين تنظيم الدولة وسائر الفصائل في سوريا، وخاصة حركة أحرار الشام الإسلامية، وتطورت مطلع عام 2014 إلى حرب شاملة شاركت فيها النصرة بعد تردد، وكانت داعش قد استهلت ذلك الصراع في الميادين بنسف مقر حركة أحرار الشام الإسلامية هناك بسيارة مفخخة في 7 كانون الثاني 2014.
تم طرد التنظيم من سائر مناطق إدلب ومدينة حلب وريفها الغربي والجنوبي والشمالي، وعمل التنظيم في المقابل على بسط سلطانه شرق البلاد وشمالها الشرقي، مستفيداً من عناصره الذين انسحبوا من شمال البلاد، ومن السلاح والعتاد المتطور الذي تم الاستيلاء عليه من مخازن الجيش العراقي.
يروي عبود الصالح حكاية حسام الشلوف في تلك المرحلة، والتي تسلط الضوء على بعض التعقيدات والتشابكات، فيقول: «كان حسام الشلوف، قائد كتيبة صدام حسين، من القادة العسكريين بالغي الشجاعة، ولم يكن لديه اتجاه سلفيٌ ظاهرٌ مطلقاً، وكان دائم التمرد على قرارات جبهة النصرة، التي ضيقت عليه وحاولت اغتياله. ومع بدء المعركة مع داعش، تم طرد عناصرها من مقرهم في المدينة، واتهمت جبهة النصرة حسام الشلوف بمبايعة داعش وقامت باعتقاله. نفى حسام الشلوف علاقته بداعش، لكن النصرة قدمت أدلة على تورطه باتصالات معها، غير أنها أُجبرت على إطلاق سراحه تحت ضغطٍ شعبي، ليغادر المدينة مع عناصره، وينضم لاحقاً إلى تنظيم الدولة. لا يشغل حسام موقعاً عسكرياً في التنظيم اليوم، بل هو أحد مسؤولي العلاقات العامة فيه، ولا مجال لمعرفة حقيقة ما جرى في تلك الأيام، لكنني أرجح أن انضمامه لداعش كان بسبب ضغط النصرة عليه، وليس لسبب عقائدي».
كانت معركة مركدة في ريف الحسكة فاصلةً، إذ نجح التنظيم في دحر جبهة النصرة والفصائل المساندة لها في آذار 2014، وخسرت الميادين في تلك المعركة أكثر من أربعين من أبنائها. بعدها نجح التنظيم في السيطرة على البوكمال إثرَ معارك طاحنة وطويلة مع فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة، تبادل فيها الطرفان السيطرة عدة مرات، لينتهي الأمر بانسحاب جبهة النصرة والفصائل نهائياً منها أواخر حزيران، بالتزامن من إعلان التنظيم الخلافة الإسلامية، ودعوة جميع الفصائل إلى البيعة أو الاستعداد للقتال.
في أوائل تموز انسحبت جبهة النصرة من سائر مناطق ريف دير الزور بعد معارك متفاوتة العنف، وبعد أن أصبح مصير المعركة محسوماً إثر سقوط البوكمال، ودخلت قوات الخلافة الناشئة الشحيل معقل جبهة النصرة، وحقل العمر النفطي، ومدينة الميادين، في الثالث من تموز، ليصبح كل ريف دير الزور خاضعاً لسيطرة داعش.
يقول أبو محمد إنه «لم يكن هناك معارك جدية مع داعش في محيط الميادين، أما الميادين نفسها فقد سيطر عليها التنظيم دون إطلاق رصاصة واحدة. قررت جبهة النصرة الانسحاب، وانسحبت بعض الفصائل الأخرى بسلاحها قبل وصول قوات داعش، ونزل أنصار التنظيم القلة من أبناء المدينة هاتفين في الشوارع بشعار ’باقية وتتمدد‘، وبعد ذلك دعا مسؤول التنظيم جميع الفصائل في المدينة إلى البيعة أو تسليم سلاحها، وهذا ما حصل فعلاً دون أي قتال، إذ سلم أغلبهم سلاحه لكن قلةً قليلةً منهم بايعت التنظيم وقاتلت في صفوفه، وأما بالنسبة لنا كناشطين مدنيين، فقد أصبحت الحياة هناك مستحيلةً بسبب الملاحقات الأمنية والاتهامات بالردة والكفر، وبِدء التنظيم بتنفيذ إعدامات، ولم يطُل بي الأمر حتى غادرت الميادين إلى خارج البلاد بعد عدة استداعاءات وملاحقات أمنية».
يقول أبو أحمد: «ليست واضحة أسباب انسحاب النصرة والفصائل دون قتال من الميادين ومحيطها، رغم أنه كان يمكن خوض معركة طويلة بسبب انسحاب أغلب المقاتلين الرافضين لداعش من أنحاء ريف الميادين وبعض أرياف دير الزور إلى الميادين ومحيطها. يقول مقاتلو وأنصار جبهة النصرة إن قادتها تعهدوا بالقتال حتى الموت في الميادين، لكنهم في حلٍ من دماء المسلمين التي ستسفك ولا يتحملون مسؤولية الدمار الذي سيحدث في المدينة، وأن وجهاء المدينة وكتائبها طلبوا منهم الانسحاب بناء على هذا الكلام. فيما ينفي آخرون ذلك، ويقولون إن أبناء الميادين كانوا راغبين في القتال. وتصعب معرفة حقيقة الأمر على وجه الدقة، لكن قرار الانسحاب اتخذ في النهاية، وفتحت قوات داعش طريقاً للفصائل ومقاتليها عبر البادية نحو القلمون، فانسحبوا دون قتال».
يصعب تفسير ما جرى في تلك الأيام، لكن تتبع تسلسل الأحداث يقود إلى استنتاجات أبرزها أن دعاة السلفية الجهادية والفصائل الإسلامية وجبهة النصرة وحزب التحرير الإسلامي الداعي إلى إقامة «خلافة على منهاج النبوة»، كلهم معاً قد مهدوا الطريق من حيث يدرون أو لا يدرون أمام تنظيم الدولة، الذي جاء بخطاب الخلافة الإسلامية، المتسق في المآل الذي يدعو إليه مع سائر دعواتهم وتنظيراتهم.
هكذا أصبحت الميادين بعد مئات الضحايا وبعد كفاحٍ مريرٍ ودموي محتلةً من قبل تنظيم الدولة، وضاعت أحلام أبنائها في الحرية على مذبح الطموحات السلطوية والفوضى وضيق الأفق، وتبعثر أبناؤها المقاتلون في أنحاء سوريا، حيث اتجه مقاتلو جبهة النصرة إلى درعا والقلمون وإدلب، ومقاتلو الفصائل الإسلامية والجيش الحر إلى القلمون والشمال السوري. أما ناشطوها المدنيون فقد انتشروا في عدة مناطق من سوريا أيضاً، وفي تركيا وسائر دول العالم.
الباقون في الميادين يرزحون تحت حكم تنظيم الدولة، الذي أعدم كثيرين منهم، وقد قاومت الميادين تنظيم الدولة بشراسة بعد أن سيطر عليها، وتعرض عناصر التنظيم وقادته لعشرات الهجمات، ولعل أكبر عدد من الكمائن والاغتيالات التي تعرض لها التنظيم منذ تأسيسه كان في الميادين.
كذلك كانت الميادين بشوارعها وساحاتها أبرز مسارح تنفيذ الإعدامات، حيث أعدم التنظيم فيها عشرات الشباب من أبنائها وأبناء ريفها، بتهمٍ متعددة أغلبها تهم الكفر والردة وقتال التنظيم والتعاون مع «النظام النصيري» و«التحالف الصليبي».
لم يتطور الأمر إلى أي محاولة عصيان شعبي لداعش، فالعصيان عقوبته الموت، ولعل تراجع عدد العمليات التي تستهدف التنظيم راجعٌ إلى الإرهاب الذي تسببت به الإعدامات الكثيرة في المدينة، لكن أبناءها لا يزالون يرفضون تنظيم الدولة، ودليل ذلك أن عشائرها لم تبايع التنظيم مطلقاً. لم يحصل أبو بكر البغدادي على أي بيعة عشائرية في الميادين حتى الساعة.
ابتلي أهل المدينة فوق داعش بغارات التحالف الدولي، وبغارات النظام والطيران الروسي التي لا تميّزُ في استهدافها بين المدنيين ومقرات التنظيم. وهكذا باتت المدينة تعيش احتلالاً مركباً من الأرض والسماء، ولا مكان للتفكير بحياة أبنائها ومصائرهم في جميع الاتفاقيات والمفاوضات والتفاهمات الدولية، ويُقدَّرُ أن أكثر من ثلث سكانها قد غادروها إلى أنحاء سوريا والعالم، وأن أغلب ناشطيها وثوارها الباقين على قيد الحياة هم خارجها اليوم، لكنها تقديرات لا مجال لإثباتها بأي أرقامٍ أو معلوماتٍ موثوقة.
دروب العودة المجهولة
«هتفَ بي داعي الشوق.. إلى رحبة مالك بن طوق»، هذا مطلع المقامة الرحبية، وهي واحدةٌ من أشهر مقامات الحريري المعروفة في التراث العربي الإسلامي، ولا شكّ أن الآلاف من أبناء الميادين يهتف بهم داعي الشوق إليها كل يوم، وعلى وجه الخصوص إلى الأحلام الكبيرة التي دفعتهم إلى شوارعها وساحاتها عام 2011.
يقاتل كثيرون من أبناء الميادين اليوم على سائر الجبهات في سوريا، ضد النظام السوري وتنظيم الدولة، وهم موزعون على فصائل وتحالفات عسكرية متعددة، أبرزها جيش أسود الشرقية في القلمون، وأحرار الشرقية في حلب، وجبهة النصرة وأحرار الشام في عموم سوريا، وجيش سوريا الجديد في بادية التنف. كذلك يعمل ناشطون من أبناء المدينة في سائر المنظمات والمؤسسات التي انبثقت عن الثورة، ومما لا شكّ فيه أنه يجمعهم حلم العودة إلى مدينتهم المحتلة.
يعرف الجميع أنه لا بقاء لداعش طالَ الزمن أم قصر، لكن ما لا يعرفه أحد هو كيف ستكون هزيمة التنظيم، وعلى يد من، وفي أي سياقٍ سياسي محلي وإقليمي ودولي؟ لكن ميادين الفرات الرحبة لا تزال مفتوحةً على التاريخ، التاريخ الذي لم ينصفها ولم ينصف أحلام أبنائها الكبيرة بعد.