إن كان من شخصية تمثيلية للحقبة الأسدية من تاريخ سورية فهي شخصية الجلاد، وهذا بالمعنى الذي يكون فيه الجلاد تجسيداً للخوف الذي جعله مونتسكيو مبدأ الطغيان. من حيث هو المخيف، المنتج المباشر للخوف ومتولي إيلام الأجساد وتأليبها ضد نفوس المجلودين ومعتقداتهم، كان الجلاد هو حارس الطغيان الأسدي وضامن دوامه، بطله غير المرئي. تماهي الأسدية والخوف يعني تَجسُّد ماهيتها في المخيف، ويُسوِّغ كفايةً اعتبار الجلاد الشخصية الممثلة للأسدية.

وبقدر ما إن الجلاد هو حارس «جدار الخوف»، وإن هذا الجدار هو سور حماية دولة الأسديين المنصوب داخل النفوس وبينها، فإن الأمر يتعدى الجلّادين بأيديهم إلى مركب جهازي واسع الانتشار، له في سورية اسم أورويلي معلوم: أجهزة الأمن. بل هو يتجاوز هذه نحو تشكيلات عسكرية وأهلية ذات وظيفة أمنية، كالفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والشبيحة («قوات الدفاع الوطني»، منذ أواخر 2012). وعليه لا يعدو القول إن الجلاد هو الشخصية التمثيلية للزمن الأسدي أن يكون تكثيفاً لواقعة تمركز نمط ممارسة السلطة في هذا الزمن على «الوظيفة الخوفية»، إنتاج الخوف وتعميمه وضمان أمنه، وتوزيعه بمقادير وافية على السكان.

ولعل من شأن طرح الأمر بهذه الصورة، صورة الجلاد كرمز للأسدية، سلطة وحقبة، أن يساعد من جهة على توجيه النظر إلى المُخوِّفين، أولئك «الأبطال» المحجوبين عن النظر العام، وإضفاء شيء من الطابع الشخصي على التصور المجرد للوظيفة «الأمنية» من جهة، ثم إن تَكَثُّف الأسدية في الجلاد يسعف، من جهة ثانية، في قطع الطريق في الاتجاه الآخر، ورؤية المتصرف الأسدي، حافظ في أيامه، ثم بشار والسلالة اليوم، كجلّادين عامين في واقع الأمر.

إلى ذلك، فإن التكامل العضوي في الحقبة الأسدية بين الوظيفة الأمنية التي تمنع تسمية الأشياء بأسمائها، والوظيفة الرمزية التي تسمي الأشياء بغير أسمائها، يسوِّغ الانتقال بالنظر من الجلاد الجسدي إلى شخصية ووظيفة الجلاد الرمزي أو الثقافي، هذا الذي يعمل في نطاق الثقافة والإعلام والفكر والفن، ويقوم بوجه آخر لوظيفة الحراسة، مكملاً عمل الجلاد الجسدي.

ملك الأجساد

ليس جلادو الأجساد قلة بحال. يتعلق الأمر خلال جيليّ الحكم الأسدي بمئات الألوف ممن قاموا بعمليات إيلام وإذلال جسدي بأيديهم، تبدأ من الصفع والركل، وتمر عبر التمكن من تقنيات التعذيب، سواء تلك التي تتطلب جهداً عضليا مباشراً، أو تلك التي تترك الجسد يتحطم دون إجهاد الجلاد نفسه مباشرة كالشبح وأشكال التعليق المختلفة، وكالتجويع والاختناق في زنازين مزدحمة، وصولاً إلى القتل تحت التعذيب أو الجوع أو الاختناق أو المرض. ليس هناك ضابط مخابرات لم يقم بالتعذيب بيديه، بمن فيهم رؤساء الأفرع الأمنية المنتشرة في جميع أرجاء البلد. لم يفعلوا ذلك حين كانوا ضباطاً صغاراً فقط، بل هم يقومون به وهم عمداء وألوية. في أوراق كتبها بعد 15 عاماً من السجن، وقبيل وفاته بالسرطان في صيف 1996، ذكر رفيقي رضا حداد أنه، وقت اعتقاله في تشرين الأول 1980، تعرض للتعذيب على يد علي دوبا وهشام اختيار، وهما من كبار أمنيي النظام منذ ذلك الوقت. وتعرضتُ شخصياً للصفع من رئيس جهاز الأمن السياسي في حلب، نديم عكاش، وقت اعتقالي في كانون الأول 1980. يحول تكوين ما يمكن تسميتها أجهزة الجلد العام بحد ذاته دون أن يتورّع أي من المشتغلين فيها عن الجلد وإيقاع الألم بالمعتقلين. الأجهزة تقوم على العنف الأقسى وعلى المراقبة الداخلية الألصق، ومعيار الأداء الجيد فيها عدد المباحين للجلد، و«اعترافات» المجلودين. وهو ما يعني أن العامل الجيد في هذه الأجهزة هو الجلاد الجيد، ما يعني أيضاً أن مُجمل العاملين في هذه الأجهزة يشكلون ما يمكن تسميته الجلاد الجمعي. ولهذا الجلاد الجمعي تباح أجساد السكان، لا يحميها منه شيء. وعليه يمكن القول دون خشية من المبالغة إن جميع القائمين بالوظيفة الأمنية جلادون شخصياً، فضلاً عن كونهم قائمين بوظيفة الجلد العامة، أي مُخيفين عامين. ليس الجميع قتلة متوحشين مثل أسوئهم، لكن ليس بينهم من لم تتلوث يداه ووجدانه بتعذيب مواطنيه. أما الاعتراض على الجلد أو إظهار التحفظ عليه، فلم ترد بشأنه وقائع معلومة في أي وقت.

واتسمَ عمل الجلاد بثلاثة خصائص طوال العقود الأسدية: أولها الحسيّة الشديدة، أو اشتغال الجلاد المباشر، المُجهِد غالباً، على جسد المجلود، إن وقت الاعتقال وأثناء التحقيق أو كنظام للسجن كما في تدمر. التحقيق هنا فعل جلد أساساً، أي تماس جسدي مباشر، وإن وضعَ المجلود في أوضاع سلبية ومنفعلة، تمكن الجلاد من العمل على جسده دون مقاومة. لا يعتمد التحقيق الأسدي مناهج غير عنفية في محاولة الوصول إلى «الحقيقة»، ولو من نوع العزل أو الحرمان من النوم، ناهيك عن الاعتماد كلياً على مناهج غير حسيّة من نوع جمع المعلومات ومقابلة الروايات ورصد تناقضات المتهم وسماع الشهود. تعتمد عملية التحقيق على الإيلام الجسدي، وهو ما يقتضي جهداً عضلياً كبيراً من الجلاد، وما يزيدُ من إقذاع الجلاد وقسوته لأن إصرار المجلود على الصمت أو عدم الاعتراف… يتعبه. وتحضر في جلسات التعذيب التي تستغرق الواحدة منها ساعات أصوات الجلاد الزاعقة ورذاذ لعابه، وبصاقه، وعرقه، ورفساته، فضلاً عن العصا أو الكبل بطبيعة الحال، تنهال على قدمي المجلود وظهره، وجسده كله.

وفي جذر حسيّة عملية التحقيق، واعتمادها الثابت والمباشر على الجلد والإيلام الجسدي، نظرةُ العداء من طرف الجلاد العام (الدولة الأسدية) إلى مجتمع المجلودين ونفي أن لهم حقوقاً أساسية وسياسية مرتبطة بكيانهم ولا تستلب. نحن هنا في عالمِ ما دون مبدأ الحق والمواطنة، في عالم المجالدة والمِلْك والإخضاع بالقوة، وإن جرى حجب ذلك ببلاغة إيديولوجية متعالية يتولاها جلادو الأسدية الرمزيون الذين سيجري الكلام عليهم أدناه. ويكمل عملية الحجب الإيديولوجي الصفة السرية للجلاد الجمعي (الوظيفة الأمنية) الذي لا ينظم عمله بقانون معلوم يمكن للمجلودين الاستناد إليه، ولا يخضع للمساءلة ولا يجري النقاش حول تكوينه وأفعاله في أية منابر عامة. نحن هنا حيال مناهج تحقيق (وحكم) بدائية، بعدها الفكري ضامر، وإباحة الأجساد لها تعزز من بدائيتها. الكلام على وحشية المخابرات الأسدية هو تعبير آخر عن الصفة الحسيّة لمناهجها في التحقيق، وعن بدائيتها المتصلة بهذه الصفة، فضلاً عن ضمور البعد الفكري والقانوني في عملها.

ومن وجه آخر، ترتبط الصفة الحسيّة بما سيجري التطرق إليه لاحقاً من الكراهية كخاصيّة أخرى لعمل الجلاد. وبفعل هذه الخاصية التي تتجاوز الجلادين الأفراد والجلاد الجمعي إلى العلاقة بين الجلاد العام (الدولة الأسدية) والمجلود العام (السكان)، لا يقتصر عمل الجلاد أبداً على وقت الاعتقال والتحقيق. أمثال سجن تدمر وسجن صيدنايا في عهد بشار هي معسكرات تعذيب مستمر يومي ومتفنن. الجلد هنا ليس إجراء وحشياً وحسيّاً وبدائياً، لكنه وقتي، إنه الركيزة الصلبة المستمرة للمِلْك الأسدي.

هذه الخاصية الحسيّة المستمرة لعمل الجلاد على الأجساد هي أحد شروط إمكان داعش في تقديري. هنا أيضاً، نحن في عالم الحسية في أقصى تجلياته، في جسديته القصوى.

الخاصية الثانية لعمل الجلاد هي الإقذاع أو العنف اللفظي الشديد، الذي يستهدف كرامة المجلود أو المجلودة ويعزز استهداف جسده بفعل الجلد الفيزيائي. ويستمد هذا العنف لغته واستعاراته من قاموسين بصورة شبه حصرية. قاموس «حيونة الإنسان»، إن استعرنا عنوان كتاب ممدوح عدوان المعروف. هنا يوصف المجلود بأنه حيوان، بغل، جحش، كر، كلب، فِدّان (ثور الحراثة)، بهيمة، حشرة، صرصور، قملة، جرثومة…، وهو ما يوافق «دعس» المجلود و«فعسـ»ه و«معسـ»ه.. إلخ. القاموس الثاني أُشيع بعد، وهو ذكوري عدواني مفرط في الرقاعة: عرص، منيك، شرموط، وكذلك أخو شرموطة وابن قحبة أو مِنتاكة. أما إن كان المجلود امرأة فهي عاهرة، ومرادفات الكلمة هي الأقوى حضوراً. في سجن تدمر، حيث يتطابق السجان والجلاد، وينفصل التعذيب عن التحقيق، وُضِعَ الكبل الرباعي أمام عيني أحدنا ظهر يوم من صيف 1996، وسُئِل: شو هادا؟ وكان الجواب الصحيح الذي لقنه السجان-الجلاد للسجين: هذا نيّيِك كس إمك يا أخو الشرموطة! وكان على الرجل الذي كان في عامه الثالث عشر سجيناً: أن يردد: هذا … أمي، حضرة الرقيب أوّل! وفي هذا السجن أيضاً حدث أن كان السجان-الجلاد يُسلّي نفسه بمضاجعة خيالية لأخت أحدنا، بينما هي تسند رأسها إلى كتف شقيقها السجين، وتتأوه لذة، وكان على السجين أن يسعد بهذا الانتهاك المتخيّل.

هنا يعطى الجلاد نفسه دور الذكر الفحل الذي ينتهك طوال الوقت ما يخص المعذب من إناث (أمه، أخته، بنته)، أو المعذّب نفسه. هذا قد يغتصب فعلياً على ما تواترت تقارير عن اغتصاب رجال في المقرات الأمنية في سنوات الثورة، أو يجري إدخال أشياء صلبة في مؤخرته في ضرب من الاغتصاب غير المباشر. أما النساء فيغتصبن لفظياً طوال الوقت حين لا يغتصبن فعلياً، وهو ما صار شائعاً جداً في سنوات الحرب الأسدية الثانية، 2011 وما بعد، بعد أن كان أقل شيوعاً في سنوات الحرب الأسدية الأولى، 1979-1982. وغرضه في كل حال يتعدى تحطيم المغتصبة إلى تحطيم مجتمعها وفصل محيطها المباشر عن المحيط الاجتماعي العام. وفي كل حال أيضاً هذه أفعال سلطة، تؤازر انتهاك جسد المجلودة أو المجلود بانتهاك كرامتها أو كرامته. لكنها أفعال جنس إذلالية عامة (لا يجري الاغتصاب في المقرات الأمنية سراً، وقلما يمارس من قبل شخص واحد). الإذلال الكلامي والفيزيائي هنا منهجي ومنظم ومستمر، والعلاقة بين الجلاد والمجلود، بين الجلاد الجمعي (مجموع القائمين بـ«الوظيفة الخوفية») والمجلود الجمعي (مجموع من مرّوا بتجربة أمنية)، مصممة بحيث يكون الرد بالمثل، أو أي شكل من الدفاع عن النفس، غير وارد بتاتاً. المجلود الجمعي مُباح، والجلاد الجمعي مكفول الحصانة بقانون سبق صدورُه حكمَ حافظ الأسد بعام واحد. كان مجرد محاولة حماية الوجه باليدين أثناء الصفع في سجن تدمر عدواناً على الجلادين، يثير أشد سعارهم. ولا تتاح للمجلود في أي وقت فرصة للدفاع الكلامي عن نفسه، أو توضيح قضيته، ولم تكن هناك في أي وقت محاكم يمكن المجادلة أمامها في شأن الحق. لا يتكلم المجلود، لا يملك الكلام، «يعترف» فقط، والأفضل أن «يُغرّد» (مقالتي: بدون لغة مشتركة…، في «الجمهورية»).

وفي العنف اللفظي الذي يُحيْوِن أو يجنّس المجلودة أو المجلود إنكار لكرامة الضحية وذاتيته. إنكار لاسمه أيضاً، أو لِحقّه في اسم شخصي. هذا يتوافق مع وظيفة أجهزة الخوف كمنع لتسمية الأشياء (وأولها المعتقلون، وفعل الاعتقال، والسجن ومعسكرات الاعتقال السياسية) بأسمائها، واحتكار تسمية الجميع وفرض الأسماء عليهم. ومثاله المتواتر هو فرض أرقام أو أوصاف على المعتقلين المحرومين من أسمائهم. يتمثل أيضاً في فرض أسماء للمنظمات السياسية مخالفة لتسمياتها لنفسها، تتضمن الإدانة والتحقير، أو الشخصنة وإنكار الصفة العامة.

في العموم الجلد فاعلية بطريركية، يحتكرها ذكور (بعد الثورة تواترت روايات عن نساء في المشافي الأسدية يقمن بضرب المعتقلين المرضى وتحقيرهم وإذلالهم). وتطورت الدولة الأسدية في اتجاه أشد بطريركية بدءاً من ثمانينات القرن العشرين مع تحول الجلد إلى وظيفة عامة أساسية، ومع توسع مراتب المجلودين لتشمل السوريين كلهم. لم يُجلَد الجميع جسدياً بالفعل، لكن لا يكاد يوجد سوريون ليست لهم «تجربة أمنية» وضعتهم في تماس مقلق مع الجلاد الجمعي الذي تنتشر في نطاقاتهم الخاصة حكايات أفعاله. أقترحُ عبارة المجلود الجمعي لتسمية مجموع من مروا بتجارب أمنية مع الجلاد الجمعي الذي هو مجموع القائمين بالوظيفة الخوفية، على ما سبق القول (المجلود العام، بالمقابل، هو السكان جميعاً، والجلاد العام هو الدولة الأسدية. «سورية الأسد» هي «وحدة» الجلاد العام والمجلود العام).

جرى تأنيث السوريين بأكثر من معنى على يد الدولة الأسدية: احتكار الذكورة العامة من قبل النظام كجلاد عام وكمحتكر للقضيب العام، وضع السكان خلف حجاب سياسي سميك، الحرمان من الأسماء ومن تسمية النفس على نحو ما يجري بحق الإناث في بيئات محافظة لدينا، فضلاً عن التجريد العام من السلاح من قبل قوة مسلحة غير منتخبة وغير شرعية (ليست دولة عامة بحال).

على هذه الخلفية، تفهم الثورة كفعل يهدد بإخصاء الجلاد العام، وبخاصة الجلاد الجمعي، أو على الأقل في المشاركة في الذكورة الجمعية، وكسر احتكار الجلاد العام للنساء. ما يريده الجلاد العام هو أن يكون هو الفحل السياسي الوحيد، مالك النساء العام. أن يكون المتكلم العام والمُسمّي العام كذلك، وحده من يسمي الوقائع العامة. وظاهرٌ أن الثورة كانت في وجه أساسي منها فعل تسمية واستعادة للأسماء، أسماء أحياء وبلدات، أسماء أيام، فضلاً عن ظهور ما لا يحصى من أشخاص لهم وجوه وأسماء من وراء الاسم العام الحاجب: الأسد. وبقدر ما كانت أيضاً فعلَ سفور سياسي وكسر شرط «الحرمة السياسية» المفروض على المجلود العام، فقد كانت فعل ظهور النساء إلى الفضاء العام وسفورهن سياسياً، وهو ما عوقبن، وعوقبت مجتمعاتهن عليه، بالاغتصاب. هذا، مع صعود البطاركة الإسلاميين، ردهنّ على أعقابهن، إلى «ما وراء الحجاب».

وغير الصفة الحسية والعنف اللفظي المفرط، الخاصية الثالثة لعمل الجلاد هي امتزاج التعذيب بالكراهية الشخصية للمعذَّب. هذه سمة مميزة للعنف الجسدي في الحقبة الأسدية، تنقله من نصاب العقاب إلى نصاب الانتقام، وتعزز صفته الإذلالية. قد لا يكون هناك عنف جسدي لا يمتزج بكراهية شخصية، لكن هناك عنف جسدي يمارسه متحمسون مُحبّون لعملهم، وهناك عنف جسدي يمارس بحماس أقل. أو لنقل إن هناك تعذيباً يتولاه المعذِّبون كواجب لا بد منه، وبقدر منضبط من الكراهية، وهناك تعذيب يتولونه بإقبال وبحب للكراهية. المقدم معن، الضابط في جهاز المخابرات الجوية، والملقب بأبي الموت، كان يصف نفسه للمعتقلين المعذبين بأنه عزرائيل، قبل أن يستدرك بأنه الله، وأنهم سينتقلون على يده إلى «ديار الحق»، هذا القاتل المهووس ليس «حالة فردية»، إنه مثال البطل في أجهزة الجلد الأسدية (تقرير مركز توثيق الانتهاكات: قصة هروب خمسة معتقلين من فرع المخابرات الجوية في حرستا، متاح هنا).

وهنا تقترن الكراهية للمعتقلين بدلالة أفعالهم (مشاركون بأنشطة ما للثورة ضد الدولة الأسدية)، بالكراهية لهم بدلالة معتقدهم الديني. وهذا يطلُّ على الصفة الطائفية الغالبة لأجهزة الجلد العام، وعلى منابع انفعالية للكراهية والعنف ندرَ أن جرى تداول عام صريح بشأنها، دع عنك تطوير سياسات لمواجهتها.

وإذا لم يكن جميع القائمين بالوظيفة الأمنية قتلة متوحشين، كما سبقت الإشارة، فلأنه ليس جميعهم محبين متفانين لمهنتهم الاغتصابية مثل المقدم أبي الموت. كل من لديهم خبرة بالأجهزة الأمنية الأسدية، أي جميع السوريين تقريباً، لديهم أيضاً خبرة بالفارق بين الجلاد العاشق لعمله، وبين الجلاد الموظف، بين من يقوم بتعذيب هادف غرضه انتزاع المعلومات من المعذب، وبين من يمارسون التعذيب للتعذيب على غرار الفن للفن. أو بين «الحقير» و«الآدمي» من السجانين مثلاً. وقد لا يطابق الفارق بين الحقير والآدمي التماهي الأقوى بالجلاد العام والقرب من النواة الصلبة للدولة الأسدية مقابل الولاء دون تماه، لكنه قريب منه. وهو يرتبط من وجه آخر بمن يكون المجلودون: في الحرب الأسدية الأولى تعرض معتقلو النظام اليساريون عموماً إلى تعذيبٍ هادف، واجهنا فيه الجلاد القائم بعمله، بينما نالَ معتقلوالنظام الإسلاميون تعذيباً مُتفنِّناً، وأحيلوا على نحو ثابت إلى سجن تدمر، وهو معسكر للتعذيب والإذلال، بينما كنا نُحال إلى تدمر عقاباً و«كسر عين»، ولم يقضِ أحدٌ منا، نحن اليساريين، كامل سنوات اعتقاله هناك، ولم يمت أحد منا تحت التعذيب فيه.

ويحيل هذا التمايز إلى ما وراء الجلد والجلاد الجسدي، والجلاد الجمعي، من سياسة أو من جلاد عام، هو من يقرر حصص الجلد المناسبة لمجموعات المعارضين المختلفة.

لكن كمتعلمين حَسني التعليم في أكثريتنا، كنا، سجناء الدولة الأسدية اليساريين، نستثير الغرائز البطريركية الأشد خشونة وحسيّة وعداءً للثقافة عند الجلاد الأسدي المتوسط، وهو متواضع التعليم، منحدرٌ من الأرياف غالباً، ومن بيئات اجتماعية مُفقرة. كان إذلال هؤلاء المتعلًمين المتشاوفين، نحن، ميلاً غير خفي عند عموم الجلادين والسجانين، يتمازج فيه غيظ طبقي مع احتقار فحولي بطريركي لنعومتنا المفترضة، ومع علاقة سلطة يوفرها موقعهم كجلادين في أجهزة الخوف حيال هؤلاء السياسيين الشبان العزل، من أمثالنا. وما يبطن هذه العلاقة من جهة الجلاد من شعور بالدونية كان يعوض عنه بأدوات السلطة من تحكم ومنع وتحقير. في سجن تدمر كان تلقيبنا بالطنطات (مُخنّثين) متواتراً في بيئة عنف كثيف ومباشر، كانت تُعلي كثيراً من قيم الخشونة والفحولة والقوة الجسدية. جلاد الأجساد جسد هو ذاته، «قوة قمع» إن حاكينا تعبير ماركس عن العمال كـ«قوة عمل» في الرأسمالية. والواقع أن المكانة المركزية للجلد والجلاد في عالم الأسدية، أي لأجساد لا ينتظر منها غير قدرات ذهنية متواضعة، تفسر بقدر كبير التدهور السوري الشامل خلال هذه الحقبة. بقدر ما قامت سورية على الجلاد كشخصية تمثيلية كانت بلداً مهجراً للأدمغة والكفاءات. الحكم الأسدي قام على الدوام على سيطرة مباشرة، كثيفة ومحسوسة، جسدية، مضادة للتجريد والمعقولية والعمومية والقانونية، وإمكانية التوقُّع والتخطيط للحياة.

تأنيثُ الحقل العام، أو التفكير في العلاقة بين الجلاد الجمعي والعام وبين مجتمع المحكومين المجلودين كعلاقة اختراق يشغل فيهاالأخيرون موقعاً سلبياً منفعلاً، سمةٌ جوهرية للأسدية، تُكمِّل تثبيت نزع السياسة من المحكومين أو تجريدهم من الولاية السياسية والتمثيل. الحكم بالإكراه مثل الزواج بالإكراه (ومثل الدين بالإكراه) قرين للعنف والإذلال. في الحالين، نحن حيال علاقة امتلاك، ترد السوريين المؤنثين إلى مِلك، مثلما هن النساء في بيئاتنا البطريركية الأشد محافظة: لا يملكن قرارهن ولا يخرجن من البيت إلا بإذن، ولا يتفاعلن بصورة مستقلة مع أي غرباء خارج البيت. وبهذا المعنى يكون امتلاك المحكومين للسياسة، أي محاولتهم تنظيم أنفسهم والتدخل في الشأن العام، والتفاعل المستقل مع أي غرباء، خطراً وجودياً على البطريرك الأسدي، مثلما امتلاك النساء لأجسادهن خطر وجودي على السلطة البطريركية (ومثلما امتلاك الناس للدين خطر على السلطات الدينية). وهو يواجه بقمع ساحق كخيانة للوطن مثلما تواجه استقلالية المرأة وامتلاكها لجسدها بأحكام الخيانة والعهر، وتستجلب عقاباً قد يصل إلى القتل صوناً للشرف، ومثلما يمكن أن يواجه امتلاك عموم الناس للدين وتعريفهم له بتهم التكفير التي قد تبيح الدم.

فإذا تكلمنا على الجلاد النمطي، الشخصية التي تمثل الحقبة الأسدية، فإنه ذكوري جداً، جسدي وحسيّ ومتواضع المدارك، رقيع وعنيف لفظياً إلى أقصى حد، ومفعم بالكراهية. وكشخصية عامة تمثيلية، ينظر الجلاد إلى المجتمع كامرأة تعنف وتغتصب وتضاجع بالصورة التي تضمن سيادة وأمن الجلاد العام.

كانت الأوصاف التي تطلق على حافظ الأسد، الجلاد الأعلى، ذكوريةً جداً: فهو بطل، وعظيم، وأب قائد، وسيد الوطن، وسورية منسوبة إليه وتابعة له، مثلما يفترض أن تتبع المرأة زوجها. وهو بالطبع خالد وأبدي، علاقة التزاوج بينه وبين سورية لا تقبل فصماً، والسوريون يحبونه ويقفون وراءه صفاً واحداً، ويهتفون باسمه ويرقصون في أفراحه ويبكون في أحزانه. وهو من جهته يقدم لهم العطايا والهبات، ويبذل لهم المكرمات، لكنه يتعامل بصرامة مع الأبناء الضالين. ورغم أن بشار فاق في القتل أباه، فإنه لا يبدو، حتى في أوساط التابعين، فحلاً مثل أبيه. من جهة له شركاء في الفحولة هم كامل السلالة الأسدية وأولاد الخال والخالات والعمات وغيرهم، ومن جهة ثانية هذا التوسع المهول في القتل يبدو مؤشراً على فراغ في بشار لا يقبل الامتلاء، لا على فحولة و«رجولة». هذا فضلاً عن أن الفحل الأسدي لم يعد مالك القضيب العام، صار تابعاً لروسيا وإيران وحزب الله، لا سيادة له على نفسه ولا على أتباعه.

*****

الجلاد الجسدي سيد الأجساد، في تصرفه أجساد حقيقية، وعمله هو انتزاع سيادة المجلودين على أجسادهم كي يمتلك ما يخفون من حقيقة، أي كي يفكك تكاملهم وذاتيتهم. يصير الجلاد الجسدي سيداً حين يكره المجلود على الاعتراف، فيفرغه من حقيقته، من الذاتية. قلما تكتمل العملية تماماً، فالمجلود يقاوم، وهو حتى حين «يعترف» لا يتفرغ من حقيقته إلا بحدود. الصراع بين الجلاد وبين المجلود هو صراع على ذاتية المجلود. يحاول هذا الاحتفاظ بها بأدنى تغير ممكن فيها، بينما يحاول الجلاد انتزاعها واختزال المجلود إلى قوقعة خارجية لا حقيقة لها.

رغم سلطته التامة على الأجساد المجلودة، فإن مشكلة الجلاد الجسدي أنه لا يستطيع السيطرة على المجلود تماماً، أن الاعتراف الذي يناله هو اعتراف غير حقيقي، منتزع بالإكراه، وهو ما يقوله المجلودون دوماً حين تتيسر لهم الفرصة للكلام (حتى أمام محكمة أمن الدولة التي لم تكن تأخذ بكلامنا). وفوق ذلك يبقى الجلاد تابعاً للمجلود، لا وجود له من دون جسد المجلود، وهو جسد لا يُسلِّم خباياه تماماً، هذا إن سلًّم أي شيء منها. ما العمل؟ لا يستطيع الجلاد قتل جميع المجلودين أو المجلود الجمعي (ماذا يفعل بعد ذلك إن استطاع قتل الجميع؟)، ولا يضمن أبداً أن المجلودين الذين لم يقتلهم ولم يتمكن من تفريغهم تماماً لن يتمكنوا منه يوماً. هذا هو كابوس الجلاد، وهو كابوس الدولة الأسدية الذي لا ترجئ مواجهته بغير التوسع في الجلد والقتل. تدمير سورية الحالي مكتوب في هذا التكوين، في أن الجلاد لا يعترف بأن للمجلود قضية وكيان، وبالتالي بالحاجة إلى السياسة. وإنما لذلك لا ينتصر الجلاد أبداً. ربما يسحق أعداءه، ربما يقتل ويدمر، لكنه لا ينتصر، لأنه لا يعترف بالمجلودين فيحمي نفسه بقضية عامة، وينال اعترافهم به. يحمي نفسه منهم عبر التوسع في الجلد، وكل توسع يدفع نحو توسع آخر، مرجئاً مواجهة النهاية المحتومة.

يمكن لنا هنا التكلم على جدلية جلاد ومجلود على غرار ما تكلم هيغل على جدلية السيد والعبد. المجلود يراوغ الجلاد بأن يعطيه «اعترافاً» مزوراً أو ناقصاً ليصون حياته، ثم يصون فرصه في الحرية بأن يغير نفسه باختياره بعد أن قاوم التغير الذي يرغب فيه الجلاد، بل لأنه قاوم التغير الذي يرغبه الجلاد. وأهم من ذلك أن اعتراف المجلود للجلاد، فوق أنه مُزوّر وناقص، ليس اعترافاً بالجلاد مثلما هو اعتراف العبد بالسيد. هذا يعرفه الجلاد جيداً، ويعرف أيضاً أنه، رغم كل ما يملك من قوة، لا يحصل على الاعتراف الكامل قط. وهو يسعى وراء اعتراف كامل له، ينال به رضا أسياده عنه، بالضبط لأن الاعتراف به ممتنع. وهو عزل نفسه في عالم لا تحدث فيه إلا الأشياء نفسها على الدوام، الجلد المجهد والكراهية والموت. لقد قطع عبر فعل التعذيب الروابط بينه وبني المجلود. هذا بينما يحتفظ المجلود، رغم قسوة شرطه، بقدر كبير من ذاتيته، لأنه لا يعطي اعترافاً كاملاً، وبكرامته لأن ما أعطاه من اعتراف جاء تحت التعذيب، وفوق ذلك يبقى قرار تغيره الشخصي بيده. وهكذا تكون الحرية في صف المجلود، بينما تكون حياة الجلاد محكومة بالتكرار، تكرار الجلد.

وما يضفي على هذه الجدلية طابعاً أشد تركيباً هو واقعة أن الجلاد الجسدي «قوة قمع» كما سبقت الإشارة، أو أيدٍ تجلد، وتنتمي بفعل ذلك إلى عالم الأدوات ولا ذاتية لها. الذاتية للجلاد العام، المتصرف الأسدي، فرداً أو سلالة. وهذا يعرف أن الاعتراف للجلاد المباشر ليس اعترافاً به كجلاد عام. إنه فعل خضوع مؤقت في أحسن حال. والواقع أن هذا هو ما أراده الجلاد العام دوماً: الخضوع، وهو لا يناله إلا عبر الاستمرار في الجلد، أي عبر العنف. لكنه بذلك لا يترك مخرجاً للمجلودين غير امتلاك العنف لتغيير شرطهم كخاضعين.

كقوة قمع، وكتجسيد للحسيّة، ما يسعى وراءه الجلاد هو تفريغ المجلود من فكرته، من رغبته إن حاكينا لغة هيغل، كي يرتد جسداً مثله. لكنه لا يفلح في ذلك إلا في حالة واحدة: إن قتل المجلود. وحتى في هذه الحال، يصير المجلود القتيل فكرة، بينما يبلغ الجلاد القاتل ذروة حسيته وجسديته. كلما جلد أكثر صار جسداً أكثر، مجرد جسد، غارقاً في الحسيّة وخالياً بالكامل من الحرية والكرامة، عاجزاً عن أن يتغير. لقد أسر نفسه في وضع متصلب: إما أن يستمر في الجلد كاتماً أصوات الاعتراض ومرهباً السكان كلهم، أو يخرج الاحتقار المكنون في الصدور إلى العلن، ويظهر للعموم أن الجلاد قاتل. ولأنه لا يضمن امتلاك ذاتية المجلودين فإنه يقتلهم. هذا هو نمط السيادة الذي يناله الجلاد الأسدي، وهي سيادة لا تستمر إلا إذا احتفظ الجلاد بقدرته على القتل.

على أن هناك حالات قليلة، يستسلم المجلود فيها قلبياً، لا يعترف للجلاد، بل يعترف به ويعتنق قضيته، وربما يحبه. من المحتمل أن الجلاد الرمزي ينبثق من هنا.

الجلاد الرمزي

مهمة الجلاد الجسدي هي، في الجوهر، حرمان المجلودين، وعموم السكان، من السياسة، أي من الكلام العام والاجتماع المعلن والاحتجاج والفضاءات العامة. كمخيف عام، يعمل الجلاد على تحطيم إرادة المجلودين وتخويف من لم يُجلدوا بعد، فيفرض عليهم الصمت ويدفعهم إلى العزلة. عمل الجلاد الثقافي أو الرمزي هو بالمقابل حرمان المجلودين من الثقافة، من المعنى والقيمة والعقل، ونفي أن تكون لهم قضية عامة، جديرة بأن تُعرض وتُسمع وتُناقش، ويُعترف بوجاهتها.

بين عهدي الأب (كان هو الدولة) والابن (السلالة هي الدولة) عرف العالم الرمزي للأسدية تغيرات مهمة، أبرزها اثنان. الأول انكسار السيادة المعلوماتية للدولة بفعل ظهور الفضائيات والانترنت. في زمن حافظ كان التسرب المعلوماتي غير المراقب ضئيلاً جداً. كان منع جريدة أو كتاب من دخول سورية حاجزاً لا يمكن عبوره تقريباً. اليوم ومنذ مطلع القرن صار التسرب المعلوماتي سيلاً، ولم تعد محاولات وقفه مؤثرة، ولم تعد الدولة الأسدية هي «سي السيد» المعلوماتي الذي لا تخرج امرأته المصون من البيت إلا إلى قبرها. كنا في سجن مرتفع الأسوار. الشيء الثاني هو أن إيديولوجيي النظام أو رمزييه اليوم ليسوا بعثيين، ليسوا من «الكتلة التاريخية» البعثية إن جاز التعبير، أي جمهور الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطية، الريفية والمدينية، مع متعلميهم ومثقفيهم العضويين، بل هم مدينيون، «متحضرون» (متماهون، مظهراً وأذواقاً ونمط حياة وغروراً، مع نموذج الطبقة الوسطى المعولمة)، وليس مظهرهم مظهر أولئك البعثيين «المُشوْربين» تائهي النظرات. ومثلما جرت خصخصة الدولة (عبر التوريث والظهور المعلن للدولة السلالية) والموارد العامة (عبر خصخصة الدولة كأهم مورد عام، ثم «تحرير الاقتصاد» وفق الصيغ الليبرالية الجديدة)، جرت عملياً خصخصة العالم الرمزي للأسدية، أجهزة ومعاني وملاكاً، وظهرَ إيديولوجيون متطوعون، يشبهون بشار وزوجته أسماء، دون أن يكونوا بعثيين، بل لعلهم جميعاً محتقرون لحزب البعث والإيديولوجية البعثية. وهم مقربون من الدولة الباطنة (المركب السياسي الأمني المالي، أو، بعبارة أخرى، السلالة الأسدية و«الجلاد الجمعي» و«البرجوازية المركزية»)، وإن كانوا معارضين للدولة الظاهرة (الحكومة والإدارات والتعليم ومجلس الشعب…)، ويغلب أن يكونوا. هذه البنية السياسية المزدوجة، التي لا تُفهم الأسدية من دون الانطلاق منها، أتاحت حتى لمعتقلين سياسيين سابقين من أيام الحقبة الأسدية الأولى أن يكونوا من رمزيي الحقبة الأسدية الثانية. والشاغل الغالب لهؤلاء هو «معارضة المعارضة»، على ما شاع القول في سورية، في سنوات الثورة بخاصة. الانفجار الاجتماعي الكبير أظهر بنية الدولة الأسدية، وأظهر في الوقت نفسه مواقع وأدواراً كان يمكن ألا تظهر لولا ذلك.

ليس الجلاد الرمزي حصراً معتقلاً سابقاً اعتنق قضية جلاده الجسدي، لكن هذا المنشأ مميز جداً، من حيث ما هو متاح لأصحابه من معرفة معقولة بمعارضين وبالجلاد الجمعي والجلاد العام، وما يميزهم من وعي ذاتي حاد بعملهم كمتخصصين بتهشيم قضية معارضي النظام، ومن حيث قوة الدافع النفسي لديهم إلى جلد هؤلاء المعارضين. أخمن أن ما يحفز الجلاد الرمزي من هذا الصنف إلى تحطيم قضية المعارضين، هو أن يصون شيئاً من كرامته بوصفه منقلباً على نفسه ومتقبِّلاً لجلاده. يجب أن يكون جميع هؤلاء المجلودين سيئين كي لا يكون معتنق قضية الجلاد هو الأسوأ. مثابرة الجلاد الرمزي على قول الأشياء نفسها مئات المرات بحق خصومه/ شركائه السابقين تشير إلى دافع نفسي لا يرتوي إلى التطهّر الذاتي.

وقلما تكون قضية هذا الجلاد الرمزي الخاص الدفاع عن قضية النظام، ليس فقط لأنه يدرك أن ليس للنظام من قضية غير بقائه «إلى الأبد»، أي غير ذاته، وإنما كذلك لأن الدفاع عن النظام ليس الاستراتيجية الأنسب لجلد معارضيه، فوق أنه يمحو الفارق بينه وبين رمزيي النظام وإيديولوجييه العامين، الذين سيجري الكلام عليهم فوراً. قضية «معارض المعارضة» من الجلادين الرمزيين هي، بالأحرى تحطيم قضية خصوم النظام، أو نفي أن تكون لهم قضية على الإطلاق.

والشاغل النوعي للجلاد الرمزي المنحدر من هذا المنشأ الخاص، اليوم، هو تمرد الخاضعين المسلح، حملهم السلاح في مواجهة الجلاد الجمعي والعام. وهو على نحو ثابت يضع أفعال الجلاد الجمعي والعام في الظل، لتبدو تفاصيل جانبية، بينما أفعال المجلودين السابقين، المتمردين اليوم، تشغل موقعاً بارزاً في سجل انشغالاته، وعبء إثبات الصواب والعدالة يقع دوماً على كاهل المتمردين، وليس بحال على كاهل الدولة الأسدية، شاغلة الموقع العام.

على أن أكثر الجلادين الرمزيين ليسوا مجلودين سابقين اعتنقوا قضية جلادهم، هذا مجرد حالة خاصة تحيل على التكوين الخاص للأسدية (ثنائية الدولة الظاهرة والدولة الباطنة بخاصة). عموم العاملين في الأجهزة الرمزية الأسدية ليسوا كذلك، وشاغلهم موجه لتأكيد عظمة قضية النظام، وتماهي الحاكم الأسدي بهذه القضية، إلى درجة أن القضية صارت منذ أيام حافظ الأسد هي حافظ الأسد، القائد الأب البطل العظيم. الأجهزة الأسدية «العامة»، لا تعترف أصلاً بوجود معارضة سياسية ومعارضين سياسيين. حافظ الأسد شخصياً نفى وجود معارضين في سجونه في أي وقت. وظيفة إيديولوجيي الأسدية هي إعدام المعارضة رمزياً على هذا النحو. أتكلم على جلادين رمزيين لهذا السبب بالذات. الجلاد الرمزي الذي اعتنق قضية الجلاد العام بعد أن كان مخاصماً له تفريعة خاصة من هذا التكوين العام، القائم على النفي البنيوي الثابت للمعارضة، بل لأي أصوات مستقلة.

وأياً يكن منشأ الجلادين الرمزي، فإنه يشكل استمراراً لنازع مميز لحزب البعث، ثم أكثر للدولة الأسدية، نازع الهجوم الكلامي على الخصوم والتخوين واحتكار الوطنية، أي التشبيح الإيديولوجي والمزايدة على المجتمع، مما كان يحيل على الدوام في تصوري إلى شرعية مشكوك بها للحكم البعثي والأسدي. ليس غير النبرة الصادحة في المزايدة على الجميع، وتوتير الأجواء العامة بخطاب اتهامي على الدوام، ما يمكن أن يخمد أية شكوك في شرعية حكم القلة المتوتر. والإلحاح الذي لا يكل من قبل الأجهزة الرمزية للأسدية على عظمة القائد وفرادته، وعلى أن جميع الآخرين أقل شأناً بما لا يقاس، أو أنهم سيئون وأشرار وخونة، لا يدلّ إلا على أن الجلاد العام لا يجد نفسه مقبولاً كفاية.

في العمق، ليس هناك فرق جوهري بين صنفي الجلادين الرمزيين: شريكان في تجريد المعارضين، والمحكومين ككل، من الكلام والمعنى. لكن «معارض المعارضة» الذي يجرد المعارضين من أي قضية عامة يظهر وقت يتعرض النظام إلى اعتراض عام واسع لا تكفي لمواجهته سياسة التجاهل والإعدام الرمزي، فيما جلاد النظام الذي لا يكفُّ عن تأكيد قضية النظام دون كلل، فيحيلُ وجودَ الغير إن اضطرَ إلى الإقرار به إلى شرٍّ مجردٍ لا ملامح له: الخيانة والعمالة والإرهاب. ومثلما الجلاد الرمزي الحكومي أو الرسمي لا يكفُّ عن تكرار الكلام ذاته عن عظمة الرئيس وعبقريته، لا يكفُّ الجلاد الرمزي غير الحكومي عن تكرار الكلام ذاته عن أن المعارضين قليلو الشأن وبلا قضية عامة. هذا الإلحاح يُكذِّب خبر الطرفين: لو كان حافظ عظيماً، ثم وريثه الألثغ، لما اقتضى الأمر الأيام والسنين والعقود لتأكيد عظمته، ولو كان المعارضون قليلو الشأن فعلاً وبلا قضية لما لزم كل هذا الإلحاح على ذلك.

ووراء التكرار في الحالين الأبد، ومقاومة التغير والحدث. لا يوجد الأبد إلا في صيغة تكرار أو «سُنة»، قول الأشياء نفسها كل مرة وفعل الأشياء نفسها إلى ما لا نهاية. فإذا كان يبدو أن لا جديد في الحياة السياسية والإيديولوجية السورية منذ أربعين عاماً، فليس لأنه لا جديد فعلاً، بل لأن العاملين في خدمة الأبد، من جسديين ورمزيين، حكوميين وغير حكوميين (هؤلاء ليسوا «مدنيين»، بل من جماعة «الدولة الباطنة»)، هم عمال استعادة وتكرار، لا يكفون عن نزع حدثية الحدث وإدراج كل مستحدث ضمن «سنة» لا تتبدل (أستفيد هنا من تحليل عبدالله العروي لمفهوم السنة، في كتابه «السنة والإصلاح»). أخبار الإعلام الأسدي العام عينة نموذجية على ذلك، فهي أخبار تُصفّي ما هو حدث في الأخبار على مذبح مخطط قديم ثابت يؤكد مؤامرات الأعداء وصمود الوطن وعظمة القائد. وممارسة الجلاد الرمزي الخاص، «معارض المعارضة» الذي لا يكف عن تأكيد انعدام شأنها، تنضبط بالبنية التكرارية النافية للحدث ذاتها، وبالأبد الثاوي خلفها. يتعلق الأمر في كل حال بمقاومة للتغيّر، أي بالسياسة والمصلحة السياسية، وليس باستعدادات ذهنية خاصة، على ما يبدو أن أستاذنا العروي يرى الأمر.

وليست صفات الجلاد الجسدي، من عنف جسدي ولفظي، ومن عدوانية وبطريركية، أقل انتشاراً على مستوى الجهاز الرمزي للدولة الأسدية، أعني مركب الأجهزة الثقافية والإعلامية والفكرية. الخطاب الكاره، العنيف، الاستبعادي، لا يسمح بمساحة حضور فاعلة للأنثوي (الحضور التزييني مرحب به دوماً).

ومثل الجلاد الجسدي، الجلاد الرمزي عنيف، مقذع وسفيه، مفعم بالكراهية لأعداء الدولة الأسدية، معادٍ للنساء ومحتقر لهن. وبما أن مجاله هو الرموز والألفاظ، فإن ما كان يميز الجلادين الجسديين من عنف لفظي يؤنِّث المجلودين يتحوّر هنا إلى تجريد المجلودين من المعنى والقيمة، من العقل ومن المعرفة، من الثقافة عموماً، واستئثار الجلادين الرمزيين بحيازتها. يجردهم من الأسماء أيضاً. الأشياء (الظواهر، الأشخاص، الحركات والتيارات…) التي يمنع الجلاد الجسدي تسميتها بأسمائها يتولى الجلاد الرمزي تسميتها بغير أسمائها، يسلب المجلودين الأسماء التي تعبر عن هوياتهم وقضاياهم من باب إنكار أن لهم قضية عامة أصلاً. وما يجمع الجلاد الرمزي بالجلاد الجسدي في شأن الأسماء هو إنكار حق المجلودين في تسمية أنفسهم وتعريف أنفسهم، إنكار ذاتيتهم وكرامتهم. لا يمكن لأسماء أي معارضين أو تشكيلات معارضة أن تظهر على الإعلام الأسدي، فإن حصل أن سُميّت أُطلقت عليها تسميات تحقيرية. صنفا الجلادين الرمزيين شريكان في هذا المنهج العريق.

والواقعة التي تُظهر أكثر من غيرها تكامل وظائف الجلاد الجسدي والجلاد الرمزي، هي عرض مجلودين على شاشة «التلفزيون العربي السوري» لينكروا قضيتهم التي اعتقلوا وعذبوا من أجلها، وليثبتوا قضية النظام (الشيخ أحمد صياصنة، العقيد حسين الهرموش، وآخرين، وفي سنوات «الحرب الأسدية الأولى» العديد من المعتقلين الإسلاميين). هنا يكون النظام في أقرب موقع إلى الإقرار بوجود معارضين، لكنه ينفيهم في لحظة إقرار وجودهم، وعلى ألسنتهم هم بالذات. ويعلم كل مشاهد أنه وراء مشهد الجلد الرمزي هذه وقبله، قام الجلاد الجسدي بواجبه على أكمل وجه. هذه الممارسة المتواترة التي يلتقي فيها التعذيب والإذلال والخوف والكذب، وتعمم على السوريين كتعذيب وإذلال وتخويف لهم جميعاً، تظهر عمق الحضيض الأخلاقي الذي حُبِسَ السوريون فيه طوال عقود. هذا الحضيض اسمه الدولة الأسدية.

*****

ومثلما أن أجساد المعذبين الكثيرة تفقد خصوصيتها بين يدي الجلاد الجسدي، فكأنها جسد واحد، ينال التعذيب والإقذاع والكراهية، ويتكرر الفعل كل يوم، فإن الجلاد الرمزي لا يكف عن ممارسة حفلة الجلد ذاتها فيما يكتب أو يقول، دون خصوصية للمجلودين أو فروق بينهم. فإن كان من خاصية نوعية للجلاد الرمزي فهي هذا: إنه يكرر الشيء نفسه مئات المرات، يكتب المقالة نفسها كل مرة مثلاً، يقول الأشياء نفسها كل مرة، وبالنبرة نفسها وشحنة الكراهية نفسها، ينفي الجديد كل مرة، ويُقاوم التغيير دوماً. لسنا هنا حيال ثقافة أو فكر أو فن، أو رأي، لا تنوع في المضمون أو الأسلوب أو النبرة، لا جديد يحدث فرقاً، ولا نقاش يثمر رؤى جامعة أو حسن اختلاف، ولا تضامن يصنع شراكة ومودة، ولا تبويباً مغايراً يدخل شيئاً من النظام على واقع مضطرب، فقط العنف والرقاعة، والكراهية، والرغبة المحتدمة في قتل المجلودين. ودوماً كثافة في الانفعال، تشكل المعادل الرمزي للصفة الحسيّة لجلادي الأجساد.

بما هو تاريخ للجلد الرمزي، تاريخ الأجهزة الرمزية الأسدية هو تاريخ انحطاط الثقافة بالأحرى، واختزالها إلى حاشية على طرف الثوب الأسدي. عالم الأسدية عالم حسي بإفراط، عالم جلد واغتصاب، سرقة ومراكمة للمال والثروات العينية، عالم كراهية وحقد وتباغض، ليس عالم معان وقواعد عامة وقيم مشتركة وتقارب نفسي واجتماعي، ليس عالم فكر وفن وثقافة.

الجلاد الرمزي جلاد، عامل في حقل الضدية حصراً، مضادة وتحطيم قضية مجلوديه المكروهين، وليس أبداً في حقل «الموضوع»، العمل على هذه الظاهرة أو ذاك الشأن من ظواهر الحياة العامة وشؤونها. ضدية الجلاد الرمزي ليست مدخلاً إلى الموضوع، الموضوع لن يأتي أبداً، ولن يسمي الجلاد الرمزي الأشياء بأسمائها يوماً. عمله هو العنف الرمزي، تحقير المجلودين والحط من شأنهم وتجريدهم من الاعتبار، وهدفه هو دحر المجلودين ودفعهم إلى التسليم باندحار قضيتهم. وليس بعد ذلك شيء، التكرار فقط.

على أن القاموس هنا أقل جنسانية بحكم ميدان العمل وضوابط التعميم في المجال الرمزي، وأقل حيونة أيضاً، لكن مواقع التواصل الاجتماعي تقرب الجلاديْن من بعضهما، وتدخل قاموس الجلاد الجسدي الرقيع إلى لغة الجلاد الرمزي. أما في منابر النشر الرمزية الأكثر تقليدية، فإن قاموس الجلاد الرمزي تشييئي (حثالات، لمامة، قمامة،…)، أو هو قاموس إيديولوجي حديث (تخلف، تعصب، جهل، رعاع، غوغائية، شعبوية…)، والثابت في كل حال هو إنكار أن للمجلودين قضية عامة. يشيع في أوساط الجلادين الأسديين، الجسديين منهم والرمزيين، نظريات ترد دوافع معارضي الأسدية إلى الحسد أو الحقد أو الغيرة، أو اللهاث وراء المال.

لكن هذا الإدمان على التنكيل بالمجلودين الرمزيين، يًجرّد الجلاد الرمزي من القضية العامة للسبب ذاته الذي حرم جلاد الأجساد نفسه من قضية عبر إنكار أن للمجلودين قضية عامة يتكلمون باسمها ويحامون عنها. الجلاد الرمزي تابع للمجلودين الرمزيين بالطريقة نفسها أيضاً، لا يستطيع القضاء عليهم وحرمانهم من التعبير واستخدام الكلمات والرموز، ولا يستطيع أن يتجاهلهم ويتفرغ لصوغ قضيته هو، ولا يستطيع أيضاً أن ينزع من ذهنه أنه تابع لمجلوديه ومُحتَقَرٌ منهم. يسوق نفسه نحو التوسع في الجلد الرمزي وفي الكراهية والإقذاع لأنه ينفي قضية المجلودين العامة، دون الاعتناء بتطوير قضية لنفسه. وتنقضي السنوات والعقود والجلاد الرمزي يُعنّف المجلودين على جهلهم وباطلهم وقلة عقلهم، دون أن يظهر علمه وحقه أو يستخدم عقله على نحو مثمر. وبينما هو لا يكف عن إنكار ذاتية المجلودين الرمزيين وكرامتهم، فإنه عبر هذه المثابرة بالذات يخسر ذاتيته وكرامته هو ويرسخ تبعيته لهم.

وفي النهاية لن يجد الجلاد الرمزي الذي نفى كرامة المجلودين غير الجلاد الجسدي سنداً له ومُكملاّ. يحتكر الجلاد الرمزي الحكم بالصواب، أو يتولى إبطال قضية المعارضين، مثلما يعمل الجلاد الجسدي أداة لاحتكار الحكم بيد «الجلاد العام» عبر التصرف بأجسادهم. ومثلما ليس هناك حد يقف عنده الجلاد الجسدي على ما ظهر في سنوات الثورة، ولو أدى إلى قتل مئات الألوف وتدمير البلد، لا حد أيضاً يقف عنده الجلاد الرمزي، والقطيعة تامة هنا أيضاً.

مشكلة الجلاد الرمزي أنه يفتقر إلى أجساد. لا يستطيع أن يُعذّب ويذلّ، ومن يجلدهم رمزياً بعيدون عن متناوله، لا يطال جلودهم، ولا يستطيع قتلهم. يحاول التعويض عن ذلك بما يسمى الاغتيال المعنوي أو الرمزي، عبر تكرار القول إن حقيقة المجلودين زائفة وناقصة، والمداومة على الحط من شأنهم. مثابرة الجلاد الرمزي على تقريع مجلوديه وجلدهم وتأنيبهم تظهر أن الأمر لا يتعلق بنقص محدد، بأخطاء في الموقف أو التفكير، وليس شيئاً يخص ما يقوله المجلودون أو يفعلونه، بل هو خطأ في ما يكونونه. إنهم مخطئون دوماً لأنهم هم بالذات خطأ، فلا داعي لهدر الوقت على بيان مفصل لأخطائهم في التفكير والمواقف. وعبر نسبة ضلال المجلودين إلى كيانهم بالذات، أي عبر تكثيف الخطأ في أشخاص أو تيارات، إنما يصطنع الجلاد الرمزي لمجلوده جسداً بديلاً، يُعذبه ويُطوِّعه ويعرض ما يخفيه من حقيقة، على نحو ما يفعل جلاد الأجساد. هذا الضرب من التجسيم بديل عن جسم غائب، يفتقر إليه الجلاد الرمزي، ويحسد زميله الجسدي عليه. فللجسد ميزة مهمة، هي «المادية»، شيء واضح متحرك ماثل أمامك، لكنه يخفي أشياء غامضة (أفكاراً هدامة وخططاً شريرة ونيات سيئة…)، والجلد تقنية شرعية لإخراج الخبايا المضمرة من الجسد الواضح، المباح والقابل للإيلام. وما يسعى وراءه الجلاد الرمزي هو الوضوح أيضاً، وضوح الحقيقة الخفية، الباطلة والخاطئة والناقصة، للمجلودين. لكن الأجساد غير متاحة هنا، واستخراج الخبايا منها غير متيسر. الخبايا نفسها غير موجودة في الواقع، فليس لدى المجلودين الرمزيين ما يخفونه، وهم لا ينكرون أنهم لا يعترفون بالجلاد الرمزي، ولا بالجلاد العام ككل. لكن جلادنا الرمزي لا يستطيع أن يعترف بعدم اعتراف المجلودين به، ولا يجد حلا لمشكلة عدم الاعتراف هذه غير الاستمرار في الجلد «إلى الأبد».

هنا في الواقع جدلية خاصة للعلاقة بين الجلاد والمجلودين الرمزيين. فإذ هو يثابر على نفي العقل والكرامة والقضية العامة عنهم، وإذ ترتد قضيته هو وعقله هو إلى هذه الضدية أو النفي، فإنه يمسي تابعاً للمجلودين إلى درجة العبودية. يبدو الأمر متناقضاً على ما تقدمت الإشارة: فإن كان المجلودون الرمزيون بلا معنى ولا قيمة ولا عقل، فلا يجب الانشغال بأمرهم. لكن الجلاد الرمزي لا يستطيع التوقف عن جلدهم لأن ما يقرره من حقيقة لهم لا تُلزمِ مجلوديه، تُلزِمه هو وحده. وهو يواظب على نفي القيمة عن المجلودين كي يؤكد لنفسه بأن عدم اعترافهم به ليس ذا قيمة، ما داموا هم بلا قيمة. هذا بينما يصون المجلودون الرمزيون فرصهم في التحرر والتغير عبر الانكباب على «الموضوع»، والانفتاح على الحدث والمغاير، والخروج من سنة التكرار والأبد.

ولأن كيان المجلودين خطأ، فإن تصحيح الخطأ يقتضي محو الكيان، محوهم كما يُمحى خطأ. وهذه هي آلية التطهير، حزبياً كان أم عرقياً أو طائفياً. والحال أن صاحبنا جلاد لذلك بالذات، لأنه يرى الخطأ في كيان المجلودين، ما يفتح الباب لاستئصالهم وإبادتهم. عمليات التطهير الستالينية، وأشباهها في الصين، والمكارثية في أميركا، قادها أو حرض عليها جلادون رمزيون، نقلوا مفهوم الجريمة من نطاق الفعل إلى نطاق الكيان، فكان لا بد من إبادة فاسدي الكيان. معسكرات الاعتقال النازية استندت إلى نظرية مماثلة ترى كيان اليهود والغجر والمرضى العقليين والمشوهين ومثليي الجنس فاسداً جوهرياً، غير قابل للانصلاح، وواجب المحو.

ومثل قرينه الجسدي، السمة الجوهرية للجلاد الرمزي هي الذكورية المفرطة: الجلاد هو وحده الفاعل والعارف ومالك الحقيقة، والغير كلهم تابعون، بلا قضية، وبلا ولاية سياسية، والنساء منهم عاهرات، أي أيضاً لا قضية لهن. تشييئ المرأة واختزالها إلى جسم مشحون جنسياً أو مجرد فرج، أَشيعُ في عالم الجلادين منه حتى في عالم المتدينين المحافظين (هنا المرأة «حرمة»، وتابعة، لكن البذاءة والتشييء غير واردين؛ هما في الواقع نتاج تحلل نظام «الحُرمة» وليس تحرر المرأة). ورغم محاولة الأسديين انتحال حداثة ما، فإن سمة جلادي الأسدية الثقافيين، دع عنك الجلادين الجسديين، تُظهر جوهر المشروع الأسدي، كسلطة ذكرية محض، تمتلك وتغتصب، تحكم وتحتكر لنفسها الحكم والحكمة، تقذع وتكره. لا تترك مخرجاً لنفسها لأنها لم تترك مخرجاً لغيرها.

أن يكون الجلاد الرمزي مجرد جلاد محروم من أجساد يجلدها، أن لا يكف عن تكرار حفلة التعذيب الرمزية نفسها مئات المرات، أن تكون منتجاته الكتابية محاضر اتهام وتسفيه متكررة، أن لا يشبع بعد كل ذلك من تحقير الخاطئين الجهلة من معدومي العقل أو القيمة أو المعنى، وأن يكون مستقبله هو تكرار الطقس الاتهامي نفسه إلى ما لا نهاية، فهذا مما ينبغي إقصاؤه عن عالم الجلاد الرمزي كي يبقى مستقراً آمناً. الجلاد لا يطيق التفكير الانعكاسي والنظر إلى نفسه من خارجها.

عالم الجلادين في كل حال ضيّق وتكراري، عالم السلطة الأبدية حيث تتكرر الأشياء نفسها إلى ما لا نهاية، كما في كل أبد. الإبداع والتمرد والخروج على النسق المقرر، والشراكة والصداقة والثقة، لا تنتمي إلى عالم الجلاد، جسدياً كان أم رمزياً.

مستقبل جلّاديْن

الجلاد الجمعي، قوة القمع الجمعية، هو ما تريد القوى النافذة دولياً الحفاظ عليه في سورية تحت اسم «مؤسسات الدولة»، هذا حين لا تكون صريحة كفاية وتتكلم على «البنية التحتية الأمنية» بعبارة هيلاري كلنتون. لأجهزة المخابرات في بلدان الغرب خبرة طيبة بالكفاءات الجَلْدية لتلك البنية التحتية، وسبق ان أحالت عليها مشتبهاً بهم سوريين غير مرة، استخرجت منهم ما يؤكد شبهات المخابرات الغربية، وتلقت منها (من المخابرات الأسدية) تقارير بما تملك من معلومات عن إسلاميين سوريين وغير سوريين. ليس رغم أنها وكالة جلد جمعية تريد «الديموقراطيات الغربية» الحفاظ على جلادنا الجمعي، بل بالضبط لأنها وكالة جلد متخصصة بدائية، لا ضوابط لعملها في إيلام الأجساد، وبخاصة الجسد الإسلامي، وهذا بعد أن ابتعدت البنيات التحتية الأمنية في «الديموقراطيات» عن الدرجة الحسيّة في عملياتها.

لكن هل من الممكن الحفاظ على الجلاد الجمعي دون الحفاظ على الجلاد العام، بشار ودولة الأسرة الأسدية؟ في بشار حالياً يلتقي وينحل الجلادان الجسدي والرمزي. إنه القضية التي لا قضية للجلاد الرمزي غيرها، وهو الجلاد الجسدي الأعلى في الوقت نفسه.

ويبدو أن الجلادين يدركان معاً أنه يتعذر الحفاظ على الجلاد الجمعي دون بقاء الجلاد العام، أو بعبارة واضحة، دون بشار الأسد لا مستقبل للجلادين الرمزيين ولا لجلادي الأجساد. هذا ما يحامي عنه الروس طوال الوقت. ويبدو أن خصوصية الرئيسة كلنتون، إن فازت في الانتخابات الرئاسية الأميركية، تتمثل في اللعب ضمن المساحة الضيقة، بل المعدومة، لبقاء الجلاد الجمعي وزوال الجلاد العام.

هل هناك سياسة أخرى ممكنة؟

حاولت هذه المقالة، عبر تناول عمل الجلاديْن، رواية جانب يكاد يكون غير مطروق من سيرة الدولة الأسدية، سيرة احتكار الكلام والتسمية، ورواية التاريخ. والغرض من تناول الجلادين، وهما أساسيان في حماية الاحتكارات الأسدية، هو أن نمهد لرواية حكايتنا ونوفر مواد متنوعة لكتابة تاريخنا. هذا فعل مقاومة أساسي، مقاومة من أجل التغيير لا مقاومة التغيير.

عملت المقالة أيضاً على إظهار أن الدولة الأسدية قوة جلد عامة، وأنها مركب مصان بالعنف بين جلادين ومجلودين. ويترتب على ذلك أن تجاوز هذه المرحلة من تاريخ البلد، الموصوفة هنا بالحسيّة والتوحش والبدائية، يُوجِبُ وضع نقطة النهاية للدولة الأسدية. ستواجه سورية مشكلات بالغة المشقة في كل حال، لكن نهاية الأسدية واجب عام، سياسي وأخلاقي. وحده الانحلال سينتصر إن بقيت الدولة الجلادة، انحلال المجتمع وانحلال البلد، وانحلال النفوس كلها.

ملحق

ظهر بعد الثورة السورية جلادون رمزيون من ضمن طيف الثورة العريض، منحازون إلى ما يمكن تسميتها المعارضة الباطنة، الهوياتية، المجموعات العنفية الطائفية السنية التي أظهرت قوة قلب لافتة على الجلد الجسدي للواقعين تحت سيطرتها. هذا الصنف من الجلاد الرمزي لا يسجل فرقاً عن الجلاد الرمزي الأسدي: كاره متمكن، مقذع وعنيف لفظياً، تكراري وناف للحدث، ومندرج ضمن سنة تكرارية أبدية تخصه، وتخص من وصفتهم في مكان آخر بـ«الأسلاميين» (جماعة «الأسلام أو لا أحد»، «الأسلام أو نحرق البلد»…، حيث لا يكون الإسلام إلا أسداً سنياً جمعياً). وبدوره يفتقر هذا الكاره المتمكن إلى أجساد يجلدها، وما يقوله أو يكتبه هو جلسات اتهام لمجلوديه الرمزيين، الذين يؤخذ عليهم بأنهم لا يعارضون النظام مثلما يفعل، أي معارضة كارهة، ماهوية، إبادية، مطلقة، تتجاوز النظام إلى العلويين، وربما إلى «الأقليات» كلها. هذا أيضاً مشكلته مع كيان المجلودين وليس مع أفكار أو مواقف لهم، وهو ما ينفتح هنا أيضاً على الإبادة والمحو. ومثل الجلاد الثقافي الأسدي يصر جلادنا هذا على أن الأمور واضحة، وأنه يعرف حقيقة هؤلاء المجلودين، ولا يخفى عليه ما يبطنون. ومثل نظيره الأسدي أيضاً يحاصر نفسه بمجلوديه وينشغل بإبطال قضيتهم، فيخسر أية قضية يزعمها لنفسه. ومثل الأسدي أيضاً، هذا الجلاد يعمل في عالم الضدية لا في عالم الموضوعية، وترسو ضديته على الطائفية تفضيلياً بوصفها ركيزة للتباين الأقصى. ليس لدى جلادنا هذا البنية المزدوجة للأسدية، ونزوعها المؤسس لحجب تكوينها الباطن خلف ظاهر عام. هو ظاهر ورقيع جداً في طائفيته.

وهذا بقدر ما هو ذكوري ورقيع في احتقاره للنساء كذلك، مثل نظيره الأسدي. وتظهر منافحة الجلاد الرمزي عن المجموعات العسكرية التي أظهرت تضلعاً مميزاً في جلد الأجساد، وذلك مثلما يفعل الجلاد الرمزي الأسدي المتغني بـ«الجيش العربي السوري» و«مؤسسات الدولة»، تظهر تلك المنافحة أن الجلاد الرمزي لا يستطيع أن يستقل بنفسه، وأنه في كل حال مُكمِّل فقير إلى أجساد لجلاد جسدي، هو مالك الأجساد وسيدها. هنا أيضاً نحن في عالم الحسيّة، أي أيضاً البدائية والتوحش، ويغلب أن يسدل على وجه العالم حجاب عام اسمه الإسلام.

سيرة هذا الجلاد الرمزي الصاعد لا تزال فقيرة، لكن عينات منه كانت قريبة من الأجهزة الرمزية الأسدية. والأمل ألا ينقضي وقت طويل قبل أن يبدأ مجلودو «الإسلاميين» في رواية قصصهم ورسم ملامح جلاديهم.

وفي النهاية، قضية الجلاد جسدياً أو رمزياً، أسدياً أو ضد أسدي، موظفاً عاماً أو متطوعاً خاصاً، هي تحطيم الحرية، حرية المجلودين، وحريته هو عبر تكريس نفسه لنفي حريتهم. وبينما لا ينبغي أن يحتاج لتأكيد خاص القول إن الحرية ليست استبدال جلادين بجلادين، بل هي الانتهاء من الجلادين كلهم، فإنه يلزم القول بوضوح تام إن هذه حجة على الجلادين وإخوانهم، ليست حجة لجلادين ضد جلادين، ولا هي حجة على مقاومة الجلادين ومقاوميهم، ولا على الحرية.