أذكرُ يومنا الأول في بيتنا الجديد في الوعر في ذات تشرين من عام 1999، كان المنزل شبه فارغ إلا من قطع الأثاث الكبيرة، والمطبخُ يردد صدى أصواتنا، ورائحةُ الخشب الذي يؤطر الشبابيك والأبواب تغمر الممرات. جررنا الطاولة «الفورمايكا» اعتباطياً إلى منتصف المطبخ، وهممنا بتناول وجبات الشيش طاووق المعلبة بعلبة من فلين أبيض، أصبحت مع الوقت العلامة التجارية لمحل كريش.

لا أعتقدُ أنني عشت لاحقاً في حياتي لحظات سعادة نقية، كتلك التي شعرت بها عندما نمتُ أول مرة في غرفتي البيضاء والزهرية الكبيرة، بعد أن كنتُ أنام مع أخويّ الكبيرين في بيتنا القديم في الإنشاءات. ربما هي مشاعر الحنين اليائس التي تُشبع ذاكرتي بطهارة متخيلة، ولكن ليس هذا مهماً. في غرفتي الجديدة، الزهرية النظيفة الواسعة، نامت إلى جانبي جدتي التي جاءت من دمشق لعدة أيام لتساعدنا في الانتقال، كانت زائرتي الأولى في غرفتي الجميلة.

صباح اليوم التالي ذهبتُ مشياً على الأقدام لأول مرة إلى مدرستي، الميتم الإسلامي (أو الخيرية النموذجية لاحقاً)، التي سُمّيَ الشارع على اسمها. تستغرق رحلتي مشياً على الأقدام خمس دقائق يتخللها تجاوز شارع صغير جداً، ولكن هذا لم يمنع والدتي من أن تقف بغطاء الصلاة على البلكون كل يوم خلال السنتين التاليتين، تعدُّ خطواتي الصغيرة حتى أغيب عن مجال نظرها.

بُعيد انتقالنا توسَّعَ بناء الميتم الإسلامي، وتضمَّن صالة أفراح ومؤتمرات سُميت زنوبيا، وأصبحت أحد معالم الحي، ومسجد الميتم وإلى جانبه بدأ بناءُ كنيسة القديسين بطرس وبولس التي لم ينتهِ بناؤها الخارجي حتى هذه اللحظة، ولكنها كانت مجهزة من الداخل لإقامة الصلوات والمناسبات الأخرى. لم أدخل يوماً إلى الكنيسة مع أن كثراً من أصدقائي المسيحيين كانوا يرتادون أنشطة الأخوية هناك، بما تتضمنه من حفلات مسائية وندوات نقاش لم يكن لها نظير في المسجد المقابل على الطرف الثاني من الشارع.

 كنيسة القديسين بطرس وبولس، ومقابلها بناء الميتم الإسلامي
كنيسة القديسين بطرس وبولس، ومقابلها بناء الميتم الإسلامي

 

ينقسم حي الوعر إلى قسمين، الوعر القديمة والوعر الجديدة. يفصل مبنى الإطفائية ومبنى مستشفى جمعية البر بين الأحياء المتباينة طبقياً في الوعر القديمة، فيرسمان الحدود غير الرسمية بين الأحياء الأكثر فقراً التي تسكن أغلبها عائلات من البدو الحضريين، وحيّ الفيلات الذي يمتد إلى شارع الميتم الإسلامي.

أما الوعر الجديدة، فكما يوحي الاسم كانت منطقة حديثة الطرق والأبنية، يقطنها خليط ديني وطائفي غالبيته من الطبقة الوسطى.

طريقان رئيسيان شبه متوازيين يقطعان نهر العاصي والحزام الأخضر المعروف ببساتين الوعر، ويربطان حي الوعر الواقع غرب مركز المدينة بحي الحمراء، «شانزيليزيه» حمص. الأول هو طريق المهندسين والأطباء (المهندسون اختصاراً، وسُمي بذلك تيمناً بنادي المهندسين والأطباء الواقع في منتصف الطريق)، ويدعى أحياناً طريق الغاردينيا (تيمناً بدوار الغاردينيا عند أول الطريق من طرف حي الحمراء، والذي شهد لاحقاً بناء برج شاهق، هو الأعلى في حمص، سُمي برج الغاردينيا). والطريق الثاني يدعى شارع الخراب (وكأنها نبوءة ملعونة؟)، وهو الطريق الأكثر شهرة لممارسة رياضة المشي، إذ في أي وقت ترتاده تصادفُ مشاة ومهرولين يرتدون بيجامات رياضية.

يُعدُّ حي الوعر طرفياً بمقاييس مدينة حمص، فيستغرق طريق المهندسين حوالي عشر دقائق بالسيارة أو بالميكروباص من مركز المدينة، ويمكن قطعه بنصف ساعة سيراً على الأقدام.

 خريطة الوعر
خريطة الوعر

ترتبط بذاكرتي رائحة الذرة المشوية على طريقي المهندسين والخراب، ولم أذق الذرة المشوية بعدهما. في طريق المهندسين تفوح أيضاً رائحة النهر ذي اللون الأخضر الأشبه بمستنقع عند الاقتراب من دوار المهندسين والأطباء، وهو عبارة عن مطعم دائري كان في أوقات ماضية أحد رموز حمص المعدودة، إلى جانب دوار الساعة القديمة ومطعمي ديك الجن وكريش.

في الصف السابع انتقلتُ إلى مدرسة تقع في الطرف الآخر من المدينة، على طريق الشام، تقلني إليها كل يوم صداقات وأحاديث سريعة أشاركها مع الركاب الأربع عشر في الميكرو الأبيض الصغير. ولأن بيتنا كان يقع في مدخل حي الوعر الجديد، كنتُ آخر الراكبين في الصباح وأول المترجلين في رحلة العودة، ولكنني كثيراً ما كنتُ أرجو سائق الميكرو أن يغيير مساره في رحلة الظهر، فيبدأ مشواره من أبعد نقطة في الوعر وينهيه في بيتنا، وبذلك يتسنى لي أن أمضي وقتاً أكبر مع أصدقاء الميكرو، وأن أتجول في أحياء الوعر الداخلية التي كانت تدعى بالجُزُر، ولا أزعم أنني استطعت يوماً حفظ أرقام وخرائط هذه الجُزُر.

كنتُ دائماً أول الواصلين إلى المنزل، أدوّر المفتاح في القفل طقتين لتغمرني عتمة المنزل، فكل اﻷباجورات مغلقة. إحساسٌ مزمنٌ وخفيٌ بالتوجس كان يدفع أمي، وهي آخر المغادرين كل يوم، لإغلاق كل اﻷباجورات وقفل باب المنزل وباب البلكون خلال السويعات القليلة التي يخلو فيها المنزل من أي ساكن. بعدي بقليل يصلُ أخي وقد أنهى تسكعه النهاري مع أصدقاء ثانويته، إذ يكون قد أمضى بعض ساعةٍ بعد الانصراف، إما في محل الكاونتر، أو في تناول سندويشة فلافل من عند فلافل الحمراء أو البتول، أو يتسامر مع أصدقائه وأحد البائعين المتجولين أمام ثانوية عبد الحميد الزهراوي، فيتناول على مهلٍ كيساً من الفول النابت مع مرقته الناقلة للأمراض المعدية التي كانت أمي تحذرنا منها، أو كأس سحلب أو ميلو أو سوس، وفي أغلب الأوقات يأتي إلى المنزل وقد أمّن وجبته الصغيرة قبل أن يحين موعد الغداء مع العائلة. كان يعتمد على المواصلات العامة، فيمشي قرابة ثلث ساعة قاطعاً شانزليزيه حمص للوصول إلى موقف الميكرو «غوطة – وعر» عند دوار الغاردينيا. كان نقاش الميكرو حديثاً دائماً في منزلنا، فأبي كان يصرُّ على ضرورة أن يستقل أخي ميكرو خاصاً، مثلي، لضبط نشاطاته قبل وبعد المدرسة، ولكن أخي ربح النقاش الأزلي وظلّ حراً من مواعيد انطلاق وعودة الميكرو المدرسي.

يرن الهاتف في مكالمة أمي اليومية لتطمئنّ أنني في المنزل، وتطلب مني على عجل أن أبدأ بتسخين الطناجر أو أن أفلفل الرز، وفي حال تململتْ المراهقة الكسولة تُخفض أمي سقف الطلبات إلى نقع الرز فقط. تصبحُ الساعة الثانية والنصف أو الثالثة فأسمعُ زمور سيارة أبي في الحارة، وحسب الهمّة نسارع أنا أو أخي لمساعدة أبي وأمي في نقل الأغراض إلى المنزل، وفي الخلفية يلعب بعض أولاد الحارة بالكرة بعد أن أنهوا وجبة الغداء وتحيّنوا وقت اللعب. ويبدأ ماراثون تحضير وجبة الغداء، فأبي يتناول حبة دواء السكر عند وصوله ويجب أن يتناول وجبة بعد أقل من نصف ساعة. تسارعُ أمي إلى المطبخ قبل أن تغير ثيابها أو ترخي حجابها، وبحركات (أستذكرها اليوم) بهلوانية تجيد تحضير طبخة وتسخين بعض البقايا في دقائق قليلة، وأستنفرُ مع أبي لتحضير طبق السلطة اليومي. أو في غالب الأوقات أتظاهر بالنوم حتى يحين موعد الغداء.

نقضي أنا وأمي في المطبخ بعض ساعات بعد انتهاء الغداء، أطرحُ عليها أسئلة عن آرائها بقضايا معينة، أو أطلب منها أن تروي لي، ربما للمرة المئة، بعض القصص من أيام شبابها وطفولتها، وألعب معها لعبة السيناريوهات: ماذا لو حدث س بدلاً من ع؟ وهل كنت ستشعرين بالندم؟ واختاري ثلاثة أشياء ستغيرينها لو عادت بك عقارب الساعة إلى الوراء؟ وماذا لو جئتِ يوماً إلى المنزل ووجدتِ طفلاً رضيعاً على عتبة البناية، هل ستقومين بتبنيه أم ستأخذينه إلى الملجأ؟ وماذا لو أن المستقبل فاجأكِ بكذا… وماذا لو…؟ تُجاري ألعابي التخيلية بابتسامتها الهادئة، وتطالبني أن أطور أسلوبي الحواري إذا كنت أرغب حقاً أن أصبح صحفية في المستقبل، كما كانت أحلام مراهقتي تصرّح قبل أن أكبر وتَجبُن أحلامي معي.

لم تتبدل معالم الحارة كثيراً على مرِّ السنين، السمان أبو طوني في رأس الحارة لم يغير نظاراته المدورة المتلكئة على وجهه ولم تزدهر البضائع على رفوفه المنهكة. وأبو محمود لم يحاول أن يجدد دكانه أو ينظفها، فيتراكم غبار السنين على زجاجات الكولا والحليب المتبعثرة في الفسحة الواصلة إلى دكانه. والسمان أبو قيس في منعطف الحارة مقابل مدرسة الصم والبكم حافظَ على ازدياد حجم كرشه بانتظام.

زادَ عدد السيارات الحديثة قليلاً مع الانفتاح الاقتصادي المزعوم في زمن الابن.

كأغلبِ العائلات السورية أجسرُ أن أقول إنّ المطبخ كان غرفتنا المحورية في المنزل، وفي شقتنا بشكل خاص لأن واجهته الزجاجية الكبيرة كانت منفذنا ونافذتنا إلى الحارة. زجاجها عاكس يتيح للناظر أن يرى ولا يُرى حتى تغيب الشمس وتكشف داخل المنزل المضيء فنسدل ستارة المطبخ، ومن هذه الواجهة الزجاجية الكبيرة كنا نتابع أحداث الحارة بِنَهَم.

في كراج بنايتنا دكان حلاقة ومَعلَمٌ أساسي لدلالة أي زائر جديد لبيتنا، وبشكل خاص لسيارات تكسي الوليد. كعادة المحلات المحيطة بمَعلَمٍ مهم، سمي تكسي الوليد على اسم مستشفى الوليد للأطفال التي كانت تبعد شارعين عن منزلنا. مذهلة ذاكرة هذا المكتب، التي لم تقوَ أبداً على حفظ عنوان بيتنا على الرغم من أن مكالمة طلب التكسي كانت طقساً يتكرر لمرة واحدة على الأقل يومياً لمدة ثلاث عشرة سنة متتالية.

لا أذكر كثيراً صاحب الصالون لأنه سرعان ما أجّره لسيدة حولته هي وأختها إلى محل حلاقة نسائية. نسيت اسميهما، ولكنني أذكر تماماً لهجتهما الساحلية وحالتهما المادية السيئة التي اضطرتهما إلى اتخاذ صالون الحلاقة مسكناً، بعد أن تعذر عليهما تحمل نفقات أجرة شقة إضافية. بعد عدة سنوات هاجرت الأخت الكبيرة إلى واحدة من دول الخليج، وظلت الصغرى تدير المحل وتتذمر من قلة الإيراد مقابل المبالغ التي تُطالَب بدفعها لصاحب الصالون.

في البناء المقابل لنا عدة عائلات مسيحية تعود أصولها لقرى قريبة من حمص، كان بعض شبابها يتسكعون مع أولاد عضو مجلس الشعب. فُتحَ في كراج بنايتهم سوبر ماركت صغير، صاحبه كان من الساحل أيضاً، شديد التهذيب والدماثة. في كل مرة أذهب لشراء «أكلات طيبة» يطمئنّ السمان عن دراستي ومعنوياتي للفحص، فقد كنت ساهرة مثابرة على الدراسة على الشرفة التي تطل مباشرة على المحل.

وفي البناية الجانبية عدة عائلات حمصية ممن كنا ندعوهم «محدثي نعمة»، لا أعرف اليوم سبب هذا الاعتقاد الطبقي، الفوقيّ في جذوره، إلا أنني أتذكر أولادهم الكثر المتقاربين في الأعمار حتى أنه يصعب إحصاؤهم. انتقلوا حديثاً إلى الحارة وكانوا عادةً ما يرمون القمامة من البلكون، من الطابق الثاني أو الثالث، ويصيحون على الأولاد من الطوابق العليا. ارتبطت بهم رائحة الكبة الحمصية المشوية، ودخان منقل الشوي كل يوم جمعة على بلكونتهم صار طقساً من طقوس الحارة.

كان نشاط أولادهم الأشقياء المحبب هو التسلق على حافة شرفتهم، فيمتطونها كأنها حصان ليتدلّى نصف جسم الولد خارج سور الشرفة والنصف الثاني داخلها من الطابق الثالث أو الثاني. وكثيراً ما كانت أمي تسارع لوضع غطاء الصلاة، وتخرج إلى البلكونة وتصرخ على الأولاد: «يا ولد انزيل انزيل.. من عالسور»، وهي مرعوبة من أن يفقد أحدهم توازنه بثوانٍ فيكلف أهله ندم حياتهم. يتطلع الولد باستغراب ويكمل نشاطه وتحريك أرجله وتنادي أمي: «يا ولد.. وين أهلك؟»، وبالصدفة تمر أمه البدينة بجلابيتها على البلكونة، وتنظر باستفهام واستغراب متسائلةً عن خطب هذه المرأة الغاضبة من على بلكونة البناية الأخرى. تكررَ هذا المشهد عشرات المرات، حتى استسلمت أمي وقررت أن تترك الأولاد لحماية المشيئة الإلهية.

تسكن في حارتنا أيضاً عائلة عضو في مجلس الشعب، ينتمي لإحدى العشائر البدوية الكبيرة التي قطن جزء كبير منها في المدينة، ولذلك كان شائعاً جداً في حارتنا أن يحدث إطلاق رصاص على إثر مشاحنات عائلية أو قبائلية. كانت أمي تهرع عند سماع أول صوت لإغلاق كل اﻷباجورات، ونهينا عن دخول المطبخ المطل على الشارع. في الصباح بعد أن يهدأ الصراخ نستفسر عن سبب القتال في الشارع، وهو غالباً ما يكون لخلافات شخصية لا تهمنا تفاصيلها، حتى أنني لا أتذكر قصة واحدة من هذه الحوادث المتكررة. تُمضي زوجة عضو مجلس الشعب أغلب وقتها عند صالون الحلاقة هي وطفلها الصغير. تعود مرة أمي مستغربة كيف كانت الزوجة تعيد على مسامع طفلها وكل من في الصالون كلمات بذيئة جداً، وتضحك بفرح عندما يقوى طفلها على تكرارها، بل وأيضاً توجيهها إلى زبونات الصالون.

أم خالد كانت تشطف الدرج كل أسبوع، وتأتي لتساعد أمي في تنظيف المنزل كل يوم أربعاء. لم أرها يوماً ترتدي حذاء أو كندرة، في أغلب الأحيان كانت حافية وعندما يشتد البرد ترتدي شحاطة لا تقيها من المياه المثلجة وهواء كانون القارس. طويلة ونحيلة جداً، بشرتها سمراء وسميكة، تشمر الجلابية حتى تصل إلى ركبتيها، شعرها غزاه الشيب بشكلٍ كامل، وتجاعيد وجهها تنبئ بظروف مأساوية دفعت بها في هذا السن المتأخر لخدمة البيوت والبنايات. أحزنُ عندما أتذكر بكاءها وهي تروي كيف يضربها بِكرها، وتعيد تلاوة المسبات المشينة التي يقذفها بها عندما تحل به نوبة جنون ويطردها من المنزل. تشكي أمراضها وعقوق أولادها وهي تدخن وتشرب القهوة مع أمي، التي تحاول أن تطمئنها وتلجم غضبها على هذا الابن العاق، وفي أوقات أخرى تعود العلاقة طيبة مع ابنها البكر خالد ويروق مزاجها. أم خالد لم تتوانَ مرة عن تقبيل شاشة التلفاز عندما يظهر عليها بشار الأسد، لربما يبدو هذا المشهد مفتعلاً أو من وحي نص درامي، إلا أنه كان اعتيادياً في منزلنا لدرجة أنني اجتهدتُ حتى التقطته من الذاكرة، فلم يكن بارزاً كحدثٍ استثنائي. تمطره بالدعوات والأمنيات والتشكرات لأنه يسعد حياتها، ويمن علينا جميعاً ببركاته، وتعيد الحكاية عندما زارهم في بيتهم في الضيعة حافظ الأسد وتناول القهوة مع والدتها. لم ترَ في حياتها رئيساً بهذا التواضع، تردُّ له جزءً من جميله بزيارة قبره كلما سنحت لها الفرصة. ترشّح خالد لمجلس الشعب، ولكنه لم يربح مع أن أم خالد كانت تدعمه بتوزيع أوراق دعائية لحملته في المنازل التي تزورها.

جارنا المجنون كان يضرب زوجته وأولاده بهستيريا، كثيرة هي المرات التي وقفت فيها في غرفتي فجأة وأنا أمشي ذهاباً وإياباً وأحفظ درساً ما، لأفتح نافذة الغرفة وأتلصص السمع إلى حفلة الضرب. كان تفصيلاً مؤلماً لكنني لا أتذكر أنه أخذ أي أبعاد أخرى. كان الرجل تاجراً محترماً بالسوق، و«حجّي» أيضاً، يرتدي الجلابية البيضاء والطاقية المخرّمة إلى كل صلاة جمعة. في عدة نوبات جنون كان يتقصد أذى الجيران، فالجار قبل الدار في أوقات الشرّ أيضاً، فيثقب خزان المياه أو يسرق من خزان المازوت، أو يقطع عنا موتور المياه.

من ليالي الشتاء، سأختار مؤثراً صوتياً واحداً للتعبير عن ذكرياتي في بيتنا، وسيكون نغمة: «طراياااا يا فوووول»، يصيحها صاحب عربة الفول المدمّس وهو يدفع عربته الثقيلة. ذات مرة ذهبت لأشتري منه أنا وأخي، وأخبرنا أنه خريج حقوق، ولكنه لم يجد عملاً خيراً من دفع عربته في حارات حينا.

من أيام الصيف سأختار الموسيقى التصويرية لأغنية «طير وفرقع يا بوشار، مابيصير أكتر ما صار»، نشأتُ وأنا أعتقدُ أن لكل حارة عربية بوشار وغزل بنات تبيع الفرحة للأطفال المتجمعين في الحارة، أو المتقافزين من شبابيك منازلهم، حتى انتقلتُ إلى دمشق عندما بدأت دراستي الجامعية عام 2007، وأدركتُ أن أبراج مشروع دمر الشاهقة لن تمرّر صوت أغنية «طير وفرقع يا بوشار» من النوافذ، ولن تُسْمِعَ بائع العربة نداء طفل من الطابق الثاني عشر يناديه «عمو عمو وقف شوي». انتهت ذكرياتي مع عربة البوشار عندما سكنت في دمشق.

يُقال إن الأصوات تحرض على ذكريات مرتبطة بها عند سماعها، ومن الشائع أن يلحّ على بال المرء موسيقى أو أغنية أو نغمة معينة من دون سابق إندار. ولكن الظاهرة الأغرب التي طورتها بعد مغادرتي سوريا، هي الروائح التي تباغتني مع مشهد متكامل يتبلور ببطء في ذاكرتي. أشم رائحة المساء حيث نجتمع مع العائلة عند عمة أبي، مع الأطفال ودراجاتهم والقطط والياسمين في أرض الديار في وسط حي الحمراء. أشمُّ رائحة نشر الغسيل على حبال تراسنا والتلفازُ يعرض نشرة الأخبار الرئيسية عند الساعة التاسعة، ورائحةُ المطبخ أثناء قيام أمي بتحضير العشاء، اللبنة والخبز «الصمّون» والسوركي. وأشمُّ رائحة البرتقال والجلسة الدافئة على السحور في مطبخنا الفسيح الخشبي البارد المطل على الشارع الصامت. وأشمُّ رائحة الغروب والذرة المشوية في شارع الخراب. وأشمُّ رائحة السهر والكتب والنسكافيه وأمي في غطاء الصلاة تسامرني وأنا أدرس على الشرفة.

في آخر زيارة أقمتُ خلالها في بيتنا في أيلول 2011، أخبرتني صديقتي التي تسكن قربي في الوعر الجديدة أنها ذاهبة إلى الإطفائية لحضور «حفلة للساروت». جبنتُ يومها وأنا القادمة من دمشق، والمحملة بمخاوف أهل العاصمة، ولم أجرؤ أن أنضم إليها. وأندمُ اليوم أنني فوّت ربما واحدة من أواخر زيارات الساروت إلى حينا، قبل أن يبدأ حصار شباط 2012.

قصفَ جيشُ الرئيس الوسيم، ابن الرئيس المتواضع، مستشفى الوليد في تشرين الثاني 2013، وعلمتُ أن واجهة مطبخنا الزجاجية تهشمت. طريقُ المهندسين أصبح معبرَ المهندسين، وبرجُ الغاردينيا تحول إلى برجِ الموت.

اليوم عندما أرى التقارير المصورة وهي نادرة، بالكاد أستطيع تمييز معالم الحارة. شارعُ الميتم الإسلامي افترشته البسطات والأكشاك المرتجلة المغطاة بسقوف من الزنك، وبعض الخيم المختومة بشعار مفوضية الأمم المتحدة للاجئين. عرفتُ أن منزلنا يسكنه أناس طيبون، ولكن لم أعرف ماهي الروائح التي يشمونها، وأخافُ أن إغلاق الأباجورات وباب المطبخ لا يقيهم أصوات الرصاص والقذائف. أسترقُ بعض الأسئلة على الهاتف مع أمي عن آخر ما تسمعه من أصدقائها الذين ما زالوا يحظون بمزايا العبور إلى الحي المحظور. تُخبرني عن صديقتها الطبيبة التي تعمل بمستشفى جمعية البر، وبذلك يُشرَّع دخولها إلى الحي، كيف كُسِرَ قلبها الحنون عندما أرادت أن تُدخِلَ بعض الفرحة للأطفال الغرباء النازحين إلى شقتنا وحارتنا، إلا أن مزاج العسكري على الحاجز لم يتحمل فكرة تمرير بعض السكاكر فرماها على الطريق.

أستنتجُ إذن أن بائع البوشار ممنوعٌ أيضاً من العبور والتجوال.

في شهر آب الماضي، وفي أحد الصفقات الكثيرة لتفريغ الحي، سُمِحَ للأولاد والنساء بالمغادرة، فرحل الأولاد عن منزلنا وبقي رجل العائلة وحيداً حائراً في منزلنا الكبير، وخَلَت غرفتي الزهرية من زوارها الجميلين.

قُصِفَت مئذنة مسجد الميتم، ولا أعرف إن كان لكنيسة القديسين زوارٌ بعد. أدخلُ إلى مجموعة أصدقاء المدرسة على الفيسبوك، وأسألُ بلهفةٍ كيف يتابعون أخبار الحي، فيردون بأجوبة متناثرة عن أخبارهم المتفرقة من أقارب وإشاعات، ولكن ليس ثمة مصدرٌ موحدٌ موثوق.

فقدتُ أي اتصال مع ساكني الحارة، ولكنني أخمّن أن العائلات التي أمكنها الهروب قد فعلت ذلك منذ شباط 2012. من له ضيعة أو مدينة ثانية كحال أهلي قد لجأ إليها، ومن كان أقلَّ حظاً قد يكون انتهى به المطاف في طرف أقل تعاسة في حمص. وأخمّن أن صاحبة صالون الحلاقة قد انتقلت إلى الحارات التي سَلِمَت من القصف في حمص، ولكن نالتها التفجيرات. أتمنى أن تكون زوجة جارنا قد أخذت قراراً بالانفصال عنه، وإلا فهي تذوق المآسي أضعافاً اليوم. وماذا عن أم خالد؟ أيكون خالد أصبح قائداً أو عضواً في إحدى الميليشيات، أم أنه سِيقَ إلى الخدمة العسكرية، أم ذهب طوعاً لرد جميل الرئيس المتواضع الكريم؟ أفكر بصاحب عربة «طرايا يا فول»، هل اختار الصمود مع أهالي الوعر؟ أم أنه غادر حمص منذ أيام الحصار الأولى في شباط 2012؟ أم أنه في كتيبة مسلحة اليوم يحمي أهله من الذل قدر ما يستطيع؟ أم أنه اعتقل تعسفاً واختفى لأنه شارك بالمظاهرات السلمية؟ لا تجود مخيلتي بخيارات أخرى أكثر ترفاً.

وأضحكُ بمرارة كيف أن لعبة السيناريوهات القديمة في المطبخ لم تسمح لأكثر أفكاري جموحاً أن تتخيل بأن نُبعَدَ عن طاولة العشاء، وأن تُخنَقَ أحلام أولاد الحارة تحت الحصار.

يقيني الوحيد هو أن جيراننا «محدثي النعمة»، لا بدَّ يشوون الكبة كل جمعة ما استطاعوا إلى حب الحياة سبيلاً.