لقراءة الجزء الأول اضغط هنا.

*****

في الأيام التالية على الاستفتاء الشعبي على اتفاقيات الهافانا، والذي انتهى بفوز خيار الرفض بفارق ضئيل وسط مشاركة هزيلة في التصويت، ركّزت وسائل الإعلام في تغطياتها وتحليلاتها على أن النتيجة مثّلت فوزاً لـ «اليمين المتطرف» بزعامة ألبارو أوريبي، الرئيس الكولومبي السابق وزعيم حزب الوسط الديمقراطي. ليس من الخاطئ اعتبار أوريبي يمينياً عميقاً في خطابه وسلوكياته، كما ليس خطأً اعتبار أن نتيجة الاستفتاء كانت انتصاراً كبيراً له، فقد كان الصوت الأعلى في التعبير عن رفض الاتفاق، وكان، سياسياً، لوحده أمام غالبية الطيف السياسي الكولومبي، وأمام المجتمع المدني أيضاً. ما يستحق التشكيك، على الأقل، هو اختزال خطاب مصوّتي الرفض في الاستفتاء باعتباره خطاب اليمين المتطرّف، أي الخطاب الحربي الذي يرفض أيّ خيارٍ عدا الانتصار في معادلة صفرية بالكامل مع «فارك». هؤلاء موجودون فعلاً، وعددهم ليس بالقليل، لكنهم لا يمثلون وحدهم خطاب رفض اتفاقات الهافانا، بل إن أوريبي نفسه يحرص على تقديم خطاب مُغاير، أكثر سياسية وبراغماتية. لقد نجح أوريبي في كسب رأسمال سياسي زاد من شعبيته عبر تقديم خطاب لا يرفض «السلام» من حيث المبدأ، لكنه يعتبر أن الاتفاق الموقّع خلال الصيف الفائت، لأسباب يُسهب تياره السياسي في مناقشتها، سيء وغير عادل، وأن بالإمكان الضغط لتحقيق اتفاق أفضل. وقد قابل تيارُ الحكومة وأنصارُ الاتفاق حملةَ أوريبي باتهامه بمعاداة جهود السلام وباتخاذ مواقف «عسكريتارية» تطيل أمد الصراع بدل البحث عن إنهائه، كما اتهمته بالكذب والخداع والشعبوية. بدوره، يدخل أوريبي في اللعبة ويتهم أصحاب هذا الخطاب بإهانة الملايين الذين صوّتوا ضد الاتفاق، كما أشار في رده الغاضب على افتتاحية نشرتها نيويورك تايمز قبل أيام تتهمه بإعاقة جهود السلام.

بغض النظر عن رياء أوريبي، فقد نجح في تقديم حملة انتخابية مُركّبة في خطابها، تخاطب بشكل ذكي (وانتهازي) كلّ مخاوف الشرائح الاجتماعية التي يمكن أن تشكك في شرعية وجدوى اتفاقيات الهافانا. جذر كل المحاور التي قامت عليها حملة رفض الاتفاقيات يكمن في الصورة البالغة السوء لـ «فارك» لدى الرأي العام الكولومبي، إذ لم يعد يُنظر إليها كجماعة مسلّحة لها أهداف سياسية منذ زمن بعيد، مقابل قناعةٍ راسخة بأنها جماعة إجرامية وإرهابية، في سجلّها عدد لا يُحصى من المجازر، عدا سياستها المديدة في الابتزاز المالي والخطف والنهب، واستخدامها زراعة وتجارة المخدرات كأسلوب للتمويل. لا تقتصر هذه السمعة البالغة السوء لـ «فارك» على معسكر رافضي الاتفاق، إذ تشير استطلاعات الرأي أنها واسعة الحضور وقوية أيضاً لدى الموافقين على اتفاق السلام.

بالإمكان اختصار وتصنيف محاور حملة رفض اتفاقيات الهافانا بثلاث أنواع: سياسية وقانونية واقتصاديّة. سياسياً، رفضت الحملة روح الاتفاقيات باعتبار أن الدولة الكولومبية تُفاوض جماعة «إرهابية» نداً بند، وتُدخل كبنود تفاوض نقاطاً تغييرية في النظام السياسي والتنظيم الإداري للدولة هي تشريعية تخص البرلمان، ولا يُفترض أن الحكومة تمتلك صلاحيات للتفاوض عليها مع أحد خارج القبة التشريعية.

قانونياً، ركّزت حملة الرفض بقوّة على نقاط الاتفاق التي تُعفي رؤوس «فارك» من الملاحقة القانونية مقابل الاعتراف بجرائمهم، وتستبدل عقوبات السجن لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية بخدمات اجتماعية لصالح الضحايا. للمفارقة، يستخدم أوريبي، العدو اللدود تاريخياً للمنظمات الحقوقية الدولية العاملة في كولومبيا، تقاريراً لمنظمات مثل هيومن رايتس ووتش لدعم موقفه الرافض لهذا التساهل القانوني مع قادة وعناصر «فارك» المتورطين في جرائم ضد الإنسانية.

عدا الإعفاء من الملاحقة القانونية، رفضت الحملة بشكل صارخ الإعفاء من العزل السياسي، فحسب الاتفاقيات سيكون بإمكان «فارك» تأسيس حركة سياسية والدخول في اللعبة السياسية بشكل فوري، وترصد الاتفاقية لأجل ذلك مجموعة تسهيلات من بينها عدد من المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ في الفترات التشريعية الأولى بعد الاتفاق. يُطالب أوريبي هنا بالمعاملة بالمثل مع جماعات مسلحة أخرى وصلت لاتفاقيات سابقاً مع الحكومة، من بينها بعض الجماعات العسكرية الموازية التي كانت تعمل لصالح الحكومة ضد «فارك». نجد هنا أكثر عناصر خطاب اليمين المتطرف حضوراً، إذ يُتّهم الرئيس سانتوس بـ «تسليم البلد للشيوعيين»، ويستحضرون أمثلة سابقة في أميركا اللاتينية، مثل فوز شافيز بالانتخابات الرئاسية بعد سنوات قليلة من قيادته محاولة إنقلابية فاشلة، أو عودة أورتيغا وحركته الساندينيّة للحكم في نيكاراغوا.

اقتصادياً، شككت حملة الرفض بتفاؤل الحكومة حول إمكانية تمويل خطط التنمية وإعادة الإعمار المرصودة في الاتفاقيات، واعتقدت أن الرهان على انهمار عقود الاستثمار الدولية مبالغ به ولا يستند على وقائع قابلة للتصديق. إضافةً إلى ذلك، تُطالب الحملة بأن تتحمّل «فارك» جزءاً من الكلفة الاقتصادية لخطط التنمية، خصوصاً في المناطق الأكثر معاناةً من سطوتها المديدة. تم تقديم «فارك» على أنها قوّة اقتصادية هائلة، وقيل الكثير، بإثبات وبدونه، عن الثروات الطائلة التي جمعها التنظيم المسلح خلال سنوات النزاع، وطولب بحصر حقيقي لهذه الثروات واستعادتها لتسخيرها في تعويض الضحايا أولاً، ولاستثمارها في مشاريع تنموية ثانياً، وهذه إحدى أقوى الأوراق التي لعبها حزب أوريبي خلال الحملة.

لقيت حملة الرفض أيضاً حليفاً قوياً على الصعيد الاجتماعي تمثّل في الكنائس البروتستانتية الإنجليلية، والتي توسّعت كثيراً في العقود الأخيرة في أميركا اللاتينية عموماً، ولها حضور وسطوة كبيران في كولومبيايتحدث أوليفييه روا عن تغلغل الكنائس الإنجيلية في أميركا اللاتينية في كتابه الجهل المقدس.. رفضت الكنائس الإنجيلية الاتفاق بحزم، إذ اعتبرته مصدر تهديد للعائلة التقليدية، حيث يتحدث الاتفاق عن إصلاحات تذهب باتجاه المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وحقوق كاملة للمثليين ومتحولي الجنس. وقد صرّح أحد كبار الأساقفة الإنجيليين في كولومبيا لمراسلة البي بي سي أن ثلث المصوّتين بالرفض هم إنجيليون ملتزمون، ولا يمكن تأكيد هذا التصريح بالإحصائيات والاستطلاعات الموجودة، لكن لا شك أن دور الكنائس الإنجيلية كان كبيراً.

أمام كل هذه النقاط، لم تقدّم الحكومة أو الأوساط السياسية والمدنية المتحمسة لاتفاق السلام خطاباً سياسياً مُنافساً لما طرحه معسكر الرافضين، بل اقتصرت حملة تأييد الاتفاق على تقديمه كالفرصة التاريخية الوحيدة، وأن هذا الاتفاق هو ذروة ما يمكن تحقيقه، وإضاعة فرصة الموافقة عليه تعني عودة الحرب وتلاشي فرص إنهاء النزاع التاريخي في البلد. للمفارقة، يبدو عدم انهيار وقف إطلاق النار، وإصرار الرئيس سانتوس على مواصلة جهود السلام وعمله من أجل طرح أفكار جديدة وكأنه خدمة سياسية لأوريبي، الذي أصرّ على أن رفض الاتفاق الحالي يعني الحصول في المستقبل على اتفاق أفضل، وليس انهيار إمكانية السلام في كولومبيا.

مع مرور الأيام والأسابيع بعد فوز خيار الرفض في الاستفتاء، تتزايد الانتقادات لضعف أداء حكومة سانتوس سياسياً من أجل تقديم الاتفاق بصورة أفضل للرأي العام الكولومبي. لم تأتِ هذه الانتقادات من داخل كولومبيا فقط، فخوسيه موخيكا، رئيس الأوروغواي السابق، الداعم القوي لاتفاق السلام وصاحب الشعبية الكبيرة في أميركا اللاتينية، عبّر في تصريحٍ قبل أيام عن إحباطه بسبب نتيجة الاستفتاء، ولكنه لم يُخفِ انتقاده لسانتوس -الذي أشار إليه كـ «صديق»- بسبب بنائه خطة سلام «فوقيّة» ودون إشراك الناس، معتبراً أن سانتوس قدّم قراراً سياسياً بشجاعة وإصرار، لكنه بدا وكأنه «يطلب من الناس أن يشاهدوه يقرر من على الشرفات، دون أن يُشاركوا». في ذات التصريح، لم يُخفِ موخيكا سخطه من أوريبي، الذي اعتبر أنه يضع شروطاً تعجيزية تجعل التوصّل للسلام مستحيلاً.

لقد تمكن أوريبي من قيادة حملة ناجحة لرفض الاتفاق، وبنى خطاباً مركّباً أضاف لرأسماله مخاوفاً وهواجس لم تكن بالتعريف تنتمي لخطّه المتشدد، وبدا وكأنه حامل أفكار مقابل حملةٍ من أجل الموافقة لم تطرح أفكاراً مضادة بقدر ما قدّمت ثنائية قوامها خيارٌ خلاصي، السلام؛ وآخر جهنّمي، الحرب. أي، بقولٍ آخر، قدّمت الخصم المثالي لأمثال أوريبي. اختزال تعقيد خريطة الرافضين إلى مجرد «يمين متطرف» كان رد فعلٍ سيء للغاية من قبل الأوساط السياسية والإعلامية المُتابعة للوضع الكولومبي، إذ ساهمت بصنع مزيد من الرأسمال السياسي لأوريبي عبر خلاصات متسرّعة من نمط أن المدن الكبرى صوّتت بالرفض رغم أنها لم تعانِ مؤخراً ويلات النزاع مثل المناطق الريفية، التي صوتت بالموافقة. تتعامى هذه الخلاصة بالذات عن الواقع الفاقع، إذ أن نسبة المهجّرين داخلياً في كولومبيا هي من أعلى النسب في العالم، وعدد كبير من المصوّتين المتعصبين بالرفض في المدن هم بالذات أبناء المناطق التي عانت من النزاع وهُجّروا إلى المدن، ولا يُسامحون «فارك» على خسارة حياتهم السابقة، أو فقدانهم لأقرباء أو أصدقاء اغتيالاً أو تغييباً، أو خسارتهم لمصالحهم تحت وطأة الابتزاز الاقتصادي والأتاوات التي فرضتها «فارك» في مناطق نفوذها. لقد وقفت كل جمعيات الضحايا المهمة بقوّة مع الاتفاق، لكن المجتمع المدني عجز عن استيعاب أصوات هؤلاء الذين لم يستطيعوا أو لم يرغبوا في التغلب على جراحهم، وبدل النظر إليهم أيضاً كضحايا أيضاً تم اعتبارهم «حاقدين»، وقُدِّموا لأوريبي بسهولة، الذي اعتنى بدوره بوضعهم في الصف الأول لخطابه. فقط أمام أخطاء كهذه، ومع كثير من الاختزال الكسول، يمكن تقديم ما حدث على أنه انتصار لأوريبي وحده على كل الطيف السياسي، وعلى كل المجتمع المدني، وعلى كل المجتمع الدولي.

جورج بوش الكولومبي

ينتمي ألبارو أوريبي لمعسكر الصقور في الساحة السياسية الكولومبية، المعسكر الذي انحاز تاريخياً للخيارات العسكرية ضد الجماعات المتمردة اليسارية، وتحالف بشكل وثيق مع الولايات المتحدة في حربها ضد الشيوعية في أميركا اللاتينية في الستينات والسبعينات والثمانينات، ثم في حربها ضد كارتيلات المخدرات بدءاً من أوائل الثمانينات. وقد كانت رؤية الولايات المتحدة تجاه كولومبيا دوماً مركّزة على محاربة «العدو» هناك، أي الشيوعيين ثم تجار المخدرات، قبل أن تنتقل آثارهم إلى داخل الولايات المتحدة، ووجدت دوماً في الصقور الكولومبيين حليفاً وثيقاً.

وصل أوريبي إلى الرئاسة عام 2002 طارحاً برنامج «الأمن الديمقراطي»، القائم على محاربة الجماعات المسلحة وتجارة المخدرات عبر زيادة الإنفاق العسكري، وزيادة تواجد الأجهزة الأمنية في مساحات أوسع من الجغرافيا الكولومبية، كما أشرك البرنامجُ المدنيين في هذه الحرب عبر تجنيدهم كمقاتلين متطوعين وكأعضاء في شبكات مخبرين واسعة التواجد، وأسس نظام مكافآت مالية وترفيعات ساهمت في زيادة الفاعلية ضد المتمردين المسلحين. عدا ذلك، بنى البرنامج استراتيجية إعلامية شرسة وعالية الصوّت وفعّالة ضد «فارك». حقق البرنامج انخفاضاً كبيراً في النشاط الإجرامي فعلياً، ما أدى لتضاعف شعبية أوريبي، لكنه أيضاً غطى أسوأ أنواع الانتهاكات ضد حقوق الإنسان (مثل فضيحة «التفاعلات الإيجابية الكاذبة» التي تم ذكرها في الجزء الأول)، وتم خنق النشاط المدني، واستُهدف المعارضون وناشطو المجتمع المدنى المناهضون لهذا النوع من عسكرة المجتمع تحت شعار «معنا أو مع الإرهاب» البوشيّ الطابع.

وجد أوريبي في إدارة جورج بوش حليفاً وثيقاً، إذ قدّمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة لكولومبيا في عهده، وتم دعم «خطة كولومبيا»، التي وُلدت في عهد أندريس باسترانا وبيل كلينتون في نهاية التسعينات بوصفها «خطة مارشال» الكولومبيّة، وانكمش مكوّنها التنموي الاقتصادي مقابل تضاعف البنود الخاصة بالدعم العسكري والاستخباراتي. بدوره، ردّ أوريبي المعروف بانضوائه الكامل في منطق «الحرب على الإرهاب» وقدّم نفسه كجزء جوهري منه، وتبنّى كل عداوات الولايات المتحدة الإقليمية بشكل كامل. إضافةً لذلك، عزز أوريبي علاقته بإسرائيل، واستفاد من دعمها العسكري في تدريب وحدات النخبة.

علاقة صقور كولومبيا بإسرائيل قديمة، وتتجاوز التعاون العسكري البحت عبر الوسيط الأميركي. هناك إعجاب شديد لدى أوساط الصقور بالتجربة الإسرائيلية ضد التنظيمات الفلسطينية، التي كثيراً ما ترد كنموذج يُحتذى في «أفكار» أوريبي وفريقه.

خلال عهده، رسّخ أوريبي شبكته الزبائنية مستفيداً من الفساد التاريخي في الساحة السياسية الكولومبية، وتعامل فريقه السياسي مع التنظيمات الرديفة، وهي جماعات مسلحة يمينية شُكّلت لدعم الجهود العسكرية الحكومية ضد «فارك» وغيرها من التنظيمات اليسارية، وكانت أدوات للقيام بالدور القذر خلال الحرب، ثم فككها حين أصبحت عبئاً سياسياً عليه. تلقّت «فارك» ضربات عسكرية موجعة للغاية في عهد أوريبي، ليس فقط في الداخل الكولومبي، إذ لم يتورّع عن شن عمليات خارجية ضد معسكرات «فارك» في أدغال إكوادور وفنزويلا، مستفيداً من الغطاء الأميركي، ما تسبب بأزمات خطيرة مع الدولتين الجارتين.

بفضل نجاحه في تحسين الأوضاع الأمنية وتحقيق استقرار اقتصادي نسبي، تمكّن أوريبي من الفوز بولاية ثانية عام 2006 بـ 62% من الأصوات، حينها شارك في الانتخابات حوالي 45% ممن يحق لهم التصويت، أي أكثر من المشاركين في الاستفتاء على اتفاقيات الهافانا بـ 7 نقاط.

رغم محاولته، ورغم أن شعبيته كانت تسمح له بذلك، لم يتمكن أوريبي من تعديل الدستور للفوز بولاية ثالثة، ما دفعه لترشيح خوان مانويل سانتوس خلفاً له عام 2010. كان سانتوس وزير الدفاع آنذاك، وقُدّم حينها بوصفه الأقدر على الاستمرار في سياسات «الأمن الديمقراطي». فاز سانتوس حينها على أنتاناس موكوس، مرشّح اليساريين، في الجولة الثانية بفارق شاسع وحصل على 68,9% من الأصوات، ما جعله الرئيس الأكثر شعبية في تاريخ كولومبيا المُعاصر، لكنها كانت شعبية سلفه أوريبي، وشعبية مبنية على أنه سيُكمل النهج المتشدد لسلفه. هذه بالذات هي أولى نقاط ضعف سانتوس، وأثقلها عليه.

خوان مانويل سانتوس

ينتمي الرئيس الحالي لإحدى عائلات النخبة السياسية والاقتصادية التقليدية في كولومبيا، فعم والده، إدواردو سانتوس، رأس الجمهورية بين نهاية الثلاثينات وأوائل الأربعينات؛ وابن عمه فرانثيسكو تقلّد منصب نائب رئيس الجمهورية خلال كامل عهد ألبارو أوريبي. تفخر العائلة بأن أغلب أبنائها خريجي أرقى الجامعات في الولايات المتحدة وبريطانيا، فخوان مانويل نفسه درس في جامعات كانساس ومدرسة لندن للاقتصاد، ثم هارفارد.

عُيّن خوان مانويل سانتوس ممثلاً لفدرالية منتجي القهوة الكولومبية في لندن (وهو منصب دبلوماسي فعلياً نظراً لأهمية القطاع في الاقتصاد الكولومبي) وهو في بداية عشريناته، ثم عاد إلى كولومبيا ليعمل نائباً لرئيس تحرير جريدة إل تييمبو، أهم الصحف الكولومبية، والتي كانت مملوكة لأسرته آنذاك. بداية التسعينات، حين كان في الأربعين من عمره، عُيّن وزيراً للخارجية في حكومة ثيسار غابيريا. كان هذا أول مناصبه الوزارية المتعددة خلال عقدي التسعينات والألفينات. كلّ مناصب خوان مانويل سانتوس قبل ترشحه للرئاسة عام 2010 كانت بالتعيين، إذ لم يخض أي انتخابات كمرشح لرئاسة بلدية أو مقاطعة، أو كمرشح لمجلسي النواب والشيوخ.

وصل سانتوس إلى الرئاسة عام 2010 تحت جناح أوريبي، الذي قدّمه كمكلّف بالاستمرار في سياسات «الأمن الديمقراطي» المتشددة تجاه «فارك»، يُزكّيه أداؤه اللامع كوزير للدفاع في السنوات التي تلقّت فيها الجماعة المتمردة أكثر الضربات ألماً، لكن الرئيس الجديد سرعان ما تمرّد على رئيسه السابق حين طرح نيّته فتح عملية سلام مع «فارك»، ما أدى لصراعٍ دون هوادة بينه وبين وسطه السياسي التاريخي بقيادة أوريبي نفسه. بدأت عملية السلام في السنة الثانية من فترة سانتوس الأولى وسط صعوبات جمة ومقاومة شرسة من قبل اليمين، بالإضافة لتدهور في شعبية الرئيس، إذ أنه خسر ناخبيه الذين جعلوا منه الرئيس الأكثر شعبية حين انتخابه، ولم يتمكّن من كسب ناخبي الضفة المقابلة إلا بشكل مؤقت عام 2014، حين التفّت حوله كل الأطياف السياسية المناهضة لعودة نهج أوريبي لتعينه على الفوز على أوسكار ثولواغا، مرشح اليمين المدعوم من أوريبي، بفارق ضئيل جداً. جدد سانتوس منصبه لفترة رئاسية ثانية، وبقيت عملية السلام حيّة.

تتميّز فترة حكم سانتوس بضعف شديد في شعبية رئيسها، إذ تمنحه التقديرات الأكثر تفاؤلاً أقل من 30٪ من التأييد. ولا يقتصد سانتوس في التعبير عن عدم اكتراثه بشعبيته، ليس فقط لضعف حسّه الانتخابي الناتج عن تاريخه السياسي، بل أيضاً لتمسّكه بضرب من السردية التاريخانية تجعله مصراً على أن الزمن سيكفل له اعتراف الجميع بدوره في جلب السلام لكولومبيا رغم كل الصعوبات. فمفهوم «رجل الدولة» لديه يبدو مُعاكساً للشعبية. الرجل المستعد لاتخاذ القرارات الصعبة وتطبيقها رغم عدم الرضى عليها لأنه مقتنع بأن الزمن سيُري الجميع أنه كان على حق، وأنه رأى مبكراً وحده ما تأخر الآخرون، كل الآخرين، عن رؤيته. هذه عقلية صعبة في نظام يعتمد على عدد الناس المستعدين لمنح أصواتهم لـ«رجل الدولة» هذا. ولهذا الواقع دور كبير في الهزيمة التي لحقت به في الاستفتاء على اتفاقيات الهافانا، إذ يصعب تصوّر كيف يمكن أن تمر اتفاقية وقّع عليها رئيس ذو شعبية متدنية إلى هذا الحد.

في سيرة سانتوس عتمة كبيرة، وعليه مسؤولية أخلاقية وسياسية كبيرة من زمنه كوزير دفاع لألبارو أوريبي، لكنه، من منظور سياسي، يستحق لقب «الأقل سوءاً» في النخبة السياسية الكولومبية التقليدية. لا شك أنه يستحق نقداً شديداً على سيرته، وعلى أسلوب تعاطيه مع عملية السلام وضعف عمله السياسي من أجل تجذيرها اجتماعياً والتأسيس لعهد ما بعد الحرب الأهلية، لكن لا يمكن إهمال أنه، بحق، أول سياسي كولومبي يضع كل ثقله من أجل إنجاح عملية سلام تُنهي الحرب في كولومبيا، وقد فعل ذلك دون خطّ رجعة، إن نجحت عملية السلام فقد نجح، وفشل هذه العملية يعني تصفيته سياسياً.

*****

لا يبدو أن فشل الاستفتاء في كولومبيا سيعني عودة الحرب، على الأقل على المدى المنظور. ما زالت حكومة سانتوس متمسكة بضرورة الوصول لاتفاق، وقد بدأت جولة محادثات سياسية من أجل بلورة مسار جديد. بدورها، أكّدت «فارك» أن قرار ترك العمل العسكري نهائي، وأنها ملتزمة بالنهج السياسي للوصول لاتفاق ينتقل بالبلد إلى وضع جديد. جائزة نوبل للسلام لخوان مانويل سانتوس كانت تعبيراً رمزياً عن استمرار التزام المجتمع الدولي بدعم عملية السلام في كولومبيا.

ليس الأمر مجرد نوايا حسنة، لكن الوقائع الداخلية والإقليمية تصبّ في ضرورة التوصل لنهاية سريعة للنزاع المديد في كولومبيا، إذ لم يعد هناك حامل إقليمي أو دولي لحرب منتهية الصلاحية منذ سنوات عديدة، وهناك ضرورة سياسية واقتصادية لنقل كولومبيا إلى واقع آخر أكثر فائدة للبلد نفسه، ولأميركا اللاتينية ككل. بدا هذا الواقع واضحاً في صورة القمصان البيض، التي جمعت ألدّ الأعداء، برعاية كوبا، عدوّة الإمبريالية، وتحت مظلة إدارة أوباما، وبحضور قوي من حكومات إقليمية ودولية متناقضة فيما بينها. إرادة السياسة العُليا مهمة، ولا غنى عن حضورها، خصوصاً في صراعات ذات بُعد إقليمي ودولي، لكن محاولة الاكتفاء بها والرهان على ثقلها لخنق الاجتماعي والسياسي الداخلي، وإهمال تجذير عملية السلام شعبياً على أسس العدالة والإنصاف والمحاسبة وحفظ كرامات الضحايا مقابل ابتزازات تُشبه منطق اليمين المتطرف أكثر بكثير مما تشبه ما يفترض أن يكون خطاب سلام هو ما يخيف، ليس فقط كولومبياً، بل أيضاً في احتفاء أوساط سياسية وإعلامية بتلك التجربة الفادحة النقصان كنموذج يُعمم على «مناطق نزاع» أخرى، وسوريا أولى المرشحات.