يحتاج أبو علي إلى سبع ساعات يقضيها في التنقل بين ثلاث حافلات للوصول إلى قريته في جبل الزاوية في محافظة إدلب. مئات الآلاف من أبناء «المدن المنسية» كما باتت تسمى في السنوات الأخيرة غادروها بحثاً عن فرصة عمل بعد أن ضاقت عليهم الأرض بمواسمها، ليجد أبو علي نفسه في مدينة الصنمين الواقعة في منتصف الطريق بين دمشق ودرعا.

اليوم يغادر المدينة عائداً إلى قريته ليلحق بزوجته وأطفاله السبعة، بعد أن أرسلهم قبل شهر ريثما يبيع المتبقي من بسطة الألبسة التي يملكها، ويلحق بهم في الحافلة التي ستوصله إلى دمشق. أصلحَ أبو علي جلسته في الكرسي الضيق الذي لا يتناسب مع قامته الطويلة التي اكتسبها من أخواله، ثم وضعَ يديه خلف رأسه.

إدلب لم تعد مدينة منسية، فأخبارها تتصدر المحطات الفضائية، لقد رأى بأم عينه اسم قريته على قنوات عالمية، وسمع تحليلات عنها وعن القرى المجاورة بعد أن بدأت المظاهرات تعم المدن السورية، فقرر العودة إلى هناك.

كان الزمان وقتها في الشهر الأول من عام 2012، والحراك الثوري على أشده وقد تحررت معظم القرى في جبل الزاوية. تذكّرَ مهرجان المدن المنسية الذي كان النظام يبثه على قنواته كل سنة مسلطاً الضوء على تلك المدن والقرى، قال في نفسه: «لقد كانت تلك المدن منسية فعلاً بآثارها وحاضرها، أي وقاحة تلك!! لقد كان لديهم مهرجان مدن منسية، يقامُ في مدنٍ يتعمدون نسيانها»، وأضاف: «لقد بدأ المهرجان الحقيقي للذاكرة التي لن تُنسى».

أبو علي رجلٌ في الأربعين من عمره، ويتوسط عائلته المكونة من أحد عشر شخصاً بشعرٍ أشقر ونمشٍ يملأ وجهه، أضافت له الشمس الحارقة ندبات على شفتيه. كان مجدّاً في دراسته، وحين أنهى المرحلة الإعدادية والتحق بالثانوية العامة في 1987 كانت الصدمة الأولى التي غيرت مصيره كاملاً، وذلك عندما رُفِضَ طلب انتسابه إلى صفوف حزب البعث الحاكم في سوريا. جاء الرفض بلا أسباب، ولكن أبو علي وعائلته كانوا يعرفون ضمنياً السبب الرئيسي لذلك، فهو أخ لمعتقل سياسي من حركة الإخوان المسلمين لم تجفّ دمعة أمه عليه بعد، ولم يُعرَف مصيره كأغلب المعتقلين في تلك الفترة من الزمن.

صورة أخيه الوحيدة العالقة في ذهنه هي تلك التي كانت أمه تخفيها في صدرها، وتخرجها لتقبّلها وتبكيها بعد أن تتأكد من عدم وجود أي شخص في الغرفة، وذلك خوفاً من تقرير يحرمها ولداً آخر من أولادها، بعد أن تحولت البلاد كلها إلى «كتيبة تقارير» كما كانت تقول، وإلى منافقين للحزب والدولة.

كل أقرانه كانوا قد أخذوا أرقامهم الحزبية بصفة نصير، رافعين رؤوسهم الطفولية متباهين بصفتهم الجديدة كـ «رفاق»، ناظرين إلى صديق الأمس كخائن، هو الذي ردّدَ بأعلى صوته مراراً، وبصوت عال لا يدرك معناه، ذلك العهد بالقضاء على الإمبريالية والرجعية، وعصابة الإخوان المسلمين العميلة.

ثمانينيات القرن الماضي حملت رعباً حقيقياً لكل من يخطر له أن يتعاطف مع أي حركة سياسية أو شخص لا ينتمي للقائد الخالد وحزبه ورجالاته وأفكاره، وسيطر الحزب فيها مُختَصَراً بشخص أمينه العام على كل مفاصل الدولة والجيش والوظائف، وحتى غرف النوم.

أدرك أبو علي أن لا مستقبل له في دراسته، شجعه على ذلك المحيط العام وعائلته التي كانت تعرف مصير ابنها وما سيعانيه، فقرر الخروج من المدرسة والبحث عن عمل في مدينة أخرى لا تعرف أخاه ولا تحاصره بذاكرتها، فانتقلَ إلى مدينة الصنمين للعمل كبائع ملابس في أسواقها، أو «البازارات» كما كان يُطلَق عليها.

أنزلته حافلة الصنمين في كراج البرامكة وسط العاصمة دمشق، وكان عليه أن يتجه إلى ساحة العباسيين ليستقل أحد «البولمانات» إلى مدينة إدلب. في المقعد المريح الذي استقله في الحافلة، كان واحداً من عشرة ركاب فقط في البولمان الكبير بمقاعده الفارغة، ما أتاح له التمدد على الكرسي المجاور ليريح ظهره الذي كان يعاني من انقراصٍ في الفقرات لكثرة وقوفه لخمسة عشر عاماً في الأسواق حاملاً أكياس الثياب، و«فرشه القماشي ذو القواعد الحديدية»، لينصب بسطته متنقلاً في مدينة الصنمين والقرى المجاورة لها من إنخل إلى غباغب إلى بصير إلى كفرشمس ودير العدس، يبيع بعض الثياب ليحمل إلى زوجته وأطفاله -بعد أن تزوج في 1990- ما يسد رمقهم، في ظل الفقر والغلاء وإيجار المنزل وندرة البيع.

الطريقُ كان مليئاً بالحواجز المخيفة الخائفة، للمرة الأولى أحسَّ أبو علي أن الخوف من التهمة العالقة بأخيه قد زال عن كاهله، وأن قيده المدني قد تحرر غير آبه بما سيحصل في الطريق، أو بأن تعتقله إحدى الدوريات على الحواجز، فقد سمع عن أشخاص قد اعتقلوا وكانت تهمتهم الوحيدة أنهم من إدلب.

مرَّ في باله كحلم يقظة أنه عندما سيصل إلى قريته سيصرخ بأعلى صوته حرية، وربما سيحمل السلاح وينتظم في صفوف الجيش الحر، وأنه سيأسر أحد الجنود ويبادله بأخيه الذي مضى على اعتقاله ثلاثون عاماً. جمع كل الحقد الذي في قلبه على النظام وزبانيته وبعثه وقائده ثم غصَّ بفكرة موت أخيه، لعلهم قتلوه أو لعله قضى تحت التعذيب.

سيطرت فكرة الحرب على مخيلة أبي علي، تنقلَ وهو في مكانه بين الكروم والمغاور، عاشَ كـ غيفارا تارةً وكـ ابراهيم هنانو أحياناً، وصلَ إلى دمشق وإلى حي المهاجرين مع مجموعة من الجيش الحر، قصفَ القصر بمن فيه واعتقل سيد القصر. راودته فكرة السيطرة على الفرقة التاسعة التي أمضى فيها خدمته العسكرية، وفكرة أسرِ لوائها الذي كان المتحكم الفعلي بمدينة الصنمين. هي الفرقة الأقوى عند النظام، التي أرسلها في السبعينات إلى الأردن في «أيلول الأسود»، وهي التي أرسلها إلى الكويت في التسعينيات لتحارب ضد العراق، وهي اليوم من تقمع المتظاهرين وتقتلهم في قرى ومدن درعا.

حين وصلَ إلى مدينة إدلب كان رأسه يؤلمه لكثرة ما اختلط فيه من ذاكرةٍ وتخيّلات، فقرر أن يأخذ حافلة مباشرة إلى قريته، دون انتظار أن تمتلئ المقاعد. اتفقَ مع سائق حافلة، وبدأت رحلته الثالثة إلى قريته التي تبعد 40 كم عن مدينة إدلب، عند قرية «الرامي»، القرية الأخيرة التي حشد فيها النظام قواته المتبقية في المنطقة، بدأَ يشعر بالانعتاق. لحظات مرت وكأنها سنة، أعادَ الحاجز له هويته وانطلق في هواء القرى المحررة.

أشهرٌ قليلةٌ قضاها أبو علي في قريته الصغيرة في جبل الزاوية، لم يستطع خلالها أن ينضم لأحد فصائل الجيش الحر المقاتلة، تلك الفكرة التي طالما راودته، ولكنه لم يقوَ على تنفيذها. كانت مؤسسة الدفاع المدني قد بدأت بالتشكل في مدينة إدلب أواخر 2012، وقامت باستقطاب المتطوعين للعمل في الدفاع المدني.

وجدَ الرجل نفسه متماهياً مع الفكرة الإنسانية التي قامت عليها المؤسسة، ومع دورها في حماية المدنيين وأرواحهم وممتلكاتهم، فانتظم في صفوف الدفاع المدني.

رغم الأساليب البدائية وعدم المعرفة بطبيعة العمل وانقراص الفقرات الذي يعانيه، وجدَ أبو علي نفسه مع الشباب المتطوعين في المركز حيث كان يكبرهم بعقدين من الزمن. وكما لو أنه شابٌ في العشرين من العمر، كان يقضي وقته متنقلاً بين المناطق المنكوبة، يكسر الأحجار ويرفع الدمار مع متطوعي المركز بآلات بسيطة، للبحث عن ناجين بعد كل مجزرة يرتكبها نظام الأسد وطائراته وبراميله.

في المركز في منتصف عام 2013، وأمام طاولة عليها رقعة شطرنج، كان أبو علي ينتظر نداء التوجه إلى مكان القصف عن طريق اللاسلكي. كان يبدأ حديثه دائماً: «هذا القاتل لن يتوقف، تحت كل شبر يوجد قصة وشهيد». قال لي يوماً وهو يحرك أحد جنود رقعة الشطرنج أمامه أنه لا يستطيع النوم، صور الأطفال الشهداء ترافقه في كل مكان، وتساءلَ كيف يستطيع هذا الطيار النوم.

أطرقَ قليلاً يحاولُ استرجاع شيءٍ من قوّته، ثم قال: «أتعرف؟! لقد عبرنا الحدود إلى تركيا، كانت هناك دورة تدريبية للدفاع المدني، لقد قطعنا الحدود عن طريق التهريب، مشينا أكثر من عشر ساعات لنصل إلى داخل الحدود»، ثم حرك يديه الاثنتين كإشارة استفهام: «لماذا لا يُسمح لنا بالدخول؟ ولماذا لا تقف حكومتنا المؤقتة معنا؟».

لم يشتكِ يوماً من ضيق الحال رغم عوزه، فقد بدأ رجال الدفاع المدني عملهم كمتطوعين بلا رواتب، والمبالغ التي كانت تأتيهم على شكل مكافآت لم تكن تكفي لسد الرمق، وكثيراً ما غابت هذه المكافآت عنهم لأشهر.

كانت شكواه الدائمة لا تتعلق بقلة المال ولا ضيق الحال، كان دوماً يشتكي حال طفلته الكبيرة المجدّة: «أين ستكمل دراستها؟». هو لا يريد لها أن تشبهه، هو يريدها أن تكمل دراسته، فلا بعثٌ جديدٌ سيقتل حلمها في أن تكون طبيبة.

في آذار من عام 2015، يوم تحررت مدينة إدلب، كان أبو علي يملأ المكان فرحاً، منذ أن أتى إلى القرية لم أرَ ابتسامته كما في ذلك اليوم الذي تحررت فيه المدينة المنسية. وزّعَ ضحكاته على الجميع، بقيَ هناك لأيام كثيرة، وعندما عاد دخل إلى منزلي حاملاً خوذته، وقال لي: «كنا رحنا». أصابته شظية وهو في المكان الذي استهدفته الطائرة، إذ تمّ استهداف المكان مجدداً بعد وصول الدفاع المدني إلى المنطقة، لكن تلك الخوذة حمته من الموت على حد تعبيره، رماها على الأرض وجلس بجواري.

«فوق تلة التراب التي خلفتها الطائرة كانت الجثث متناثرة والأشلاء تملأ المكان»، هكذا بدأ حديثه ثم نظر إليّ بحزن: «قل لي أننا سننتصر». لم يكن هناك متسع من الوقت أمامي للتنظير أمام نبرته الحادة الحزينة، أجبته: «سننتصر».

حملَ خوذته الشاهدة على موته، وغرقَ في العتمة.

الحياة غير العادلة التي يعيشها معظم السوريين في ظل الفقر وغلاء الأسعار وانعدام فرص العمل تلقي بظلالها على الجميع، شعرَ أبو علي بغصة في قلبه وهو يرمي بهمومه للمرة الأولى ليتكلم عن سبل الحياة المغلقة في حزيران 2016.

أعطاه أحدهم أوراقاً لمستودع أدوية، وطلب منه، إن أراد أن يعمل، أن يمرَّ بهذه الأوراق على صيادلة المنطقة مقابل نسبة مئوية، وهكذا قرر أبو علي أن يعمل كمندوب أدوية بعد انتهاء دوامه في المركز.

صباح اليوم التالي استعارَ دراجة نارية وبدأ رحلة البحث الجديدة عن لقمة العيش، ساعاتٌ مرت ليأتي نبأ استشهاده على دراجته النارية بغارة جوية استهدفت الطريق الذي سلكه. منذ اليوم الأول، لم تسعفه الحياة كي يعود بنسبة مئوية تعينه على العيش.

نسيتُ أن أخبركَ يا أبا علي أن غيفارا ألّفَ كتاباً أسماه يوميات دراجة نارية، ولم ينل جائزة نوبل، ذلك لأن الحياة ليست عادلة.