من حيث المبدأ، يؤمن كاتب هذه السطور أن النقاش حول أصول الجماعات الأهلية في كيان سياسي ما، يضر بشمولية وعمومية المساواة بين أفراده، وأن أي كيانٍ سياسي يجب أن يكون بمؤسساته ومواثيقه وسُلطاته الفعلية والرمزية على مسافة متساوية من الكُتل الأهلية الجمعية فيه، بغض النظر عن تاريخ وأسبقية وجود جماعة أهلية ما، أو عن مُساهمتها في تاريخ هذا الكيان. ولا يبدو أن ذلك قد تحقق في أي من دولنا الحديثة في المنطقة، تلك التي تأسست على أنقاض الامبراطورية العُثمانية، فعلى الدوام كان ثمة «جماعة أهلية مركزية» ما، تفرض عالمها الرمزي على الكيان ومؤسساته ومواثيقه، وتملك ميلاً حثيثاً لتهميش باقي الجماعات الأهلية قدر المُستطاع، ومحاولة تذويبها وتفكيك ديناميكيات التعاضد فيما بين أفرادها، في مستوى أعلى راديكالية.

يرى كاتب السطور أن مُناقشة تاريخ الجماعات الأهلية، في أي كيان كان، بغير أغراض المعرفة التاريخية والأنثروبولوجية، وبالضبط حينما تكون في الحقل السياسي والخطابات التي تتحدث عن جماعة أصلية ما وأخرى أقل أصالة، إنما تدفع دوماً إلى تعزيز القيم القومية والمذهبية والدينية اليمينية.

*****

لكن في الحالة السورية الراهنة، وبمناقشة مسألة الحقوق الديمقراطية للأكراد السوريين، لا يبدو أن الأمر يُمكن أن يسير بتلك البداهة بيُسر. فكما أن النُخب الحاكمة ذات المرجعية القومية العربية لم تكن تعترف بأي وجود فردي أو جمعي للجماعة الأهلية الكُردية، فإن أغلبية واضحة من النُخب السياسية الصاعدة مع الثورة السورية تعترف بذلك بشكلٍ نسبي تماماً، ففي خِطاب هذه النُخبة ومُخيلتها، يأخذ الاعتراف بالكرد أحد نمطين من الحضور في السُلطة والمجال العام: فيُمكن لأي فرد من هذه الجماعة أن يمُارس خواصه وهوياته وعوالمه الرمزية في مجاله الخاص فحسب، بالضبط كما يحق لأي باكستاني في بريطانيا. أو يتم الاعتراف بالجماعة كتكوينٍ أقلوي، لها أن تؤسس بعض الجمعيات والتنظيمات الثقافية الجُزئية الخاصة في حيزٍ بذاته، بشكلٍ مُطابق للذي كانت تعترف به الدولة السورية للجماعة المسيحية السورية. أي أن ثمة تغييباً تاماً للمساواة المُفترضة بين الجماعتين العربية والكُردية في الدولة والمواثيق والمؤسسات والسُلطة العامة السورية المُفترضة مُستقبلاً.

لا تفتقر تلك الميول الشمولية إلى مُحاججات تُعتبر منطقية في رأي هذه النُخب، إذ أنها بعمومها تتمركز على أن الكُرد السوريين بأغلبيتهم جماعة طارئة على الكيان السوري، وأنه ثمة جماعة تأسيسية واحدة هي الجماعة العربية، وأن الكُرد هاجروا أو هُجّروا إلى سوريا في فترات لاحقة لتأسيس الدولة السورية عام 1918، جراء التحولات السياسية الضخمة التي جرت في تُركيا عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث شهدت الانتفاضات القومية الكُردية حالات قمعٍ شديدة من قِبل الجيش التُركي، ما أضطر عشرات الآلاف من الأكراد للنزوح جنوباً إلى الكيان السوري، وما الوجود الكُردي الراهن سوى نتيجة لتراكم هؤلاء المُهاجرين/المُهجّرين، مُضافين لأعداد قليلة من الكُرد الذين كانوا يعيشون ضمن الجغرافيا السورية قبل ذلك التاريخ، لكن نسبتهم تكاد لا تُذكر؛ وبذلك فإن جملة حقوقهم «الديمقراطية» لا يجب ولا يُمكن أن تتجاوز الحقوق التقليدية للجماعات المُهاجرة إلى الكيانات المُتمركزة على هويات وجماعات تأسيسية!!

تفتقر تلك الرؤية إلى الجذور الأساسية للقراءة التاريخية التقليدية المنهجية، وإلى الوعي المعرفي الرصين بتاريخ هذه الكيانات الحديثة في منطقتنا، ومنها بالذات سوريا. فهي من جهة تفتقر إلى المعرفة العميقة بتأسيس الكيان السوري مثله مثل باقي الكيانات، وثانياً لا تعي طبيعة العلاقة التأسيسية للكُرد مع هذا الكيان السوري، وأخيراً لا تعي طبيعة وتفاصيل تلك التحولات والهجرات التي جرت في تلك الحُقبة من تاريخ المنطقة. وهذا ما سوف تُحاول هذه المقالة تفكيكه ومُناقشته.

*****

كانت جميع دول منطقتنا قد تأسست نتيجةَ تفاهمات وتوازنات القوى الكُبرى عقب الحرب العالمية الأولى، وحتى الدولتان الأكثر تاريخية ورسوخاً، تُركيا وإيران، كانتا أيضاً نتيجةَ توافق بقائهما مع مصالح وتطلعات تلك الدول العُظمى وقتئذ. بهذا المعنى، فإنه ليس من دولة في منطقتنا تُحقق شرط «تاريخية الكيان»، كما ينطبق الأمر على مِصر والمغرب مثلاً، إنما جميعُ الكيانات مُستحدثة، وبدون إرادة مركزية من مجموع سُكانها ومُختلف جماعاتها الأهلية. ولهذا بالضبط، فإنه لا توجد جماعة مركزية ذات كيان تاريخي عتيق وشرعي تم تحديثها إلى الأشكال الجديدة من الكيانات الراهنة.

ما كان يُرشد مُخيلة القوى العُظمى لحظة تأسيس هذه الكيانات هو مجموع مسألتين بسيطتين: تقوم الأولى على تجميع أكثر من ولاية عُثمانية تقليدية في دولة واحدة، مُنفصمة عن الكيان العُثماني الأُم، لتطيح بتلك الامبراطورية. والمسألة الثانية هي أن تُحقق تلك الخطوط التي سوف تفصل بين الكيانات مصالح وتوازنات الدول المُنتصرة في الحرب.

بمعنىً ما، لم تكن مصالح الدول العظمى مُتوافقةً مع المُخيلات والرغبات والاتفاقات الجزئية التي عقدتها مع القوى المحلية، ومنها اتفاقيات الشريف علي بن الحُسين مع بريطانيا بشأن تأسيس «كيانٍ عربي موحد» على أنقاض جزءٍ من الامبراطورية العثمانية. ومن الأشياء غير المُدرَكة في وعي «النُخب العربية» أن مثل تلك الاتفاقيات والتعهدات إنما عُقدت مع كثيرٍ من الزُعماء المحليين ضمن الامبراطورية العُثمانية، مع زُعماء أرمن وأكراد وآشوريين وطاشناق وشركس، وأن أياً منها لم تكن ذات أهمية في سياق التحولات التي جرت خلال الحرب بين القوى العُظمى، إنما كانت فقط جزءً من التكتيكات البينية بين الأجهزة البريطانية والفرنسية في مزاحمتها لنظيرتها العُثمانية والألمانية، وفي مرات كثيرة كان هؤلاء الزُعماء المحليون يصكون اتفاقيات تعاون مع القوتين المُتحاربتين في الآن ذاته. يعني هذا أنه ليس من جماعة قومية في المنطقة امتلكت إرادة تاريخية قبلية لتحطيم الكيان الامبراطوري العُثماني التقليدي، وبناء كيانات قومية أو دينية أو مذهبية؛ بل كانت جميع النزعات التي حدثت وقتئذٍ نتيجة تفاعل جزءٍ من هذه الجماعات مع الظروف الموضوعية لاهتراء الكيان الامبراطوري العُثماني، وصعود القوى العُظمى الجديدة وتراكم وعودها بشأن المزيد من الاستقلالية والسُلطة لهذه المناطق والجماعات العُثمانية.

كان الكيان السوري بجوهره نتيجة محاولة الدول العُظمى جمع ولايات حلب ودمشق والموصل العُثمانية، مع الكثير من التعديلات التي يُمكن أن تُحقق توافقاً بين مصالح الدول المُنتصرة. فتم اقتطاع بعض الإيالاتالإيالة في القانون الإداري العُثماني تُساوي «المنطقة» في التقسيمات الإدارية السورية الراهنة، فكُل ولاية عُثمانية كانت تنقسم إلى عددٍ من الإيالات. الشمالية من ولاية حلب وضمها لتُركيا، كان آخرها لواء الإسكندرونة، وذلك لأن اتفاقية سيفير، التي انتهت الحرب بموجبها مؤقتاً، نصت على فصل المناطق التي لا ينطق سكانها بالتُركية عن الكيان التُركي الجديد، ولم ينطبق هذا الشرط على أغلبية واضحة من الامتداد الأناضولي الشمالي لولاية حلب، فتم اقتطاعها على فترات متعاقبة بعد نهاية الحرب. الأمر نفسه جرى مع مناطق ولاية دمشق، لحسابات تتعلق برغبة بريطانيا وفرنسا مُنِحَ الموارنة واليهود أشكالاً من الحماية في كيانات مُنفصلة عما قد يتشكل ككيانٍ «عربي سُني» بأغلبيته السُكانية، وهو المسار الذي نشأت عبره دولة لبنان، والمسألة الفلسطينية/الإسرائيلية فيما بعد. وأخيراً تم فصل كامل ولاية الموصل عن الكيان السوري الجديد، لأن المصالح البريطانية النفطية تطلبت ذلك، وتمت إضافة إيالة دير الزور فقط لتكون بمثابة تعويض للمصالح الفرنسية.

بهذا المعنى، فإن سوريا الراهنة ككيان لم تكن بداهة في سياق التاريخ، حتى في الجزء الأقل عُمقاً منه، أي في لحظات تأسيسه. بل بدرجاته العُظمى كانت نتيجة لتوازنات القوى الدولية ومصالحها وقتئذٍ، بما يفوق تماماً الإرادات والنزعات المحلية/الداخلية لتأسيس الكيان. ومما تُنكره المُخيلة القومية العربية وتُغيبه بشكلٍ عمدي، هو أن رفض الكيان السوري بشكله الراهن في السنوات التأسيسية أنما أخذ حيزاً واسعاً ظهر من خلال الحركات والنزعات المحلية السورية، فطبقةٌ واضحةٌ من الأعيان المُحافظين السوريين، التي كانت قوية ومركزية في سوريا، بقيت ترفض الاعتراف والإيمان بسوريا الجديدة، وبقيت تراها كياناً غير شرعي بُني بمؤامرة خارجية على الكيان الشرعي العُثماني المُسلم السُنيّ، ورافقتها كثيرٌ من النزعات في مناطق الأقليات، التي كانت ترفض العيش في كيان ذو أغلبية سُكانية مُسلمة سُنيّة، وكانت تسعى لتأسيس كياناتها المُطابقة للُبنان «الماروني». وعلى عكس ما هو مُتخيل، فإن الاستعمار الفرنسي هو ما ساعد على توطيد أركان العلاقة بين مركز الكيان الجديد وأطرافه، الرمزية والجُغرافية، من خِلال خلق منظومة قانونٍ عامٍ وجيشٍ مركزي ومؤسسات مدنية للحُكم والتعليم والصحة، وهي التي، بشكلٍ فعلي، خلقت سوريا الراهنة ككيان مُتناغم، وليس أي شرطٍ سابق لذلك، لا جُغرافي ولا لُغوي ولا قومي ولا ديني.

لا يعني ذلك التشكيك بالكيان السوري أو الدفع لمحاولة تفكيكه بأي شكل، بل على العكس تماماً. إن محاولة قراءة التاريخ التأسيسي لسوريا، تهدف إلى استبعاد المُخيلة والرؤية التي ترى الكيان السوري ذاتاً تاريخية بديهية مُطلقة، وتُحوّله إلى شيء معبود لا يُمكن قراءة مُعضلاته بشكلٍ موضوعي، وتدفع على الدوام إلى أن يكون كياناً ذا جماعة مركزية، كياناً غير حيادي تجاه جماعاته الأهلية، ومن ثم أقل مأسسةً و«علمنة» و«عدالة». وهكذا فإن الشك في بداهته هو الآلية الوحيدة والطبيعية لتحويله إلى «كيانٍ بديهي»، عبرَ الآليات المُعاكسة لما جرى خلال السنوات القاسية من تاريخه الحديث.

*****

تسعى الجزئية المركزية التي تهدف إليها خطابات «الهجرة الكُردية» إلى القول إنه ليس ثمة «مناطق كُردية» في سوريا، وإلى القول إن المناطق التي يُشكل فيها الكُرد أغلبية سُكانية راهنة إنما تشكلت بفعل هذه الهجرات المُتتالية. ويهدف هذا المسعى إلى دحض أية إمكانية لتأسيس سوريا غير مركزية على أساسٍ سياسي، يكون للكرد فيها مناطق حُكمٍ محلية في جُغرافياتٍ سوريّةٍ ذات أغلبية سُكانية كُردية.

تفتقد تلك الرؤية إلى المنطق من حيث المبدأ، لأنها تفترض أنه كان ثمة مناطق شاسعة في الشمال السوري، بالغة الخصوبة والقابلية للحياة، لم يكن فيها أي وجود سُكاني متواصل، وجاء الأكراد السوريون وسكنُوا تلك المناطق بعد تشكل الكيان السوري. لا تُخبرنا تلك الرواية عن الأسباب التي حالت دون أن يسكن الكُرد هذه المناطق في المراحل التي سبقت تأسيس الكيان السوري، رُغمَ أن مناطقهم كانت مُلاصقة للمناطق التي غدت سوريةً فيما بعد. ولا تُخبرنا أيضاً لماذا لم يُسكنها العرب بكثافة، وسكنوا جنوبها الأقل خصوبة!!

أما فيما لو كانت تلك المناطق مسكونة من قِبل العرب، وباتت ذات أغلبية سُكانية كُردية بعد زمن الهجرات، فكيف لمنطق التاريخ أن يُصدّق ذلك، أن يُصدّق أنه كان لجماعة من المُهجّرين أن يغيروا كُلياً من الطبيعة السُكانية لمناطق واسعة ومُمتدة ومسكونة من قِبل جماعة تُشكل الأغلبية السُكانية للبِلاد، وتشغل المكانة المركزية في سُلطة ومؤسسات الدولة، وفي أقل من عشرات السنوات. أين ذهب أولئك العرب الذين كانوا يسكنون تلك المناطق من قبل؟ وما هي الآليات السياسية والعُنفية التي استخدمها الكُرد السوريون في سبيل ذلك؟ كيف جرى كُل ذلك خلال عشر سنوات؟ حينما حذر تقرير وزير المعارف السوري، محمد كُرد علي، من الطبيعة الكُردية للمناطق الشمالية عقب زيارته لمنطقة الجزيرة عام 1933. يناقضُ كُل ذلك المنطقَ الطبيعي لما كانت عليه الأمور آنذاك.

الطبيعي أن الكيان السوري لم يتأسس على مناطق ذات أغلبية سُكانية عربية فقط، لأنه لم يتأسس على الأراضي التاريخية في ولايتي دمشق وحلب فحسب، بل على أجزاء من تلك الولايتين بالأساس، وعلى قطعٍ من ولايات أخرى. ومن المُهم المُلاحظة هُنا أنه حتى ولايتي حلب ودمشق لم تكونا ولايتين عربيتين بالمعنى القومي، أو لم تكونا كذلك بالضبط، خصوصاً حلب، التي كانت إيالاتها الشمالية غير عربية تماماً، أورفا وعنتاب وكلس وأنطاكيا، بل كانت مزيجاً من الكُرد والأتراك والسريان والتُركمان والأرمن في أغلبيتها.

كانت المناطق التي يُشكل فيها الكُرد أغلبية سُكانية جزءً تقليدياً من ثلاث ولايات عُثمانية، منطقة الجزيرة وكانت جزءً من ولاية ماردينفي العُرف الكلامي لكُرد الجزيرة السورية، تُسمى سهوب المنطقة عادةً «Bêrya Mêrdînê»، أي «برية ماردين».؛ منطقة كوباني/عين العرب ومُحيطها، وكانت جزءً من ولاية ديار بكر؛ ومناطق عفرين التي كانت جزءً من ولاية حلب، وبالذات من إيالة كلس، التي كانت بأغلبيتها المُطلقة غير عربية. بهذا المعنى فإن سوريا الحديثة ضمت أراضٍ من مناطق وولايات لم يكُن العرب يشكلون فيها سوى أقلية قليلة، ولم يقم الكيان السوري بكامله على مناطق «عربية» أو مناطق ذات أغلبية سُكانية عربية، بل ضمَّ مناطق من خارج ولايتي حلب ودمشق التاريخيتين، اللتين كانتا على امتداد الزمن العُثماني ذات أغلبيتين سُكانيتين عربيتين.

سيشكل مزيدٌ من الوعي بما كانت عليه أحوال الولايات العُثمانية في عشرات سنواتها الأخيرة، أداةً لوعي التركيب الذي قامت عليه كياناتنا اللاحقة، التي تأسست على أنقاضها. فمن المُهم للوعي القومي العربي أن يُدرك بأن مناطق «كردستان» التاريخية التي كانت ضمن الامبراطورية العُثمانية، إنما كانت تعيش شكلاً من الفيدراليات الوراثية، بأعلى درجات الحُكم الذاتي، وكانت تُسمى الإمارات الكُردية العُثمانية. كانت أشبه بحُكم عائلة محمد علي باشا لمصر، ولم تكن تُطابق أشكال الحُكم العثمانية للولايات العربية (عدا مصر)، بل كانت بالغة المركزية في مسألة حُكمها من قِبل الباب العالي في اسطنبول، وكانت محكومة على الدوام قِبل غير السُكان المحليين.

من هُنا بالضبط يمكن إدراك ردة الفعل الكُردية على تحطيم الامبراطورية العُثمانية وتأسيس الدول الجديدة، فعشرات الانتفاضات الكُردية التي جرت بين عامي 1917-1940 لم تكن رفضاً للاستعمار البريطاني والتُركي والفرنسي فحسب، بل كانت بشكلٍ عميق ردّة فعلِ جمعية على إلغاء المكانة «المُميزة» التي كانت للعُنصر الكُردي في الدولة العُثمانية، وتحوله إلى جماعات غير مُعترف بها في الدول الحديثة. كان الرفض الكُردي للاعتراف بالدولة العراقية الحديثة أكبر دلالة على ذلك الفِصام فيما بين الكُرد والدول الحديثة، وليس كما حاولت المُخيلة الوطنية المُصطنعة فيما بعد أن ترسمه، موحيةً أنها كانت انتفاضات محلية ضد القوى الاستعمارية. لم يدخل الكُرد في حكومة عبد الرحمن الكيلاني التي سبقت العهد الملكي في العراق، ولم يحضروا تتويج الملك فيصل ملكاً على العراق. ورفضَ كُرد ولاية الموصل المشاركة في استفتاء أواخر عام 1918، وكانوا يُشكلون الغالبية المُطلقة لأربع إيالات موصلية من أصل خمسة، وأصروا على رفض الاندماج في الدولة العراقية الحديثة. ومثل ذلك كانت الثورات الكُردية العديدة في العراق خلال تلك السنوات، من ثورتي الشيخ محمود الحفيد /1919-1921/ في السُليمانية، اللتين أعلنتا السُليمانية مركزاً للإمارة الكُردية الرافضة للكيان العراقي، وتعاضدت بريطانيا والمؤسسات العراقية الجنينة على تحطيمها، إلى ثورات الشيخ عبد السلام برزاني، وباقي الانتفاضات الكُردية حتى عام 1991.

حدثَ في الحيّز السوري شيء من ذلك «الرفض الكُردي» بشكلٍ جنيني فقط، لأسباب تتعلق بنسبية الديموغرافية الكُردية في سوريا مُقارنة لما هي عليه في العراق، وبمركزية الفعل السياسي السوري في دمشق وحلب وهامشية باقي المناطق السورية، وأخيراً لأن الأغلبية المُطلقة من الأكراد السوريين لم تؤمن وتُسلّم بسوريا بيُسرٍ بالغ كما كثيرٍ من باقي السوريين، وبقيت تعتبر نفسها جزءً من الحياة الداخلية والسياسية والاقتصادية للولايات التي اقتطعت عنها، وتعتبرُ أن مصيرها مُرتبط بكيانات تلك الولايات. لكن بالرُغم من كُل ذلك، كانت أحداث عام 1936 في الجزيرة السورية أثناء مُفاوضات الوفد السوري مع الحكومة الفرنسية، عندما انقسم الكُرد بشكل واضح بين تيارٍ صغير يوالي المُفاوضين السوريين، وآخر أقوى بكثير يسعى إلى طيفٍ من الخيارات يتراوح بين طلب الحُكم الذاتي، وطلب الاستقلال بقيادة حاجو آغا الهفيركي، الذي تحالف معه كثيرٌ من زُعماء أقليات منطقة الجزيرة، وشاركوه مشاعر رفض الكيان السوري بشكله الذي أُرسيَ عليه فيما بعد. ويذهب الأستاذ محمد جمال باروت في كِتابه التأريخي عن الجزيرة السورية إلى أن تلك الأحداث في الجزيرة السورية كانت فقط ألاعيب من قِبل الاستخبارات الفرنسية للضغط على الوفد السوري المُفاوض، دون أن يرى فيها أي بُعدٍ يتعلق برفض أبناء الجماعات غير العربية للكيان السورية بشكله الراهن. وليس هذا التعليل سوى جزءٍ تقليديٍ من القراءات التسخيفية للنزعات المُعترضة على السردية الوطنية الاصطناعية، التي ترى أن سوريا بشكلها الراهن أيضاً قد تكونت بكثيرٍ من أشكال الإجبار التي طالت الرافضين له، الذين كانوا يسعون إلى أن تكون مناطقهم جزءً من كيانات أخرى، أو كيانات مُستقلة عن الكيان السوري.

مُقابلَ كُل ذلك، فإن ما تقدم لا يعني أن هذه المناطق التي يُشكل فيها الكُرد أغلبية سُكانية مُطلقة راهناً، كانت على الدوام كذلك، وأنها الجزء الطبيعي والتقليدي لكيان كُردستان الذي تُطالب به النزعة القومية الكُردية. بل من الطبيعي أن تلك المناطق مثل كُل المناطق العُثمانية، فيها خليط سُكاني كُردي وعربي وسرياني وأرمني وشركسي وتُركماني، وإن كان بأغلبية سُكانية كُردية في السنوات التي سبقت وتَلَت تشكل الكيان السوري على تلك البِقاع. لا يعني ما أقوله بأي حالٍ أنها كانت مناطق كُردية أو بأغلبية كُردية على الدوام، كما لم تكن باقي المناطق عربية أو سريانية أو تُركمانية على الدوام، إنما خضعت جميع تلك الجغرافيات بشكلٍ دائمٍ وحيوي للتحولات الديموغرافية غير القصدية، أي تحولات ديموغرافية ناتجة ولاحقة للمُجريات السياسية والاقتصادية والمناخية التي كانت تجري حولها.

إن رفع القداسة عن أي بُقعة جغرافيّة سيفسح المجال واسعاً ليتداول السوريون بشأن نِظامٍ سياسي رُبما يستقر على أن تكون لبعض المناطق السورية صُبغة وهوية سياسية كُردية ما، حيث يُشكل الكُرد فيها أغلبية سُكانية واضحة؛ لكن رفع القداسة عن الجغرافيا نفسه يجب أن يؤدي مُباشرة إلى أن لا يتمسك الكُرد بدورهم بأية مُخيلة تعتبر هذه المناطق جُغرافيتهم المُقدسة، التي لا يُمكن لأحدٍ أن يُشاركهم فيها سياسياً ورمزياً، سواءً من العرب أو من أبناء باقي المكونات المؤسسة للكيان السوري، وبالذات شماله، كالسريان والتُركمان والأرمن.

*****

فوق كُل هذا، هل يعني ذلك بالضبط أنه لم يكن من هجرات كُردية من شمال الكيان السوري نحو داخله؟ الحقيقة أن كُل الدلائل تُشير إلى أن ذلك حدث بالفعل؛ لكن بالفعل أيضاً لم يكن ذلك كما يجري الترويج لها في السردية القومية العربية لتاريخ سوريا المُعاصر، والتي على أساسها يتم البخس من طبيعة الوجود الكُردي في البلاد، وبالتالي من الحقوق الديمقراطية الكُردية.

لم تكن تلك الهجرات سياسية، أي أنها لم تكن تستبطن أية رغائب بتغيير الوضع الديموغرافي في الشمال السوري قط، ليس فقط لأنه لم يكن من مؤسسة سياسية كُردية توجه ذلك، ولأن كُل الحالات حدثت بقرارات بالغة الشخصية، بل جوهرياً لأنها كانت تتم ضمن الحيز الجغرافي للتنقل الطبيعي نفسه لأكثر من خمسة قرون. أي أن تلك الهجرات في العالم النفسي والخيال الجغرافي لم تكن تجري من كيان إلى آخر، ففي كثيرٍ من الحالات جرى أن الأخوة وأولاد العمومة قرروا النزوح جنوباً للعيش المتواصل مع باقي أفراد العائلة أو العشيرة الذين أحدث الخط الجديد شرخاً في منطقة عيشهم الواحدة، التي كانت موحدة لأكثر من خمسة قرونٍ متتالية. فمجموع هذه الأراضي بقيت أراضٍ عُثمانية في عُرف وسلوكيات السُكان المحليين، حتى بعد سنوات وعقود كثيرة مما جرى صكه في مؤتمرات الصُلح والمُعاهدات.

ما يُعزز ذلك هو طبيعة خطوط الفصل بين الكيان السوري ونظيره التُركي، التي لم تُكرَّس بشكلها الحالي إلا بعد قُرابة عقدين من تأسيس الكيان السوري عام 1918، والتي يدعي الخِطاب القومي العربي بأنها السنوات التي جرت فيها حالات النزوح الشديدة. فمُنذ هُدنة مودروس الشهيرة في نهاية عام 1918، التي اعُتبرت بمثابة اللحظة التي استسلمت فيها الامبراطورية العُثمانية، وباتت فيها خطوط التماس بينها وبين القوى العُظمى أساساً لما سوف يُرسَم من حدودٍ للكيانات الجديدة، ومن ثُم مؤتمر باريس للصُلح عام 1919، ومروراً بمؤتمر سان ريمو واتفاقية سيفر عام 1920، واتفاقية أنقرة التُركية-الفرنسية عام 1921، ومن ثُم اتفاقية لوزان عام 1923، وحتى التوافق الفرنسي التُركي على استفتاء لواء الإسكندرونة عام 1939. طوال هذه «المُماحكات» والمداولات الكُبرى، كانت الحدود بين الكيان السوري ونظيره التُركي الحديث محل تغير شامل. إذ كان ثمة مناطق هاجر إليها الأكراد على أنها انسلخت عن تُركيا، لكن عاد الفرنسيون والأتراك واعتبروها جزءً من الدولة التركية، وكان هناك، بالمقابل، مناطق من المُفترض أنها جزء من الدولة التُركية الحديثة، لكن الفرنسيين ألحقوها بالكيان السوري في السنوات اللاحقة، كما في منطقة ديريك/المالكية ومُحيطها، التي كانت تُسمى «منقار البطة».

الأمر المُهم هُنا هو التركيز على أن تلك الهجرات لم تُغير من الطبيعة الديموغرافية للمناطق ذات الأغلبية الكُردية في شمال البِلاد، لأنها كانت هجرة نسبية، فالوجود الكُردي المُستقر كان سابقاً لتلك الهجرات بفترات طويلة، ولم يكُن بناء الكُرد والسريان والأرمن مُدناً حديثة بعد تشكل الكيان السوري، مثل القامشلي والدرباسية وكوباني/عين العرب، نتيجةَ أنهم هاجروا من شمال خط الفصل إلى جنوبه، بل لأن سُكان تلك المناطق انقطعت صلتهم بالمُدن التاريخية التي كانوا يتداولون معها طوال قرون، مثل ماردين وأورفا وجزيرة بوطان/ابن عُمر، لذا سعوا إلى بناء هذه البلدات الجديدة، لتلبي حاجاتهم وديناميكيتاهم الاقتصادية.

ما يزيد من تلك النسبية هو كونها لم تكن خاصة بالأكراد وحدهم، بل إلى جانب الأكراد كان العرب والسريان والأرمن، الذين انزاحوا للظروف نفسها التي أدت بالعديد من الكُرد إلى الانزياح. فالوجود العربي في أقصى شمال الخط الفاصل مثلاً لا ينحصر بالقبائل العربية التي قدمت من المناطق الجنوبية واستقرت فيما بعد في هذه المناطق، بل الوجود الأكثر قدماً للعرب في الجزيرة السورية مُتأتٍ من آلاف العوائل المردلية والمحلميةأسماءٌ لبعض «الجماعات الأهلية» العربية التي كانت تسكن مدينة ماردين ومُحيطها، ونزحت إلى الأراضي السورية بعد رسم الخط الفاصل بين البلدين لأسباب سياسية وعائلية واجتماعية. العربية التي نزحت من تُركيا الراهنة نحو سوريا، بالترافق مع النزوح الكُردي، وشكلت مكوناً أساسياً لكُل المُدن والبلدات التي تأسست فيما بعد على طول الخط الفاصل. الأمر نفسه ينطبق على السريان والأرمن والآشوريين والتُركمان السوريين.

وبالمُحصلة فإن نسبة النزوح الكُردي وازت نسبة نزوح باقي الجماعات، وبالتالي لم تُحدث تغييراً ديموغرافياً كما هو مُتخيل، أو كما في تقرير وزير المعارف السوري «القومجي» محمد كُرد علي في ثلاثينيات القرن المنصرم، ووثيقة الضابط الفاشي محمد طلب هلال في الستينات، التي شكلت، في أكثر من بُعد، الخلفية النظرية والخِطابية لما رُسم من خِطابٍ حول الوجود الكُردي في سوريا.

أخيراً، لم يكن الكُرد وحدهم من نزحوا نحو الجزيرة العُليا مع الربع الثاني من القرن المنصرم، بل كذلك القبائل العربية التي أتت من الجنوب، وكثيرٌ منها من خارج الحدود السورية الراهنة، وكذلك الآشوريون الذين تم تسكينهم في منطقة تل تمر عقب مجزرة بكر صدقي الشهيرة بحقهم في العراق عام 1936. لذلك فإن نقاش مسألة الهجرة الكُردية دون كُل تلك المُحددات والتفاصيل، يدخل بشكلٍ موضوعي في خدمة خيار سياسي بعينه.

*****

مرةً أخرى، إن كاتب هذه السطور ليس من الذين يفضلون مُناقشة تاريخ الجماعات الأهلية في أي كيانٍ بغير أغراض المعرفة التاريخية والأنثروبولوجية، ودوماً خارج حقل السياسة والخطابات التي تتحدث عن جماعة أصلية ما وأخرى أقل أصالة، والتي تدفع دوماً إلى تعزيز القيم القومية والمذهبية والدينية اليمينية، المُناهضة بجوهرها للرغبة ببناء كيان سوري ديمقراطي وعادل، يستمد شرعيته من العيش المُشترك والمُساواة التي يوفرها لجميع ساكنيه.

لم تكن المُحاججات السابقة بغرض العمل على إثبات الوجود الكُردي في سوريا، وهو مُثبتٌ بالواقع والعيش وليس بالوثائق والتاريخ والمرويات، لكن فقط لدحض أشكالٍ من الخِطابات التي تنموا في أماكن متفرقة، والتي تسعى لأن تُعيد من جديد تأسيس سوريا على جماعة مركزية ما، وعدم منح باقي السوريين الجدارة نفسها بالحضور والمُشاركة في الهوية السورية، وهو شيء يبخس من تضحيات السوريين في سبيل كيانٍ أكثر عدلاً، قبل كُل شيء.

*****

المراجع:

– سليم مطر، «جدل الهويات: عرب، أكراد، تركمان، سريان»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003.

– محمد جمال باروت، «التكوّن التاريخي الحديث للجزير السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة إلى العمران النظري»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013.

– م.س.لازاريف، «الإمبريالية والمسألة الكُردية (1917-1923)»، ترجمة عبدي حاجي، دار موكرياني، 2012.

– مجموعة نصوص معاهدات واتفاقيات سيفر ولوزان وأنقرة وسان ريمو.

– Jordi Tejel, «Syria’s Kurds: History, Politics and Society», 2009.

– Michael M. Gunter, «Out of Nowhere: The Kurds of Syria in Peace and War», Michael Center, 2014.