خرجت محافظة الرقة عن سيطرة النظام السوري في 4 آذار/مارس 2013، ليتعاقب على حكمها أكثر من سلطة. كانت البداية مع مجموعة كتائب تتبع الجيش السوري الحر وكتائب إسلامية. لاحقاً، منذ بداية كانون الثاني/يناير 2014 غدت تحت سلطة تنظيم الدولة الإسلامية، ثم منذ حزيران 2015 أصبح شمالها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، وبقي تنظيم الدولة الإسلامية مسيطراً على بقية أراضيها.

تعطلَ التعليم بشكل جزئي في بداية هذه المرحلة، ليصاب بالشلل نهائياً لأكثر من عام ونصف، ثم يعود جزئياً بعد ذلك. أدى هذا الوضع الكارثي إلى حرمان التلاميذ والطلاب من الانتظام في العملية التعليمية طيلة أكثر من ثلاثة أعوام، وإلى تدمير المدارس والبنى التحتية للنظام التعليمي، وهو الأمر المرشح للاستمرار خلال الفترة القادمة بتبعاته السياسية والاجتماعية على السكان، ما لم يتم تداركه سريعاً.

تعدُّ محافظة الرقة من المحافظات الفتية، والتي تتميز بالزيادة السكانية المرتفعة؛ ومردُّ ذلك إلى الزواج المبكر، وتعدد الزوجات، وكثرة المواليد. كما تتميز بارتفاع نسب التعليم خاصةً بين الإناث، اذ فاقت نسبةُ الإناث نسبةَ الذكور في المعاهد والكليات على حد سواء في الفترة السابقة لقيام الثورة. وقد عانت المحافظة من تدهور الزراعة، وانخفاض مردودها، إضافة إلى مواسم القحط المتعاقبة، الأمر الذي شكل حالة من الطلب المتزايد على الوظائف.

بعد خروج المحافظة عن سيطرة النظام، حاولت مجموعة من المعلمين إيجاد هيئة بديلة هي رابطة المعلمين الأحرار، وكانت تتبع الحكومة السورية المؤقتة في البداية. ورغم ذلك، بقيت كل الدوائر التي تتبع مديرية التربية تزاول عملها. كان لهذا التشتت بين الرابطة، التي كانت مستقلة ثم أُسندت إدارتها لحركة أحرار الشام، وبين مديرية التربية، أثره الواضح على قطاع التعليم. إذ رفضت وزارة تربية النظام السوري إقامة الامتحانات في المحافظة، على الرغم من توافر إمكانية إقامتها، مما دفع رابطة المعلمين للقيام بمبادرة ذاتية لإقامة امتحانات الشهادة الإعدادية، وتم الاعتراف بها لاحقاً من قبل الائتلاف.

أما الامتحانات الثانوية فقد تمت بإشراف اللجنة العليا للامتحانات التي شكلها الائتلاف الوطني، وقد أقامت عشرة مراكز امتحانية في خمس مدارس لأقسام العلمي، والأدبي، والشرعي، للذكور والإناث؛ تم تسجيل 1022 طالب وطالبة تقدم للامتحان قرابة نصفهم، وتم الاعتراف بهذه الشهادة من قبل الدولة التركية، وتم إيفاد الطالب المتفوق الأول في المحافظة إلى فرنسا.

أما القسم الأكبر من الطلاب فقد تقدموا إلى تلك الامتحانات في محافظات أخرى، دير الزور والحسكة.

وبالنسبة للمعلمين، فقد تم إيقاف رواتب جزء منهم، وفُصل آخرين لأسباب أمنية، كما تم تأخير الرواتب، لكنها سُلِّمت إما بشكل مباشر أو عن طريق معتمدي الرواتب «المحاسبين». وقد تعرض القطاع التعليمي في محافظة الرقة لتخريب كبير في بداية تحرير المحافظة في عام 2013 لأسباب عديدة منها:

– استهداف المرافق التعليمية من قبل طيران النظام بشكل شبه يومي، وتمَّ قصف مبنى مديرية التربية بعد حوالي أسبوع على خروج المحافظة عن سيطرة النظام.

– اتخذت معظم التشكيلات العسكرية بعض المدارس مقراتٍ لها، كما تم الاستيلاء على بعض دوائر التربية، بالإضافة إلى أثاث بعض المدارس، وقد قامت إحدى الكتائب بالاستيلاء على مستودع التربية الرئيس في ملحق الرشيد «دار السلام».

– تعطلُ المرافق وتخريبها، وعلى وجه الخصوص تكسير المقاعد للتدفئة بخشبها من قبل النازحين، الذين سكنوا في بعض المدارس.

سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية

بسط تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته التامة على محافظة الرقة في بداية كانون الثاني/يناير 2014، وأصبح سلطة سياسية، وعسكرية، وإدارية وحيدة؛ تدير كافة المرافق الرئيسية للمحافظة. اتخذ التنظيم عدداً من المدارس مقاراً له، وأصبحت بعضها مراكز لإيواء النازحين من باقي المحافظات.

تتسم فترة سيطرة التنظيم على المحافظة بحالة من التخبط في التعامل مع الشأن التعليمي، ابتداءً من سماح التنظيم مع الفصل الدراسي الثاني من عام 2013-2014 بمتابعة التدريس بالمنهاج السوري، مع إلغاء بعض المواد، إلى إيقاف عمل المدارس في بداية الفصل الدراسي الأول للعام الدراسي 2014-2015 دون إبداء أي أسباب، الأمر الذي يشير إلى عدم توافر أي تصور أو رؤية تعليمية ضمن مشروع التنظيم آنذاك، وهو ما فسّره بعض أبناء المدينة بوصفه يعكس حالة من عدم الاهتمام والإهمال المقصود للعملية التعليمية.

أصدر التنظيم لاحقاً فتوى/قراراً بخصوص المنهاج و«حرمة» تداوله، والفتوى متضمنة في كتيب صغير موجود قيد التداول يحمل اسم «رسالة توضيحية في بيان حكم المنظومة التعليمية في الحكومة النصيرية». كما أنشأ لجنة للمناهج بغرض صياغة مناهج جديدة، برئاسة أمير التعليم (أعلى منصب في التنظيم في شؤون التعليم) «ذو القرنين»، وهو مصري الجنسية يقال إنه يحمل شهادة دكتوراه، ورغم ذلك لم تنجز اللجنة أي شيء يُذكر.

بعدها أخذ التنظيم بالتضييق على المدرسين والمعلمين، كي يدفعهم للخضوع إلى دورة شرعية إجبارية لمدة أسبوع أقيمت في مبنى كلية التربية وأحد الجوامع القريبة منه للذكور، وفي المركز الثقافي القديم للإناث. ولم يقف التنظيم عند هذا الحد، بل أتبعها بدورات «استتابة عن تدريس المنهاج النصيري»، أقامها في عدد من الجوامع. وبعد صدور فتوى تحرم المنهاج العام، أصدر التنظيم لاحقاً فتوى أخرى بحرمة العمل لدى وزارة التربية، الأمر الذي ترتب عليه حرمان جميع المعلمين والمعلمات من رواتبهم ومصدر رزقهم، ما اضطرهم للخروج إلى المحافظات السورية الأخرى أو إلى تركيا.

وكان دمار كثير من المدارس ومؤسسات التربية من أشد الأضرار التي تعرض لها قطاع التعليم، بالإضافة إلى قرار منع التعليم في المدارس، وإغلاق المعاهد الخاصة، ومنع المعلمين من إعطاء الدروس الخصوصية؛ هذا المنع بدأ يحدث بالتدريج، كسياسة مخططة عملَ عليها التنظيم، من خلال اتخاذ قرارات بدأت بفصل الذكور عن الإناث، ثم منع الإناث من التعليم بعدها، وأخيراً منع التعليم نهائياً، وإجبار المدرسين على التوقيع على «وثيقة استتابة». وبموجب هذا المنع فإن أي مخالف يطبق بحقه حد القتل، وبدلاً من الجهاز التربوي الموجود في المدينة، قام التنظيم بتجهيز قرابة ست مدارس مع مدرسيها ممن ينتسبون له، رغم أن بعضهم بلا أي خبرة تدريسية أو إدارية سابقة، وذلك في محاولة تجريبية لإنشاء نواة للتعليم.

تم العمل على موضوع التأهيل بإشراف كلٍ من أمير التعليم والدكتورة منى غانم، سعودية الجنسية، أستاذة الفقه في جامعة جدة سابقاً، والتي كانت تمارس عملها في مدرسة الزهراء في حي الثكنة. وقد بدا جلياً أن تجربة التعليم قد فشلت فشلاً ذريعاً، تجلى في عزوف الأهالي عن إرسال أولادهم إلى المدارس، نتيجة فقدان الثقة بأي منها، وقناعتهم بأنه لا فائدة ترجى من إرسال أولادهم إليها، وبأن المناهج التي اعتمدها التنظيم لا تهدف بالأساس سوى الى تجنيد الأولاد في صفوفه.

وفي بداية الفصل الدراسي الأول 2016-2017، أطلق التنظيم تجربة تعليمية جديدة، بدأ الترويج لها على مواقعه، حيث قام بافتتاح عدد من المراكز التعليمية في بعض المنازل الخاضعة لسيطرته تشمل المرحلة الابتدائية، الصفوف من الأول الى الخامس، يتم فيها تدريس مواد الرياضيات، الكيمياء، اللغة العربية، التاريخ، الجغرافية، الآداب الشرعية، الحديث النبوي، إضافة لسماح التنظيم بافتتاح خمس مدارس خاصة للأعمار بين 7 سنوات و12 سنة، تدرس العلوم، الرياضيات، اللغة العربية، القرآن الكريم، الفقه والعقيدة، بأقساط شهرية تقدر بـ 3500  ل.س شهرياً.

الوضع الراهن للتعليم في الرقة

في بداية الثورة، كان عدد المعلمين الوكلاء (الموظفين بصفة مؤقتة) قرابة 4400 وكيل ووكيلة، وقد انخفض إلى 1700 في عام 2014. أما المعلمون والمعلمات، والمدرسون والمدرسات العاملون تحت تصرف مديرية تربية الرقة من باقي المحافظات، فكان يبلغ عددهم 2160 حتى عام 2014 ـ كما أن هنالك 570 معلماً من محافظة الرقة تم وضعهم تحت تصرف مديريات التربية في طرطوس واللاذقية وحماة ودمشق وحلب عام 2013، وقد ارتفع هذا العدد الأخير إلى 1200 معلم/ة ومدرس/ة في بداية عام 2015، أغلبهم في مديريتي اللاذقية وحماة.

يقدّر عدد المدارس التي خرجت عن الخدمة نهائياً باثنتي عشرة مدرسة في المدينة، ومن أمثلتها الثانوية التجارية، التي تم استهدافها بصواريخ الطائرات ما أدى لاستشهاد خمسة عشر طالباً، وحوالي الثلاثين بين معاق أو فاقد لأحد أطرافه، وانهيار نصف الجدران، وكان أثرُ ثقوب رشاش الطائرة التي على الجدران كبيراً. كما أنه بقي حوالي أربعين مدرسة بنصف تجهيزاتها فقط، وكثير من المدارس في الريف باتت خارجة عن الخدمة.

تم تدمير المدارس التالية بغارات جوية نفذها التحالف والنظام السوري: الثانوية التجارية، ثانوية عمار بن ياسر، مدرسة حطين، مدرسة منير حبيب، مدرسة الأمين، مدرسة المأمون، ومدرسة معاوية. وبعض المدارس انتقل إليها اللاجئون واستقروا فيها للتخلص من دفع الإيجار، منها: أبو العلاء المعري، ثانوية حميدة الطاهر، مدرسة سلطان باشا، ومدرسة عمر بن عبد العزيز.

فتحت غالبية مدارس الريف أمام اللاجئين، وعند سيطرة مقاتلي داعش تم إفراغ معظمها، وتركُ أربعٍ للاجئين فقط. تم تحويل عددٍ من المدارس إلى دواوين تابعة لمكاتب للتنظيم، منها مدرسة الفنون التي تحولت إلى ديوان التعليم، ومدرسة بلقيس إلى ديوان الزكاة، ومدرسة الحسن بن الهيثم إلى ديوان العقارات، ومدرسة هواري إلى خدمات الإطفاء. وتفاوتت نسبة الدمار في الأبنية التعلمية بين الدمار الجزئي، مثل مدرستي الغافقي وخديجة، والتدمير الكامل، مثل ثانويات بلقيس، عمار بن ياسر، سكينة، الثانوية التجارية، ومنير حبيب.

تعكس شهادات من التقيناهم من الأهالي داخل المدينة حالة من التذمر والشكوى والإحباط من الوضع التعليمي فيها، فيقول محمد ي. (47 عاماً)، وهو أب لأربعة تلاميذ اضطر إلى الخروج من المدينة مؤخراً: «لم يلتحق أولادي منذ ثلاث سنوات بصفوفهم، وأنا مطلوب لدى النظام بعد أن خسرت وظيفتي، فما كان مني إلا أن خرجتُ إلى تركيا، وأرسلتُ أولادي إلى محافظة أخرى لإكمال تعليمهم. وها أنت ترى، أقيم في مكان وعائلتي في مكان آخر، فقط لكي يكملوا تعليمهم، وأصبح من الصعب على أنّ أرسل وراءهم ليأتوا إلى تركيا، حتى وإن وجدت عملاً يعيلنا».

كما يخبرنا عدد من المعلمين والإداريين، عن حالة الخوف والقلق اليومية التي يعيشها العاملون داخل النظام التعليمي في الرقة، سواء بسبب إجراءات تنظيم الدولة، أو بسبب عمليات إيقاف الرواتب والفصل من قبل النظام بناءً على تقارير أمنية، والخوف من عقاب التنظيم في حال استلام الرواتب حتى لو لم يتم إيقافها.

عزفَ كل المعلمين تقريباً عن الالتحاق بالمدارس في بداية سيطرة التنظيم على الرقة، ويقول المعلم عبد الله ع.، وهو مدير لإحدى المدارس في شهادته: «في بداية تحرير المحافظة تابعنا الدوام بغالب الكادر التدريسي السابق، واستعضنا عن ثلاثة معلمين بآخرين متطوعين من القرية نفسها، بعد أن عادت إحدى المعلمات إلى حمص، وتركَ اثنان العمل، وبقينا حتى الفصل الثاني من 2014».

وحول المواد التي منعها التنظيم، يقول الأستاذ عبد الله: «تم منع مواد القومية والفنون والموسيقا ومادة الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية، أما بقية المواد فقد بقيت تدرس في مدرستنا وبقية المدارس»، وأضاف في إجابته على سؤال عن ترك المعلمين للتدريس: «لم نعد نستطيع أن نلتحق بالدوام في المدارس خوفاً من أن يتم فصلنا، وخوفاً من مناهج أشيع أنّ التنظيم سيصدرها ويجبرنا على تدريسها، وأصلاً لم يعد يرسل الأهالي أولادهم إلى المدارس. حتى أنّ كل المعلمين خضعوا لدورة شرعية مدتها 15 يوماً، وبعدها بعدة أشهر فرضت علينا دورة استتابة».

أما «فاطمة» وهي مدرسة لغة عربية منذ 2004، فتقول في شهادتها: «في بداية دخول الجيش الحر في شهر آذار2013 خلت المدينة قرابة الأسبوعين، فمصير المدينة كان مجهولاً. بعدها عاد قسم لا بأس به من المعلمين والطلاب إلى المدارس، وبقينا حتى نهاية الفصل، وقدم التلاميذ والطلاب امتحاناتهم، ما عدا طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية، فقد ذهبوا إلى بقية المحافظات، إلا أنّ رابطة المعلمين الأحرار أقامت امتحانات للإعدادية والثانوية، تقدم لها عدد محدود من الطلاب، ومن نجح منهم حصل على شهادة الائتلاف. السبب الرئيسي لمنع قيام امتحانات في الرقة هو رفض وزارة التربية، ومدير تربية الرقة عبد الإله الهادي، بعد أنّ تعهد له كلٌ من مدير التعليم الأساسي، والثانوي ومدير الامتحانات بضمان سير عملية امتحانيه طبيعية. أمّا بعد سيطرة داعش، فقد تم إغلاق المدارس، وجلسنا في بيوتنا، لم نعد نستطيع أنّ نذهب لقبض رواتبنا، ولم يعد يسمح حتى لمعتمدي الرواتب أن يُحضروا لنا رواتبنا».

وحول أوضاع طلاب الكليات والجامعات يقدم الأستاذ «حسين» شهادته، وهو معيد في إحدى الكليات في محافظة الرقة منذ 2009: «لقد تضرر الطلاب وخصوصاً من هم في سنوات التخرج، إذ استولى التنظيم على دفاتر الامتحانات، ما أدى إلى ضياع علامات الطلاب بين الرقة والحسكة، ولا أحد أعطى اعتباراً لمئات الطلاب الذكور الذين لم يتم تأجيلهم عن الخدمة الإلزامية مما أدى لحرمانهم من التوجه إلى محافظات أخرى لتقديم الامتحانات. أما بالنسبة للإناث، ففي بداية سيطرة التنظيم لم يعد باستطاعتهن الخروج «بدون محرم»، وخصوصاً أن غالبية الشباب والرجال لا يستطيعون التوجه إلى بقية المحافظات، إلى أن تم منع جميع السكان من الخروج إلى بقية المحافظات. وأضاف المعيد أنّ الضريبة الكبرى لسيطرة داعش في إغلاق الكليات تم دفعها من قبل الطلاب والطالبات».

التعليم في ظل سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي

سيطرت وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري لحزب الإتحاد الديمقراطي، على الريف الشمالي من الرقة في يونيو/حزيران 2015، وهو الريف الأكبر في المحافظة، ويتبع له ثلاثة مجمعات تربوية (عين عيسى، تل أبيض، سلوك)، تشرف على أكثر من 400 مدرسة.

في بداية سيطرتها شنت هذه القوات عمليات تهجير واسعة شملت منطقة سلوك وقراها القريبة، وكامل الشريط الحدودي بين مدينة تل أبيض غرباً ومنطقة سلوك شرقاً، كما شملت ست قرى بين مدينة تل أبيض شرقاً وعين العرب/كوباني غرباً، وبالتالي حرمان كامل الطلاب والمعلمين في تلك القرى المهجرة من مدارسهم بعد فقدانهم لبيوتهم وقراهم. وبدأت خطة لتكريد المناهج في المناطق الخاضعة لسيطرة هذه المليشيات؛ ابتدأت بإقامة مركز لتعليم اللغة الكردية للمعلمين الأكراد أنفسهم داخل المجمع التربوي في تل أبيض، والتركيز على القراءة والكتابة باللغة الكردية، التي كانت سابقاً لغة مشافهة. فرضت هذه الدورات الإجبارية على بعض المعلمين الأكراد وعلى من يحملون الشهادتين الثانوية والإعدادية، لتعليمها في المرحلة التالية للطلاب، وأُبلِغَ المعلمون داخل هذا المركز أنّ هذه الدورة هي الشرط الأساس للتقدم لأي وظيفة داخل مناطق الإدارة الذاتية. وقد تم استبدال مدير المجمع التربوي بإحدى كوادر الحزب؛ التي لا يتجاوز تحصيلها العلمي الشهادة الثانوية.

في بقية القرى ساهم التنسيق بين هذه المليشيات وبين النظام، بالسماح للمجمعات التربوية بإعادة تفعيل بعض المدارس، وتم تفعيل قسم منها بمبادرة من المجمعات التربوية والمعلمين ومن أهالي القرى، وتم جلب قسم من المناهج من دمشق عن طريق مطار القامشلي، ورغم ذلك لم تسمح وزارة التربية بإقامة امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، وسمح للطلاب بالتقدم لها في مدينتي الحسكة والقامشلي.

وقد سُمِحَ بدخول منظمة دولية مهتمة بالشأن التعليمي إلى مدينة تل أبيض، وأنجزت بعض المشاريع التربوية بالتنسيق مع مليشيات الاتحاد الديمقراطي، وحصرت المليشيات العمل مع هذه المنظمة بمدارس تل أبيض وريفها القريب، والمقدر عددها بثلاث عشرة مدرسة، بدعوى أن بقية القرى غير آمنة ولا ضمانة لحياة أفراد المنظمة فيها. وتم تقديم بعض الأثاث والتجهيزات لهذه المدارس، فيما أرسلت منظمة اليونيسيف قرابة 14000 حقيبة إلى الريف الشمالي في العام الماضي، لكنها لم تكن كافية.

لاحقا أصدرت «الإدارة الذاتية» في مدينة تل أبيض قراراً بإلغاء التدريس في المدينة وريفها القريب بمنهاج وزارة التربية، وفرض منهاج خاص بها باللغة الكردية من الصف الأول حتى الصف الثالث، وباللغتين العربية والكردية لباقي المراحل. وثلاثة مواد باللغة الكردية ومادتان باللغة العربية من الصف الأول حتى الصف السادس لبقية المدارس ضمن مجمعي عين عيسى وسلوك، والسماح بتدريس منهاج وزارة التربية من الصف السابع حتى الثالث الثانوي العلمي والأدبي. أما في مناطق غرب تل أبيض، فقد تم فرض منهاج باللغة الكردية من الصف الأول حتى الصف السادس، أي في المناطق التي تعدها قوات الاتحاد الديمقراطي جزءاً من «الإدارة الذاتية»، وترتكز هذه المناهج المفروضة على أفكار الحزب الكردي ورموزه السياسية. وبالنسبة للمناهج الكردية، استعان الحزب بالمناهج الموجودة في إقليم كردستان العراق، فيما تولت الإشراف على المناهج هيئة التربية والتعليم في «مقاطعات روج آفا».

في ظل فرض المنهاج الجديد، امتنع المعلمون والمعلمات وحتى الطلاب عن الذهاب إلى المدارس في كامل الريف الشمالي؛ احتجاجاً على فرض هذا المنهاج واللغة الكردية. ورغم التحاق ما يقارب 20 معلماً بالمدارس ممن يتقنون اللغة الكردية وكانوا قد خضعوا لدورة تعليم اللغة الكردية في العام السابق، فقد توقف التعليم في مدينة تل أبيض، ما دفع مديرية التربية في حكومة النظام السوري إلى اتخاذ عدة قرارات، منها قرارٌ بفصل كل من يُعلّم خارج مناهج النظام، وآخر بإغلاق مدارس تل أبيض وريفها القريب.

لإيجاد بديل عن المدرسين، تم استقدام بعض الوكلاء (الأكراد) وعدد قليل من الوكلاء الجدد ممن يحملون الشهادتين الثانوية والإعدادية، لتدريس المنهاج الجديد، وإلى الآن لم تؤدِ هذه الإجراءات إلى تشغيل سوى بعض المدارس في مدينة تل أبيض.

المجمع التربوي في عين عيسى

يعد أكبر مجمع في محافظة الرقة، ويتبع له حوالي 206 مدارس لمختلف المراحل (ابتدائية، إعدادية، ثانوية)، دمرَ التحالف منها مدرستين في بداية عملياته في سورية، مدرسة البوغة شرق أحيمر كبير، والصفاوية شرق ناحية الشركراك. عملت من مدارس المجمع قرابة 82 مدرسة، وكان الاستعداد جارٍ من المدراء والإداريين والمجمع التربوي على رفع العدد إلى حوالي 100 مدرسة، فيما بقيت قسم من المدارس تحت سيطرة التنظيم أو مليشيات الإتحاد الديمقراطي أو الجيش الحر كمناطق عسكرية، ومناطق اشتباك تخلو من سكانها، وتستخدم بعضها كمقرات، إضافة لعدة مدارس يقطن فيها نازحون.

يبلغ عدد المعلمين الأصلاء داخل المناطق التي تسيطر عليها مليشيات الإتحاد الديمقراطي قرابة 300 معلم ومعلمة، أما عدد المعلمين الوكلاء فيبلغ قرابة 400 معلم ومعلمة، فيما بلغت أعداد الطلاب في العام الماضي قرابة 7500 طالب وطالبة. لا تتوافر مناهج كافية للطلاب، حيث يتبع للمجمع التربوي مستودع للكتب يحوي أعداد قليلة، ولم تصل أي كتب منذ عام 2012، وبقيت جميعها تحت تصرف «الإدارة الذاتية» في تل أبيض. وفي الفصل الأول للعام الدراسي 2016-2017، وزّعَ المجمع التربوي حوالي 5 آلاف حقيبة من الحقائب المتبقية للعام الفائت والمقدمة من منظمة اليونيسيف.

بعد رفض التدريس بالمنهاج المفروض؛ تم الاتفاق مؤخراً على تسوية تقضي بتدريس منهاج وزارة التربية من الصف السابع وحتى الثالث الثانوي، مقابل تدريس المنهاج المفروض من قبل مليشيات الإتحاد الديمقراطي من الصف الأول وحتى الصف السادس، والمكون من ثلاثة مواد باللغة الكردية ومادتين باللغة العربية.

المجمع التربوي في سلوك

يتبع لمنطقة سلوك أكثر من 100 مدرسة، لكن مليشيات الاتحاد الديمقراطي هجرت أهالي المنطقة، وكثير من القرى الممتدة بين سلوك ومنطقة الزيدي. لا تتوافر إحصائيات من المجمع التربوي في منطقة سلوك عن الوضع العام للمدارس، إضافة إلى دمار عدد من المدارس نتيجة القصف والاشتباكات، فيما دمر التحالف منها مدرسة واحدة، واستخدم مقاتلو مليشيات الاتحاد الديمقراطي بعضها كمقرات عسكرية. المعلومات الشحيحة المتوافرة لدينا من أحد العاملين في مجمع سلوك، هي أنه في العام الماضي عملت قرابة 25 مدرسة للمرحلتين الابتدائية والإعدادية جنوب منطقة سلوك باتجاه مدينة الرقة، وبلغ عدد التلاميذ والطلاب في العام الماضي قرابة 2000. وفي الوقت الحالي، رفض المعلمون والتلاميذ في المدارس التابعة للمجمع التربوي في سلوك المنهاج الكردي، وكانت قد شملتها قرارات مديرية التربية بخصوص التدريس بهذا المنهاج أيضاً.

المجمع التربوي في تل أبيض

هي المدينة الأهم في المحافظة بعد الرقة المدينة، تخضع بالكامل لسيطرة قوات الاتحاد الديمقراطي، التي تعمل على تكريد منهاجها التعليمي على مراحل، لينتهي الأمر بتكريده تماماً، ضمن سياسة تكريد الشريط الحدودي للشمال السوري. عدد المدارس التي تتبع المجمع التربوي في تل أبيض حوالي 126 مدرسة لمختلف المراحل (ابتدائية، إعدادية، ثانوية)، دمّرَ التحالف منها مدرستين هما مدرسة عين العروس، ومدرسة الزراعة.

التحق قرابة 6000 تلميذ وطالب العام الدراسي السابق 2015/2016، وأقيمت امتحانات للصفوف الانتقالية فقط. تم فرض منهاج «الإدارة الذاتية» في مدينة تل أبيض وريفها القريب، ويبلغ عدد المدارس المفعّلة حالياً ثلاث عشرة مدرسة، تقتصر على بعض المعلمين ممن أخضعوا لدورة تعليم اللغة الكردية، وأعداد فقيرة من التلاميذ، وهي مدارس: زينب بنت الحسين، الصباغ، أبو عبيدة الجراح، أحمد ياسين، نسيبة المازنية، تل أكشل، تل أبيض شرقي، عين العروس الشرقية، عين العروس الجنوبية، شريعان، الحويجة، تل أخضر، واليابسة.

استفاد المجمع التربوي في تل أبيض من موقعه الجغرافي، فقد تمركزت أكثر من منظمة دولية تعنى بشؤون التعليم فيه سابقاً، وتم إقامة مشاريع تربوية استفاد منها بعض المدارس والطلاب، لكن كان أيضاً لهذا الموقع الجغرافي تبعاتٌ تمثلت بتكريد المنهاج فيه على مراحل كما قلنا.

تعاني مدينة تل أبيض من نقص في الكوادر التدريسية، وحتى من الوكلاء العاملين منذ سنوات في هذا المجال من أبناء القرى ذاتها، وذلك بسبب فرض التجنيد الإجباري والإقبال المحدود للمتقدمين كوكلاء من الإناث.

خاتمة

أدى هذا الانهيار التدريجي الذي وصل إلى حد إصابة الوضع التعليمي في المحافظة بالشلل، إلى حرمان مئات آلاف الطلاب والطالبات من متابعة دراستهم وتحصيلهم العلمي على مدى أكثر من ثلاث سنوات. ولهذا التجهيل الذي أصاب جيلاً كاملاً آثاره الاجتماعية والنفسية الكارثية على المجتمع، وسيبقى له تبعات سلبية على شخصية هؤلاء الطلاب.

لا تزال المعضلة التعليمية الراهنة في طور الاستفحال، ولا تزال البنى التحتية للتعليم مهدّمة، بينما تلوح في قادم أيام المحافظة نُذُر معارك طاحنة، يبدو أنها ستطول لفترات زمنية غير معروفة، وقد تأتي على ما تبقى من البنى التحتية التعليمية في المحافظة، في وقتٍ تقتصر فيه التجربة التعليمية الجديدة لتنظيم الدولة على عدد محدود من الطلاب، ويتوخى منها تشريب أفكاره لهم، فيما يبقى الريف الشمالي في حالة تعليمية هجينة وذات مستوى علمي متدنٍ، ومدينة تل أبيض خاضعة لحالة تعليمية قسريّة غايتها تطبيق مشروع سياسي إثني مغاير لطبيعة المنطقة.

الأرقام العامة المتعلقة بالعملية التعليمية في المحافظة مصدرها مسؤول أحد الأقسام في مديرية التربية بالرقة، والأرقام المتعلقة بمناطق سيطرة الاتحاد الديمقراطي الكردي مصدرها موظف في أحد المجمعات التربوية في الشمال.