«كلما عدنا من تركيا إلى هناك تتغير ظروفٌ وإحداثياتٌ وجنود، وربما حكوماتٌ ودولٌ أيضاً»، كان هذا ما قاله أبو ياسين، قبل أن يبدأ سرد حكايته الطويلة عن آخر رحلةٍ له من تركيا، ذهاباً وإياباً، إلى قريته الصغيرة في ريف حلب الشرقي.
الطريق إلى «أرض الخلافة»
كان الشهر الأول من عام 2016 مفصلياً في حياتي، عندما سيطرت على مخيلتي فكرةٌ واحدة، وهي أن أعود إلى قريتي، إلى بيت عائلتي كي أعمل في الأرض التي نملكها. كنتُ لاجئاً في ولاية كيليس، أعملُ في محمصة رغم أنني أحمل شهادتي الجامعية وأوراق الدراسات العليا لرسالة الماجستير التي كنت أعدّها عن مدينة إعزاز قبل لجوئي إلى تركيا عام 2013.
العودة من كيليس ستكون عبر معبر باب السلامة، هذا المعبر الذي يمثل وحده حكومةً أولى عليك أن تمرَّ بها وتخضع لقوانينها، حيث لم يعد الدخول إلى تركيا أمراً متاحاً، بل صار يحتاج لأكثر من 1000 دولار عليك دفعها لسماسرة المعبر. كذلك العودة إلى الوطن ينبغي دفعُ ثمنها، فالرجوع من المعبر يقتضي أن تلجأ أيضاً لمنشار السماسرة. دفعُ ثمن العودة إلى الوطن أمرٌ مؤذٍ جداً.
هذه المرة كان الثمن 150 ليرة تركية، أي ما يقارب 50 دولاراً دفعتُها للمهرب الذي أعطاني صكَّ المرور عبر المعبر في 13/1/2016، مع امرأة مسنة تعاني من فشل كلوي صرتُ مرافقها أو ابن أختها كما قالت لي، وعليَّ أن أجرَّ كرسيها المتحرك عبر المعبر بصفة مرافق. اكتَفَت هي بالصمت، واكتفيتُ أنا بجَرِّ الكرسي.
كان الدخول سلساً، وصلنا إلى المعبر في الساعة الثانية وقطعنا الطريق إلى الجانب السوري. وصلتُ إلى كراج سجّو الساعة الثالثة والنصف عصراً، وقدّرتُ أن المسافة التي تفصلني عن قريتي تحتاج حوالي 3 ساعات على الأكثر، فنحن لم نعد نحسب المسافات بالكيلومترات بعد أن ضاعت الطرق وتبدّلت.
لم أجد سوى سيارة واحدة إلى منبج، التي كانت وقتها خاضعة لتنظيم الدولة. كان إيجار الراكب 1500 ليرة سورية مقابل إيصالنا إلى قرية إحرص في الريف الشمالي، التي تمثل نقطة الفصل بين مناطق سيطرة الجيش الحر ومناطق تنظيم الدولة. وأخبرنا السائق أنه إن كان الطريق سالكاً سيوصلنا إلى منبج مقابل 3000 ليرة، وإن لم يكن فعلينا أن نقطع المعبر مشياً على الأقدام بعد أن يوصلنا إلى الحاجز.
على مدخل مدينة تل رفعت، في منتصف الطريق بين إعزاز وإحرص، أعادنا حاجز الجيش الحر. قال إن الطريق مغلق، ولم يكن لدينا خيارٌ سوى العودة إلى إعزاز لنبيت في فندق اقترحه سائق السرفيس.
أخذنا غرفتين أنا وأحد عشر راكباً بمبلغ 12000 ليرة. كان الفندق مكاناً لمعظم العائدين إلى مناطق تنظيم الدولة والهاربين منها أيضاً. رجلٌ أربعيني من مدينة دير الزور دخل إلى غرفتنا، وقال إنهم أربعة أشخاص بينهم امرأة مقعدة دفعوا ما يقارب 2000 دولار للهروب من جحيم المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة. لم نُلقِ بالاً لحديث الرجل، كان قرار العودة والشوق لرؤية الأهل يقفُ حائلاً بيني وبين كلامه. لاحظ الرجل ذلك فألقى كلمته الأخيرة: «ستندمون على قراركم هذا».
صباح 14/1/2016 عادَ سائق السرفيس كي ينقلنا إلى إحرص، كان الطريق هذه المرة مفتوحاً ولكن السيارات كانت تشكل طابوراً طويلاً وصل إلى ما يقارب 2 كم. تركنا السرفيس وقررنا إكمال المسافة المتبقية سيراً على الأقدام، وحين وصلنا إلى نهاية الطريق لم نجد حاجزاً، كان هناك بعض السيارات للجيش الحر في القرية التي تعاني دماراً هائلاً، إضافة إلى أن الطائرات كان تحلق في سماء القرية.
استقلّينا حافلةً بعد دخولنا إلى إحرص، وفوجئنا بالجيش الحر يطلق الرصاص في الهواء ويطلب إلينا الاختباء خوفاً من الطائرات. كان الطريق بين نهاية إحرص وبداية الحاجز الأول لتنظيم الدولة حوالي 4 كم، وكنّا نميز مناطق السيطرة من قدرة السائق على التدخين.
في القرية تفرقت معظم السيارات لتأخذ أماكن للاختباء من الطائرات، بعضها دخل بين الأبنية وبعضها دخل في الأراضي الزراعية، وعَلِقَت سيارات كثيرة نتيجة الأمطار. ضربت الطائرة في مكان قريب من القرية، شعرنا بها ولكننا لم نكن نملك الجرأة والفضول للبحث عن مكان القصف، وأخذنا قراراً مع السائق بالمرور إلى حاجز التنظيم من خلال أرض زراعية كانت أمامنا.
الطريق الذي سلكناه لا يتجاوز 2 كم، قطعناه خلال ما يقارب الساعتين لأن السيارة قد غرزت في الطين أكثر من مرة حتى وصلنا إلى الطريق الإسفلتي. هناك وجدنا مقبرة لصهاريج المازوت التي كانت الطائرات قد قصفتها قبل أيام، أكثر من 15 سيارة كانت محترقة وملقاة إلى جانب الطريق، قال السائق إن طائرات الأسد قد استهدفتها.
تنفسنا الصعداء عندما أخبرنا السائق أنه نادراً ما كانت الطائرات تضرب مناطق التنظيم، وعلى الطريق الإسفلتي رمى السائق سيجارته، وطلب منا أن نفعل الأمر نفسه، فقد اقتربنا من حاجز التنظيم. على الحاجز كان يقف عنصرٌ من أصول تركية، عرفتُ ذلك من خلال بعض الكلمات التي ألقاها وهو يتحدث إلينا. أخذ الهويات وراح يبحث في ورقة كانت معه عن أسماء المطلوبين. مرَّ الوقت سريعاً، عشرُ دقائق كانت كفيلة بانتقالي إلى دولةٍ جديدة.
كان علينا أن نسلك الطريق مروراً بقرى حساجك والسد وسوسيان لنصل إلى الباب، ثم نتجه على الطريق الرئيسي نحو منبج. في منتصف الطريق بين الباب ومنبج، في منطقة العريمة التي تبعد عن مدينة الباب 20 كم شرقاً، كنتُ قد اقتربت من قريتي صوبيران، التي كان يفصلها عن العريمة حوالي 7 كم. جمعتني الصدفة بأحد أبناء قريتي، الذي أوصلني إلى البيت قرابة الساعة الخامسة. كان الطريق قد استهلك مني ما يقارب 10 ساعات.
كان ابني الوحيد ياسين قد أكمل عامه الأول، لقد تعمدت أن آتي في هذا اليوم، لأنه لم يبقَ لنا إلا امتداد أحلام الصغار.
تسعة أشهر في صوبيران
قال لي آخر صديق ودعني على معبر باب السلامة إنه بانتظاري، لأنني سأعود. كنتُ قد وطنتُ نفسي على البقاء طويلاً، لكنني تعمدتُ الاتكاء على كلمة «إن شاء الله» كي لا أدخل جدالاً معه في اللحظات الأخيرة.
عشتُ في قريتي مع عائلتي، زوجتي وطفلي ياسين وأبي وأمي وأخواتي الخمسة وأخي الوحيد مع أبنائه الستة. ينتمي معظم سكان القرية لعشيرة الكيار، نملكُ أرضاً في القرية ولدينا بعض الأغنام، ونعيش حالة من الاكتفاء الذاتي. بيتنا بعيدٌ نسبياً عن القرية، لم تصله الكهرباء حتى عام 2009، لذلك لم يشكل انقطاع الكهرباء عبئاً كبيراً. نأكل مما تنتجه الأرض، نخبز على التنور من قمحنا، نحصل على منتجات الألبان من أغنامنا، ونزرع بعض الخضروات لحياتنا اليومية.
كان خروجي من محور البيت/الأرض قليلاً جداً، باستثناء زيارات إلى سوق الأغنام في مدينة منبج، الذي لم يختلف كثيراً مع تنظيم الدولة، حتى أنني رأيت بعض التجار والبائعين يدخنون في زوايا السوق. ما زالت الماشية تباع بـ «اليمين»، فألفاظٌ وعباراتٌ من قبيل «والله الكبش هادي وما بينطح» أو «والله هالمعزة بتحلب سطل عصرية»، وغيرها من الأَيمان الكثيرة، هي الوسيلة الأولى لترغيب الزبائن، وهي كافيةٌ لإشعارهم بالثقة. كذلك ما زال «العارفة» يحلون مشاكل سوق الأغنام ضمن قوانينهم الخاصة، والعارفة هو دلالٌ وخبيرٌ في الأغنام، يحدد أسعار الماشية مقابل عمولة تصل إلى 500 ليرة للكبش والنعجة مع وليدها، و200 للفطيمة، و300 للخاروف، ولديه سجل يكتب فيه اسم البائع والمشتري وكفالة البيع، ويثبت فيه طريقة البيع إن كانت نقداً أم ديناً ويكون كفيلاً في حالة البيع بالدين.
أصبحَ هذا السوقُ سوقَ الأغنام الأكبر في سوريا بعد إغلاق سوق النقارين في مدينة حلب وسوق الباب. وفي أواخر الشهر الخامس بدأ تنظيم الدولة يتدخل بأسعار المواشي من خلال فرض الضرائب على الشاحنات الخارجة من مناطقه إلى مناطق الجيش الحر، وحتى مناطق نظام الأسد. أثقلت هذه الضرائب كاهل التجار وبائعي الأغنام، ما أدى إلى تراجع عمليات البيع والأسعار في المنطقة. كنّا نرى قبلاً تجاراً يدعون بتجار الشام، وتجار من العراق أيضاً. لم يكن تنظيم الدولة يمنع التجارة الخارجية مع أي كان، ولكنه يفرض الضرائب على هذه البضائع.
كان الناس في القرية قبل حزيران 2016 يعيشون حالة من التعايش مع قوانين تنظيم الدولة إلى حدٍّ ما، تشوبها فقط سيارات الحسبة التي كانت تتدخل في اللباس والمزروعات والمواشي وحتى محلات الصرافة من خلال الضرائب، أو ما يسمى نظام الزكاة. قام تنظيم الدولة بإحصاء كل شيء في قرانا، كان يعرف عدد أشجارنا ومواشينا، في حين لم يكن نظام الأسد يعرف ذلك.
كنا نذهب إلى دار الزكاة في قرية الغندورة بالقرب من مدينة منبج لندفع ما يفرضونه علينا، على شكل حصصٍ من المواسم أو مبالغ نقدية بدلاً عنها، وكان الخوف يدفعنا في كثيرٍ من الأحيان إلى تقدير مواسمنا بأكبر من حجمها حتى لا نقع تحت العقوبة. ومعظم ما يأتي من موارد الزكاة كان يتم بيعه لنظام الأسد، حسب رواية سائقي سيارات الشحن التي كانت تنقل القمح والشعير والزيت إلى حماة ودمشق.
في قريتي التي كانت تقريباً شبه أمية، كانت الدورات الشرعية تمثل العقوبة الأقصى، كانت أقرب إلى الخطب الجهادية وتعاليم صعبة الفهم على أبناء القرية. الدورات كانت تطول أشهراً إن لم ينجح المرء في الامتحان النهائي أو تغيبَ لثلاثة أيام، وغالباً ما تكون في مناطق بعيدة عن القرية بحيث يهدر المرء وقتاً طويلاً في الذهاب والإياب، فضلاً عن عقوبات حفر الخنادق وتكسير شواهد القبور.
كان هناك دوراتٌ دعويةٌ أيضاً، اجتذبت الشباب بعمر ما دون 15 عاماً، ما جعل معظم القرى خالية من أبنائها نتيجة خوف الأهالي والإشاعات عن فكرة التجنيد الإجباري التي بدأت تظهر بشدة مع تقدم قوات سوريا الديمقراطية في بداية الشهر السادس من عام 2016 باتجاه مدينة منبج، وتمكنها من دحر التنظيم من مناطق كثيرة.
شكل هذا التاريخ نقلة نوعية في حياتنا، بدأنا بعدها نعاني من تنظيم الدولة، وبدأ هو يعاني منا أيضاً. صرنا نرى عناصر مقاتلة من التنظيم في قرانا بسلاحهم الكامل، بعد أن كنا نرى فقط رجال الحسبة. ثم بدأ التنظيم بحملات اعتقالات في قريتنا والقرى المجاورة، الشيخ ناصر والعريمة وغيرها.
كانت هذه الاعتقالات عشوائية، ولم تستثنِ صغار السن ولا المسنين، وكان أولها في 2 رمضان الساعة 11 ليلاً، عندما دوهمت البيوت واعتُقِلَ كثيرٌ من الشبان الذين هربَ بعضهم من سجن التنظيم لاحقاً. قال لي أحد أبناء قريتي عبر اتصالٍ هاتفي إن شخصاً يدعى «التمساح» قام بتهريبهم عند دخوله إلى السجن: «كنا حوالي مئتي شخص مسجونين في قبو لبيت كبير أشبه بالفيلا قرب مدينة الباب، وهربنا عن طريق فك شباك القبو. لم نكن نخاف من التنظيم في ذلك الوقت، فقد كانت الطائرات تحوم حولنا وأدركنا أننا سنموت، لذلك هربنا جميعاً من السجن وتوجه معظمنا إلى طرقات الهروب خارج أراضي التنظيم».
منذ ذلك الوقت أصبحت البيوت التي تحاذي مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عرضةً للإخلاء وتمركز قوات التنظيم، ومن كان يعترض كانوا يقومون بتفخيخ بيته وتدميره أمام ناظريه بحجة: «نحن نقدم أرواحنا وأبناءنا لحمايتكم وأنتم تسعون وراء المال».
بدأ معظم شباب القرية بالفرار عبر طرق التهريب في منطقة تل عار شمال تركمان بارح غرب صوران إعزاز، وكانت كلفة تهريب الشخص 50 ألف ليرة سورية. عائلاتٌ بأكملها اختفت من القرية فجأة، ثم بدأت معركة درع الفرات في آب 2016، التي حررت مدينة جرابلس واتجهت للسيطرة على القرى المجاورة متقدمةً نحو مدينة الباب. وترافقَ ذلك مع خسارة التنظيم مدينة منبج لصالح قوات سوريا الديمقراطية، وقرى مجاورة أخرى من الجهة الشرقية حيث أصبحوا في خط تماس مع العريمة وسيطروا على العوسجلي واليالاني بالقرب من قريتنا. وقد أدت هذه التطورات إلى إغلاق طريق تل عار، وصار التهريب إلى خارج مناطق التنظيم أمراً بالغ الصعوبة في ظل المعارك الدائرة.
نصبَ مقاتلو التنظيم منصة لمدفع هاون فوق بيتنا في الشهر التاسع من 2016، وبقيت ما يقارب 20 يوماً ضربوا خلالها 33 قذيفة باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. عشنا وقتها رعباً حقيقياً خوفاً من استهدافنا من قبل الطيران أو مدافع الأكراد. ولكن لم يكن المدفع ما يخيفنا فقط، بل كان حديثهم لوالدي عن وجودنا أنا وأخي الشابين، وعن أن علينا الجهاد والانضمام إلى التنظيم، هو ما أخافنا بشكل أكبر ووضعنا أمام خيار جديد.
منذ الشهر التاسع كانت فكرة الخروج من مناطق تنظيم الدولة قد بدأت تلح علينا في العائلة، أرادَ والدي أن نخرج أنا وأخي من هذا الجحيم خوفاً من الاعتقال أو التجنيد، أو في أحسن الأحوال الموت تحت أنقاض البيت. جَمَعَنا وقال: «أريد أن يبقى أحدنا على قيد الحياة، لن نموت كلنا»، وصار محور حديثه اليومي هو خوفه علينا وأنه «يموت في اليوم ألف مرة»، وأن علينا أن نجد «طريقة للنجاة».
أخي رفض الفكرة تماماً وأراد البقاء، فأخذتُ قراري بالخروج مع زوجتي وياسين ابني بعد إيجاد طريقة للهرب. وهكذا بدأت رحلة البحث المتأخرة عن طريق آمن من خلال المهربين الذين كانوا يعملون بسرية مطلقة خوفاً من الأمنيين الذين كان معظمهم من أهل القرى التي نعيش فيها، مما صعب المهمة.
الفكرة التي ناقشتها مع زوجتي بالخروج إلى تركيا لاقت قبولاً رغم تحذيري لها من صعوبة الطريق والمخاطر، ولكنها اكتفت بالقول «سنخرج إلى الجنة».
الطريق إلى «سوريا الديموقراطية»
جهزنا حقائبنا استعداداً للحظة الخروج، كنتُ قد سمعتُ من بعض الاشخاص أخباراً متداولة عن أن هناك طريقاً من شرق قرية الشيخ ناصر، وأن الناس يهربون من هناك إلى قرية الصيادة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وأنه ليس طويلاً لكنه مزروع بالألغام.
قرية الشيخ ناصر التي تقع بالقرب من قريتي إلى الجهة الشرقية منها وتبعد حوالي 1 كم عنها كانت الوجهة التي كان عليَّ أن أدرس خياراتها، أو أن أجد مهرّباً يأخذني وعائلتي عبرها. وفي 1/10/2016 ركبت الجرّار الذي نملكه، وجهزتُ «عدة الفلاحة» كي أبدو كفلاح يعمل في الأرض، وكانت نيتي دراسة الطريق الذي سأخرج منه مع عائلتي.
الطريق الترابي الذي سأسلكه يصل الشيخ ناصر بالصيادة، راقبتُ الطريق وقتاً من الزمن فرأيت رجلاً وامرأة يسلكون الطريق، وتذكرت وقتها كلام زوجتي، ابتسمتُ لكونه بداية طريق الجنة. تابعتهم بنظري، تلكأت المرأة فسحبها الشاب من يدها، مشت سريعاً حتى وصلوا إلى كرم زيتون.
بدا واضحاً أمامي أن هذا الكرم يمثل نهاية دولة، وبداية دولة أخرى، «ما أتفه الحدود، أهذه هي القصة؟؟»، قلتُ في نفسي.
رأيت المرأة التي كانت كتلةً من السواد وقد بدأ يظهر لونٌ فاقعٌ على رأسها، وكأنها خلعت الدرع الذي كانت تضعه حينها. عرفتٌ أن رحلتي بدأت بالفعل، عدتُ أدراجي من الطريق الإسفلتي إلى قريتي وشيءٌ من الطمأنينة بدأ يسري في داخلي.
مساء 6/10/2016 كان القرار قد اتُخِذ، والرحلة ستبدأ في الصباح. ودّعنا أهلنا، ووضعتُ آخر اللمسات على الحقائب. في الصباح ركبنا السيارة مع والدي ليوصلنا إلى طريق الشيخ الناصر العرضاني، على حافة الطريق وقفت السيارة، نزلنا بسرعة وارتديتُ حقائبي وألبستُ زوجتي الحقيبة الثالثة، حملتُ طفلي ولم أودّع والدي الذي كنت قد ودعته في المنزل، وركضنا في الطريق.
مشينا قرابة 200 متر بخط متعرج عبر كرم زيتون، لم أكن خائفاً بل كان كل تفكيري محصوراً في كيفية الوصول إلى الطرف الآخر. الطريق بين مكان نزولي من السيارة إلى قرية الصيادة يبلغ نحو 4 كم، ربعها بيد تنظيم الدولة، ونصفها خالٍ من أي تواجد سكني أو عسكري ومرصودٌ من قبل قوات سوريا الديمقراطية من على تلتي الصيادة واليالاني، ومرصودٌ من قبل التنظيم من تلة القرط الصغير، والربع الأخير مُسيطر عليه تماماً من قبل قوات سوريا الديمقراطية.
بعد تجاوزنا لكرم الزيتون وصلنا إلى أرض فارغة مرصودة من قبل التنظيم، هنا بدأ طريق التهريب الحقيقي المكشوف، وبدأ خوفنا يزداد وقلبي يتسارع. في منتصف الطريق تلة بسيطة تظهرنا كاملين، طلبتُ من زوجتي عدم الالتفات وركضتُ حاملاً ابني هارباً من الجحيم نحو «طريق الجنة». آثار أقدامٍ رأيتها على الطريق أراحتني قليلاً، فأنا في الطريق الصحيح.
طريقٌ من الفراغ وبعض الأشجار، دخلنا بعده في أرض من الكرمة، كانت عناقيد العنب ذابلة ولم يقطفها أحد، أردتُ أن أقطف بعضها ولكنني تجاوزت الفكرة. لم يدخل أحدٌ هذه الأرض منذ زمن، ربما يكون قناصاً من يحرس هذا الكرم.
على بعد 1 كم تقريباً وصلنا إلى محطة محروقات كنت أعرفها سابقاً بـ «مصفاة اليالاني»، سألتُ زوجتي إن أرادت أن تغسل وجهها أو نرتاح فرفضت. كان منظر المصفاة المليئة بالمعدات بحائطها الأسود نتيجة الاحتراق يعطي مشهداً كأفلام الرعب.
اتجهنا إلى قرية الصيادة مستأنسين بالمشي بين الكروم، ودخلنا أراضيها ليظهر مرتفعٌ يدعى جبلة الصيادة. كنا داخل كرم زيتون فجلسنا تحت إحدى الأشجار بعد أن حاولنا الابتعاد عن الطريق، ارتحنا قليلاً بعد أن قطعنا حوالي 3 كم وكانت الساعة التاسعة صباحاً.
اتجهنا بعدها نحو المرتفع الذي يظهر أمامنا على بعد 500 متر، ورأتنا امرأة كانت ترعى الأغنام بالقرب منا. كان إلى يمين الطريق بيت قديم يمثل بداية القرية، وكنتُ قد جهزت راية بيضاء لرفعها. وضعتها على حقيبتي وأشَّرتُ للمرأة، فأشارت لي بحركات مخيفة. اقتربتُ منها فطلبت مني الجلوس على ركبتي، ثم الاتجاه نحو اليمين قليلاً باتجاه الكرم.
كان صوتها يصل إلى مسامعي، سمعتها تقول: «طول بالك شوي لا يشوفوك الكراد.. لنروح عالبيت». بدأ الخوف يتسرب إلى داخلي، مشينا مع أغنام المرأة التي قالت: «هم يمنعوني أن أختلط بالناس أو أن أمشي معهم». ما الذي يحدث؟ قلتُ في نفسي، كنت أظن أنني تركتُ الخوف هناك في أرض الكرمة، وأننا هنا سنلاقي كل ترحيب.
في البيت، لعنت المرأة الغاضبة -التي لم تكن من أهل الصيادة كما قالت، بل من مسكنة- الجميع، ولعنَت الحاجة التي أوصلتها إلى رعي أغنام الناس هنا. حكت المرأة بعضاً من معاناتها وجوعها وفقرها، وطلبت مني أن أغيّرَ مظهري. حلقتُ ذقني بماكينة حلاقة كانت معي في حقيبتي، وبدَّلَت زوجتي ثيابها. خلعتُ البدل الخارجي وبقيتُ ببنطال الجينز الذي كنت أرتديه تحت شروالٍ عريض، وتوجهنا نحو جبلة الصيادة.
لمحنا رؤوس أشخاص فوقها فلوحتُ بالراية البيضاء، اتجهوا نحونا ولوحوا لي بأيديهم فوقفت. وعند وصولهم إلينا رحبوا بنا، «الحمد لله عالسلامة». على أكتافهم قطع قماش مكتوب عليها مجلس الباب العسكري. التفتيش كان شكلياً، حملوا معنا الحقائب وصعدنا نحو الجبلة حتى وصلنا إلى غرفة المحرس.
كان هناك أربعة عناصر، طلبوا هوياتنا فلم نجدها. كنا قد أبرزناها عند لقاءنا الأول مع العنصرين الأولين في بداية الجبلة، فنزلَ أحد العناصر ووجدَ حقيبة زوجتي. أعطانا الحقيبة، وأخذ الهويات.
في المحرس كانت لفظة «هافال» التي لا أعرف معناها هي الكلمة الأكثر تداولاً، كان حديثنا عادياً والأسئلة عامة. قدموا لنا الشاي وعلبة سجائر ريثما أتت سيارة جيب عسكرية، ثم أخذونا على الطريق نحو مزرعة هي مركزٌ لمجلس الباب العسكري. طلبوا منا البقاء في السيارة أولاً، ثم أخذونا بسيارة أخرى بيك آب تويوتا فيها سائق ومجندتان من قوات سوريا الديمقراطية إلى المركز، وطلبوا منا ألّا نرتبك، لأن الأسئلة ستكون عادية.
في الطريق عرّفونا بأسمائهم، وطلبوا منا أن نخبرهم عن وجهتنا، ومن أين أتينا، فأخبرناهم أننا سنتجه نحو منبج. أعطوا ياسين قطعة شوكولا، وطلبوا منا أن نبقى عندهم وهم سيؤمنون لنا عملاً بعد أن عرفوا أنني وزوجتي نحمل شهادات جامعية.
في الطريق دخلنا في قرية العسلية، ومررنا بمدرسة تضجُّ بالطلبة. فرحتُ في داخلي، ولكن إحدى المجندات قالت: «ينقصنا كثيرٌ من الكوادر التعليمية، حتى أننا أتحنا لحملة الشهادة الإعدادية التعليم». حاولَت ترغيبنا بالتوظيف في أي مكان نريده، سواء في الإعلام أو التعليم أو الأسايش، مؤكدةً أن باستطاعتهم تأمين بيت لنا إن أردنا البقاء.
وصلنا إلى المركز في قرية الديلفار التي تبعد حوالي 7 كم عن قرية الصيادة باتجاه مدينة منبج، استقبلنا بعض العناصر في هذا البيت الذي كان قبلاً إرشادية زراعية من طابقين. كان هناك حوالي 15 شخصاً آخرين قد خرجوا من أراضي التنظيم، وحملتهم السيارات إلى مركز الديلفار.
انتظرنا أبو جمعة، القائد العسكري لمجلس مدينة الباب، ليقابلنا قبل أن يسمح لنا بالذهاب إلى منبج، وفي أثناء ذلك كانت الأسئلة عامة وودية مع الجميع، وأدهشتني بعض المعلومات الدقيقة والتفصيلية التي ألقوها على مسامعنا عن قريتنا والقرى المجاورة، وعن المنتسبين إلى الجيش الحر من قرانا وأسماء المنتمين إلى تنظيم الدولة، حتى أنهم يعرفون أسماء المهربين والمبالغ التي يتقاضونها من الناس لإخراجهم من مناطق تنظيم الدولة.
أعطتني إحدى المجندات هاتفاً لأُطمئِنَ أهلي عن وصولي، كانت الساعة اقتربت من الواحدة ظهراً حين وصل أبو جمعة، الذي سألنا عن هوياتنا وعقد زواجنا. خرجنا بعدها لنستقلَّ السيارة التي أتينا بها نحو منبج التي تبعد ما يقارب 10 كم عن المركز. أنزلتنا السيارة في المكان الذي أردناه، بالقرب من سوق الهال في مدينة منبج. توجهتُ نحو السوق المغطى حيث يملك أحد أقربائي محلاً، فأخذَنا إلى بيته في شارع الرابطة لنرتاح ليلتنا هناك، ولتبدأ رحلة البحث عن مهرّبٍ يوصلنا إلى الأراضي التركية.
قريبي اسمه محمد، كان والده قد استشهد قبل أشهر برصاصة قناص تنظيم الدولة وهو في بيته. صعدنا نحو الطابق العلوي، وأراني مكان «طلاقيات» تنظيم الدولة حيث كانوا يضعون القناصة ومدفعاً رشاشاً في البيت المطل على شارع الرابطة.
أخبرني محمد أن كل شيء موجود في منبج، الكهرباء والانترنت والمؤسسات، وأن كثيراً من أهالي المدينة عادوا إلى بيوتهم. أخذني في جولة في المدينة، كانت الشوارع مزدحمة. ثم دلني على جثث في منطقة السرب كانت ما تزال على الطريق، وقال لي إن هناك كثيراً من الجثث في أماكن أخرى.
شعرنا أننا في دولة أخرى، تختلف الحياة فيها عن الحياة التي كنت أعيشها تماماً. لفتَ انتباهي منذ وصولي شرطية مرور كانت تنظم السير في شارع السوق، كانت المرأة محجبة.
كانت آخر مرة جئت منبج فيها منذ أربعة أشهر، لقد تغيرت كثيراً. رأيتُ العنصر النسائي بكثافة فيها، حتى صرتُ أتخيلُ نفسي وكأنني في منطقة الأشرفية في مدينة حلب. الموضة وألوان الألبسة، المحلات المضاءة والازدحام في الشوارع. الشيء الوحيد الذي يدل على أن حرباً مرت من هنا بعض البيوت المهدمة والجسور المدمرة، وجثثٌ كانت قد تُرِكَت على جانب الطريق.
لم أرَ رجالاً مسلحين ولا مظاهر مسلحة في المدينة، وفي اليوم التالي صباحاً رأيتُ في السوق سيارة همر عسكرية أميركيّة يقودها رجل بسحنة أجنبية، ترافقها سيارتا بيك آب على إحداهما دوشكا.
الشارات الوحيدة التي كنا نجدها على الأكتاف هي شارات مجلس منبج العسكري، ولم يكن هناك أعلام أو صور، حتى أننا كنا نجد شعارات تنظيم الدولة ما تزال على الجدران.
بقينا في منبج ثلاثة أيام، ثم أخذنا القرار بالذهاب نحو مدينة إعزاز.
المزاح في «سوريا الديموقراطية»
بتاريخ 10/10/2016 اتفقنا مع سائق سرفيس أن يقوم بإيصالنا إلى إعزاز، كان علينا أن ندفع 7000 ليرة لكل راكب. انطلقت السيارة في العاشرة والنصف صباحاً، واتجهنا نحو إعزاز من الجهة الشمالية الشرقية. مررنا بقرى لا أعرفها ومناطق جرداء، ثم وصلنا إلى قرية تدعى رفيعة أو الجات، وهي آخر قرية تخضع لمجلس منبج العسكري. في نهاية القرية قال لنا الحاجز بعد أن رأى هوياتنا: «لا أظن أنهم سيسمحون لكم بالمرور على حاجز الاستخبارات، (وهو الحاجز الأخير الذي يفصل أراضي قوات سوريا الديمقراطية عن الجيش الحر)».
حين وصلنا إلى حاجز الاستخبارات، ودون أن يرى هوياتنا، طلب من السائق العودة. وقفنا إلى جانب دكان على طرف الطريق بالقرب من الحاجز، كان صاحب الدكان مدرّساً كما عرّفَ عن نفسه، وبسخطٍ شديدٍ كان يعبر عن غضبه لهذه الحال التي وصلنا إليها. روى لنا الرجل أن الجيش الحر منذ فترة وصل إلى هذه القرية، وأن الحاجز (وأشار إليه) هرب تاركاً كل شيء، ثم أتت سيارة أمريكية بعد ذلك، نزلَ منها أشخاصٌ ورفعوا العلم الأمريكي فوق المسجد. بعد ساعات نقلوه إلى بيت كبير (أشار إلى مكانه، ورأينا حيث أشار راية تشبه العلم الأمريكي، ولكنها كانت بعيدة فلم أستطع تمييزها بدقة)، ثم عادت قوات سوريا الديمقراطية إلى المنطقة بعد انسحاب الجيش الحر.
عند سؤالنا عن الطريق قال صاحب الدكان إن فتحه مرتبطٌ بدخول صهاريج الفيول. بقينا حوالي ساعتين أمام الدكان، وعندما رأينا أول صهاريج الفيول كان السائق قد ذهب إلى أحد عناصر الحاجز واتفق معه أن نلتف على الحاجز أنا وبعض الركاب الذين تمت إعادتهم مقابل مبلغ 3000 ليرة لكل شخص، وصاحب السرفيس يمر عبر الحاجز مع زوجتي وابني.
مشى العنصر أمامنا على دراجة نارية، ومشينا خلفه حوالي 50 متراً فتبعتنا سيارة مغلقة وطلبت منا الوقوف. توقفنا وكانت الدراجة النارية قد سبقتنا فلم نعد نراها، سألنا أحدهم وهو رجل خمسيني يرتدي نظارات شمسية عن المهرّب فلم نجبه، ثم طلب منا الصعود إلى السيارة وقال لنا: «ستذهبون إلى مركز الأسايش ونتأكد من هوياتكم». هنا رأيت سائق السرفيس يعود بزوجتي وابني.
أخذونا إلى الحاجز، وطلبوا منا التعرف على العنصر فتعرفنا عليه، ثم أخذونا إلى مركز الأسايش. في الطريق كان العناصر يخيفوننا كما لو أننا ارتكبنا جريمة عظمى، واتهمونا بالإرهاب. سُئلنا عن وجهتنا، بعضنا أجاب إلى إعزاز وبعضنا أقر بذهابه إلى تركيا.
في المركز أخذوا هوياتنا، وأهاننا أحد العناصر بالكلام. الرجال الذين كانوا في الغرفة التي أدخلونا إليها بدأوا بتفتيشنا، كنا عشرة أشخاص وكان إلى جانبي رجل من منطقة العريمة اسمه أبو أنس، وجدوا معه كتاباً للأذكار وكتيب الحصن والحصين الصغير. سأله أحد عناصر الأسايش عن الكتيبين، ولماذا لم يكتف بأحدهما؟ فأجابه أنه يحملهما بشكل طبيعي، وأنهما عبارة عن حرز، فوصفه بأنه داعشي.
ربما كانت الكتب التي يحملها أبو انس أهم اسباب تأخيرنا جميعاً، ولعل السبب الذي ذكره الرجل عن ذهابه إلى مدينة حلب ليقبض راتبه كونه مدرساً يمثل سبباً آخر، وخصوصاً أن هناك حافلات من مدينة منبج تذهب إلى مناطق حلب التي تسيطر عليها قوات النظام بعد «التفييش» هناك، وأن حواجز النظام تكتفي بهذا «الفيش» حسب قولهم.
لقد كنا في دولة مجلس منبج العسكري، ولكن الحاكم الفعلي الحقيقي كان قوات سوريا الديمقراطية متمثلة بالأسايش، وخصوصاً عندما أحالونا -حسب قولهم- إلى مركز مكافحة الإرهاب في مدينة منبج.
في الطريق قال لنا أحد الحراس الذين كانوا معنا: «لماذا أتيتم إلى هذا الطريق؟ هناك طريق نظامي ومسموح للدخول إلى إعزاز، لماذا أتيتم من طريق التهريب؟».
استغربنا كلامه، وعند استفسارنا قال لنا إن الطريق من منطقة تدعى عون الدادات. وصلت السيارة بنا إلى دوار السبع بحرات في مدينة منبج، فقاموا بتغطية أعيننا بما توافر في السيارة من ألبسة وقمصان.
مشت السيارة بنا لمدة نصف ساعة ثم توقفت، أوصلونا إلى مركز مكافحة الإرهاب كما أخبرونا، قاموا بتفتيشنا وأخذ أغراضنا وقاموا بعدّ النقود التي نملكها ثم وضعوها داخل كيس مع الهوية والأوراق. كان بعضنا يملك مبالغ كبيرة تم ذكرها بصوت عالٍ، أدخلونا إلى غرفة وأجلسونا على الأرض ثم أتى أحدهم وأجلسنا على كراسٍ موجودة في الغرفة، ثم قال لنا «بعد قليل سيأتي الرفاق ويحققون معكم».
بقينا في الغرفة حوالي ساعتين وأعيُنُنا مغطاة، ثم دخل شاب صغير على ما بدا لي نبرة صوته. كانت علبة سجائري بيدي فطلب سيجارة وأخذها، قبل أن يخرج رآه أحد العناصر الأكبر سناً فقام بتوبيخه وطلب منه إعادتها، وسمعنا صوتاً أشبه بلطمة، قال له: «نحن لسنا بحاجة… رواتبنا تكفينا، نحن نعطي ولا نأخذ».
بعد قليل دخلت مجموعة من الأشخاص، سمعنا صوت خطواتهم. طلبوا منا أن نرفع الغطاء عن أعيننا فيما كانوا هم مقنعين بالكامل يجلسون حول طاولة، وكانوا خمسة أشخاص. بدأوا التحقيق معنا بشكل عشوائي، أسئلة متناثرة للجميع على حسب الإسم الموجود في الهوية. قاموا بضربنا جميعهم، حاول أحدهم خنقي ونعتني بالكاذب حتى غبتُ للحظةٍ عن الوعي، وبعد أن عدت إلى وعيي طلبت كأساً من الماء فقاموا بإعطائي.
ثم قال لنا أحدهم أن هناك تفجيراً حدث ليلة أمس في منبج ونحن المتهمون به، كانوا يضحكون على أجوبتنا وعلينا ويستهزئون بنا.
مضت ساعة بعد أذان العشاء الذي سمعناه من أحد المساجد، عندها رفع أحدهم قناعه وضحك ثم قال: «كنا نمزح معكم». رفعوا الأقنعة عن وجوههم وجلبوا لنا شاياً، اعتذروا منا وقالوا إنها إجراءات أمنية، ثم أعادوا تغطية عيوننا وأوصلونا إلى دوار السبع بحرات وتركونا هناك.
لاحقاً عرفنا أن هذا المكان لم يكن إلا مخفراً للأسايش وليس مركزاً لمكافحة الإرهاب، وأن مكانه معروف لجميع الأهالي في منبج. عدتُ إلى قريبي ونمتُ ليلتي عنده، وفي الساعة السادسة صباح 11/10 ذهبتُ إلى الكراج وأخذتُ سيارةً إلى إعزاز من طريق عون الدادات بمبلغ 35000 ليرة.
المرور عبر «درع الفرات»
الطريق إلى عون الدادات كان أسهل، ولكنه كان أطول بما يقارب 10 كم. على حاجز عون الدادات كان الطريق مفتوحاً فقط لسيارات الشحن الخاصة، وقفنا ما يقارب الساعة، حينها توجهتُ إلى أحد عناصر الحاجز ورجوته أن يسمح لنا بالمرور ولكنه رفض، وبعد ثلاث محاولات سمح لنا بالمرور.
بعد حاجز عون الدادات دخلنا في أراضي الجيش الحر، اتجهنا نحو الغندورة ثم الراعي ثم إلى مدينة إعزاز. خمسة حواجز فصلتنا عن مدينة إعزاز لم نقف فيها كثيراً، وأصبحنا نرى أعلام الثورة، الأعلام التي غابت قبل ذلك طوال الطريق.
الوقوف على الحواجز كان روتينياً، ولكنها كانت كثيرة، وعندما دخلنا قرية الراعي وجدناها مدمرة بالكامل. هالني ما رأيتُ من دمار في هذه القرية رغم أن لحظة دخولي إلى مناطق الجيش الحر كانت لحظة أمان بالنسبة لنا، التفتُ إلى زوجتي التي رأت أعلام الثورة وقلت: «صرنا في منتصف الطريق إلى الجنة».
دخلنا مدينة إعزاز التي كنتُ قد تركتها منذ عشرة أشهر عائداً إلى قريتي، حاملاً حلمي بطفلي وأرضي بعيداً عن رحلات اللجوء والمنافي. عند وصولي إلى مدينة إعزاز الساعة 11 بحثتُ عن مكان لشراء هاتف تركي حتى أتمكن من التواصل مع أهلي ومع المهربين للدخول إلى تركيا، كان ثمنه 13000 ليرة سورية.
دخلتُ إلى مكاتب «السفر المضمون إلى تركيا عن طريق التيل»، هذه اللوحة التي تملأ مدينة إعزاز. حاولتُ التواصل مع أحدهم لكن طريق معظم هذه المكاتب كان عبر قرية خربة الجوز شمال مدينة إدلب، وكانت كلفة الدخول 300 دولار للشخص الواحد.
قررنا البقاء في إعزاز، نمنا في فندقٍ بـ 5000 ليرة للغرفة الواحدة، أحدُ الأشخاص كان يدّعي أنه قائد في الجيش الحر، وقال إن لديه خطاً عسكرياً للتهريب بين تركيا وإعزاز، وصلنا إليه عن طريق صديقٍ لي في تركيا وكان ضمن الأراضي التركية. تواعدنا في الساعة الثامنة مساء في نقطة قرب قرية شمارين المجاورة لإعزاز، وكانت الكلفة 350 دولاراً للشخص الواحد. أخبرنا أنه سيرسل لنا أحد الأشخاص من كتيبته ليوصلنا إلى جانب مخفر التركي حيث سيكون بانتظارنا. لم تفلح المحاولة الأولى فعدنا إلى الفندق، وفي صباح 13/10 طلب منا مبلغ 500 دولار نرسلها له عني وزوجتي ليعدَّ لنا أمور الدخول. أرسلنا له المبلغ المالي عبر صديق لي في كيليس، وبدأنا ننتظر ساعات المساء.
حان وقت خروجنا وبدأنا بالاتصال به، الساعة قاربت الواحدة ليلاً وهو يمنيني ويطلب مني الانتظار، ثم اقفل هاتفه. كان البرد قاسياً، وخاصةً أن معي زوجتي وطفلي، فقررتُ التوقف هنا والذهاب إلى مدينة إدلب، حيث الخيارات الكثيرة في التهريب إلى تركيا.
في الصباح ذهبتُ إلى كراج إعزاز، وأخذتُ سيارةً أوصلتنا إلى آخر حاجز للجيش الحر على حدود «دولة» عفرين.
عبور «دولة» عفرين
السيارة إلى مدينة عفرين كانت بـ 2500 ليرة، والمسافة لا تتجاوز 5 كم. حين وصلنا إلى حاجز عفرين كان هناك مئات السيارات وآلاف البشر ينتظرون دورهم بالدخول، وعندما نزلنا من السيارة كان هناك رجل مسن يوزعنا بين أشجار الزيتون بالقرب من الحاجز على طرفي الطريق.
كنا مئات اللهجات من دير الزور والرقة وحمص ودمشق وحلب، وكانت عفرين مكان الانتقال إلى العالم الآخر، إلى حلب إلى دمشق إلى إدلب إلى كل مكان.
معبر عفرين يفتح أبوابه حتى الظهيرة للقادمين، ثم يغلق أبوابه ليفتح أبواب الخروج بعد الظهيرة.
في الساعة الحادية عشرة تقريباً ظُهرَ يوم 14/10، وصلتُ أنا وزوجتي وطفلي، كان هناك ممرٌ في الحاجز يفصل النساء عن الرجال. دخلنا إلى الحاجز، كانت هناك مجندات لتفتيش النساء ومجندون لتفتيشنا، كان التفتيش دقيقاً جداً، وكان المجندون أكثر لطفاً من المجندات اللواتي كن لئيمات في أكثر الأحيان. سألت المجندة زوجتي عن محتويات حقيبتها، فقالت لها إنه لابتوب. امتعضت الجندية وبرمت بشفتيها وقالت: «لابتوب!»، ثم سألتها إن كانت من العراق، وأخذت اللابتوب إلى غرفة وطلبت منا استلامه من هناك بعد تفتيشه.
دخلنا إلى عفرين وانتظرنا أمام الغرفة التي تحتوي اللابتوب، فأعادوه لنا بعد تفتيشه تفتيشاً دقيقاً. بعد ذلك أخذونا إلى «هنكار» يجمع كل الذين دخلوا منذ الصباح حتى تأتي سيارات تنقلنا خروجاً من المدينة بعد أن أخذوا منا رسم عبور بقيمة 2000 ليرة، يُستثنى منه الطلاب والموظفون والأطفال دون 15 عاماً.
انتظرنا ما يقارب الساعتين في الهنكار، وهناك تعرفت على رجل اسمه عبود قال إنه سيذهب إلى تركيا وإن لديه مهرباً مضموناً يوصلنا إليها. عند وصول الحافلات التي ستنقلنا إلى الطرف الآخر من مدينة عفرين ركبنا ودفعنا 1500 ليرة سورية على الشخص للوصول إلى الغزاوية، وهي المكان الذي يفصل «دولة» عفرين عن «دولة» إدلب.
العبور إلى «الجنة»
في الغزاوية كانت الحافلات موجودة ومنظمة، أوصلتنا إلى مدينة سرمدا، وكانت الكلفة 2000 ليرة لكل شخص، وكانت الساعة قد قاربت على السابعة.
قربَ الأتارب أوقفنا أحد الحواجز، كان العنصر ملثماً. كنا نجلس بجانب زوجاتنا، فطلب أن تجلس النساء في الخلف والرجال في الأمام، وقام بتوبيخنا لأن أحدنا كان يدخن، عدنا إلى عدم التدخين من جديد، لم أعرف هوية الحاجز ولم تكن هناك أي إشارة تدل على تبعيته.
معظم الحواجز التي مررنا بها، والتي تجاوزت 6 حواجز، اتفقت على سؤال واحد: «فيه حدا رايح على تركيا؟». لم نفهم قصدهم حتى وقفنا على حاجز في قرية الدانا، حيث كان هناك مكتب للسفر «الآمن إلى تركيا» ملاصقٌ له. أوقفنا الحاجز نحو نصف ساعة، ثم توجه أحد العناصر إلينا وطلب هوياتنا سائلاً: «فيه حدا منكم رايح على تركيا؟». لم نجب على سؤاله فقام بتأكيده مرة ثانية: «أكيد ما في حدا طالع على تركيا؟»، ثم تركنا نذهب.
في سرمدا تواصلنا مع المهرب أبو خالد الذي كان عبود الذي تعرفت عليه في الطريق من عفرين قد دلّني عليه، وكانت الساعة 9:30 مساء، فأرسل لنا سيارة تقلّنا إلى بيته الذي يجتمع فيه كل الذين يريدون الدخول إلى تركيا. كان بيته في قرية تدعى الحلول بالقرب من جبل البشيرية على الحدود التركية، نمنا ليلتنا في بيته وعند ظهيرة يوم 15/10 أخذنا المهرب إلى قرية الحمبوشية التي تقع غرب سرمدا. كان هناك الآلاف ينتظرون، وكانت الكلفة 200 دولاراً للشخص الواحد.
«الإذن العسكري سَكَّر» قالها المهرب بعد ساعات من وصولنا إلى قرية الحمبوشية، أعادتنا السيارات التي تخصُّ المهرب إلى بيته من جديد. في بيت أبو خالد كل شيء متوفراً حتى ألعاب الأطفال، فضلاً عن الطعام والشراب والإنترنت. أمضينا ليلتنا عنده من جديد، وفي اليوم التالي أعدنا الكرة مرة ثانية. عند الظهيرة صعدنا الجبل الذي علينا اجتيازه للوصول إلى الحدود التركية، لم نفلح مجدداً فأخذونا إلى منطقة بالقرب من الحمبوشية تدعى النهرين.
وصلنا حوالي الثانية عشرة ظهراً، كنا حوالي 1500 شخصاً في تلك النقطة. أيضاً لم نفلح بالدخول فعدنا أدراجنا، وصلنا إلى البيت حوالي الساعة 4.30 صباحاً.
الأمل بالدخول إلى الجنة قد بدأ ينفذ عند معظم الموجودين، ولكنني قررتُ أن أحاول مرة أخرى عند الساعة 11 صباحاً.
رغبتُنا بالدخول إلى تركيا جعلتنا نتخلى عن كل شيء حتى حقائبنا، وبعض الذين معي خلعوا أحذيتهم لتخفيف حملهم بحيث يصبحون أسرع في المشي، ولكن الجندرمة التركية وجدتنا بعد دخولنا. بقينا في المخفر التركي حتى الساعة 4، ثم نقلونا إلى معبر خربة الجوز وأعادونا إلى الأراضي السورية.
قررتُ الذهاب إلى مدينة حارم للمحاولة من جديد، بعد أن قال لنا أحد المهربين أن طريق الدخول عبر معبر باب الهوى يكلف 1600 دولاراً للشخص الواحد، مؤكداً أن باستطاعته إدخالنا إلى تركيا بسيارة خاصة من المعبر دون أن يزعجنا أحد، لكن المبلغ كان كبيراً جداً علينا.
على طريق تهريب حارم كان هناك جدار فاصل بين الأراضي السورية والتركية، وضعوا لنا السلالم وحين وصلنا إلى الجانب الآخر كانت سيارة الجندرما التركية بانتظارنا، أخذونا إلى المخفر ثم أعادونا من معبر باب الهوى. كانت الساعة قاربت الواحدة ليلاً، وحين وصلنا إلى سرمدا من جديد كانت ليلتنا محكومة بالعراء، فلا يوجد واسطة نقل. نمنا في الكراجات المجاورة بلا أغطية ولا طعام ولا شراب.
في الصباح عدتُ إلى أبي خالد من جديد، وفي ظهيرة 18/10/2016 ذهبنا إلى الحمبوشية، وكان يشرف على عملية التهريب قائد الحمبوشية، قائد المهربين جميعاً ومن بينهم أبو خالد. أعطوا الاطفال شراب «ب ب دور» كي يناموا ويخفوا أصواتهم، بقينا في جبل الحمبوشية على بعد 50 م من طريق الإسفلت في الأراضي التركية. كان الصمت يرافقنا، 16 ساعة ونحن على زاوية الجبل، وفي الساعة السادسة صباحاً، سكتت أصوات الجنود الأتراك، والدبابةُ التي كنا نراها غادرت مكانها.
أتت الأوامر لنا بالانطلاق، في 19/10/2016 الساعة 6:10 دقائق دخلنا الأراضي التركية. مشينا فيها حوالي أربع ساعات حتى وصلنا إلى القرية التي وزعونا فيها على بيوت، ثم بدأت سيارات تركية بنقلنا إلى مدينة أنطاكية. كانت الكلفة 100 دولارٍ للشخص الواحد.
وصلنا إلى أنطاكية، وذهبت مع أحد أصدقائي متجهاً إلى ولاية كيليس.
في كيليس مرةً أخرى
هكذا عادَ أبو ياسين إلى العمل في المحمصة التي كان يعملُ فيها منذ عشرة أشهر، وبعد أن أنهى سرد تفاصيل رحلته، نظرَ إلى زوجته بابتسامة نصفها قهرٌ وحُرقة: «هذا هو الطريق إلى الجنة… يمرّ في بالي الآن حديث صديقي الذي ودّعني على معبر باب السلامة عندما قال لي إنني سأرجع، وحديث الرجل الديري في فندق إعزاز الذي قال إننا سنندم. كل طرق الحياة كانت قد أُغلقت أمامنا، وغريزة البقاء كانت أقوى من جحيم الموت الذي كانت صورته تتكامل في ظل ضياع الخرائط. في الحرب تتوه البوصلة، وعلى المرء اختيار إرادة الحياة، لهذا ضممتُ ياسين إلى صدري ودخلتُ أبواب ما يبدو جنةً بالنسبة لنا من هناك، من بلاد الجحيم».