في خطابٍ ألقاه يوم الجمعة الماضي، هدد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الاتحاد الأوروبي «بفتح الحدود أمام اللاجئين» إن بقي الأوروبيون على نهجهم المُجافي لتركيا، الذي تمثّل بإصدار البرلمان الأوروبي توصية بتجميد المفاوضات من أجل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الهدف التركي القديم الذي يجد مقاومةً قوية ضمن عدد كبير من الدول الأعضاء في الاتحاد. يشير تهديد أردوغان بشكل مباشر إلى الاتفاق الذي وصل إليه الطرفان في آذار الماضي، والذي بُني من أجل إغلاق طريق الدخول غير الشرعي عبر بحر إيجة إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق إعادة الداخلين بصورة «غير شرعية» إلى تركيا مقابل فتح الاتحاد الأوروبي قنوات أخرى «قانونية» لقبول لاجئين مقيمين في تركيا، وفتح مفاوضات من أجل تخفيف القيود على المواطنين الأتراك الراغبين بدخول دول الاتحاد الأوروبي.
يأتي التصعيد الأخير كفصلٍ جديد في علاقة متوترة بين تركيا والاتحاد الأوروبي (والغرب عموماً)، تجد عنوانها الأبرز في الحدود: تركيا مُتهمة بعدم ضبط حدودها مع سوريا خلال سنوات الثورة السوريّة، ما سهّل دخول آلاف الجهاديين الأجانب القادمين من مناطق عدّة من العالم (بينها أوروبا نفسها)، ثم بغضّ النظر عن عمل مافيات الإتجار بالبشر عبر بحر إيجة أو الممرات البرّية نحو اليونان، ما أدى لتفجّر «أزمة اللاجئين» في أوروبا خلال العام 2015، الذي شهِد دخول 900 ألف لاجئ ومهاجر «غير شرعي» عبر الممرات التركيّة، حسب فرونتكس، الإدارة الأوروبية الموحّدة للحدود.
هنا، اللاجئون ليسوا إلا مفعولاً به، صامت وسلبي، يُهدّد به من لا يريدهم من قِبل من يعرف أنهم ورقة قويّة تسمح بالحصول على تنازلات سياسية واقتصاديّة. كرة تُرشق عبر الحدود. اتفاق الاتحاد الأوروبي مع تركيا لم يكن يعني أكثر من تحويل قضية اللاجئين، خصوصاً اللاجئين السوريين، إلى قضية داخلية تركية عبر إغراء حكومة حزب العدالة والتنمية بمساعدات اقتصادية تُساعد على جعل اللاجئين السوريين «ولايةً» تركيّة جديدة، وفتح حوار حول تسهيل إجراءات الفيزا للمواطنين الأتراك الراغبين بالسفر إلى أوروبا، أو إلغاء الفيزا بالكامل، حسبما تُطالب الدولة التركيّة. لا يقتصر الاهتمام بإبقاء اللاجئين «هناك»، أي في تركيا، على العلاقات السياسية الأوروبية- التركية، فالمنظمات والوكالات الأوروبية المعنيّة بتقديم الدعم الإنساني والتنموي للاجئين أو للداخل السوري لا تُخفي هواجسها، في برامجها أو في حواراتها مع شركائها السوريين، حول كيفية الوصول إلى أفضل وسيلة لإقناع اللاجئين بأن العبور إلى أوروبا ليس فكرة جيّدة.
اللاجئون و«أزمتهم» هم أحد الأركان الثلاثة التي جعلت العام الحالي يستحق لقب «عام الحدود» بامتياز، الركنان الآخران هما الحركات الجهادية وأزمة الاقتصاد المُعولم في دول العالم الأول. بطبيعة الحال، ليست هذه الأركان معزولة فيما بينها، فهي شديدة التداخل في الخطابات السياسية في دول الغرب، لاسيما وأن 2016 كان عاماً انتخابياً في الدول الكبرى. فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية التي جرت قبل أسبوعين بخطاب انعزالي، شديد الهجاء لآثار العولمة على الاقتصاد الأميركي -بشكل خاص في القطاع الصناعي- ومناهض للمهاجرين، خصوصاً ذوي الأصول الأميركية-اللاتينية؛ وفي بريطانيا فاز خيار الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبي، «البريكسيت»، بفضل منطق مشابه للخطاب الانتخابي للجمهوريين في الولايات المتحدة؛ وفي فرنسا لم يعد هناك شكوك حول وصول الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن إلى الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجري ربيع العام المقبل، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن غريمها في الجولة الثانية سيكون غير القطب اليميني الآخر في السياسة الفرنسية – أي الجمهوريّون- حيث فاز فرانسوا فييون، ممثل الخيار الأكثر انغماساً بخطاب الحدود، والأكثر «رجعيّة»، على غريمه اليميني التقليدي آلان جوبيه، المرشّح الذي هُرع أصحاب الخيارات الوسطية من اليمين، وشطر كبير من الاشتراكيين، للتصويت له في الجولة الثانية من الانتخابات التمهيدية التي جرت أمس، دون جدوى.
عدا هذه المحطات الرئيسية، نجد أن أغلب الدول الأوروبية تعيش تقدّماً لأحزاب مناوئة للاتحاد الأوروبي، تتراوح مواقفها بين السلبية تجاه المزيد من التكامل الأوروبي والدعوة الصريحة للخروج من الاتحاد الأوروبي، «أم الأفكار الجيدة» فيما يخص بناء منطقة فوق الدولة القومية دون حدود بين الدول الأعضاء فيها. تعود الحدود إلى مركز الخطاب السياسي في العالم الأول بعد ثلاثة عقود من سيادة «اللا-حدودية»، أي ذمّ الحدود خطابياً، كما يسمّيه ريجيس دوبريه في نصّ محاضرة ألقاها في البيت الفرنسي-الياباني في طوكيو، نُشر لاحقاً ككُتيّب. يقسو دوبريه في نقده على «اللا-حدودية» التي سادت بشكل خاص بعد انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، والتي يعتبرها فصاماً كبيراً بين الواقع ووعيه في التفكير الغربي. عنون دوبريه كُتيّبه باسم في مديح الحدود، وعبر مراجعة تاريخية مُطعّمة بسجالات فلسفية، يُدافع عن أن فكرة «الحدود» ليست بالسوء الذي ساد اعتقاده خلال عقود «اللا-حدودية»، وأن ما بشّرت به نظريات الحدود المفتوحة لم يكن إلا مسخ أفكار أدّت لاضطراب «الإيجابيات» التي تُقدّمها الحدود، مثل تحديد وتوضيح السياق المكاني لتطبيق القوانين الناظمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية؛ تسهيل التعاطي مع الهوية وأزماتها؛ وتنظيم الشأن الاقتصادي. عدا الأضرار اللاحقة بالإيجابيات، لم تسائل «اللا-حدودية» سلبيات الحدود، التي قُدّمت على أنها جوهر فكرة الحدود كلّه. لم تخلق «اللا-حدودية» مجتمعات مفتوحة تُشكّل عالماً مُسطحاً بلا حواجز بين سكّانه، كما لم تسمح بحل التناقضات الداخلية للمجتمعات عبر «الانفتاح» بل زادتها تعقيداً. هنا يشير الكاتب، كمثال، إلى واقع أن الجيل الثاني والثالث من المهاجرين قد بات أكثر عرضةً للوقوع في التطرّف الديني من آبائهم، فآباؤهم قدِموا إلى هوية جديدة واضحة المعالم والحدود، فيما أبناؤهم ضائعون، يجدون في الدين إجابات على تساؤلات هويّاتية طرأت في زمن «اللا-حدود» ولم تُجب عليها هويّة أخرى.
يتّهم دوبريه «اللا-حدودية» بالرياء والتزوير أيضاً، إذ شهِد العالم في زمن سيادة ذم الحدود ظهور الآلاف من الكيلومترات من الحدود الجديدة، وتدعيم آلاف أخرى بالأسوار والأسلاك الشائكة وحقول الألغام. على مستوى السياسة الدولية كانت «اللا-حدودية» عنواناً لمنطق امبريالي عزّز من خطابه التبريري للتدخلات العسكرية، واقتصادياً كان وبالاً عالمياً، ليس فقط في العلاقة بين الدول الغنية والدول الأفقر، إنما أيضاً داخل الدول الغنيّة نفسها. هكذا، نجد أن أكبر مناهضي «البريكسيت» البريطاني موجودون في «السيتي»، أي مقر الشركات الكبرى، في حين أن المدافعين عن الانعزال عن الاتحاد الاوروبي موجودون في الطبقات الأفقر التي تضررت من انزياح الصناعات نحو دول منخفضة الكلفة، وتجد في المهاجرين منافساً على فرص العمل المتناقصة باستمرار.
بعيداً عن مساجلات دوبريه، ما لا شك فيه أن العالم يعود إلى الحدود كحلّ لقسم كبير من المشكلات: خطاب الحدود سهل، ويقدّم إجابات سريعة، ولا يبدو سهل المقاومة، خصوصاً لمن يحتاج لأصوات الناخبين في زمن «إيديولوجيا الخوف» المُهيمنة على العالم أجمع، والمركزية في خطاب ومنطق عمل جلّ الساحة السياسية والفكرية. في مقال نشره في جريدة إل باييس الاسبانية أواسط الشهر الجاري، في الذكرى الأولى لهجمات باريس الإرهابية، حذّر رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس من خطر «إهمال الحدود» على الأوروبيين، داعياً لتدعيم حدود الاتحاد الأوروبي، ليس فقط عبر منع «الدخول غير الشرعي»، بل أيضاً بتشديد الإجراءات على الداخلين إليه، وأيضاً على المواطنين الأوروبيين الخارجين منه، خصوصاً إلى «مناطق ساخنة». يدعو فالس أيضاً لتفعيل أنظمة مراقبة في الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي نفسه. عدا إنهاء «إهمال الحدود»، دعا فالس الأوروبيين للانخراط بصورة أقوى في «الحرب على الإرهاب» في سوريا والعراق، مُستخدماً منطقاً بوشيّاً في ذمّ المتلكئين في المساهمة في المجهود العسكري، «كلّنا موجودون في نفس القارب»، يقول رئيس الوزراء الفرنسي.
مانويل فالس اشتراكي، ولا يُخفي طموحه لخلافة فرانسوا هولاند كمرشّح للحزب الاشتراكي الفرنسي في الانتخابات الرئاسية، حيث لا يبدو أن هناك أيّة حظوظ للاشتراكيين لتجاوز الجولة الأولى من الانتخابات. رغم هذا الواقع، يُقرر فالس المنافسة على الانغلاق والانكفاء والخوف، أي خطاب الحدود الأكثر وشائجيّة، وكأن مرشحاً اشتراكياً (حتى ولو بالاسم فقط) سيكون أكثر مقدرةً على الإقناع في هذا المجال من مرشحي اليمين، خصوصاً اليمين الذي جعل من الحدود رايته منذ سنوات طويلة.
تُفيد أفكار فالس في الإشارة للحلول المتباينة التي يطرحها مركز الخطاب السياسي الغربي للأركان الثلاثة التي يقف عليها خطاب الحدود: الانغلاق وإغلاق الأبواب في وجه اللاجئين والمهاجرين «غير الشرعيين»، بما في ذلك العودة إلى أساليب ما قبل القرون الوسطى في الاعتماد على جدران وأسوار، كالسور الفاصل بين مناطق السيادة الاسبانية في سبتة ومليلة والأراضي المغربيّة، والذي دُعّم وزيد ارتفاعه وتضاعفت إجراءات تسليحه مرات عديدة خلال العقد الأخير لمكافحة «الهجرة غير الشرعية»؛ والتحصينات حول ميناء كاليه الفرنسي لعرقلة وصول المهاجرين إلى بريطانيا؛ أو السور بين الولايات المتحدة والمكسيك، الذي شكّل عنواناً بارزاً في الحملة الانتخابية لدونالد ترامب، رغم أن مئات الكيلومترات منه بُنيت قبل عقدين، خلال رئاسة كلينتون، أي أوج زمن «اللا-حدودية» الذي أشار إليه دوبريه.
في الاقتصاد، يريد خطاب الحدود العودة إلى زمن الدولة القومية ووقف انزياح النشاط الاقتصادي نحو المناطق الأقل كلفة. هناك شكوك كبيرة حول إمكانية العودة للوراء فعلياً، لكن هذه الوعود تحتل موقعاً متصدراً في خطاب قوى اليمين الانعزالي الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة. وعدا انزياح الصناعة نحو المناطق الأقل كلفة، يتم التصدّي أيضاً لانزياح المناطق الأقل كلفة نحو المركز العالمي عبر «مكافحة الهجرة غير الشرعية»، أي بناء الأسوار لوقف الوافدين الجدد و، إن أمكن، طرد من تمكّن من الوصول قبلاً، كما يعد دونالد ترامب، وكما تُبشّر أحزاب اليمين الأوروبي.
أما الركن الثالث، أي الإرهاب، فنجد فيه تركيباً متناقضاً، فمن جهة يتم المزج بين «خطر الإرهاب» و«الهجرة غير الشرعية»، والحل هنا يكمن في تقوية الحدود ومنع الإرهابيين من دخول العالم الأول كي يبقوا «هناك»، أي في «حواضن الإرهاب» (الرقة، مثلاً، معقل داعش حسب الإعلام العالمي، وبشّرت وزارة الدفاع الأميركية ببدء العمليات لـ «عزلها عن محيطها الخارجي» قبل أسابيع. لا نعلم هل الرقيين دواعش إذاً أم غير موجودين، ولا يهم أن نعلم أصلاً). يشكّل الجهاديون الأوربيون، سواءً كانوا من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين أو ذوي أصول أوروبية-مسيحية دخلوا في الإسلام من بوابة الشبكات الجهادية، معضلةً هنا. يدعو فالس في المقال المذكور سابقاً إلى تشديد الإجراءات الحدودية عليهم لمنع وصولهم إلى سوريا والعراق، لكنه لا يقول شيئاً عن خطرهم داخل أوروبا نفسها، كما لا يوضّح إن كان يعتبر هذا الخطر شأناً داخلياً للحدود الفرنسية، أم أنهم من «هناك»، من خلف الحدود. اليمين أوضح في هذا المجال، ولذلك فهو أكثر إقناعاً، ولذلك يفوز.
لكن الإرهاب هو الركن الوحيد الذي يُدعى لحلّ إضافي عدا الحدود الكلاسيكية، إذ لم يبقَ من المعاني التسويقيّة لخطاب العولمة إلا أكثر عناصرها انحطاطاً، أي «الحرب على الإرهاب». ندعم الحدود «هنا»، ونقصف «هناك». في زمنٍ سابق، كانت الحرب الغربية على الإرهاب تبدو وكأنها استعراض لفريق الغلوبتروترز البهلواني لكرة السلة: قصف بالستي من على بُعد مئات الكيلومترات، طلعات جوّية تتزوّد بالوقود على ارتفاع 10 كيلومترات كي لا تُضيّع وقتها في الهبوط، تصوير هوليوودي للعمليات العسكرية.. الخ. أيضاً، كان منطق الحرب على الإرهاب مُتراكباً مع خطاب العولمة: الإرهاب هو عائق في وجه عالم أكثر عولمة وأكثر تجانساً. لم يعد الخطاب الغربي على هذه الشاكلة اليوم، بل صار خطاباً مذعوراً، يُفضّل الخفر الفعّال في عملياته العسكرية على الاستعراضية التكنولوجيّة، ويُصاب بالذعر من وضع جنوده بخطر «هناك». ذات الاستعراضية التكنولوجيّة والبهلوانية العسكرية باتت اليوم اختصاصاً بوتينياً، هو من يقصف في سوريا انطلاقاً من بحر قزوين، هو من يضع حاملة طائرات في المتوسط، هو من يُصوّر حملات القصف وكأنها ألعاب فيديو.
فلاديمير بوتين هو قيصر الحدود، مُلهم «السياسة الجديدة» المازجة بين السلطوية والانعزال.
الأركان الثلاثة لخطاب الحدود تصبّ في ضرورة أن يكون العالم اليوم عبارة عن حجرات معزولة فيما بينها بأسوار، والحرب على الإرهاب، بنكوصها عن خطاب العولمة، أي العامل الوحيد الذي كان يُجبرها على الحديث (رياءً) عن دمقرطة ونشر حرّيات، لم تعد أكثر من الإشارة إلى ضرورة أن تكون بعض هذه الحجرات مسقوفة أيضاً. الحرب على الإرهاب سقفٌ من الباطون على حجراتٍ تقع «هناك»، أي عندنا نحن.
لا يجد خطاب الحدود مناهضين جديين في الساحة الغربية بما يتعدّى المشاعر والنوايا والأفكار السامية التي تفشل، مرةً تلو الأخرى، في بناء خطاب سياسي عملي. لو راجعنا خطابات التصدّي لتقدّم اليمين الانعزالي، خصوصاً تلك التي قُدّمت كيسار جديد في أوروبا (حركات جنوب أوروبا الاجتماعية، يسار الأحزاب الاشتراكية) أو في الولايات المتحدة (حملة بيرني ساندرز للترشّح عن الحزب الديمقراطي) لوجدنا أنها، في مواقع عديدة، لا تقلّ حدوديّة عن خطاب اليمين الانعزالي، ولنا في المسألة السورية حصّة كبيرة في هذا المجال. ظهرت العام الماضي حركات ضخمة في أوروبا تحت يافطة «مرحباً باللاجئين» ناهضت بشدّة الخطاب العنصري ضدّهم، وبنت شبكات دعم وتضامن لا يُستهان بأثرها، لكننا سنجد -بأحسن الأحوال- عقماً سياسياً كبيراً لو بحثنا في تفاصيل الخطاب السياسي للتيارات والأحزاب التي حملت هذه اليافطة، فالمواقف تراوحت بين مواقف لا-سياسية تطهّرية تجاه العامل الذي أدّى لخروج ملايين السوريين من بلدهم، تنهل جلّ خطابها ومنطقها من مبادئ حقوقية وإنسانية تبدأ من لحظة وصول اللاجئ لبلدان اللجوء فقط (وقبل وصوله ليس لاجئاً، أي يبدو أنه ليس موجوداً)، وليس من اللحظة التي اضطُر فيها اللاجئ للخروج من بلده؛ أو حديث وٍستفالي عائم عن السيادة وأثر «التدخلات الخارجية» المُزعزع للأمن والاستقرار والتطوّر الطبيعي للدول والمجتمعات والأقاليم، وكأن التدخلات الخارجية هي جوهر المسألة السورية الوحيد؛ وصولاً إلى مواقف داعمة بوضوح لنظام بشار الأسد. نفس الـ «هنا» و«هناك»، نفس شبكة العنكبوت التي تُشكّلها الحدود: الاهتمام -إيجاباً، لا شك- بما وصلَنَا إلى «هنا»، أي اللاجئين، لكن لا كلام واضح يُقال عن «هناك»، والقليل الواضح هو في دعم طاغية دموي ومجرم ضد الإنسانية.
لا تدعو ردود أفعال النخب الليبرالية واليسارية -وحتى اليمينيّة التقليدية- للتفاؤل بإمكانية تقديمها ردّ فعل حقيقي إزاء إلتهاب خطاب الحدود. يسود حديث عائم، وذو أساس توبيخي غاضب في أحيان كثيرة، بعد كل حلقة من سلسلة النجاحات الانتخابية لخطاب الحدود الانعزالي، بدل محاولة تحليل الأسباب الموضوعية التي تجعل من خطاب الحدود سلعةً سياسية مطلوبة بكثرة، ومُستخدمة بكثافة في السياسة. خطاب الحدود هو الحلّ العملي، السريع والمباشر، لـ «إيديولوجيا الخوف». المصطلح هو عنوان كتاب صدر عام 2011 لخواكين استيفانيّا، الصحفي والكاتب الاقتصادي الاسباني. في هذا الكتاب، يقدّم استيفانيا عرضاً تاريخياً للاستخدامات السياسية والسلطوية للخوف، مركّزاً بعدها على أثر الخوف خلال الأزمة الاقتصادية التي تعرّضت لها أوروبا خلال نهاية العقد المنصرم وبداية العقد الحالي. الحدود هي المنعكس الأدريناليني، هي بناء الدرع الواقي أمام مخاطر آتية حتماً من الخارج، أكان لهذه المخاطر «طابور خامس» جسدي أو فكري في الداخل أم لا. الحدود هي ردّ الفعل الدفاعي، الصادر كمنعكس شرطي أمام تهديد تردّ عليه الغريزة قبل التفكير. التقوقع هو سرعة البديهة مقابل «السفسطة»، الفعل مقابل «التفلسف»، الحركة مقابل «التنظير»، الفاعلية مقابل «المثالية»، واقعية المتورّطين المفترضين في توابع الظروف السيئة أمام «هيبّية» المناهضين المترفين.. دونالد ترامب، الملياردير، يُزاود في القُرب من الفئات الأفقر والأكثر تضرراً من العولمة على من يعتبر أنهم «استابلشمنت» بعيد عن الشعب وهمومه وأوجاعه.
يبقى القول أنه لا بوادر في الأفق لظهور منافسٍ قادر على كسر الحلقة المفرغة لوثنية الحدود المُهيمنة، وأن انتظار أن يأخذ قصر نظر هذا الخطاب مداه، رغم اليقين بأنه سيؤدي لكوارث مضافة على ما يعيشه العالم اليوم، يبدو قدراً محتوماً. على المدى المنظور، يبدو كل استحقاق انتخابي، وكلّ نقاشٍ سياسي جديد وكأنه «لبنة أُخرى في الجدار» -كما في أغنية بينك فلويد– وكسر هذه الديناميكية يبدو الآن حلماً صعب المنال، ولا عزاء في قول أن لا حدود للأحلام.