يُحكى أن الذي يمشي الحيط الحيط، ويردّد السترة السترة يا الله، يحيا بأمانٍ واتزان، وينجب بنين وبنات؛ يحقق أحلامه الصغيرة والكبيرة، إن أراد: يلعب الورق أو البلياردو، يدرس الهندسة أو معهد إعداد المدرسين أو ينتسب إلى الكلية العسكرية، يتزوج في عشرينياته أو في ثلاثينياته؛ تخلع الحجاب أو تلبسه، تصلي الجمعة في الجامع أو في البيت، تربّي أبناءك وبناتك كما تحب: تعلمهم الإنكليزية أو الفرنسية، تجعلهم يدمنون على الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية لأنها غير مؤذية، أو تتحكّم بطبيعة ما يتسلّون به وبمدته، ترسلهم للنوم عند العائلة أو تمنع ذلك؛ تجعل مصروف البيت مسؤولية الزوج أو الزوجة، تتقرّب من أهله أو من أهلها، تجعل الجيران أصدقاء مقربين أو تحافظ على صلات رسيمة معهم.

هذه هي الحياة، في النهاية.

ما الذي نريده أكثر من ذلك؟

ولكن، يهمس بعض المغرِضين: حتى هذه الحياة لم تكن متاحة لنا. نحن، أيضاً، لا نريد أكثر من حياة بسيطة عادية، ولكنهم لم يتركوا لنا ركناً صغيراً نلجأ إليه دون أن يكونوا موجودين فيه، يلوّثون حتى أصغر خواطرنا السرية العميقة.

يوسوس هؤلاء المغرضون باستمرار عن حاجتهم للمزيد من الهواء والنور والمحبة، والغضب، أيضاً!

هنا ثلاثة أمثلة يسوقها المغرضون عما عشناه، ونعيشه، في ظل ذاك الأبد، بين حيوات الناس وقصصهم الحقيقة والواقعية جداً: عن الباحثين السوريين وسلطان الطرب وملك جمال سوريا والعالم؛ وبين تأملات تجريدية، أقرب إلى الميتافيزيقيا والفلسفة: عن المعرفة والعلم، عن الغناء والطرب والفن، عن المثلية الجنسية: نجد مادة تجعل المغرضين يجادلون بأن لا حياة بسيطة متاحة في ظل الأبد: يرخي الأبد بكلكله على كل تفاصيل حياتنا!

أنا، عن نفسي، أنقلُ ما يقوله المغرضون، بموضوعية كاملة، دون أن أعلّق أو أتدخل فيما يقولونه، تاركاً للقارئ الحكم على قصص المغرضين وادعاءاتهم.

الباحثون السوريون

يعيش في المنافي مجموعة من الشباب السوري الناجح جداً، أصحاب اختصاص في مجالات مختلفة ومتنوعة في العلوم، يطلقون على أنفسهم اسم «الباحثون السوريين»، وقد أطلقوا موقعاً إلكترونياً لاقى نجاحاً استثنائياً، حيث يقدّمون معلومات بسيطة أولية عن مختلف أنواع الأسئلة العلمية. لهذا الموقع متابعون كثر جداً جداً، معظمهم من صغار السن، ممن يبحثون عن معلومات سريعة، فيها معرفة حقيقية، قد يستخدمونها لاحقاً في أحاديثهم ومسامراتهم مع الأصدقاء والعائلة.

يشكّل تبسيط المعرفة وتقديمها للجمهور بشكل واضح مباشر أحد الواجبات الرئيسة لأي مثقف حقيقي، ومن هنا لا نستطيع إلا أن نحيي جهود هؤلاء الشباب الباحثين ونجاحهم الكبير.

ولكن، هناك مجموعة أسئلة، يطرحها المغرضون عن الموقع وتوجهاته السياسية، وحتى عن مفهوم العلم ذاته وأهميته، كما يراه الباحثون السوريون.

يقول المغرضون إن الباحثين يطرحون تصوراً مغلوطاً تماماً عن العلم ودوره في حياة الناس، ويتبنّون ما يمكن أن نسميه تنويراً من فوق، تنويراً يُفرَضُ على الناس ويتجاهل مصائبهم ومآسيهم وصراعاتهم الفعلية.

يتبنّى الباحثون، في موقعهم، بصراحة كاملة، شعار: العلم هو الحل. الكثير ممن يُفتَرَض أنهم علمانيون وتنويريون، يتبنون هذا الشعار أيضاً. ولكن، باستثناء بعض المتحمسين جداً للنجاحات الميكانيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبعض الماركسيين، ممن اعتقدوا، وما زالوا يعتقدون حتى اليوم، مخطئين، بأن ماديتهم علمية، لا يوجد، في أيامنا هذه، في أي بقعة من هذا العالم الواسع، من يقول إن العلم هو الحل.

دعونا نسأل، أولاً، كيف يكون العلم هو الحل لمشاكل فعلية مباشرة شديدة الأهمية، كقصف حلب الشرقية بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة، على سبيل المثال، أو حصار غزة المستمر منذ عقد تقريباً، أو نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية؟

في الحالتين الأولى والثانية، يبدو العلم هو المشكلة، وليس الحل؛ في الحالة الثالثة، مزيج من الحقد والتعصب والعنصرية وإشكاليات عميقة في الديموقراطية التمثيلية هي المشكلة، والتي لا يبدو أن التقدم الهائل العلمي، في البلد رقم واحد علمياً، قادرٌ على حلها.

في رواية صغيرة للكاتب الياباني شوساكو إندو، بعنوان البحر والسم، يخبرنا الكاتب عن التجارب التي أجراها العلماء اليابانيون على أسرى أمريكيين، باسم التقدم والحضارة والعلم. الساحر في الرواية ليس هذا العرض لبؤس العلم والعلماء الأخلاقي، بل للظروف الاجتماعية التي تجعل الوقوف في وجه الطغيان صعباً للغاية بالنسبة لمن يعيش حياته اليومية ويحاول أن يرسم طريقه في ظل نظام فاشي، وفشل كامل للناس العاديين في تدبير أمورهم دون الاعتماد على هذا النظام.

مثل هذا الطرح، وحده، حول إشكاليات العلاقة بين العلم والأخلاق والسياسة، سيسمح لنا بالتفكّر عميقاً في الجوانب المختلفة لهذه العلاقة الشائكة جداً. ونحن، المغرضون، لا نريد التخلي عن العلم، على الإطلاق: تخلى عن العلم أولئك اللذين يتبعون خزعبلات ما بعد الحداثة، ممن يقضون أوقاتهم في الغرب، ويتفرّغون لنقاشات عقيمة تصلح لأبناء العالم الأول ممن لا هموم لديهم. هؤلاء لا يمتون بصلة لمشكلاتنا في العالم الواقعي، تحديداً في دول العالم الثالث. عندنا، العلم قوة تحرر، بالطبع: تنتشر الخرافات في كل مكان، وبين كل الأديان والطوائف والقوميات والإثنيات. ولكن العلم، بالرغم من كونه قوة تحرر، إلا أن له حدوداً لا يتخطاها.

لنكن منصفين مع الباحثين، لأنهم يقولون ضمناً، إن هذه المشاكل ليست مما يثير اهتمامهم، فهم يخبروننا، بأن النقاشات السياسية والدينية ستبقى دوماً مثار جدل، مما يجعلك تسأل نفسك: «طيب، العلم، إن لم يكن حلاً لهذه المشاكل، فأي حل يقدمه، ولأية مشاكل؟».

لا أعرف حقيقةً ما الذي يدور في خلد الباحثين، ولكننا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال كما يلي:

العلم قوة تحرر محدودة: لا يستطيع العلم أن يهزم الميتافيزيقيا.

الأخلاق قوة تحرر لا محدودة: لا تأتي الحرية إلا بمحاربة الطغيان.

ولكن، أكثر من ذلك، للباحثين إياهم، صورةٌ في مدينة تدمر، بعد سيطرة قوات النظام والروس عليها، فيما يبدو أنه حفلة موسيقية كلاسيكية على أنقاض المدينة: ببدلات رسمية وضحكات لشباب يستمتعون بوقتهم، يحتفل الباحثون بالحياة!

تحجّج الباحثون بأنهم لم يتخذوا أي موقف في الصراع السياسي أو في الحرب الدائرة، وأنهم يحتفلون بالموسيقا في مدينة سورية: «ما الذي تريدونه، يا مغرضين يا أعداء الحياة: أتريدون أن نقطع كل صلاتنا مع كل من يعيش في سوريا، سوريا العطوفة الجميلة، حتى لو كانت ترزح تحت حكم الطغيان؟ هل تريدون ألا يستمتع بالحياة أولئك اللذين يعيشون في مناطق النظام؟ كل ما تفعلونه هو توجيه إصبع الاتهام إلى كل من يسعى لتقريب وجهات النظر، عن طريق المعرفة والعلم، بين السوريين المتخاصمين: نحن، الباحثون السوريون، فوق الصراع السياسي، ولسنا طرفاً».

كلام حق، والله كلام حق موزون، كما يتوقع المرء ممن يحمل شعار العلم والعقل. ولكن، يسأل المغرضون: «لماذا لم نرَ أي صورة لأي باحث سوري، أو غير سوري، في الصنمين، في منبج، في سقبا، في عين ترما، في سراقب، في الصاخور؟ لم نرَ أي باحث في المستشفيات التي قصفها الروس، في الأراضي التي حرثتها براميل الممانعة، في مخيمات الذل على الحدود، داخل وخارج ما يقولون إنها سوريا التي يحبون! أليست هذه أيضاً مدناً سورية؟ ألا يحق لمن يعيش فيها، أيضاً، أن يستمتع بالحياة؟».

لا ننتظر إجابة عن هذه الأسئلة من الباحثين، أو من غيرهم؛ علينا أن نختم هذه التأملات، لننتقل إلى ما هو أعمق، بعيداً عن العقل والعلم، قريباً من القلب والروح: فن سلطان الطرب!

إذن، في المحصلة، يقول المغرضون ما يلي:

لا يوجد شيء اسمه الحياد الأخلاقي باسم العلم والمعرفة: الصمت عن المجزرة المفتوحة انحيازٌ للقاتل؛ لا يوجد شيء اسمه العلم هو الحل: لا يوجد حلول إلا بالانخراط الأخلاقي الكامل في الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ لا يوجد تنوير ولا تقدم ولا حضارة تُبنى على المعرفة العلمية وحدها: التنوير لا يُبنى إلا بالانحياز للضعفاء والمقموعين والمقهورين.

كل استخدامات المعرفة العلمية، بشكل أو بآخر، في أمريكا أو روسيا، في سوريا أو في كوريا الشمالية، في العالم الإغريقي أو في ظل الخلافة العباسية، مرتبطة بوشائج لا يمكن فكّها، ولا تجاهلها، بالسياسة والسلطة والدين.

لننتقل الآن إلى أبو وديع، سلطان الطرب السوري، بلا منازع ولا مجادل.

سلطان الطرب

لم تقدّم سوريا أي مطرب حقيقي منذ نهاية السبعينيات حتى اليوم: وحده جورج وسوف مثّل سوريا، بتناقضاتها وجمالها وحزنها ومآسيها: سلطان الطرب تربّع على عرش قلوب السوريين، في ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ سويا الحديث، باستثناء صباح فخري، والحلبيين الأسبق، ممن ينتمون إلى زمنٍ مضى لن يعود.

ابتدأ الصعود الصاروخي للطفل المعجزة في مراهقته في نهاية السبيعينات، متنقّلاً في حفلات في أكبر فنادق ومطاعم سوريا ولبنان؛ في الثمانينيات، أحيا حفلات في مصر والخليج وبلاد الفرنجة: مواويل عاطفية شعبية، وقدرة خاصة على الطرب، وحساسية استثنائية لشاب لا يتعب: يستمتع أبو وديع بالغناء، ويستمتع معه جمهور مسحور بالمراهق الوديع الحساس: تنتمي أفضل أغانيه إلى هذه المرحلة المبكرة: حلف القمر، الهوى سلطان، روحي يا نسمة، الحبايب، يلي تاعبنا سنين في هواه، دبنا عغيابك، وغيرها؛ بالإضافة إلى مواويل: أنا مسافر يا أمي، وحدي أنا والكاس، أنت وأنا يا ريت عنا كوخ؛ وأغاني شعبية نجحت نجاحاً هائلاً وقتها: ماما يا ماما، ترغلي يا ترغلي، كنتي بنت تلات سنين، وغيرها.

مع بداية التسعينيات، صعد نجم الوسوف ليصبح المنافس السوري للعراقي كاظم الساهر وللمصري عمرو دياب: افتتح العقد بالتعاون مع شاكر الموجي ليقدّم أفضل ما أخرجه عقد التسعينيات في سوريا ولبنان: لو نويت تنسى اللي فات، وجرحونا برمش عين؛ ترافق ذلك مع انتهاء الحرب اللبنانية، مما سمح للوسوف بأن يستقر في بيروت، ليحتفي به الإعلام اللبناني بكافة أشكاله المسموعة والمقروءة والمرئية، باستثناء قناة المنار وملحقاتها التي تعادي الغناء والفرح والحب: لم يحصل يوماً أن احتضن جمهورٌ مطرباً شاباً كما احتضن اللبنانيون أبو وديع: تلبنن الرجل تماماً في هذه المرحلة، ولكن، أيضاً، بقي سورياً حتى النخاع! هذه خلطة غريبة عجيبة لا يتقنها إلا الوسوف، ونزار قباني: السوري الذي تلبنن، ثم تعولم، وبقي دمشقياً مهما تلوّن في العالم الواسع.

في هذه المرحلة، قدّم تلفزيون المستقبل، الناطق باسم رفيق الحريري، العائد إلى لبنان بمشروع ضخم مثير للجدل، ما لا تستطيع سوريا بأكملها ان تقدمه لأي مطرب: في عزّ صراعه مع تلفزيونات لبنانية أخرى على تسلية المشاهدين، وعلى السياسة، أيضاً، تبنّى المستقبل أبو وديع: عشرات المقابلات والحفلات، إلى أن أتت سهرة ليل العاشقين سنة 1996، لتتوّج السلطان سلطاناً: أكثر من ثلاث ساعات خُصصت لسلطان الطرب، استضاف فيها تلفزيون المستقبل نجوم لبنان الأشهر وقتها: وليد توفيق وراغب علامة ونجوى كرم والراقصة أماني، ليشهدوا الوسوف متألقاً: جنتلمان شديد التهذيب، مع مزحات لاذعة مرحة صادقة، وثقة كاملة بنجوميته وبمحبة لبنان له: نجم لبنان، السوري، اللامع الكامل!

في النصف الثاني من التسعينيات، تراجعت سوية الأغاني قليلاً، ولكن شهرة السلطان ترسّخت لتشمل الوطن العربي بأكمله، وليصبح له أتباعٌ ومحبّون في سوريا ولبنان يلاحقون كل تسجيل وحفلة، يقارنون بين الكلمات، بين كل آه وآه، ويعلنونه بطلاً لا يطاله النقد: هنا ظهرت كلام الناس، أرضى بالنصيب، وحبيبي كده: دخل الوسوف، مضطراً، كما صرّح مراراً، عالم الفيديو كليب: تميز الوسوف بكونه طبيعياً جداً في كليباته، طبيعياً لدرجة مثيرة للقلق!

في التسعينيات، غنّى أبو وديع «صيّاد الطيور»، من كلمات أحمد فؤاد نجم. لا أعرف حقيقةً كيف ولماذا غنّى أبو وديع هذه الأغنية: لا تشبه شيئاً من أغانيه السابقة أو اللاحقة؛ فشلت الأغنية جماهيرياً، وأصرَّ الوسوف اللئيم على غنائها في حفلات مختلفة حتى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية؛ أعطى الوسوف للأغنية من روحه ما أعطاه لكافة أغانيه: نبرة حزن صادقة، وطرب خاص به، والبحّة التي لن يقتلها لاحقاً حتى الإدمان. ربما، حملت صيّاد الطيور شيئاً من النبوءة الحزينة للوسوف، ولنا، نحن محبّو أبو وديع؛ جيلان من السوريين أحبوا الوسوف بصدق لا شك فيه: كلهم اليوم يواجهون مصيراً لم يتوقعه من تابع وسوف الثمانينيات.

في الفترة ذاتها تقريباً، غنّى أبو وديع «تسلم للشعب يا حافظ»، الأغنية التي كان يبثها التلفزيون السوري باستمرار، من حفلة مهرجان المحبة والسلام، أو مهرجان الباسل، كما أصبح يسمّى لاحقاً: على أن أبو وديع هو أبو وديع: لم يتورّط في جوقة التهريج التي تغني بالفصحى، بل لوّن الأغنية بأسلوبه الخاص، حيث أن الوسوف لا يتغير يا جماعة: سواء غنّى لحافظ الأسد أو لأحمد فؤاد نجم أو لبليغ ووردة أو لأم كلثوم أو للترغلّي أو لعبد الحليم حافظ.

تميّز أبو وديع، في المرحلتين الأولى والثانية، بخجل صادق وأصيل: يرتبك أمام الكاميرات في اللقاءات الصحفية، ويجيب إجابات قصيرة مبتسرة مباشرة. مع منتصف التسعينيات، بدأ التغيير: أصبحت أغاني الوسوف أكثر حزناً، وأقل دفئاً: لسا الدنيا بخير، زمن العجايب، طبيب جراح، على سبيل المثال؛ ترافق ذلك مع تحول لمزحات أكثر وقاحة، وتكبّر وغرور متمادٍ في عنجهيته، بالإضافة لإحياء بعض الحفلات وهو ثملٌ تماماً. مع بداية القرن الجديد، اكتمل التراجع: الشخصية العدائية، والوقاحة في الإعلام وفي الحفلات، تعدّت الحدود؛ على أن محبي الوسوف لم يهتموا بكل هذا: بقي له مخلصون في سوريا ولبنان لا يتخلّون عنه، وبقيت بساطته وسذاجته، حتى حين يختلطان بالوقاحة والعجرفة، محببتان للملايين.

في نهاية العقد الأول من القرن الحادي و العشرين، يُحكى أن الوسوف أسلم و تزوج من شابة قطرية مسلمة، حيث تمنع القوانين في الدول العربية الرجل المسيحي الزواج من المرأة مسلمة ما لم يشهر إسلامه؛ أما الشابة فمن أصول تركية فلسطينية يمنية، تجنّست في قطر، وهو أمر نادر الحدوث في دول الخليج، حيث ينعم الأمير على أحد الرعايا بالجنسية. (ولكن، في الواقع، زوجته الأولى مسلمة سنية، أيضاً، ويقول البعض أنهما تزوجا زواجاً مدنياً، في حين يؤكد آخرون أنه أسلم: لا يوجد أي تأكيد من أبو وديع، الذي نجح في حجب حياته الشخصية والعائلية، وإيمانه الديني، عن فضول المعجبين، ليبدو دوماً كمسلمٍ/مسيحي مجسِّداً التعايش الثقيل بين أتباع الديانتين في سوريا ولبنان).

موقف المثقفين من أبو وديع مُحبط ومحيّر: على العموم، يكره المثقفون جورج وسوف وعبد الحليم حافظ: ربما كان للبساطة وروح الفرح ومحبة الناس الفطرية لهذين البطلين، ما يدفع المثقف إلى النفور الفوري، لأن المثقف يخاف من الفطرة البسيطة البريئة: هناك فجوة هائلة، بحر من التعالي والكراهية، بين المثقفين وبين محبي الوسوف. يبدو لي أحياناً أنني المثقف الوحيد في سوريا ولبنان المحب لسلطان الطرب، وأخشى أن مستقبلي المهني سيتأذى بشدة نتيجة لهذا التصريح.

ما الذي يعنيا في الوسوف، في النهاية؟ ربما، قصة نجاح مميزة، وتداخل قصة سوريا الحزينة مع قصته الشخصية: لم يكن الوسوف وسيماً، ولا مهندماً، كعمرو دياب؛ لم يكن تلميذاً لأحد ولا صاحب مدرسة؛ لم يدّعي أنه يفهم باللغة العربية وبالشعر، ككاظم الساهر؛ لم يكن إلا شاباً فقيراً خجولاً موهوباً من قرية مسيحية فقيرة، صعد إلى قمة النجومية، لينتهي به المطاف مع بداية الثورة ظلاً لما كان يوماً نجمنا المفضّل: يعلن أبو وديع عن تأييده للنظام، اليوم، بكلمات متعبة، غير صافية وغير نقية وغير واضحة: بين المرض والإدمان، لم يبق من سلطان الطرب إلا ظل خراب حزين لما كان يوماً نجم سوريا الأجمل، ظل لخراب عصف بالأرض والبشر والحجر لمدة أربعة عقود: أُفقرت البلد على كافة المستويات، لينتهي بها الأمر مع مطرب وحيد، يعيش في لبنان ويتنقّل بجواز السفر اللبناني، فيما سوريا تمحضه محبتها المطلقة! أربعة عقود: عمر محبتنا للسلطان!

هل هناك أي شك، إذن، في أن ما قاله المغرضون هو الصواب؟ الغناء والطرب والفن، وكل ما يتبع القلب والروح، كما هو حال كل ما يتبع العقل والعلم، يرتبط بحبل لا ينفصم بالسلطة والسياسة!

ملك جمال سوريا والعالم

عبد الله الحاج موديل سوري، مذيع وممثل ومقدّم برامج في الفضائيات السورية، حصل على العديد من الجوائز العالمية كعارض أزياء وفي مسابقات جمال متعددة. اشتُهر الأستاذ عبد الله لسببن: الأول، برامجه التلفزيونية التي تدعو إلى العودة إلى سوريا، أرض السلام والمحبة والحنان؛ والثاني كليباته الصغيرة المنزلية التي أثارت عاصفة من النقد بسبب ما فيها من شخلعة غير معتادة بين السوريين. البرامج عادية جداً، فيها تقاليد التلفزيون السوري الأصيلة: احتفاء بالتعدد الديني والتسامح والتعايش، عرض أطايب الطعام والشراب الوطني، التفاخر بالأمن والأمان، اتهام الجميع بمؤامرة على وطننا الحبيب؛ في كليباته المنزلية، المواضيع نفسها، ولكن متداخلة مع تماهيه هو نفسه مع سوريا: يهاجم من يهاجمون سوريا، يصبّ جام غضبه على المعارضين وعلى أعداء الوطن والحرية والجمال، يتباهى بنفسه وبوطنه وبجماله.

يثير الرجل عاصفة من الانتقادات الغاضبة والسخرية الجارحة، خاصة من قبل مؤيدي الثورة. لا يبدو لي أن هذه السخرية في محلها تماماً. الأجدى أن نفهم الظاهرة وأبعادها.

في كل دول العالم، تقريباً، هناك مذيع أو أكثر في التلفزيونات، يتحلون بصفات عبد الله، ويلقون نوعاً من النجاح والمتابعة، محدوداً، ولكنه يشكّل جزءاً من المشهد الفني. القضية في سوريا هي توقيت ظهور عبد الله الحاج، وإبرازه على الساحة الفنية.

يبدو أن التفسير المنطقي لهذا الظهور، هو أن الماكينة الإعلامية الرسمية تستخدم عبد الله الحاج لتوجيه رسائل عن الحرية والعلمانية في سوريا الأسد. الحاج يلعب دوراً مرسوماً بدقة كبيرة: لن يصبح نجماً، فليس من سمات النظام أن يباهي بوجود أمثاله على درجة كبيرة من الشعبية، ولكن وجوده اليوم يعطي نكهة محببة لعلمانية النظام وأصدقائه.

يتّهم أنصار الثورة ملك جمال سوريا والعالم بأنه مثلي، ويسخرون منه ومن أمثاله، ليبيّنوا خراب البلد وانحلالها الأخلاقي الكبير تحت حكم المخابرات.

هنا حطنا الجمّال يا جماعة: فلنترك الشاب المسكين في تلفزيون سوريا الرسمي، ولنتكلّم بصراحة عن علاقة المثلية الجنسية بالثورة.

أولاً، المثلية ليست تهمة. تشير كافة الدراسات العلمية إلى أن نسبة محددة من الناس، تقترب من السبعة بالمائة، تولد بميول جنسية مثلية. لهؤلاء الحق في أن يحيوا كما يريدون، حياة طبيعية كاملة، وأن يحبوا ويعشقوا ويتزوجوا. لطالما كنت أخشى القول إنني أدافع عن حقوق المثليين الكاملة، خوفاً من ردود الفعل الاجتماعية، ولكنني أشعر بتأنيب ضمير لا يني يكبر كل يوم: عندي أصدقاءٌ مثليون كثر، سوريون وعرب وأجانب، يعانون من ضغط اجتماعي واحتقار ذكوري وعذاب يومي لا يوصف: أقل ما أفعله ان أعلن دعمي الكامل لحقوقهم المشروعة.

ولكن، قد يسأل البعض، ما الذي يعنينا اليوم، في ظل قصف حلب والغوطة ودير الزور ودرعا والرقة بأحدث الأسلحة الروسية، بكلام فارغ عن بعض الناس ذوي الطباع الغريبة، سواء كانوا منحرفين، أم مقموعين اجتماعياً، كما تدّعي؟ ألا يوجد في سوريا من المآسي ما يكفي كي نلتفت إليها، بدلاً من الكلام التافه، كلام الغربيين والعلمانيين السخيفين، عن المثلية الجنسية والتحرر الجنسي؟

وأجيب، أجل، بالطبع: هناك مآسٍ في سوريا تفوق في أهميتها أي كلام عن حقوق المرأة أو المثلية الجنسية أو تدريس نظرية التطوّر: هناك الطائرات الروسية. إن كان المقصود أولوية الدفاع عن حق الناس في الحياة، فبالطبع، ودون نقاش، نحن مع تسليم مضاد طيران فوراً لحماية الناس، وتأجيل كل الكلام الفارغ عن حقوق المرأة والمثليين والأقليات والأكثريات ومشاكل التعليم والصحة؛ لأنه حين يموت الناس، لا يوجد داعٍ للدفاع عن المرأة والأقليات والمثليين.

ولكن، مع ذلك، هناك خلل في هذه الحجة، يا أصدقاء.

لا يبدو أن الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية والعسكرية تترابط بشكل مباشر، بهذه الطريقة العرجاء: لا يوجد أي سبب واقعي يجعلنا نؤجل صراعاتنا الاجتماعية لحساب صراع سياسي أو عسكري. ليس الأمر أن الدفاع عن المثليين يعني التخلي عن حلب، أو أن الحرب مع داعش تجعل من المحتّم أن نسلّم بتفوق الرجل على المرأة: هذه الصراعات تتأرجح على مستويات مختلفة، متقاطعة، ولكنها ليست متوازية. على العموم، قضية الأولويات يطرحها أولئك اللذين يريدون التهرب من قضايا اجتماعية، والتركيز على قضايا سياسية.

ولكن، يجب الحذر الشديد هنا: هناك خطر الوقوف مع الديكتاتوريات على حساب الناس، لأن الناس «متخلفون» و«جهلة» و«إسلاميون». هذا الكلام مختلف تماماً عن الكلام في الأولويات: قد نختلف في أولوية الصراع من أجل التغيير السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي؛ هذا اختلاف مشروع ومفهوم وطبيعي؛ أما الانحياز إلى الطغيان لأنه أكثر «تحرراً» في القضايا الاجتماعية، فيشكّل تناقضاً غير مفهوم وغير طبيعي: هناك تناقض عميق في طلب الحرية من الديكتاتوريات: لا نريد حرية الإسلاميين وقدرتهم على التحرك في نطاق مجتمعي واسع، ولا حرية المرأة وقدرتها على الوصول إلى كافة وظائف الدولة بالتساوي مع الرجل، ولا تدريس مناهج علمية تقول بالتطور الدراويني، ولا، بالطبع، حرية المثليين جنسياً، أن تكون منّة أو مكرمة من الأب القائد، ولا أن تختفي هذه الحريات عندما يغضب الأب القائد. هذه ليست حريات مكتسبة، بل منّة وعطاء من الحاكم الأوحد الأبدي. الحريات، بكافة أشكالها وأنواعها، يجب أن تتأصل في المجتمع بطريقة عضوية وطبيعية، مهما صعبت هذه المهمة أو بدت مستحيلة.

ولا يعني هذا، على الإطلاق، أن الحوامل الاجتماعية للثورات العربية، جاهزة او متحمسة أو أنها تميل إلى قضايا مثل تحرر المرأة والدفاع عن المثليين وإصلاح النظام التعليمي أو الاقتصادي: معظم هؤلاء الناس يميلون إلى تيارات إسلامية محافظة. لا يجوز أن نخفي هذه الحقيقة، وأن ندّعي أن الثورة هي ثورة بالمعنى الاجتماعي الأعمق، المعنى الذي يطمح إليه بعض العلمانيين المرتبطين بالثورة.

إذن، ما الذي يجب فعله، بين مطرقة الطغيان وسندان الإسلاميين؟ أعتقد، وبلا تردد، الانحياز إلى الناس: الثائرين سياسياً والمحافظين اجتماعياً، والعمل معهم على محاولة خلخلة المفاهيم التي نراها تقمع الناس اجتماعياً. يجب علينا طرح كل القضايا الاجتماعية للنقاش، دون حدة ودون تجريح ودون تعالٍ واتهام بالتخلف والجمود، على حلفائنا الإسلاميين الأكثر تمسكاً بالتقاليد. تجريح الناس والتعالي عليهم، من قبل التنويري العلماني، ذاك نفسه الذي سمعناه سابقاً يؤمن بالعلم على حساب الاخلاق، سيدفع بالعلماني هذا إلى أن يتحالف مع الطغيان على حساب الناس لقرفه من جهل الناس.

هذا التنويري العلماني هو العدو الأول للناس، وللتنوير، وللعلمانية!

نختتم هنا، مع المغرضين، بأن قضية المثلية الجنسية، كما هي كل أشكال الجنس، والعلم والمعرفة والفن والطرب والفرح والحزن والقهر والرقص والصلاة والصيام والحج والتعليم والصحة والحشيش والخبز والهواء، قضايا سياسية، قبل كل شيء!

وبعدين؟

يًحكى أن بعض المغرضين شكّكوا في الحكمة التي توارثها الآباء عن الاجداد، ورفضوا ان يمشوا الحيط الحيط؛ تساءلوا وناقشوا وتظاهروا، قالوا إن الأبد يتحكّم في كافة تفاصيل حياتنا، ثاروا في كل شارع وحي وركن؛ وصلت أصواتهم أبواب السماء المغلقة، وصرخاتهم وضحكاتهم وأمانيهم ملأت أركان الأرض الأربعة.

يُحكى أيضاً أن الأبد لم يسقط: الحيط والبيت والمدرسة والمشفى والمخبز قصفها الروس، لا سقف فوق رؤوسنا في هذا البلد المدمّر، لا سترة ولا ساتر ولا مستور: كل ما في حوزتنا تناهبته طائرات الأمم، وميليشيات شيعية، وكتائب داعشية.

طيب، وبعدين، ما الذي سنفعله الآن؟

هل نسلّم رقابنا للأبد، ونلبد تحت أي حيط في أي مكان داخل الوطن المدمّر أو خارجه في المنافي والشتات؟ أم هل نصدّق المغرضين، مرة أخرى، اللذين يقولون لنا إن سترة الحيط كذبة لا تصمد أمام التدقيق في حياة الناس وقصصهم، ولا في وجه التأملات الميتافيزيقية والفلسفية، ونبحث عن بدائل تعيننا على المضي قدماً، بحثاً عن حياة لا تسترها الحيطان، بل نبنيها نحن بالعلم والمعرفة والفن والطرب والحرية؟

يجيب الوسوف، مخاطباً صياد الطيور:

«لعود تاني لا أنا حيران

ولا محزون ولا فرحان

ولا بشبع غنا وألحان

ولا بحكي مع النسمة،

ولا بشكي من القسمة

ولما الدنيا تبكيلي،

أقول دي مسيرها مبتسمة

وأديلي سنين على دا الحال

بقاسي المر والبطال

يا صياد يا صياد الطيور يا خالي».