«كل العالم طلعوا مرفوعين الراس… إلا حلب!»، هذا ما قاله واحدٌ من الناجين من إحدى القوافل التي احتجزتها قوات النظام وحلفاؤها في معبر الراموسة، وتمت إعادة ركابها إلى داخل الأحياء المحاصرة في إحدى مراحل الخروج الدامي من حلب.

هي واحدة من الكلمات التي تعبّرُ عن حالة القهر التي رسمت شكل المدينة وأهلها، عندما اختلطت مشاعر الفرح باحتمال الخروج من الجحيم مع مرارة الحزن والخيبة، فرح النجاة والولادة الجديدة مع ألم الاقتلاع من الجذور وتوديع الذاكرة والتهجير القسري لمن عاش هذه المدينة ثورةً وحلماً وجوعاً وموتاً وانتماءً.

الخوف من عدم العودة والدموع التي تجمدت في العيون تختصرُ الأيام الأخيرة لأبناء المدينة المنكوبة التي تُرِكَت لقدرها، وتكتبُ تفاصيل خروجهم بعد أن أقفلوا أبوابها وراءهم تاركين ذاكرتهم وقبور أبنائهم وهذيانهم على جدرانها.

 أبناء حلب الشرقية أثناء تجمعهم استعداداً لعمليات الإجلاء / الجزيرة
أبناء حلب الشرقية أثناء تجمعهم استعداداً لعمليات الإجلاء / الجزيرة

من طريق الباب إلى الأتارب

ضرغام حمادي، وهو ناشط مدني يعمل في مجال الإغاثة، يقول عن أيامه الأخيرة في حلب وعن طريق الخروج:

كانت الجثث قد ملأت الشوارع ولا توجد إمكانيةٌ لنقلها. القصف العنيف الذي بدأ منذ منتصف تشرين الثاني كان يوحي بمحرقة ستحدث. الطيران لم يعد يفارق الأجواء، ومعه أخبارٌ كانت تصل إلى مسامعنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو بشكل رسائل على الأجهزة المحمولة، وخلاصتها أن قرار الحسم قد بدأ في المدينة.

الحصار الذي بدأ منذ الشهر السادس على المدينة زاد الأمر سوءً، والأهالي كانوا في حالة يرثى لها من فقدان للماء بعد استهداف المحطة الأخيرة التي تزود المدينة به في حي سليمان الحلبي، وفقدان الكهرباء نظراً لعدم وجود المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات، والطعام الذي شَحَّ وخاصة الخبز، حتى باتت حصة الفرد الواحد نصف رغيف كل يومين، بالإضافة لغلاء فاحش في الأسعار وعجز المنظمات الإنسانية عن إدخال المساعدات إلى الأهالي.

القصف الروسي والسوري للمشافي الميدانية ومراكز الدفاع المدني حوّلَ حلب إلى مدينة منكوبة، وتاه الناس بين إمكانية البقاء والخروج، مع توارد أخبار عن السماح لأهالي المدينة بالخروج إلى داخل مناطق النظام.

مع اشتداد القصف، ثم سقوط أحياء مساكن هنانو والحيدرية في 26/11/2016، خرجنا أنا ومعظم سكان حي طريق الباب الواقع في منتصف أحياء حلب الشرقية، الذي يشكل امتداداً للطريق الذي يصل بين المطار المدني ودوار الصاخور. تركنا حي طريق الباب تحت القذائف، واتجهنا نحو حي بستان القصر جنوب غرب المدينة، الذي بات أكثر أمناً بعد أن صار حي طريق الباب على تماس مباشر مع قوات الأسد والميليشيات الحليفة لها إثرَ سيطرتهم على حي الصاخور المقابل.

لم نكن نخاف الطائرات التي كانت لا تستثني أي منطقة في أحياء حلب الشرقية، ما كنا نخشاه أن يدخل الجيش الأسدي إلى حينا ونقع في الأسر، أو يأخذ نساءنا وأطفالنا، فلقد سمعنا عن حالات كثيرة لشباب أخذهم النظام إلى المعتقلات أو زجَّ بهم ليقاتلوا معه، وسمعنا عن حالات اغتصاب بحق النساء.

الخيار الوحيد أمامنا كان الموت، أو الخروج من المدينة بطريقة آمنة نحو الريف الغربي. في بستان القصر قام أهالي الحي باستضافتنا، وتقاسمنا معاً خوفنا وموتنا وأملنا وطعامنا والأغطية المتبقية، التي يمكن أن تقينا هذا البرد الذي بدأ ينخر عظام أطفالنا في غياب الوقود والحطب.

في 8/12/2016 بدأ التمهيد المدفعي على منطقة الكلاسة وبستان القصر من قبل قوات النظام بعد أن سقطت مناطق الفردوس والصالحين، فاضطررنا للذهاب إلى حي العامرية لنُفاجأ بحجم القصف والدمار، فأخذنا قراراً بالتوجه نحو حي المشهد.

في حي المشهد كانت الرغبة بالنوم تثقل كاهل الجميع، ولكن الخوف من تقدم عناصر الجيش والشبيحة حال بيننا وبين ذلك، فقسمنا أنفسنا إلى مجموعات من خمسة أشخاص وتناوبنا على حراسة المدنيين على مدار الساعة.

بدأ الحديث عن إخراج أهالي المدينة يتعالى، وكنا وقتها أكثر من مئة ألف شخص محاصرين في أربعة أحياء هي الزبدية، المشهد، القسم المحرر من صلاح الدين، والقسم المحرر من سيف الدولة، وسمعنا أن هناك اتفاقاً بين الفصائل الثورية وقوات النظام على إخراجنا من المدينة.

كان الحديث عن تهجيرنا من بيوتنا يُشعِرُنا بالبرد، جميع من في المدينة كان يقفون في منتصف الطريق، ينظرون إلى أطفالهم ويتمنون إخراجهم من المحرقة، ثم يبدأ الحديث عن المدينة وشوارعها وذكرياتها. بكينا كثيراً، خجلُ الرجال جعلهم يخفون وجوههم بمناديلهم، حتى أن أحدهم احتج ببرودة الطقس حين سرت قشعريرة في جسده جعلته يرجف حتى أصابع قدميه، ثم بدأ بنوبة بكاء هستيرية.

في 13/12/2016 كانت ملامح الهدنة قد اتضحت، وصار الحديث عن الخروج من المدينة أمراً واقعاً علينا القبول به. مشيتُ في الشوارع، لمستُ جدران الأبنية المهدمة واعتذرتُ من شجيرةٍ واقفةٍ في منتصف الطريق. الخذلان ملأ حلقي والخوف كان رفيق الطريق، الخوف الذي انتزعته الثورة من قلبي يوم خرج الشباب الأوائل يصرخون للحرية بهتافهم «الشعب يريد اسقاط النظام». ها هو الشعب الآن ينتظر دوره في الخروج من مدينته، وها هو جيش الأسد وشبيحته ينتظرون على بعد أمتارٍ خروجَنَا مهزومين من بيوتنا.

لا أعرف كيف مضت هذه الليلة على الجميع، كان الناس يفترشون الطرقات والصمتُ هو السمة العامة التي تخيّم على الوجوه التي فقدت بريقها.

صباح 14/12 كانت المناطق التي يجتمع فيها المدنيون في ساحة العامرية وسيف الدولة وتل الزرازير تشبه يوم الحشر، عشرات الآلاف من الأشخاص قد احتشدوا في انتظار دورهم للخروج، وكانت كتيبة الفاروق من حركة أحرار الشام وبعض الثوار من حركة نور الدين الزنكي هم المسؤولون عن إخراج المدنيين وتوزيع الأرقام من 1 حتى 50 لكل حافلة من الحافلات التي ستقلهم إلى الريف الغربي.

كانت المسافة لا تتجاوز 1 كم من آخر تل الزرازير في حي السكري مقابل الكازية المدنية في حي الراموسة، وحتى آخر نقطة لتواجد حواجز قوات الأسد والشبيحة عند الجسر الثاني.

خرجت الدفعة الأولى وتزاحمَ الناس للحصول على رقم للخروج وسط تخوفٍ من حصول ما لا تحمد عقباه. الحافلات لم تعد تكفي، فطلبوا من الذين يملكون سيارات مدنية الخروج بها بحيث ترافق كل حافلة 25 سيارة مدنية، وكان نصيبي يوم الخميس مساء في 15/12/2016 أن أصعد في سيارة «سوزوكي» أنا وعائلتي المكونة من ستة أطفال وزوجتي وثلاث عائلات أخرى، لتبدأ رحلة الخروج من المدينة فيما يشبه مشاهد التغريبة الفلسطينية التي طالما سمعنا عنها.

لم يكن معنا إلا ثيابنا بعد أن تخلينا عن كل أشيائنا خلال رحلات النزوح. حملتُ أطفالي في الساعة الثانية عشرة، ووضعتُهم في صندوق السيارة رغم برودة الجو، وبعد أن امتلأت الحافلات والسيارات المدنية في النقطة صفر مقابل الكازية بدأت رحلة الخروج. دقائقُ قليلة وكان من المفترض أن نصل إلى حاجزٍ للهلال الأحمر الذي سيرافقنا في رحلة الخروج، لكننا فوجئنا بعلم قوات الأسد في انتظارنا على الحاجز الأول.

حاولوا استفزازنا وقاموا بشتمنا وسبنا أمام أطفالنا وزوجاتنا، لعلهم كانوا يريدون من أحدنا أن يرد عليهم، ولكننا بقينا صامتين في رحلة التشرد، ثم رافقتنا حافلة للهلال الأحمر كانت معهم.

أكملنا طريقنا ومررنا بثلاثة حواجز كان يقف عليها جنود روس قاموا بعدنا، ثم مررنا بحاجز كان يقف عليه رجلان يرتديان بزات كُتِبَ عليها منظمة الصحة العالمية، ثم مررنا بحواجز كان عددها تقريباً عشرة لشرطة المرور وجيش الأسد وشبيحته، وحواجز كان عليها رجالٌ يرتدون بزات عسكرية وأعلام لحزب الله اللبناني ولواء فاطميّون، الذين شتمونا ولعنوا آباءنا ونادوا بشعارات طائفية أمامنا، وقاموا بتفتيش ثيابنا وإيقافنا لساعات طويلة، وقاموا بتصويرنا بهواتفهم.

وصلنا إلى أول نقاط الثوار في الساعة السابعة صباحاً ليستقبلنا أهلنا هناك، وكان مجلس المدينة قد استأجر حافلات عرضوا علينا إيصالنا بواسطتها إلى مراكز الإيواء الموجودة إما في منطقة سرمدا أو الأتارب، وكان النقل مجاناً.

انتقلنا إلى منطقة الأتارب، تم استقبالنا هناك من قبل الأهالي والمنظمات الإنسانية، وحصلنا على الماء الطعام وأماكن للسكن. شعرنا أننا ولدنا من جديد، ولكننا فعلاً لم نكن نريد الخروج من المدينة، غير أننا استسلمنا لقدرنا.

طلبَ إليَّ أطفالي أن أشتري لهم «فروج مشوي» ففعلت. فرحوا جداً وأكلوا البندورة والموز، أما أنا فقد اكتفيتُ بالتدخين.

من الصاخور إلى الأتارب

أم أحمد، وهي واحدةٌ من النساء اللواتي بقينَ في المدينة، ولم تخرج من بيتها أبداً في حي الصاخور رغم كل ما تعرض له من قصف:

لم يكن القصف هذه المرة كغيره، مئات الصواريخ وقذائف الراجمات والمدفعية سقطت علينا، لم نعد نخرج من المنزل، لم يكن الطعام والشراب هو ما نحتاجه، بل كل ما كنا نريده أن يتوقف هذه القصف لدقائق حتى نلتقط أنفاسنا.

مع دخول الجيش إلى مساكن هنانو نزحنا إلى سيف الدولة، وعند بدء تنفيذ الاتفاق على الخروج من المدينة كان الزحام شديداً في ساحة السكري. قام زوجي بالتسجيل هناك في 15/12/2016، ثم توجهنا إلى ساحة العامرية. كانت الساعة الواحدة والنصف ظهراً عندما وقفنا في المكان الذي يُفتَرَض أن تأتي إليه الحافلات، انتظرنا أكثر من ثلاث ساعات حتى أخبرنا أحد الثوار أن الحافلات في ساحة السكري. هناك جاءت حافلتان فقط، وقرابة الساعة الخامسة فقدنا الأمل وقررنا العودة إلى البيت الذي كنا نسكن فيه، فطلبتُ من زوجي الذهاب إلى ساحة العامرية ليرى إن كان هناك حافلات.

عاد زوجي ليخبرنا أن الحافلات تقف في ساحة العامرية، وأن الحديث عن ساحة السكري كان لتخفيف الزحام. ذهبتُ مع زوجي وأطفالي إلى ساحة العامرية، كانت الساعة قد قاربت التاسعة حين صعدنا الحافلة. لم يكن هناك أي تنسيق، الجيش الحر كان فقط يمنعنا من التقدم أكثر حتى لا نتعرض للضرب من قبل قوات النظام، التي قيلَ لنا إنها استهدفت المدنيين في الساحة منذ قليل.

بقينا في الحافلة قرابة الساعتين حتى سُمِحَ لنا بالانطلاق للخروج من المدينة. رافقتنا سيارة للهلال الأحمر على الحاجز الأول. أكثرُ ما كنت أخافه أن أفقد أحد أطفالي في هذا الزحام الشديد، لم يقم أحدٌ بتفتيشنا بل اكتفوا فقط بتفتيش حقائبنا وتصوير الحافلات. لا أعرف عدد الحواجز التي مررنا بها ولكنها كانت كثيرة، سبع ساعات حتى وصلنا إلى الحاجز الأخير حيث تنفست الصعداء، كان يقتلني الخوف من أن يتعرض أحدٌ ما إلى زوجي، أو أن تتم الإساءة لنا.

عند وصولنا إلى الأتارب كان أحد اقارب زوجي بانتظارنا، خرجنا من القصف والحصار ولكن قلوبنا ما زالت محاصرة في المدينة هناك.

 من داخل أحد الباصات التي أقلّت أبناء حلب الشرقية إلى الريف الغربي
من داخل أحد الباصات التي أقلّت أبناء حلب الشرقية إلى الريف الغربي

ساعات الخوف في معبر الراموسة

ابراهيم، من رجال الدفاع المدني في حلب، يتحدّث عن ساعاتٍ من الرعب في معبر الراموسة:

في الساعة العاشرة والنصف من يوم الجمعة 16/12/2016 خرجنا إلى معبر العامرية، وصلنا إلى هناك حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف بسياراتنا بعد أخذٍ وردٍّ ووساطاتٍ مع الهلال الأحمر، إذ كانوا قد أرجعونا أكثر من ثلاث مرات قبل أن يتم السماح لنا بالخروج.

كنا أكثر من عشرين حافلة تتقدمنا سيارة للهلال الأحمر وأخرى للصليب الأحمر، وخلف الرتل أيضاً كانت هناك سيارة للهلال الأحمر وأخرى للصليب الأحمر. وصلنا إلى جسر الراموسة، كان هناك حاجزٌ يقف عليه ضباط روس فتحوا أبواب الحافلات ونظروا إلينا وقاموا بعدّ الركاب في كل حافلة، ثم صعد أحد عناصر الأسد وعرضَ الأمان على من يريد النزول ليعود إلى تحت سقف الوطن.

لم يجبه أحدٌ من الركاب واكتفينا بالصمت، علَت وجهي ابتسامة سخرية وهو يتحدث عن سقف الوطن، الوطنُ الذي قتل أبناءه والسفاحُ الذي يدعونا للعودة إلى ذلٍّ رفضناه وخرجنا عليه منذ سنوات. نظرَ العنصر إلينا كمن يريد اقتلاع قلوبنا، حدّقَ في عيوننا بغضب، وكنتُ أتمنى أن أشتمه وأشتم قائده الأسد، لكنني اكتفيتُ بالصمت.

سمحوا لنا بالمرور، بعدها وقفنا عدة مرات على حواجز لميليشيات إيرانية وحزب الله، حتى وصلنا إلى الجسر الذي يقع بين الحي الرابع في الحمدانية ومشروع 1070 شقة. أوقفونا هناك حوالي 20 دقيقة، وقال لنا رجلٌ من الهلال الأحمر عند سؤاله عن سبب التوقف إنه إجراء روتيني: «عشر دقائق ومنمشي».

فجأةً قامت دبابتان بمحاصرة الرتل، واحدةٌ من الأمام وأخرى من الخلف، بالإضافة إلى عربات الدوشكا التي وجهت أسلحتها إلينا وكثيرٌ من الجنود يرتدون بزّاتٍ عليها شعار حزب الله وشعاراتٌ أخرى لم أعرفها. قاموا بإطلاق النار في الهواء وترهيبنا، وطلبوا منا النزول من الحافلات وسط إطلاق نار كثيف.

 صورة تظهر احتجاز ميليشيات موالية لإيران وللنظام السوري لمدنيين بعد إنزالهم من الباصات خلال عملية الإجلاء من حلب الشرقية/ 16 كانون الأول 2016 /IRT
صورة تظهر احتجاز ميليشيات موالية لإيران وللنظام السوري لمدنيين بعد إنزالهم من الباصات خلال عملية الإجلاء من حلب الشرقية/ 16 كانون الأول 2016 /IRT

نزلنا من الحافلات وكان معي كاميرتي الخاصة و«هاردات» وبعض الأشياء الشخصية التي تتضمن توثيقاً لعمر الثورة بكامله ولجرائمهم. حملتُ حقيبتي التي تحتوي تاريخ الثورة ورميتها نحو امرأة كانت في الحافلة، وطلبتُ منها أن تحفظها بأمانتها فرآني أحد العناصر من حزب الله اللبناني وسألني عن محتويات الحقيبة. طلبوا مني أن أنبطح على الأرض، وقاموا بأخذ الحقيبة. بقينا على الأرض ما يقارب النصف ساعة، وكان الرصاص يطلق حولنا لإرهابنا، ثم نقلونا إلى الطرف الآخر من طريق الأوتوستراد «طريق الإياب»، وأمرونا بالاستلقاء على وجوهنا. كل من كان يرفع رأسه كانوا يدوسون بأحذيتهم عليه ويضربونه، علا صراخُ النسوة والأطفال، كان المشهد مأساوياً وأصوات البكاء تحزُّ في قلوبنا دون أن نستطيع فعل أي شيء.

أحد الشباب قام بالرد عليهم فقاموا بإطلاق النار عليه، سمعنا أصوات الرصاص وإعدامات ميدانية ولكننا لم نستطع رؤية وجوه الذين استشهدوا.

كل من يحاول النظر كانوا يطلقون النار عليه، وعرفنا فيما بعد أن أربعة أشخاص استشهدوا. بعدها طلبوا منا خلع ملابسنا وأحذيتنا وتركونا حفاة، وقاموا بسرقة هواتفنا المحمولة وكل النقود التي كانت معنا وهوياتنا أيضاً. بقينا حوالي ثلاث ساعات وهم يضربوننا ويعذبوننا ثم صعدنا في الحافلات من جديد حتى جسر الراموسة. أوقفوا الحافلات هناك وأنزلونا منها، وطلبوا منا الركض باتجاه العامرية من جديد وسط إطلاق نار.

بعدها بيومين تمكنتُ من الخروج بإحدى الحافلات إلى الأتارب. لست حزيناً إلا على تاريخ الثورة وتوثيقه، لقد اقتلعونا من بيوتنا، وسرقوا تاريخنا، لكن ذاكرتنا لن تنسى وهي ستتكفّلُ بتوثيق جميع جرائمهم.

ودَّعَ أهالي حلب مدينتهم بالاعتذار، كلهم طلبوا منها أن تسامحهم، كل الذين رأيتهم ينزلون من الحافلات كانوا يختنقون بعبراتهم، كانوا صامتين وأبطالاً، ويبدو واضحاً من وجوه كثيرين منهم أنهم يستعدّون لكتابة فصلٍ جديدٍ من فصول الثورة: «بخاطرك يا حلب، بخاطرك يا يوم».