تتبع بلدة مضايا إدارياً لمنطقة الزبداني في محافظة ريف دمشق، وتقع شمال غرب دمشق في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وكانت تعد مصيفاً رئيسياً هاماً في سوريا جنباً إلى جنب مع مدينة الزبداني. يعمل كثيرٌ من سكانها في مهنٍ ترتبط بالسياحة، وبسبب موقعها الحدودي مع لبنان فإن العمل في تهريب البضائع من وإلى سوريا يعدُّ مصدر دخلٍ أساسيٍ لقسم من سكان البلدة.
التحقت مضايا بالثورة السورية مبكراً، وظهرت فيها مجموعات للجيش السوري الحر منذ مطلع 2012، وسيطرت عليها وعلى محيطها بشكلٍ كامل تدريجياً خلال عام 2012. دارت أعنف المعارك بين المقاتلين من أبنائها وأبناء الزبداني المجاورة من جهة وقوات النظام من جهة أخرى في سهل الزبداني الفسيح المجاور طوال ثلاث سنوات، قبل أن يتقدم النظام في المنطقة وينجح في حصار مضايا بشكلٍ كاملٍ منذ أواسط عام 2015، وذلك بمساندة حاسمة من مقاتلي حزب الله اللبناني الذين زرعوا حولها حقولاً من الألغام جعلت الحصار بالغ القسوة والخطورة.
,
كانت الأيام الأولى من العام 2016 هي الأكثر صعوبة وقسوة على مضايا، حيث شهدت البلدة التي كان يقطنها 40 ألف نسمة من أبنائها وأبناء الزبداني آنذاك، أسوأ الأزمات الإنسانية التي خلفتها سياسة الحصار وفق تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، حتى كان البدء بتنفيذ الشق المتعلق برفع الحصار وإدخال المساعدات من الاتفاق المعروف باسم (الزبداني/مضايا والفوعة/كفريا) في 11/01/2016، وذلك بالتزامن مع البدء بإخلاء الجرحى.
رغم هشاشة الاتفاق وعدم تنفيذه كما ينبغي، فإنه يتم إدخال بعض الفرق الإنسانية والمساعدات الغذائية والطبية، ولكنها قليلةٌ ولا تقارن بحاجة أهالي المنطقة.
والآن بعد نحو عام على الرفع الجزئي وغير المستقر للحصار، ما هو حال مضايا؟
تواصنا مع السيدة ربى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان الحديث عن الأحوال الإنسانية والمعيشية الآن في مضايا. والسيدة ربى، وهو اسمٌ مستعار، مدرّسةٌ فقدت زوجها في القصف العشوائي، وكذلك شقيقها الوحيد، بينما خرج والدها إلى إدلب بموجب الاتفاق الذي قضى بخروج بعض المقاتلين، لتبقى هي وطفلتها الصغيرة وأمها مع شقيقتيها.
تقول السيدة ربى: «يسير الوضع من سيئٍ إلى أسوأ، وخصوصاً بعد الهجمات التي يقوم بها النظام على وادي بردى، إذ بتنا نفتقد مستلزمات الحياة الأساسية. لا وجود للكهرباء، والماءُ لا يصل إلى المنازل بل نقوم بجلبه إما بالصهاريج أو بعبوات بلاستيكية. لا يتوفر الغاز مطلقاً، أما المازوت فهو سلعة نادرة ويتم الحصول عليه بتصنيع يدوي وبأسعار باهظة، ويتم استخراجه من مشتقات البلاستيك».
عند سؤالها عن سعر برميل المازوت، بدأت إجابتها بالضحك: «تقول برميل؟! لم نعد نستخدم هذا المصطلح، إنما سعر الفلتر (كمية تتراوح بين لترين وثلاثة) هو 6000 ستة آلاف ليرة، هذا إن توفر. وسيلة التدفئة الوحيدة هي الحطب وسعر الكيلوغرام الواحد هو 900 ليرة في منطقة جبلية باردة في معظم أوقات السنة، كما أننا نستخدم الحطب للطهي وغلي الماء أيضاً. معظم الناس يحرقون أغراض بيوتهم وملابسهم القديمة للتدفئة، والأسعار ترتفع مثل البورصة حسب احتكار تجار المنطقة المتعاونين مع النظام وحزب الله.
نفتقد للملابس الشتوية أيضاً، وفي ظل عدم وجود القماش قام الأهالي باستخدام البطانيات التي وزعتها الأمم المتحدة في صنع ملابس دافئة».
ولكن ما هو حجم المساعدات التي توفرها الأمم المتحدة، وما أنواعها، وهل تغطي كافة الحاجات الأساسية ومتطلبات الحياة؟ أجابت السيدة ربى: «قدمت الأمم المتحدة مساعدات مختلفة… نعم، إلا أنها غير كافية. ربما تغطي جانباً بسيطاً يكفل بقاءنا على قيد الحياة، لكننا نفتقد للكثير من الاحتياجات، وفي ظل تلك الحاجة لجأ الناس إلى بيع الإعانات أو قسم منها، خاصة غير الضروري لهم، لكي يوفروا ثمن حطب التدفئة. أما الخضار واللحوم، فهي شبه معدومة ولا أحد يستطيع شرائها تقريباً».
عن الوضع الطبي تحدثت السيدة ربى: «بالنسبة للأدوية فهي غير متوفرة وتعطى بالحبة لندرتها، أما الكادر الطبي فهو ضعيف ولا يتواجد أطباء. الطبيب المتواجد هو بالأصل طبيب بيطري، يبذل قصارى جهده وأغلب عملياته يقوم بها على النت بالتواصل مع أطباء أخصائيين يوجهونه. يذهب المريض فلا يتم تشخيص حالته بشكلٍ جيد، وإن تم تشخيص الحالة لا يتوفر العلاج المناسب له طبعاً.
يوجد مشفى وحيد بمعدات بسيطة، ويتم نقله دائماً من بيتٍ إلى آخر، وهو لا يحتوي على تجهيزات كافية ولا معدات عناية مشددة. تم إنشاء غرفة عمليات بسيطة، كما أدخلت الأمم المتحدة حاضنتين للخدج والأطفال الذين يحتاجون للرعاية منذ نحو شهرين، لكن حزب الله قام بتخريب واحدة قبل دخولها، وبقيت واحدة تعمل في حال توفر الكهرباء أو الوقود، كما لا يتوفر الاوكسجين اللازم لها، أما المخبر فيقدم تحاليل بسيطة وإسعافية بسبب ضعف الأدوات والإمكانيات.
هل يعتقدون أن مشاكلنا ستنتهي إذا أدخلوا لنا القليل من المواد الغذائية، هم أبقونا فقط على قيد الحياة تحت شعور مرير بالعجز والألم، دون أن يقدموا لنا ما يساعدنا على تخفيفه. لقد سمع العالم أجمع عن حالات التهاب السحايا التي فتكت بعائلة كاملة وعدد كبير من الأطفال، وكيف استمرت معاناتهم أسابيع حتى تم إخراجهم، وكيف تم قنص أكثر من طفل وتعرضوا للنزف الشديد والكسور، وكيف تم تأخير إخراجهم من مضايا».
قادتنا كلمات ربى الأخيرة إلى سؤال عن النساء في مضايا وأوضاعهن على وجه الخصوص، فكان الحديث التالي: «أكثر المتضررين هي المرأة، التي حملت على عاتقها عبئاً مضاعفاً، فرجال المنطقة معظمهم بين شهيد وجريح ومهجر، مما جعل نساء كثيرات يأخذن موقع الرجل، وعليهن تأمين مستلزمات بيوتهن وأطفالهن.
هل تعرفون حال الواحدة منا عندما يتضور طفلها من الجوع أو يتلوى من المرض أو يشعر بالبرد، معظم النساء هنا في حالة حرمان من الأمان والحب والحنان، ضائعات مشتتات وترتقبن المجهول.
تجد كثيرات من النساء صعوبات بالغة في تأمين لقمة العيش، وتعرضت بعضهن لمحاولات الاستغلال من قبل ضعاف النفوس ممن يسيطرون على مراكز الدعم من أجل غايات رخيصة، ومع ذلك حاولن إيجاد طرق لدعم أنفسهن وأسرهن حتى لا يقعن في فخ العوز، فمنهن من تخبز للناس أو تخيط أو تقدم مساعدات بأجر بسيط،
وأنا لولا عملي مدرّسةً… الله أعلم ما كان حالي ليكون».
أما عن حال المدارس والعملية التعليمية: «أبواب المدارس مفتوحة أمام التلاميذ، لكنها تفتقد للمستلزمات والكتب، وكانت الأمم المتحدة قد أدخلت كتب تعليم ذاتي حسب مناهج النظام، ولكن لا تتوفر القرطاسية. أما التدفئة داخل المدارس فهي معدومة، والمدرسون هم من أهل المنطقة ولا زالوا يتقاضون رواتبهم من النظام، إذ يتم تحويلها إليهم دون الحاجة لخروجهم من مضايا.
كذلك هناك معهدٌ ترعاه إحدى المنظمات، وهو المعهد الذي أعمل فيه أنا. أما عن طلاب الشهادتين الثانوية والإعدادية، فيتم تحميل مناهجهم من الإنترنت، ويقوم المدرسون بتلخيصها للطلاب لمساعدتهم قدر الإمكان».
في الختام قالت السيدة ربى إنها تحدثت إلينا كي يصل صوتها إلى العالم الخارجي: «إن الوضع لم يتغير هنا منذ عام، ونحن النساء أكثر من تضرر من هذه الأوضاع، فهل من وسيلة لإنقاذنا؟ خسرنا الأب والابن والأخ والزوج والمعيل، فليس بالقصف وحده يموت الإنسان وإنما هناك موت بطيء، وهو أصعب من الموت بقذيفة أو طلقة قناص. ولا زال النظام مصراً على بسط سيطرته التامة على مضايا والزبداني، والآن يضعُ وادي بردى تحت نيرانه لتأمين مصادر المياه، وتأمين محيط دمشق بشكلٍ أكبر، كما أن ذلك جزءٌ من خطة حزب الله لتأمين طرقاته من الحدود اللبنانية إلى دمشق عبر منطقتنا.
من مضايا، من نساء مضايا على وجه الخصوص، نوجه صرخةَ وجودٍ للعالم الأصمّ، علَّ صدى كلماتنا يصل فيمنع موتاً بطيئاً يفتك بنا».
كانت تلك رسالة ربى الأخيرة، قبل أن تنهي حديثها وتعود من جديد إلى البحث عما قد يؤمن حياة أطفالها في كابوس الحصار.