سيطرت قوات النظام السوري برياً على طريق الكاستيلو شمال حلب في السابع عشر من تموز عام 2016، وذلك بعد أن كانت قد قطعته نارياً قبل ذلك بنحو سبعة أيام. حاولت فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية أن تقاوم هناك، وتمكنت من استعادة مجمع الكاستيلو لبضع ساعات في التاسع عشر من تموز، لكنها لم تتمكن من تثبيت مواقعها تحت غارات الطائرات الحربية الروسية، لتستمر المعارك في طريق الكاستيلو ومحيطه عدة أيام.
كانت أعنف هذه المعارك في الليرمون، بني زيد، الأشرفية، السكن الشبابي، ومخيم حندرات، وواجهت فيها الفصائل هجمات متزامنة على مواقعها من قوات النظام والميليشيات المساندة لها، ومن مقاتلي الوحدات الكردية المتمركزة في حي الشيخ مقصود الملاصق للأشرفية والسكن الشبابي. لكن كل ذلك انتهى في أواخر تموز بسيطرة قوات النظام السوري والميليشيات المساندة لها على معامل الليرمون وحي بني زيد شمال مدينة حلب في الثامن والعشرين من تموز، وقبلها سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على حي السكن الشبابي في السابع والعشرين منه، لتصبح كامل الثغرة المتمثلة في طريق الكاستيلو والأحياء المحيطة به خارج سيطرة الفصائل.
البنادق نحو الراموسة
أصبحت أحياء حلب الشرقية محاصرة بالكامل في النصف الثاني من شهر تموز، ومع عملية إطباق الحصار التدريجية، كانت الأنباء تتحدث في أوساط المعارضة والثورة السورية عن استعداداتٍ تقوم بها فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية، وعلى رأسها تلك المنضوية في تحالف جيش الفتح في إدلب، للقيام بعملية عسكرية كبيرة بهدف فك الحصار عن الأحياء الشرقية، التي بدأت تتدهور الأوضاع الإنسانية فيها سريعاً، وبدا شبح الجوع والموت مخيماً على عشرات آلاف المدنيين وبضعة آلاف من المقاتلين فيها.
يمكن القول إن إغلاق ثغرة الكاستيلو قد أنجز تماماً في الثلاثين من تموز، بعد أن حصنت وعززت قوات النظام مواقعها الجديدة، وباتت استعادة الطريق تحتاج عملاً عسكرياً ضخماً ومنظماً. غير أن العمل العسكري الضخم المنتظر إياه لم يبدأ هناك، بل بدأ في اليوم التالي، في الحادي والثلاثين من تموز، على جبهات جنوب غرب حلب في منطقة الكليات العسكرية وطريق الراموسة.
كان الهدف المعلن من ذاك العمل هو كسر الحصار عن حلب، وخاضته الفصائل الإسلامية المنضوية في غرفة عمليات جيش الفتح، وفصائل الجيش السوري الحر المنضوية في غرفة عمليات فتح حلب.
بدأت المعارك بهجمات عنيفة نفذها مقاتلو الفصائل على محاور كتيبة الصواريخ وتلة أحد وتلة مؤتة والمشرفة ومشروع 1070 شقة الملاصق لحي الحمدانية، وترافقت مع اشتباكات أقل عنفاً على عدة جبهات داخل المدينة وخارجها. وخلال يومين، باتت السيطرة على كلية المدفعية والجزء المجاور لها من حي الراموسة هي فقط ما يفصل المقاتلين عن فك الحصار.
شاركت جميع الفصائل والتنظيمات المنتشرة في ريف حلب الغربي وريف إدلب في المعركة، وعلى الرغم من أن جيش الفتح لم يكن يخوض المعركة منفرداً، إلا أن الظهور الإعلامي لجيش الفتح كان الأبرز، وبدا من خلال التغطيات الإعلامية أن المعركة معركته، كما أن العمليات الانتحارية التي نفذها مقاتلوه لعبت دوراً حاسماً في تراجع قوات النظام.
كذلك بدا واضحاً أن جميع الفصائل، بما فيها تلك المنضوية في جيش الفتح، كفيلق الشام وجبهة فتح الشام وأحرار الشام، تصدر بيانات منفصلة حول مجريات المعركة، وهو ما يؤكد هشاشة تحالف الفصائل هناك وتضارب توجهاتها، وهي الهشاشة التي ظهرت بشكلٍ واضحٍ مع إصرار جبهة فتح الشام وفصائل أخرى على إطلاق تسمية غزوة الشهيد إبراهيم اليوسف على معركة تحرير مدرسة المدفعية.
أثارت تلك التسمية لغطاً في صفوف ناشطي الثورة المعارضة، ورفضتها فصائل الجيش الحر المنضوية في غرفة عمليات جيش الفتح رفضاً غير معلن، ظهر من خلال عدم تبني التسمية، وكذلك لم تستخدمها كلُّ المنشورات الصادرة عن جيش الفتح نفسه، مع أن جبهة فتح الشام من أقوى الفصائل المكونة له.
على أي حال، لم يكن هذا النقاش مؤثراً في مجريات المعركة وقتها، واستمرت اندفاعة الفصائل التي تمكنت في السادس من آب، بعد السيطرة على كلية المدفعية، من كسر الحصار وسط احتفاءٍ وحماسة شعبيةٍ عارمة، خاصة لدى أبناء حلب المحاصرة، الذين كانت معركة كسر الحصار تلك طوق نجاةٍ لهم، وتفاعلوا معها على نطاقٍ واسعٍ برز من خلال قيام المئات من أطفال حلب بإشعال الإطارات، لعلَّ دخانها يساهم في تخفيف تأثير الطائرات وصواريخها على مجريات المعركة.
youtube://v/rabRY6UKq2M
أسئلة بلا أجوبة، وزراعة بلا حصاد
نجحت الفصائل في كسر الحصار وفتح طريقٍ إلى داخل حلب، وبدا هذا نصراً كبيراً لمناوئي نظام الأسد، لكن أسئلةً كبرى رافقت المعركة وتلتها، وبقيت بلا بحثٍ عميقٍ عن الأجوبة تحت وطأة المعارك.
ما الذي كانت تفعله الطائرات الروسية؟ وهل عجزت فعلاً عن صدّ تقدم مقاتلي الفصائل؟ ولماذا لم يكن ثمة عملٌ عسكريٌ موازٍ على جبهة الكاستيلو؟ ولماذا بدأت المعركة في اليوم التالي للإغلاق النهائي لطريق الكاستيلو؟ وما هو المعنى العميق والخلفيات البعيدة والقريبة للخلافات بين الفصائل؟ ولماذا كانت أغلب وسائل الإعلام تنسب المعركة كلها لجيش الفتح، رغم الحضور المهم لفصائل الجيش الحر؟ ولماذا لم تقم الفصائل المتمركزة داخل المدينة بإشعال الجبهات على نحو مؤثر؟ هل كانت غير قادرة على ذلك فعلاً؟
ربما تبقى هذه الأسئلة طويلاً بلا أجوبة، وربما تبقى كذلك إلى الأبد، لكن ما رشَحَ عن خلافات بين فصائل مدينة حلب وفصائل جيش الفتح القادمة من إدلب يشي بالكثير، إذ تحدّثت أخبارٌ متداولةٌ عن اشتراط جيش الفتح انضمام فصائل المدينة له كي يواصل دعم معارك الحفاظ على المدينة والتقدم فيها، وأن هدف دخول الداعية السعودي عبد الله المحيسني إلى حلب، وهو القاضي العام لجيش الفتح ورئيس مركز دعاة الجهاد في إدلب، كان التسويقَ لمشروع جيش الفتح، ونشر الدعاة داخل أحياء المدينة المحاصرة. وعلى أي حال، فإن التأكد من صدقية هذه الأخبار سيبقى رهيناً بالمستقبل، وبانفتاح أوضاع البلاد على ظروفٍ يمكن فيها الكلام عن ملفاتٍ خطرةٍ كهذه.
لم يكن كسر الحصار كاملاً في أي يومٍ من أيام سيطرة الفصائل على الراموسة وكلياتها العسكرية، ولم يتم تأمين الطرقات وتحصينها وتوسيع نطاق السيطرة حولها بحيث يتم إدخال شحناتٍ كبيرةٍ من المساعدات والأغذية والذخائر إلى داخل الأحياء الشرقية، بل اقتصر ما دخل على كميات قليلة من الطعام جمعها أبناء ريف إدلب. كذلك لم تثمر تلك المعركة الناجحة نسبياً عن أي نتائج سياسية على أي صعيد، بل بدا واضحاً أنها زادت الشقاق بين فصائل وتيارات الثورة والمعارضة السورية، وكانت ميداناً لمزاودات داخلية مناطقية وفصائلية وحتى إيديولوجية، كما أنه لم يكن متاحاً للمعارضة السورية السياسية الاستفادة منها في الكواليس الدبلوماسية، لأن ما قاله إعلام الثورة السورية قبل غيره، هو أن قيادة المعركة كانت في يد «إرهابيين» وفق التصنيفات الدولية.
في مطلع شهر أيلول، صعَّدَت قوات النظام والميليشيات المساندة لها تحت غطاءٍ جوي روسي من هجماتها جنوب غرب حلب، وتمكنت على نحو خاطفٍ ومفاجئ من استعادة الكليات العسكرية وعلى رأسها كلية المدفعية، وإعادة ضرب الحصار الكامل حول أحياء حلب الشرقية في الخامس من أيلول، وسط تراجعٍ لمقاتلي جيش الفتح وغرفة عمليات فتح حلب، ووسط صدمة وذهول جمهور المعارضة والثورة السورية، وصمت قادة الفصائل، وخاصة قادة جيش الفتح الذين كانوا قد وعدوا بتحرير كامل مدينة حلب، وليس كسر الحصار عن أحيائها الشرقية فقط.
هدنةٌ ومناورات سياسية، وعسكرية
بعد أن نجحت قوات النظام في استعادة الكليات العسكرية وحصار أحياء حلب الشرقية مجدداً، عاد إلى الواجهة الحديث عن تعاون روسي أميركي عسكري وسياسي في سوريا، تم تتويجه بالإعلان عن هدنة عيد الأضحى في الثاني عشر من أيلول، وهي الهدنة التي جاءت في سياق مشروع روسي أميركي مشترك سينتقل إلى مرحلة تنسيق العمل العسكري بينهما ضد «الجماعات الإرهابية» إذا نجحت الهدنة.
فشلت الهدنة وتداعت تدريجياً كسائر الهدن ومشاريع وقف النار الشاملة في سوريا حتى وقت كتابة هذه السطور، وعاودت قوات النظام محاولاتها التقدم داخل الأحياء الشرقية من حلب، ونجحت في أواخر أيلول ومطلع تشرين الثاني في إحراز تقدمٍ بالغ الأهمية شمال حلب، وسيطرت على مخيم حندرات ثم مشفى الكندي ومساكن الشقيف ومنطقتها الصناعية.
ترافقت تلك الفترة مع تطورات وتحولات سياسية وميدانية مهمة كان لها أثرٌ بالغ في مآلات معارك حلب، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:
– استمرت التجاذبات والتوترات والاتهامات المتبادلة بالمسؤولية بين فصائل وتكتلات الثورة والمعارضة السورية عن فشل المعركة الأولى، وكان لهذه السجالات أثرٌ سلبيٌ كبيرٌ على معنويات السوريين داخل سوريا وخارجها، وعلى معنويات المقاتلين والمدنيين المحاصرين في حلب.
– تزامنَ فشل التنسيق الروسي الأميركي الذي كان واضحاً أنه آخر المحاولات في عهد إدارة أوباما، مع تصاعد الحديث عن تعاون روسي تركي جديٍّ في الملف السوري، وبدأت أولى سماته تظهر من خلال التقارب الروسي التركي التدريجي، ثم التفهم الروسي المعلن والحذر في الوقت نفسه لعملية درع الفرات، خلافاً لموقف النظام السوري وموقف إيران الرافض لها تماماً.
– زاد الخلاف بين الفصائل حول عملية درع الفرات والموقف منها من التوتر والنزاعات وفقدان الثقة المتبادلة بينها، ووصل إلى حد اتهام تركيا والفصائل القريبة منها بالتخلي عن حلب، وسحب المقاتلين منها لصالح القتال ضد داعش والتقدم في عملية درع الفرات.
– صعّدَ سلاح الجوي السوري والروسي قصفه العنيف على أحياء حلب الشرقية، واستهدفت الغارات المرافق الحيوية بعنف، وخاصة المستشفيات، حتى بات هناك قناعة كاملة أن المدينة لن تصمد إذا لم يتم كسر الحصار عنها سريعاً.
– اقترح المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا في السادس من تشرين الأول إخراج مقاتلي جبهة فتح الشام من حلب، مبدياً استعداده لمرافقتهم بنفسه إذا كان ذلك يكفل عدم تدمير حلب وإبادة سكانها، وهو ما رحبت به روسيا أيضاً، غير أن جبهة فتح الشام وسائر الفصائل في حلب رفضت هذا الطرح.
– اعتباراً من أول تشرين الثاني، بدأ الكلام اليومي على وسائل التواصل الاجتماعي عن بدءٍ وشيكٍ لمعركة كسر الحصار الثانية، وبالتوازي معه أحاديثٌ غير واضحة عن مشاريع اندماجٍ وتحالفات لم يحدث أيٌ منها على أرض الواقع، حتى في داخل حلب المحاصرة التي كانت أحوج ما تكون إلى توحدٍ كهذا. ووصل الأمر إلى حد إعلان توفيق شهاب الدين قائد حركة نور الدين الزنكي بدء المعركة في الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول، لكن المعركة لم تبدأ، وتعرَّضَ شهاب الدين لانتقادات قاسية بسبب إعلانه ذاك. وقد أدى كل ذلك إلى ارتباك وترددٍ كبيرين، وإلى تراجع عامٍ في المعنويات.
جبهات غرب حلب تحت النار
أخيراً بدأت المعركة المنتظرة، وبدأت الفصائل الإسلامية وفصائل الجيش السوري الحر المنضوية في غرفتي عمليات جيش الفتح وفتح حلب هجوماً عنيفاً فجر الجمعة الثامن والعشرين من تشرين الأول 2016 على عدة محاور في أحياء حلب الغربية.
بدا أن ما تهدف إليه الفصائل هو السيطرة على حلب الغربية كوسيلة لفك الحصار، أو تشتيت النظام بجره للدفاع عن تلك الأحياء، ثم مهاجمته في نقاط أخرى لكسر الحصار. وقد بدأت المعركة كسابقتها بمفخخات جيش الفتح التي يقودها انتحاريون تابعون لجبهة فتح الشام، تلتها مواجهات عنيفة وتقدم سريع في ضاحية الأسد ومنطقة منيان وأطراف جمعية الزهراء، حتى وصلت الفصائل إلى أسوار أكاديمية حلب العسكرية وأسوار ثكنة مدفعية الزهراء بعد أقل من 48 ساعة على بدء المعركة.
تميزت تلك المعركة بمساهمة أوسع لفصائل الجيش الحر، وبمشاركة مهمة من الفصائل المتمركزة داخل حلب، التي هاجمت النظام بعنف بمختلف صنوف الأسلحة خاصة على جبهات سيف الدولة والإذاعة. لكن الفصائل لم تهاجم الكليات العسكرية على محور الراموسة الذي هاجمته في المعركة الأولى جنوب غرب حلب، واقتصرت هجماتها في تلك الجبهة على محاولة التقدم من نقاط تمركزها في مشروع 1070 شقة إلى داخل مشروع 3000 شقة وحي الحمدانية، كما أنها لم تشن أي هجمات شمال حلب على محور الكاستيلو.
نجحت قوات النظام والميليشيات الأجنبية المساندة لها في امتصاص الهجوم لاحقاً، وذلك بمساعدةٍ حاسمةٍ من سلاح الجو الروسي الذي عاود القصف على جبهات غرب حلب بعد أن كان الكرملين قد رفض ذلك في الأيام الأولى للمعركة. وفي الثاني من تشرين الثاني، وبينما كانت الاشتباكات والمعارك مستمرة غرب حلب، هاجمت فصائل نور الدين الزنكي وأبو عمارة وفتح الشام مقرات تجمع فاستقم كما أمرت، ودارت اشتباكات بينها داخل الأحياء المحاصرة، وتم الاستيلاء على عدة مقرات للتجمع، وعلى كميات من أسلحته وذخائره، وبدا أن تجمع فاستقم التابع للجيش السوري الحر يواجه حرب استئصالٍ داخل الأحياء المحاصرة المهددة بالدمار والسقوط.
في الأيام التالية توقف تقدم الفصائل التي خاضت معارك عنيفة راح ضحيتها المئات من مقاتلي الطرفين، وبدأ تراجعها بتمكن قوات النظام من التقدم أولاً جنوب غرب حلب في العاشر من تشرين الثاني واستعادة مشروع 1070 شقة ومدرسة الحكمة اللذين كانت قد خسرتهما في المعركة الأولى، ثم استعادتها لجميع ما خسرته غرب حلب في الثالث عشر من تشرين الثاني، وعلى نحوٍ مفاجئٍ وصادمٍ كما في المعركة الأولى.
أسئلة جديدة بلا أجوبة، وزراعة جديدة بلا حصاد
كما في المعركة السابقة، بدا تشرذم الفصائل وتناحرها سبباً رئيسياً في الفشل. وكما في المعركة السابقة أيضاً، أصرت جبهة فتح الشام على إطلاق تسمية غزوة أبو عمر سراقب على المعركة. وأبو عمر سراقب هو قياديٌ في جبهة فتح الشام، وقائد عسكريٌ بارزٌ في تحالف جيش الفتح، اغتالته طائرةٌ تابعةٌ للتحالف الدولي في أيلول 2016، وأثار إطلاق اسمه على المعركة جدلاً وتوتراً شبيهاً بذاك الذي رافق إطلاق تسمية غزوة ابراهيم اليوسف على معركة مدرسة المدفعية.
لماذا لم تتعلم الفصائل أياً من دروس المعركة الأولى؟ وما هي الدوافع الحقيقية الممكنة لحرب استئصالٍ ضد فصيلٍ مقاتلٍ داخل الأحياء المحاصرة؟ وما الذي يعنيه إصرار جبهة فتح الشام على صبغ المعركة بصبغتها رغم خطورة ذلك؟ ولماذا كان الخيار مهاجمة أحياء حلب الغربية بدل السعي مباشرةً إلى فك الحصار من محوري الكاستيلو والراموسة؟ ولماذا توقفت المعركة فجأةً رغم ما كان قد قيل عن استعدادات لمعركة طويلة وقاسية؟ وهل هناك ترابطٌ حقاً بين فشل تلك المعركة وعمليات درع الفرات؟ هل امتنعت الفصائل القريبة من تركيا عن القتال بشكلٍ جديٍ بأوامر من أنقرة؟
لا إجابات مرةً أخرى، ولا حصاد أنتجته تضحيات مئات المقاتلين الذين استشهدوا وأصيبوا على جبهات حلب في معركتين فاشلتين، لم يكلّف أحدٌ من القادة فيهما نفسه عناء التوضيح والاعتذار، ولا حتى المراجعة وتغيير السلوك والخطاب، بل كان أن زاد الشقاق والتناحر، وارتفعت نبرة الاتهامات المتبادلة، مع استمرار الأحاديث غير المثمرة عن مشاريع توحدٍ واندماج.
أحياء حلب الشرقية، الانهيار الصاعق
منذ منتصف تشرين الثاني توقف أي حديثٍ عن احتمال كسر الحصار عن حلب، وبدأ الحديث عن مدى إمكانية صمود الأحياء الشرقية، وعن الحلول الممكنة، وسط رفضٍ كبيرٍ من جميع الفصائل والفعاليات داخل حلب لمغادرة المدينة، والتأكيد على رفض الطروحات التي تتحدث عن خروج مقاتلي جبهة فتح الشام، وهي الطروحات التي كانت روسيا قد تجاوزتها، مؤكدةً على أن جميع المقاتلين يجب أن يغادروا حلب الشرقية.
بدا واضحاً أن أحداً لا يمكنه أن يثني روسيا عن عزمها مساندة النظام السوري وحلفائه في حلب، وأن المسألة بالنسبة لها مسألة حاسمة، استقدمت من أجلها حاملة طائراتها الوحيدة إلى السواحل السورية، لتبدأ حملات القصف الجنوني الذي أحال الحياة جحيماً في الأحياء المحاصرة، وتتصاعد معه محاولات التقدم البري المستمرة رغم الخسائر الكبيرة التي كانت تمنى بها قوات النظام، وخاصة على جبهات مساكن هنانو والشيخ سعيد وعزيزة وغيرها، وبدا واضحاً أن الخطة تهدف إلى تقسيم حلب الشرقية إلى قطاعات منعزلة ثم السيطرة عليها.
صمدت الفصائل نحو عشرة أيام وكبدت الميليشيات الشيعية خسائر كبيرة، لكن الانهيار بدأ في حي مساكن هنانو شمال المدينة، الذي سيطرت عليه قوات النظام في السادس والعشرين من تشرين الثاني، ليلحقه انهيار سريع في دفاعات الفصائل شمال حلب، وتقدم قوات النظام وسيطرتها خلال ثلاثة أيام على كامل القطاع الشمالي من الأحياء الشرقية، أي جميع الأحياء شمال طريق المطار، وذلك بمساندة من الوحدات الكردية المتمركزة في الشيخ مقصود، التي تقدمت وسيطرت على أحياء الهلك وبستان الباشا وعين التل.
كان يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني قيامياً بكل ما تعنيه الكلمة هناك، إذ اتجه المدنيون بشكل عشوائي في جميع الاتجاهات، وذهب كثيرون منهم إلى مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة الوحدات الكردية، فيما انسحب المقاتلون وآلاف المدنيين إلى القطاعين الأوسط والجنوبي من الأحياء الشرقية، في أوضاع إنسانية بائسة، وتحت قصف جوي ومدفعي مخيف.
حاولت الفصائل تنظيم صفوفها مجدداً، وأعلنت في أول كانون الأول عن اندماجها في جيش حلب، وهي مبادرةٌ كانت قد طرحتها قوىً مدنية في حلب منذ مطلع 2016، ولم تجد آذاناً صاغيةً عند قادة الفصائل آن ذاك. لكنه كان اندماجاً متأخراً وقليل الفائدة، إذ واصلت قوات النظام تقدمها مسيطرة على أحياء الجزماتي وطريق الباب في الثالث من كانون الأول، ثم أحياء الشعار وكرم القاطرجي والميسر، وبعدها حلب القديمة في السابع من كانون الأول، التي قيلَ إن الفصائل انسحبت منها دون مقاومة.
بدأت تنتشر أخبار متقاطعة شبه مؤكدة عن حملات اعتقالات في صفوف الشباب الذين نزحوا باتجاه مناطق النظام، وتسبب ذلك بتراجع أعداد المدنيين الذين يتجهون إليها. كان كثيرٌ من المدنيين ينتقلون مع تقدم قوات النظام من أحيائهم نحو أحياء محررة أخرى، وكانت الأحياء تسقط في يد قوات النظام والميليشيات الشيعية تباعاً، حتى أحتشد نحو 80 ألف مدنياً وبضعة آلاف من المقاتلين في أحياء الزبدية والمشهد وأجزاء من سيف الدولة وصلاح الدين والسكري جنوب غرب حلب، وهي الأحياء التي كانت قد بقيت تحت سيطرة الفصائل في الثالث عشر من كانون الأول.
حراك سياسيٌ وشعبي
مع تقدم النظام التدريجي في حلب، بدأ حراك شعبيٌ واسعٌ في الدول التي يتواجد فيها لاجئون سوريون، بلغ ذروته بمظاهرات واعتصامات واسعة في تركيا وعدة دولٍ أوروبية، وخاصة أمام البعثات الدبلوماسية الروسية، وكانت مشاركة الأتراك بأعلام بلادهم بارزةً في تركيا وأوروبا.
بالتزامن مع ذلك بدأت تركيا تتحرك دبلوماسياً، وذلك في وقت كان فيه عجزُ العالم واضحاً عن إيقاف الهجوم الروسي الإيراني الأسدي على تلك المساحة الضيقة. بدا أن مذبحة كبرى ستحدث إذا لم يكن هناك تدخلٌ ما، وأنه لا يمكن لأحدٍ منع المذبحة الكبرى ما لم تُرِد روسيا إيقافها.
عينت الفصائل المحاصرة مسؤولاً للتفاوض من قبلها، هو القيادي في حركة أحرار الشام الفاروق أبو بكر، وبدأ التفاوض بوساطة تركية. وبعد أن كانت روسيا وإيران ترفضان خروج المقاتلين، وخاصة مقاتلي جبهة فتح الشام، تم الاتفاق في الثالث عشر من كانون الأول على وقف النار والبدء بإخراج الجميع من مدنيين ومقاتلين دون تمييز إلى ريف حلب الغربي، وهو ما بدا نصراً سياسياً لتركيا، وحلاً يخفف من غضب وذعر عموم أنصار الثورة السورية.
تزامنت تلك الجهود مع اجتماعات إقليمية ودولية لبحث الوضع في حلب، غلب على معظمها طابع رفع العتب، فيما كانت المفاوضات الجدية تجري عبر أنقرة، وبدا أن لا أحد يملك تأثيراً على ما يجري في حلب سوى تركيا وروسيا وإيران.
youtube://v/hl2Ck5U_X8U
كان إيقاف المذبحة إنجازاً مهماً، لكنه كان مأساوياً في الوقت نفسه، لأن القوى والتيارات التي كانت ترفض فكرة الخروج من حلب قبل نحو شهرٍ فقط، باتت ترى في الخروج على قيد الحياة إنجازاً كبيراً، ولأن المظاهرات التي جابت أنحاء العالم من أجل حلب، بدا كما لو أنها حققت أهدافها بإخراج أبناء حلب من مدينتهم، وليس بالدفاع عن حقهم في البقاء فيها.
الإجلاء
كان يفترض وفق الاتفاق الذي أعلن عنه الثلاثاء 13 كانون الأول 2016 أن تبدأ عمليات الإجلاء من شرق حلب صباح الأربعاء 14 كانون الأول، لكن هذا لم يحدث، بل تواصل القصف على الأحياء المحاصرة المكتظة بعشرات آلاف المدنيين، واندلعت اشتباكات عنيفة في منطقة جسر الحاج شمال حي السكري، فجرت خلالها الفصائل عربتين مفخختين أسفرتا عن خسائر كبيرة في صفوف قوات النظام، وهي الاشتباكات التي تبادل النظام والفصائل الاتهامات بالمسؤولية عنها.
عاد الهدوء على الجبهات مساء الأربعاء، ليبدأ تنفيذ اتفاق الإجلاء الخميس 15 كانون الأول، وشهد اليوم الأول إجلاء نحو 6000 آلاف شخص بينهم مقاتلون وجرحى، لكن عمليات الإجلاء سرعان ما تمت عرقلتها، إذ قال مصدرٌ في النظام السوري في اليوم التالي إن العمليات توقفت بسبب عدم «احترام المسلحين لشروط الاتفاق».
قامت إحدى الحواجز التابعة لجماعة مرتبطة بحزب الله بإيقاف قافلة تنقل مدنيين ومسلحين في ظهيرة السادس عشر من كانون، وقامت بإنزال جميع الشبان وإجبارهم على الاستلقاء أرضاً، وقامت بمصادرة أموالهم وبعض حوائجهم، كما تمت تصفية بعض الشبان وفق تقارير وشهود عيان، ثم تم إجبار الجميع على العودة إلى داخل الأحياء المحاصرة.
اعتبر أغلب المحللين هذا الأمر تعبيراً عن سخطٍ إيرانيٍ على ما بدا انفراداً روسياً تركياً بملف الإجلاء من حلب، وكان الهدف المعلن منه هو ضمان ربط ملف كفريا والفوعة بملف حلب، وهو الملف المرتبط بمضايا والزبداني أصلاً وفق الاتفاق المعروف، إذ طالب النظام السوري بإخراج جرحى ومدنيين من كفريا والفوعة المحاصرتين بريف إدلب، مقابل إتمام عمليات الإجلاء من شرق حلب.
تم الاتفاق على مواصلة عمليات الإجلاء بناءً على آلية تشمل إخراج نحو 4000 شخص من كفريا والفوعة، وتم استئناف عمليات الإجلاء المتبادلة في الثامن عشر من كانون الأول، لكن مجموعة شبانٍ غاضبين في ريف إدلب قاموا بإحراق الباصات المتوجهة إلى كفريا والفوعة، وهو ما كاد يطيح بالاتفاق برمته.
تم احتواء الموقف الذي كان على وشك أن ينفجر، وذلك بعد تعهدات من الفصائل بتنفيذ الإجلاء المتفق عليه من كفريا والفوعة، وهو ما حصل فعلاً، إذ تواصلت وتسارعت عمليات الإجلاء المتبادلة خلال الأيام التالية دون عراقيل تذكر.
كانت الباصات الخضراء وسياراتٌ مدنيةٌ تخرج بمرافقة سيارات الهلال الأحمر والصليب الأحمر من نقطة التجمع المتفق عليها في منطقة العامرية جنوب صلاح الدين، وتتجه عبر طريق الراموسة مجتازةً حواجز عديدة تابعة لجهات مختلفة، منها القوات النظامية السورية وسائر الميليشيات المساندة للنظام، وكذلك حاجزٌ عليه ضباطُ ارتباطٍ روس.
كانت هذه الحواجز تقوم بعمليات التفتيش والتدقيق، وبعضها كان يحتجز الباصات والسيارات ساعاتٍ طويلةً في ظروف جوية وإنسانية بالغة السوء، وبعد ذلك كانت الباصات والسيارات تصل إلى منطقة سيطرة الفصائل في ضاحية الراشدين غرب حلب، ليتجه بعدها الخارجون إلى ريف حلب الغربي وإدلب وريفها.
خرجت آخر دفعة من المحاصرين مساء الخميس الثاني والعشرين من كانون الأول عام 2016، ودخلت القوات النظامية والميليشيات الأجنبية إلى آخر الأحياء المحررة شرق حلب صبيحة اليوم التالي، لتبدأ بذلك مرحلة جديدةٌ من مراحل الصراع في سوريا، تبدو فيها قوى الثورة والمعارضة السورية في أسوأ أحوالها، تنهشها الصراعات الداخلية، وتخسر مواقعها المهمة في حلب ومحيط دمشق تباعاً، وهي مرحلةٌ عنوانها الأساسي شراكة تركية روسية في البحث عن حلٍ سياسي، أسست لها عمليات «الإجلاء الآمن الناجحة» من أحياء حلب الشرقية.