في شهر شباط من العام 2016، نشرت عدد من المواقع الإلكترونية صورةً جويةً تظهر شاحنات في تل رفعت، وقيلَ وقتها إنها تابعة لميليشيا YPG الكردية، وإنها تحمل أثاثاً تمت سرقته، «تعفيشه»، من منازل المدنيين في تل رفعت شمالي حلب. كان ذلك بعد شهرين تقريباً من سيطرتهم عليها إثرَ معارك عنيفة، شهدت مقتل أكثر من 80 شخصاً من أبناء تل رفعت أثناء دفاعهم عن مدينتهم.
كان الأمر صادماً بالنسبة لي، إذ أكدت جميع الشهادات صحة ما ذهبت إليه تلك الأخبار، وعندما حاولت التأكد بنفسي من مصادر أخرى، أكد جميع من سألتهم هذه الوقائع أيضاً. شعرتُ أن ما يزرعه هذا في النفوس قد يحتاج سنيناً لنسيانه، وخصوصاً أنه يحدث في تل رفعت، وهي من أبرز معاقل الثورة في ريف حلب الشمالي، وأحد أهم معاقل الجيش الحر هناك.
أعادني ذلك إلى الأشهر الثلاث التي قضيتها في تل رفعت، تذكرتُ ما خَبِرتُهُ من طيبة أهلها واعتزازهم بمدينتهم، وما عرفتُهُ عن تضحياتهم الكبيرة في سبيل انطلاق واستمرار الثورة في حلب.
تل أرفاد، الجذور العميقة
جذور تل أرفاد، أو تل رفعت، ضاربةٌ في التاريخ، وعمرها يناهز عمر العديد من مدن الشام القديمة، كحماة وحمص واللاذقية. بداية السكن في المدينة كانت منذ ما يقارب 5 آلاف عام، وبدايتها كمملكة كانت في الألف الثاني قبل الميلاد، عندما بنى الآراميون في سورية الداخلية ممالك عدة، أهمها: دمشق، وحامات (حماة)، وآرام فدان، ومملكة بيت آغوشي، التي تمتد من حلب حتى كركميش وعاصمتها «أرباد»، أو «أرفاد».
تسمية تل أرفاد آرامية، وقامت هذه المملكة أواخر الألف الثاني قبل الميلاد بعد سقوط دولة الحثيين، واستمرت حتى منتصف القرن الثامن قبل الميلاد عندما سقطت نهائياً بيد الآشوريين، بعد سنوات طويلة من المعارك. وفي أواخر القرن السابع قبل الميلاد وقعت أرفاد تحت حكم الملك البابلي/الكلداني نبوخذ نصر الثاني، الذي قام بتوحيد بلاد الشام والعراق تحت حكمه. وقد ورد ذكر أرفاد في العهد القديم من الكتاب المقدس، بوصفها مدينةً في آرام، يفخر الآشوريون بأنهم أخذوها.
توالت الممالك والحضارات على المدينة، وتعاقب على حكمها الآشوريون، والبابليون، والفرس، والهيلنستيون، والرومان الذين مكثوا فيها منذ العام الأول للميلاد، وحتى القرن السابع الميلادي، لتدخل بعدها في الإمبراطورية الإسلامية بعد فتح بلاد الشام، وكانت تعرف باسم «تل أرفاد» في جميع العهود التي توالت عليها.
في نهاية عهد الدولة العثمانية في سوريا، تم تغيير اسم تل أرفاد إلى تل رفعت، وظهر الاسم الجديد للمرة الأولى سنة 1912 على لوحة محطة القطار في المدينة، واللوحة لا تزال موجودة في المحطة حتى الآن.

التركيبة السكانية لتل رفعت
تعتبر تل رفعت ناحيةً وفق التقسيمات الإدارية، ويتبعها عدد من القرى والبلدات المحيطة، ومركز الناحية هو مدينة تل رفعت، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 35 ألف نسمة، وقد ساهم توفر الخدمات فيها، ووجود محكمة، بتوسعها وازدياد عدد سكانها. وينتشر التعليم بين السكان بنسبة تتجاوز 75%، وتنحصر الأميّة بين كبار السن.
سكان المدينة في غالبيتهم من العرب، مع وجودٍ لبعض العائلات ذات الأصول التركمانية والكردية، لكن لا يُلاحظ أي اختلاف بين العرب وغيرهم، فجميع سكان المدينة، عرباً وكرداً وتركماناً، ورغم اختلاف أصولهم العرقية، تربط بينهم علاقات قربى منذ زمن بعيد.
محمد وليد، وهو أستاذ لمادة التاريخ، وأحد أبناء تل رفعت، يقول عن سكان مدينته: «عُرف أهالي تل رفعت منذ القدم بتسامحهم وحسن تعاملهم مع الضيوف والغرباء، لذلك كانت المدينة ملجأً للعائلات التي تضطر لمغادرة مدنها وقراها، ويوجد فيها العديد من العائلات التي استوطنتها بعد أن اضطرت لمغادرة بيوتها بسبب حوادث عدة، كالثأر وغيره».
ومن أشهر الشخصيات التي ظهرت في المدينة كان الشيخ العلّامة بشير علّيطو، الذي كان يعدُّ مرجعاً دينياً هاماً، كما كان أحد أبرز وجهاء تل رفعت والمدن والقرى المحيطة بها، والمخوّل بحل مشاكلهم والفصل في خلافاتهم. توفي الشيخ بشير سنة 1997 م.
تديّن أبناء المدينة
يغلب على أهل المدينة طابع التدين، ويميل معظمهم إلى اتباع الطرائق الصوفية. وعانت المدينة من بطش النظام خلال أحداث الثمانينات، ويندر في تل رفعت أن تجد بيتاً لا يحتوي على معتقل، أو مفقود، خلال تلك الفترة.
مع بداية التسعينات بدأ ظهور التيار السلفي في المدينة على يد الشيخ أحمد فياض، الذي قُتِلَ في تفجير الراعي الشهير سنة 2014، وقام به أحد عناصر داعش مستهدفاً اجتماعاً لقادة في الجيش الحر. كان الشيخ أحمد إمام أحد مساجد المدينة، وهو خريج كلية الشريعة بجامعة دمشق. يقول أسامة حدبة، وهو إعلامي، وأحد أبناء تل رفعت: «اقتصر أسلوب الشيخ أحمد على دعوة الناس لنبذ البدع، وترك التبرك بالقبور، أو التوسل بأصحابها، وهي عادة كانت منتشرة بين سكان المدينة، وبالفعل لاقت دعواته استجابة من الناس، وبدأوا باتباعه أكثر فأكثر».
تَرسُّخُ المذهب السلفي بدا واضحاً بعد عام 2005، وكان معتنقوه في ازدياد يوماً بعد يوم، وكان ملاحظاً أنهم في معظمهم من المتعلمين، ومن طلاب وخريجي الجامعات، وتلاميذ الثانويات.
الثورة السلمية والطريق إلى السلاح
انطلقت أولى المظاهرات في تل رفعت في شهر نيسان من عام 2011، خلال حصار درعا الأول، حيث خرجت مظاهرة في يوم جمعة، ودعت إلى فك الحصار. كانت الأعداد بالمئات، واستمرت المظاهرة نصف ساعة قبل أن يأتي مدير الناحية ويتحدث مع المتظاهرين، ويعدهم بالإصلاح تارةً، ويسمعهم تهديداً مبطناً تارة أخرى. بدأت بعدها حملة اعتقالات طالت الشباب الذين شاركوا في المظاهرة.
استمرت المظاهرات في المدينة، وارتفعَ سقف المطالب شيئاً فشيئاً، وبدأت حملات الاعتقال بالازدياد، وهنا ظهرت التنسيقيات، وتم تنظيم العمل الثوري بشكل أفضل. بدأت التنسيقيات بتوزيع المنشورات والكتابة على الجدران، وظهر شعار إسقاط النظام خلال المظاهرات بشكل أوضح.
youtube://v/OdoXAllTT2g
ظهور الجيش الحر في المدينة كان في نهاية العام 2011، وجاء التسلح بدايةً كرد فعل على قمع النظام للمظاهرات السلمية من جهة، ورداً على سياسة الاعتقال التي انتهجها النظام من جهة أخرى. فبعد أن ضاق شباب المدينة ذرعاً من بطش النظام، ورغب بعض المنشقين عن الجيش النظامي بحماية المظاهرات السلمية، قرروا حمل السلاح.
في تلك الفترة اشتهرت تل رفعت على أنها المدينة التي تؤوي المنشقين، وكان كل عنصر يرغب بالانشقاق عن الجيش النظامي يلجأ إلى تل رفعت، أو ينسق مع شبابها ليتم تأمين انشقاقه. وبالفعل، انشق مئات العناصر من كلية المشاة، ومن مطار منغ، ومن غيرهما من القطعات العسكرية في ريف حلب الشمالي، والتجأ معظمهم إلى تل رفعت، أو إلى مارع المجاورة. شكّل وجود أعداد كبيرة من المنشقين عاملاً مساعداً على انتظام العمل المسلح، الذي تطور لاحقاً، وصولاً إلى تحرير المدينة بشكل كامل.
قرار تحرير المدينة جاء بعد موقف يرويه الناشط الإعلامي شهم أرفاد قائلاً: «في نهاية عام 2011، وخلال إحدى المظاهرات، توجهت عدة باصات وسيارات أمنية إلى تل رفعت لقمع المظاهرة، وكان موقعها بالقرب من سكة القطار. خلال قمع المظاهرة جرت صدامات محدودة بالعصي، وتراشق بالحجارة، وصادف ذلك مرور القطار، والذي قسم عناصر الأمن إلى مجموعتين: مجموعة قريبة من المتظاهرين، وأخرى على الطرف الآخر».
يتابع شهم: «هربت المجموعة الثانية فوراً وتركت المجموعة القريبة من المتظاهرين، وكان عددهم حوالي 30 عنصراً، وألقى المتظاهرون القبض عليهم جميعاً. وبعد أن وصل الخبر إلى قيادة الفرع الأمني في حلب، أرسل أكثر من 100 باص مليئة بالعناصر، وتم حصار تل رفعت، وهددوا باقتحامها إن لم يتم تسليم العناصر. بعد ذلك تدخل بعض وجهاء المدينة، ووافق الأهالي على تسليم العناصر شرط أن يتراجع الأمن عن اقتحام تل رفعت. وفعلاً، تم تسليم العناصر، وغادرت التعزيزات الأمنية دون أن تقتحم المدينة».
بعد هذه الحادثة، جرت نقاشات حادة بين أبناء المدينة، كانت أبرز محاورها: إلى متى يستمر انتهاك قوات الأمن للمدينة؟ إلى متى تستمر حملات الاعتقال؟ كيف نسمح للأمن بأخذ أبنائنا إلى الموت المحتم؟ ترسخت قناعة الشباب أكثر فأكثر بضرورة تحرير المدينة، ومنع الأمن من دخولها نهائياً، ومهما كان الثمن. بدأ تنظيم العمل العسكري على نطاقٍ أوسع، وتمت السيطرة على مخفر المدينة، ثم أجبرت الحواجز الأمنية المحيطة بها على الهروب ومغادرة المنطقة.
في بداية 2012 باتت المدينة خالية من أي تواجد أمني.

تطور العمل العسكري وتنظيمه
في بدايات 2012، انتظم العمل العسكري في المدينة، وبدأت أعداد المقاتلين بالازدياد، وظهرت عدة كتائب. كان أغلب مقاتلي المدينة ينتمون بشكل رئيسي إلى تشكيلين عسكريين: لواء الفتح، وقيادته في تل رفعت، ولواء التوحيد، وقيادته في مدينة مارع. والتشكيلان موجودان حتى الوقت الحالي، ولواء التوحيد هو النواة الأساسية في تحالف الجبهة الشامية الآن.
بعد تحرير الريف الشمالي، توجه مقاتلو تل رفعت مع مقاتلي المدن والبلدات الأخر، إلى مدينة حلب، وكانت السيطرة على أحيائها الشرقية. ومع انتصاف العام 2012، ناهزت أعداد المقاتلين في تل رفعت حوالي 5 آلاف مقاتل، وتناقصت أعدادهم لاحقاً لكنها ما تزال قريبة من هذا الرقم.
ينتمي معظمهم للجيش الحر، ولم يتجاوز عدد من انضم إلى تنظيم داعش الـ 150 شخصاً، كما لم ينضم إلى جبهة النصرة أكثر من 400 شخص، وبقيت الغالبية الساحقة من أبناء تل رفعت تنتمي إلى الجيش الحر. ويعلق أسامة حدبة على هذا الأمر: «أعتقد أن نمط التدين الشائع لدى أبناء المدينة، ساهمَ في إحجام معظمهم عن الانضمام لتنظيم متطرف كتنظيم داعش».
داعش والحقد على تل رفعت
ربما تكون الحادثة الأبرز في المدينة، والتي كان لها تأثيرٌ فيما تعرضت له تل رفعت من أحداث في وقت لاحق، هي مقتل حجي بكر فيها، وهو أحد القادة المؤسسين لتنظيم داعش.
بداية قصة داعش مع المدينة كانت بعد إعلان أبي بكر البغدادي في منتصف عام 2013 تأسيس ما سماه دولة العراق والشام الإسلامية، ورفض جبهة النصرة (فتح الشام حالياً) لذلك الأمر، وإعلانها الانفصال عنها. قام بعض عناصر النصرة بمبايعة دولة العراق والشام الإسلامية، وباتت بعض مقرات النصرة هي ذاتها مقرات للدولة، بالإضافة لاحتفاظ النصرة ببعض المقرات. وكانت أعداد عناصر داعش تقارب الـ 500 شخص، معظمهم من خارج تل رفعت، مع وجودٍ كبيرٍ لمهاجرين غير سوريين.
الصدام مع داعش جرى بعد ذلك مباشرة، فقد بدأ عناصر التنظيم بالسعي للتغلغل في جميع القطاعات، بدءً بالتدخل في توزيع الحواجز الأمنية التابعة للجيش الحر، ومن ثم التدخل بعمل المجلس المحلي والمؤسسات الأخرى، حيث رغبوا بالتحكم بكل شيء، بالأفران والكهرباء والماء والتعليم، واصطدموا كلاميّاً مع الأهالي ومع الجيش الحر أكثر من مرة، دون صدامات مسلحة.
في نهاية 2013 قَتَلَ أحد عناصر داعش عنصراً من الجيش الحر لرفضه الوقوف على حاجز تابع للتنظيم، تطورت القصة، وازداد الاحتقان، وتزامن ذلك مع شنّ الجيش الحر في إدلب وريف حلب الغربي حملة لطرد داعش من مناطقه. فقام أبناء تل رفعت بهجوم مماثل على مقرات داعش، واستطاعوا طرده وتخليص مدينتهم من وجوده.
وعن مقتل حجي بكر يقول أسامة حدبة شارحاً القصة: «أثناء الاشتباكات لتحرير المدينة، سيطر الجيش الحر على معظمها، وحوصر عناصر داعش في القسم الشمالي، وشن الجيش الحر هجوماً لطردهم منه، وتمكن فعلاً من ذلك. حوصرَ أحد البيوت المعروف بأنه لقيادي في التنظيم، دون أن يعرف المقاتلون من هو ذلك القيادي. وبعد مطالبته بتسليم نفسه، رفض، وبدأ بإطلاق النار، وبعد تبادل النار لنصف ساعة تمكن أحد عناصر الجيش الحر من قتله، وتم إلقاء القبض على ولديه وزوجته». تبين لاحقاً أن المقتول هو حجي بكر، العنصر الأمني في جيش صدام حسين سابقاً، والقيادي المؤسس في تنظيم داعش.
بعدها بفترة وجيزة، أعلن تنظيم داعش نيته القصاص من قتلة الحجي بكر، وأطلق معركة سماها «الثأر للعفيفات»، وصرح أن من بين أهدافها السيطرة على تل رفعت بالتحديد، على اعتبار أن حجي بكر قد قتل فيها. وكان هدف التنظيم من تسمية المعركة شحذَ همم مقاتليه بالقول إن الهدف منها هو الانتقام من مقاتلي الجيش الحر، مدعياً أنهم قاموا بالإساءة إلى نساء مقاتلي داعش.
تصدى أبناء تل رفعت، ومارع، وغيرهما من مناطق الريف الشمالي، لهجوم تنظيم داعش، وشكلوا سداً منيعاً أوقف التقدم الهائل الذي حققه التنظيم حينها، ففي الفترة ذاتها كان التنظيم يجتاح المناطق الواحدة تلو الأخرى، ولم تصمد أمامه أي منطقة لا في العراق ولا في سوريا، إلى أن توقف ذلك بعد عجزه على أعتاب ريف حلب الشمالي.
إنقاذ صحفيين بريطانيين، لا ذنب للعنب بما يفعله النبيذ
حادثة بارزة أخرى جرت في تل رفعت، وتناولتها الصحافة العالمية، كانت إنقاذ الصحفيين البريطانيين جاك هيل وأنطوني لويد، اللذين كانا يعملان في جريدة التايمز البريطانية، بعد اختطافهما لعدة ساعات.
القصة بدأت بعد دخول الصحفيين، برفقة شاب سوري يدعى محمود الباشا، من تركيا إلى سوريا، عبر معبر باب السلامة الحدودي. ذهبوا جميعاً إلى مدينة حلب، وبعد أن أنهوا عملهم، توجهوا إلى المعبر الحدودي، وعلى اعتبار أن الوقت قد تأخر، وأن معبر باب السلامة لم يكن يمكن المرور منه إلا ضمن أوقات الدوام الرسمي، قرروا التوجه إلى تل رفعت لقضاء ليلتهم فيها.
توجه الجميع إلى بيت صديقٍ لمحمود، لم يجدوه في منزله، وبالصدفة، وأثناء انتظارهم لصديق محمود، مرَّ قائد إحدى مجموعات الجيش الحر، وكانوا قد أجروا مقابلة معه سابقاً، وطلب منهم الذهاب معه إلى المقر، لتناول العشاء والنوم عنده. وفعلاً، ذهبوا معه، تناولوا طعامهم وباتوا ليلتهم، وفي الصباح الباكر أخبروه بنيتهم الذهاب إلى معبر باب السلامة، فأرسل معهم سيارة مرافقة.
قبل وصولهم إلى مدينة إعزاز التي يقع فيها المعبر بحوالي 2 كم، اعترضت سبيلهم سيارتان، ونزل منهما رجال ملثمون، وقاموا باعتقال الجميع، كما قاموا بتقييد محمود والصحفيين البريطانيين ووضعوهم في صندوق السيارة وأغلقوا عليهم.
يروي محمود ما حصل معهم بعدها قائلاً: «بعد أن قيدونا ووضعونا في صندوق السيارة، مشت السيارة بنا حوالي نصف ساعة، ثم توقفت، وكان أحدهم يأتي بين الحين والآخر ويضرب على السيارة، وكأنه يوجه رسالة أنه موجود». ويتابع قائلاً: «سمعت صوت سيارات، وبعض الضجيج، فعرفت أننا وسط منطقة مأهولة، ولسنا في منطقة مقطوعة، فقررت أن أحاول الهرب، وشجعني على ذلك الصحفي الذي كان مقيداً بالقرب مني. وبالفعل، عندما أتى الحارس ليتفقدنا، وعند فتحه لغطاء صندوق السيارة قليلاً، ضربته به على وجهه فسقط أرضاً، ومن ثم نزلت من السيارة وتناولت قطعة حديد كانت في الصندوق وضربته على رأسه، فأغمي عليه. وهنا نزل الصحفي البريطاني من السيارة وفككنا قيودنا، وفتحتُ باب المستودع، ففوجئت بحراس مسلحين على الباب. ركضت أنا والصحفي البريطاني، وبدأوا باللحاق بنا، ثم أطلقوا علينا النار، فأصيب الصحفي في ساقه وسقط أرضاً، أما أنا فتمكنتُ من الهرب».
يقول محمود إنه عرف في لحظة خروجه من المستودع أنه في تل رفعت، فطلب مساعدة أحد المارة، وكان معه دراجة نارية، وطلب منه أن يأخذه إلى منزل صديقه، الإعلامي في الجبهة الإسلامية حينها، وبالفعل أوصله إلى مقصده، ووجد صديقه، وروى له القصة. قام صديقه على الفور بإعلام اللجنة الأمنية، التي كانت تابعة للجبهة الإسلامية في ذلك الوقت، والتي تحركت على الفور وداهمت المقر، وأنقذت الصحفيين البريطانيين، ونقلتهما إلى المشفى الميداني للعلاج من الطلق الناري الذي تعرض له أحدهما، والكدمات التي تعرض لها الآخر. أما العناصر الذين اختطفوهم فلاذوا بالفرار لحظة رؤيتهم لسيارات اللجنة الأمنية تقترب من مقرهم. وبعدها توجه الصحفيان إلى معبر باب السلامة، وتسلمهما مندوب من السفارة البريطانية في تركيا.
سألت إعلامي الجبهة الإسلامية الذي ساعد في عملية الإنقاذ: كيف لقائد في الجيش الحر أن يفعل أمراً مشيناً كهذا؟ هل هذه أخلاق الجيش الحر؟ أجاب على الفور: «لا ذنب للعنب بما يفعله النبيذ. ادعاؤه الانتماء للجيش الحر لا يعني أنه منه، وما هو إلا لص ركب موجة الثورة لتحقيق مآربه الشخصية. أرجو أن تفصل بين من يدعي الانتماء، وبين من ينتمي فعلاً للجيش الحر».
وضع سياسي وعسكري معقد
بتاريخ 20 تشرين الأول 2016، أعلنت عدة تشكيلات من الجيش الحر عن بدء معركة تحرير تل رفعت من ميليشيا YPG، واندلعت معارك بين الطرفين استمرت ليومين، ثم توقفت فجأة، وعاد الهدوء إلى المنطقة.
أحد قياديي الجيش الحر، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، قال إن وقف المعركة جاء بناء على ضغوط كبيرة مورست على الجيش الحر، وأن معركة كهذه تحتاج إلى قرار سياسي، ولا يمكن البدء بها دون ضوء أخضر من عدة قوى، كروسيا والولايات المتحدة وتركيا، معتبراً أن تل رفعت هي «بيضة القبان» في الريف الشمالي بأكمله.
ويضيف شارحاً ما جرى سابقاً: «قبل اندلاع المعارك بين الجيش الحر وميليشيا YPG نهاية عام 2015، عرضت الميليشيا على بعض القادة الانضمام إلى غرفة عمليات مشتركة لقتال تنظيم داعش، ورفض الجيش الحر العرض لأسباب عدة، أبرزها استثناء غرفة العمليات من قتال النظام، والتركيز على داعش فقط، وهو ما يخالف مبادئ الثورة القائمة على قتال داعش والنظام في الأوان ذاته، وكذلك النزعة الانفصالية عند قادة الميليشيا. بعدها صار التوتر سيد الموقف، إلى أن اندلعت المعارك نهاية العام 2015، وصولاً إلى سيطرة ميليشيا YPG على تل رفعت، بدعم جوي روسي، في 15 شباط 2016». وأنهى حديثه بالقول: «لا يمكن عودة الهدوء إلى الريف الشمالي دون عودة تل رفعت إلى أهلها، والتوتر سيستمر طالما بقيت ميليشيا YPG على موقفها الرافض للخروج من المدينة، وعودة المعارك مسألة وقت ليس إلا».
youtube://v/fRab1Ye_1sA
تهجير سكان المدينة، التغيير الديموغرافي هو الهدف
كانت المدينة حتى بداية شهر أغسطس من العام 2016 خاوية على عروشها، فعند سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» على تل رفعت، غادر جميع سكان المدينة إلى المخيمات والقرى المجاورة الخاضعة للجيش الحر، وخصوصاً إلى مدينة إعزاز ومخيم سجّو وتركيا، خوفاً من أعمال انتقامية أو عمليات تطهير عرقي، ولم يبقَ في تل رفعت أي إنسان.
على الرغم من أن قيادة «قوات سوريا الديموقراطية» هناك تقول إنها ليست قوات كردية خالصة، وإن معها في منطقة تل رفعت ومحيطها على وجه الخصوص مقاتلون عرب منتظمون في تشكيل جيش الثوار، فإن الوقائع على الأرض تنفي ذلك. إذ تشكل وحدات حماية الشعب الكردية YPJ العمود الفقري للقوات، وهي المسيطر الفعلي على تل رفعت، وهذا ما يؤكده سلوك حواجز قوات سوريا الديموقراطية اللاحق مع أبناء تل رفعت، ومسارعتها إلى تغيير اسم المدنية إلى اسمها التاريخي القديم، أرباد/Arpet.
بعدها بثلاثة أشهر، حاولت بعض المجموعات من السكان العودة إلى مدينتهم بعد أن ضاقت الأرض بهم، فرفضت الحواجز الأمنية التابعة لميليشيا YPG إدخالهم، وقالت إن تل رفعت منطقة عسكرية لا يُسمَح للمدنيين بدخولها. ومع بداية شهر أيلول من العام الجاري سمحت YPG لما يقارب 1000 شخص بالعودة إلى المدينة، وجميعهم ممن نزحوا في وقت سابق إلى عفرين تحديداً، أو ممن ينتمي أحد أفرادٌ من عوائلهم إلى جيش النظام أو أفرعه الأمنية، أما الذين نزحوا إلى مناطق الجيش الحر فلم يسمح لهم بالعودة على الإطلاق.
يقول أبو وحيد، وهو أحد أبناء المدينة، إن ميليشيا YPG تسعى إلى التغيير الديموغرافي في المنطقة، ودليل ذلك أن أول أمر فعلته كان تغيير أسماء العديد من المدن والبلدات التي سيطرت عليها. ويضيف أبو وحيد: «تل رفعت واحدة من العوائق التي تعيق إنشاء الكيان الكردي التي تحلم YPG باستكماله في شمال سوريا، على اعتبار أن روح الثورة متأصلة في نفوس شبابها، وتتوقع الميليشيا ألا يتوقف أبناء المدينة عن قتالها، وأنهم قد يمنعونها من استكمال مشروعها، لذلك تحرص على عدم إعادتهم إلى بيوتهم. وهي في الوقت ذاته سمحت لسكان بعض المناطق بالعودة، ومعظمهم من القرى التي لم يجرِ فيها أي نشاط معارض للنظام، وذلك لشعورها أنهم لا يشكلون أي خطر عليها مستقبلاً».
أما أسامة حدبة فيقول: «سياسات YPG خطيرة جداً، فهي تزرع الكره في نفوس سوريين ظلوا متجاورين لعشرات السنين دون أن نسمع خلافاً واحداً فيما بينهم. كيف ينسى الناس شهداءهم؟ كيف ينسون التهجير وسرقة الممتلكات؟ كلها أمور ستؤثر على العلاقة مستقبلاً. تلعب هذه الميليشيا بمصير شعب كامل في سبيل تحقيق غايات، إن لم نقل خبيثة، فهي مشبوهة على أقل تقدير».
كانت تل رفعت مدينة صغيرة في ريف حلب الشمالي، ربما لم يسمع بها كثيرٌ من السوريين طوال عمرهم. أما الآن، فقد صنعت الأحداث الكبيرة من المدينة اسماً ذا شأن، يكاد يعرفه جميع السوريين على اختلاف توجهاتهم. وبالتأكيد، «الحكاية لم تنته بعد، وما زال لتل رفعت مع المجد جولات» كما يقول الأستاذ محمد وليد.