إدواردو أوغيس غاليانو، كاتبٌ وصحافيٌ ورسامٌ من الأوروغواي، ولدَ في 3 أيلول/سبتمبر عام 1940، ذو أصول متعددة تمتزج بين الاسبانية والإيطالية والبريطانية، باشرَ العمل الصحفي في سن مبكرة ونشر أول رسوماته الكريكاتورية في الجريدة الأسبوعية الشيوعية El SOL أو الشمس، موقعة بـ Guius.
نُفِيَ إلى الأرجنتين عام 1973، وأسس فيها جريدة الأزمة LA CRISES. تحسّسَ نبض أمريكا اللاتينية والعالم عبر رحلة إبداعه وعطائه ككاتب وصحافي ورسام، وتُرجِمَت أعماله الأدبية إلى أكثر من عشرين لغة وكان أشهرها الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية، ويعدُّ هذا العمل تحليلاً دقيقاً لما تعرضت له أمريكا الجنوبية من استغلال لثرواتها منذ عهد كريستوفال كولون حتى أيامنا هذه، وقد طُبِعَ هذا العمل ثلاثين طبعة منذ إصداره في عام 1973.
يتحدث إدواردو غاليانو في هذه المقابلة مع الصحافي إيريك نيبوموسينو عن أمريكا اللاتينية، وعن الحياة والوداع والخوف، وعن كل ما يموج داخله من هواجس أو من طمأنينة يستشفّها المرء من خلال شخصيته الفريدة، وكلماته التي تأخذنا إلى عالمه الخاص.
youtube://v/ky1p1yOvpWg
*****
مقتطفٌ من كتاب معانقات تحت عنوان «العالم»، يقرأها غاليانو في بداية المقابلة:
تمكن رجلٌ من قرية نيغوى الواقعة على الساحل الكولومبي من الصعود إلى السماء، وعند عودته تحدث عن تأمله للحياة البشرية من الأعلى، فوجد أننا جميعا نشكل بحراً من لهب، العالم هو كومةٌ من البشر وبحرٌ من اللهب. قال: وليس هنالك ألسنة لهب متشابهة، فكل شخص يشعّ بضوئه الخاص الذي يميزه عن الآخرين، ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة، وهي موجودة بجميع الألوان، لبعض البشر ألسنة لهب هادئة لا تتأجج مع هبوب الريح، وآخرون لهم لهب مجنون يملؤون الهواء بالشرر المتطاير. هنالك ألسنة لهب غبية لا تضيء ولا تحرق، بينما لآخرين ألسنة لهب حارقة، يلذعون الحياة برغبة عارمة فلا يمكن النظر إليهم دون أن ترف أعيننا، ومن يقترب منهم يشتعل.
*****
أودّ لو تحدثني عن أمريكا اللاتينية، كيف تراها اليوم؟ وكيف ترى هذا العالم الذي نعيش فيه؟
حسناً، يبدو هذا السؤال معقداً بعض الشيء، تريد إجابة عن أمريكا اللاتينية والعالم أيضاً، لحسن الحظ أنك لم تسألني عم المريخ والقمر! حسناً، أعتقدُ أن بلادنا تعيش حقبة مليئة بالإبداع والجمال يصعب فهمها، خاصة إذا ما نظرنا إليها نظرة خارجية وفوقية، فإن نحن أردنا فهم حقيقة الأمور واستشعار نبضها علينا النظر إليها من الداخل أي من العمق ومن الأسفل. أما إذا ما نظرنا إليها بتلك الفوقية التي يتصف بها أعلام الديموقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية أوفي أوروبا مثلاً، فلن نتمكن من فهم شيء على الإطلاق. وذلك لسبب وجيه وهو أن بلادنا هي أكثر بلاد العالم تفرداً، بل هي في الواقع وطن التعدد العرقي والإنساني، ومن ينظر لهذا التمازج العظيم نظرة خارجية سيبدو له ذلك عيباً كبيراً ومشكلةً كبرى، فتلك الدول تمتلك نظرتها الخاصة عن الديموقراطية، وإن أنت لم تدخل معهم في تلك المعمعة وتشاركهم نظرتهم الفوقية تلك، إذن فأنت لا تؤمن بالديموقراطية. وهذا خطأ فادح، لأن كون بلادنا تعج بالتناقضات والاختلاف والتنوع العرقي المدهش الذي تتمازج فيه الأطياف البشرية بكافة ألوانها هو أكبر دليل على أن بلادنا هي عرشٌ للديموقراطية.
حسناً، عن العالم سأذكر مقولةً تعجبني كثيراً لشاعرة أمريكية تدعى موريك ريكايستر تقول: «يقال إن العالم مصنوعٌ من الذرات! وأنا أقول إنه مصنوعٌ من القصص». شخصياً أعتقد بصحة ذلك، فالعالم مصنوع من القصص، وجميعها، إن كانت القصص التي نحكيها أو التي نسمعها أو تلك التي نختلقها ونعمل على تضخيمها، تمتلك القدرة على تحويل الماضي إلى حاضر، كما يمكنها تقريب البعيد وجعله ممكناً ومرئياً.
لنتحدث عن الخسارات، كيف واجهتَها وتغلبتَ عليها؟ أم أنك واجهتَ صعوبة في ذلك؟
أستطيعُ القول إن خسارة الأشياء لم تكن تعنيني يوماً، إنما هي خسارة الأشخاص التي لطالما أثرت فيَّ وأوجعتني، وبعضها ترك فجوات في روحي من الصعب ملؤها من جديد. العالم بلا شك مبني على قاعدة معقدة من مجموع اللقاءات والفراق، من التملّك والخسارة، وأفضل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد. وكل خسارة في الحياة يقابلها لقاء مع شخص لم نلتقِ به بعد، والحياة كريمة في هذا الشأن فهي لا تخذلنا أبداً.
في الحقيقة أنا أكتب لكي أحتفل بحقيقة الحياة، وكي أُدينَ كل ما يعيق طريقنا لمعرفة الذات ومعرفة الآخرين، الذين يشكلون باختلافهم ألوان قوس قزح الأرض. حقيقتنا هي أعظم بكثير مما يُقال لنا.
ماذا عن الخوف؟
الخوف يتربص بنا ويهددنا، يقول الخوف إنه إذا قمتَ بممارسة الحب ستصاب بالإيدز وإذا أدمنتَ التدخين ستصاب بالسرطان، إن تنفستَ سيقتلك التلوث، وإن شربتَ الكحول ستتسبب بحادث سير، إذا أكثرتَ من تناول الطعام ستصاب بالكوليسترول، وإذا عبّرتَ عن رأيك بصراحة ستجد نفسك عاطلاً عن العمل، إذا مشيتَ ستكون معرضاً للعنف، وإذا غرقتَ في التأمل ستصابُ بالحزن، إذا راودكَ الشكّ ستصابُ بالجنون، وإذا كنتَ حساساً ستبقى وحيداً.
ما هي أكثر التقاليد جمالاً في أمريكا اللاتينية بالنسبة لك؟
هنالك أسطورة تناقلها السكان الأصليون أو من يسمون بـ «لوس أنديهيناس»، تحكي قصة خلق آلهة المايا للرجل والمرأة. تقول تلك الاسطورة إن الآلهة كانوا يشعرون بالضجر لذلك خلقوا البشر، وقد حاولوا مرات كثيرة قبل أن يتمكنوا أخيراً من تشكيلنا على الصورة التي نحن عليها اليوم، وحسب الأسطورة فقد صنعت آلهة المايا الرجل والمرأة من الذرة، لكن قبل ذلك كانت قد صنعتهما من الخشب وكانا كاملين باستثناء عيب صغير لكنه خطير، فلم يكن بإمكانهما التنفس! وبالتالي لم يكن بمقدورهما الكلام.
حين أفكّرُ بتلك الأسطورة يخطر لي أنه إذا لم يكن بإمكانهما التنفس، إذن فهما لم يعانيا يوما من اليأس! إذن هذه هي القاعدة، إن أردنا الوقوف علينا أن نتعلم كيفية الوقوع، ولكي نربح علينا أن نتقن الخسارة. لنكن على قناعة تامة بأن هذا جزءٌ من الحياة، الوقوع مراراً والنهوض من جديد.
بعض الأشخاص يقعون ولكنهم لا يتمكنون من النهوض مجدداً، وهم الأشخاص الأكثر حساسية الذين يتأثرون بشكل أعمق من غيرهم، أولئك الذين يؤلمهم العيش، أما الأوغاد أبناء العاهرات الذين يمتهنون إرهاب الإنسانية فإنهم يعيشون حياة طويلة لأنهم ببساطة لا يملكون ذلك الجزء في الإنسان، وهو نادرٌ هذه الأيام، هو القادر على جعل حياة من يمتلكونه جحيماً إن هم ارتكبوا أفعالاً شنيعة، وأتحدث عن الضمير بالطبع.
حدّثنا عن مدينة مونتي فيديو وطبيعة الحياة فيها، وكيف ترى الأوروغواي اليوم؟
إذا طُلِبَ مني أن أختار مدينة صالحة للعيش فسأختار مونتي فيديو، ليس لأني ولدت فيها فالمرء لا يختار المكان الذي يولد فيه، بل أختارها لأني ما زلت قادراً على المشي في شوارعها وتنفس هوائها، وهما فعلان لا تستطيع ممارستهما حالياً في معظم دول العالم. كانت معلمتي في المرحلة الابتدائية تقول لي: «تنفس يا طفلي فالتنفس مهم جداً». وكذلك المشي، فأنا أمشي كثيراً وفي الحقيقة أنا أمارس فعل المسير نحو الحياة، أمشي لساعات على الشاطئ وبهذا أوفر مبالغ طائلة، تلك المبالغ التي كنتُ سأنفقها على التحاليل والعلاج لأمراض كنتُ لأصابَ بها لو أنني لا أمارس رياضة المشي.
لو تحدِّثُنا قليلاً عن الصداقة.
الصداقة هي وجه من أوجه الحب، وأعتقدُ أنها تقوم على قاعدة الصدق، أما الصداقة الأخرى التي تعرّفُ عن نفسها بكلمات مثل: أحبك جداً وكم أنت جميل … إلخ، فهي ليست بالصداقة الحقيقية. الأصدقاء عندما يكونون أصدقاء حقيقيين، يعمدون لقول ما يجب قوله حتى لو كان مؤلماً، لهذا فمن الصعب إيجاد الصداقة الحقيقية المبنية على هذه القاعدة، ذلك يتطلب المرور بمراحل معقدة. لكن الإنسان عندما يحبّ أحداً بحق، إن كان الصديق أو الحبيب، فهو يعشقه بكل ما فيه.
ماهي وظيفة الأدب والفن برأيك في يومنا الحاضر؟
حسناً، من الصعب أن أعطيكَ إجابةً عن هذا، فعادةً النظرة العامة التي تمتلكها الأغلبية عن الفنانين والمبدعين أنهم متكبرون ومتغطرسون، ويُنظَرُ إليهم وكأنهم وجِدوا لإنقاذ الآخرين، وأن الله أعطاهم قبلةً في المهد فصاروا المختارين إذ خصّهم بملكة الإبداع.
حسناً، لا أؤمن بكل هذا، بل أعتقدُ أن أفعالاً بسيطة كالتعاطف، إذا ما أُفسِحَ لها المجال لتتحول إلى فعل، قد تكون تمريناً جيداً على التواضع، وبإمكانها أن تعلم الإنسان كيفية التعرف على نفسه وعلى الآخرين، وأيضاً فهي تساعدنا على اكتشاف عظمة الأشياء الصغيرة المتوارية عنا، ولذلك تقودنا إلى إدانة العظَمَة الزائفة في الأشياء الكبيرة وسط عالمٍ لا يملك القدرة على التمييز بين مفهومي العظمة والضخامة.
منذ مدة قال لي صحافي من مدريد: «عندما أقرأ ما تكتبه يُخيّلُ إليَّ أنك تضع عيناً على المجهر وأخرى على التلسكوب»، أعتقدُ أنه وصف جيد لما أحاول فعله عن طريق ملاحظة الأشياء التي لا يلاحظها أحد في العادة، ولكنها في الحقيقة تستحق أن تكون مرئية من الجميع.
إن عالم الأشياء الدقيقة المجهرية التي لا يراها أحد هو برأيي الذي يغذي عظَمَة الكون، وفي الوقت نفسه يجعلني قادراً على الوقوف على الأسرار العظيمة للحياة، سرُّ الألم الإنساني والكفاح من أجل أن يكون هذا العالم للجميع، وليس لأناسٍ بعينهم. أشياءٌ أخرى كأهمية الجمال بالنسبة لأولئك الناس البسطاء الذين يمتلكون هالة عظيمة من الروعة والرقة، يمكن لها أن تتمثل في صورةٍ أو في أغنية أو في محادثة عابرة، ذاك هو ذاته ما يملكه الأطفال ولكننا نحن البالغون نجتهد في جعلهم نسخة عنا، وهذا ما يدمر حياتهم بالكامل.
في الحقيقة علينا نحن البالغون أن نتعلم من الطفل، الأطفال جميعهم وثنيون يعبدون الطبيعة. أذكرُ يوماً عندما خرجتُ في إحدى الصباحات، وكان لروحي يومها إيقاعٌ حزين، كنتُ قد فقدت صديقي ورفيقي مورغان الكلب الذي رافقني لسنوات، وبينما كنتُ أتمشى في الحي، صادفتُ طفلةً تبدو في الثالثة من العمر، كانت تقفز باتجاه معاكس لاتجاه الطريق، وتلقي تحية الصباح على النباتات والأشجار، «بوينوس دياس باستو» كانت تقول. في هذا العمر نكون جميعنا وثنيين نعبد الطبيعة، وأيضاً شعراء ومبدعين، وبعد ذلك يتولى العالم الذي نعيش فيه تخريب أرواحنا، وهو ما ندعوه النضج.