كان لفوز دونالد ترامب وخطابه الشعبوي دورٌ في إحياء الأمل لدى الأحزاب اليمينة المتطرفة، إذ وجدت تلك الأحزاب أنه من الممكن كسب تأييد الناس بخطابٍ شبيهٍ بخطاب ترامب، وتعزيز فرصهم بالنجاح عبر ذلك. وعلى الرغم من أنه ثمة اختلاف بين خطاب اليمين الشعبوي وخطاب اليمين المتطرف وفقاً لما يراه المفكر والباحث عزمي بشارةتحدّثَ بشارة عن الفرق بين اليمين المتطرف واليمين الشعبوي، وقال إن اليمين المتطرف حركة نخبوية تطرح أفكاراً غالباً ما تكون إيديولوجية يصعب على المجتمع التكيف معها، أما اليمين الشعبوي فلا تهمه الإيديولوجيا بقدر ما يهمه مخاطبة مشاعر قسم كبير من المجتمع واجتذاب الفئات الموجودة على هوامشه. وبحسب بشارة؛ فإن ترامب ليس يمينياً متطرفاً بل هو شعبوي، وتكوينه الشعبوي هو أقرب إلى الفئات اليمينية.، غير أنه تجمعهما قواسم مشتركة في اعتماد خطاب دوغمائي، يعمل على دغدغة عواطف الناس عن طريق التركيز على مكامن الخوف لدى الرأي العام، من قبيل تحميل المهاجرين واللاجئين مسؤولية تفشي البطالة والجريمة والتخلف. ومن أجل ذلك سميت الأحزاب اليمينية المتطرفة من قبل بعض المفكرين بـ «الأحزاب ضد الهجرة»، كما تبنت جميع هذه الأحزاب لواء العداء للأجانب والتنوع الثقافي، وأيضاً رفض الاندماج داخل الاتحاد الأوروبي والدعوة للانفصال عنه.

وتشهد اليوم القارة الأوروبية نمواً متصاعداً لقوى اليمين المتطرف، على شكل موجة تجتاح بعض الدول الأوروبية ومنها: ألمانيا والمجر وسلوفاكيا والدنمارك وفرنسا والنمسا، والسويد وبريطانيا، وقد تمكنت الأحزاب اليمينة في تلك الدول من جذب كثيرٍ من الناخبين إليها، وبعضها تمكن من التأثير في المشهد السياسي.

ويعتقد البعض أن ازدياد عدد اللاجئين والمهاجرين كان سبباً مباشراً في بزوغ نجم اليمين المتطرف في المشهد السياسي سواء على مستوى الانتخابات البرلمانية والمحلية أو الرئاسية، وكذلك على مستوى البرلمان الأوروبي. فما هو اليمين المتطرف؟ وهل سيتغير القرار السياسي، ولا سيما بالنسبة اللاجئين، في حال فوزه في الانتخابات، وتحديداً في ألمانيا وفرنسا، اللتين تتجهزان لخوض انتخابات خلال هذا العام؟

يتم عادة استخدام مصطلحي اليمين واليسار كتعبير عن الإيديولوجية السياسية والحزبية بما تتضمنه من أفكار ومعتقدات، كما يمثل كلٌ من المصطلحين قطبين أساسيين يعبران عن المواقف السياسية. ويشير مصطلح اليمين إلى القوى المحافظة التي ترفض تغيير النظام السياسي والاجتماعي وتسعى للمحافظة على الأوضاع السائدة، بينما يشير مصطلح اليسار إلى القوى التي تنادي بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي. وبين قوى اليمين واليسار تقع قوى الوسط التي تنادي بالإصلاحات التدريجيةاستُخدِمَت هذه المصطلحات الثلاث لأول مرة في أعقاب قيام الثورة الفرنسية في 1789، واكتسب كل منها معناه الاصطلاحي من المواقع التي جلس فيها ممثلو القوى الاجتماعية والسياسية داخل الجمعية الوطنية (البرلمان) التي تشكلت بعد الثورة، إذ جلس المحافظون الذين كانوا يمثلون النبلاء ورجال الدين على يمين منصة المجلس فتم تسميتهم باليمينيين، فيما جلس المنادون بتغيير النظام الملكي وإدخال إصلاحات جذرية على النظام السياسي على يسار المجلس فسموا باليساريين. لاحقاً، ومع ظهور جماعات سياسية جديدة انبثقت مسميات جديدة مثل يمين متطرف ويسار متطرف، ويمين الوسط ويسار الوسط، وضمن هذه الاشتقاقات تم تصنيف القوى العنصرية كقوى يمين متطرف، فيما تم اعتبار الاحزاب الشيوعية ضمن قوى اليسار المتطرف. وصار مصطلح يسار الوسط يشير للأحزاب اليسارية الديموقراطية، فيما يشير يمين الوسط للأحزاب الليبرالية والمحافظة..

عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وجدت الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار نفسها في مأزق حيال التعامل معها، في جوٍ من السخط العام جراء عدم احتوائها، وتسارعت وتيرة خطاب يتصف بالعنصرية ضد المهاجرين، ويدعو للانغلاق والتقوقع على الذات في سبيل مواجهتهم، مما عبد الطريق أمام الأحزاب اليمينة للصعود؛ مستغلةً حالة اليأس والإحباط لدى المواطن الأوروبي.

هكذا وجدت الأحزاب التقليدية نفسها مضطرةً للتعامل مع الأحزاب اليمينة المتطرفة، بعد أن استطاعت الأخيرة إثبات قدرتها على أن تكون بديلةً عن الأحزاب التقليدية، وأن تكون جديرة بثقة الناخب الأوروبي.

نوستالجيا الحنين إلى القومية والدين

نتيجة ازدياد الأزمات والحروب، أصبحت القارة الأوروبية ملاذاً آمناً للاجئين الهاربين من ويلات الموت في بلادهم، وفي 2011 مع بداية اندلاع الثورات في بلاد الربيع العربي، تصاعدت حدة الهجرات ولا سيما غير الشرعية إلى أوروبا. وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي للحد منها، إلا أن ذلك لم يَحُل دون تدفق أعداد جديدة من اللاجئين الذين ذهبوا بقوارب الموت عبر البحر المتوسط.

شهد العام 2015 موجة لجوء كبيرة إلى القارة العجوز، وتم إحصاء مليون ونصف المليون لاجئ إليها، وذكر معهد كارنيغي عبر دراسة نشرت بعنوان جذور أزمة اللاجئين في أوروبا أن الأحداث في سوريا تشكل دافعاً هائلاً لتدفق اللاجئين إلى القارة الأوروبية، ووفقاً للدراسة فإنه على الصعيد العالمي، كل واحد من خمسة لاجئين هو سوري.

أدى ذلك إلى أن تعيش أوروبا اليوم صراعاً إيديولوجياً بين تبني قيم الإنسانية في إيواء اللاجئين واحتوائهم، وهذا ما تكفله دساتير بلادهم، وبين ازدياد عدد اللاجئين المترافق مع تصاعد الهجمات الإرهابية التي باتت تهدد الأوروبيين في عقر دارهم، مثل هجوم شارلي إيبدو، والجمعة السوداء في باريس، وتفجيرات بروكسل، وأحداث كولونيا في ألمانيا وغيرها.

كان لهذه الأحداث يدٌ في صب الزيت على النار وتأجيج مشاعر الخوف لدى مجموعات محلية في المجتمعات الأوروبية ضد الآخر العربي، لا سيما المسلم المختلف عنهم ديناً وهوية وثقافة، ما جعل بعض الناخبين ينحازون للأحزاب اليمينية المتطرفة، ويتبنون شعاراتها وطروحاتها المعادية للاجئين على حساب تقوية روابط الهوية الدينية والعرقية ووضعها فوق كل اعتبار.

وكان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وفوز حزب الجبهة الوطنية الفرنسي بقيادة مارين لوبان في انتخابات البرلمان الأوروبي بنسبة 25%، متفوقاً على الحزب الاشتراكي الحاكم، وحصوله على نسبة مقاربة في الانتخابات المحلية عام 2015. وكذلك صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» في المشهد السياسي الألماني، إذ نشر معهد فورسا استطلاعاً للرأي في شهر آب 2016 يشير إلى تقدم هذا الحزب اليميني على حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل، لترتفع شعبية الحزب من 10 إلى 12% على مستوى ألمانيا، ويحقق بذلك ثاني أعلى نسبة تأييد له في عام 2016، بينما تراجعت شعبية تحالف المستشارة ميركل بمقدار نقطتين مئويتين لتصل إلى 33%.

كل ما سبق يشير على ما يبدو إلى تغير مزاج الناخب الأوروبي، الذي بات ميالاً للاصطفاف مع اليمين المتطرف وخطابه الشعبوي وفقاعاته الإعلامية، مما يزيد من الخوف على مستقبل اللاجئين ولا سيما السوريين، وأيضاً يرفع من احتمالات فرض مزيد من الإجراءات القانونية المتشددة بحقهم، كما يخشى عليهم من قيام مجموعات متطرفة بعمليات انتقامية ضدهم، وخاصةً في ظل الاضطراب الأمني والبيئة السياسية المشجعة لمحاربتهم في حال فوز اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا.

واليوم، عندما نتحدث عن اليمين المتطرف لا بد من التطرق للحديث عن ظاهرة الإسلاموفوبيايعرّفها رابح زغوني في كتابه الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في أوروبا: مقاربة سيوسوثقافية، على أنها ظاهرة فكرية بدأت تقوى وتستشري في المجتمعات الأوروبية لتصبح إيديولوجية ترتبط بنظرة اختزالية وصورة نمطية للإسلام ومعتنقيه من المهاجرين في أوروبا كمجموعة منغلقة على ذاتها ومحدودة، وتؤمن بقيم رجعية تحض على العنف والاختزال والنظرة السلبية للآخر، وترفض العقلانية والمنطق وحقوق الإنسان.، التي ظهرت جلياً من خلال برامج الأحزاب اليمينة المتطرفة، إذ لا تتوانى هذه الأحزاب عن إعلان معادتها للإسلام والمهاجرين المسلمين بين الحين والآخر. وفي العام 2008 قامت الأحزاب اليمينية في أوروبا بخطوة جديدة في معاداة المهاجرين، وخاصة المسلمين منهم، من خلال إنشاء منظمة تهدف لمكافحة «الأسلمة» في أوروبا حملت اسم «المدن ضد الأسلمة». وأيضاً تم تدشين حركة «أوربيون وطنيون ضد أسلمة الغرب» المسماة «بيجيدا» العام 2014، والتي نظمت مسيرة ضمت 25 ألفاً في مدينة دريسدن الألمانية ضد المسلمين، في أعقاب حادثة شارلي إيبدو.

ويرى رابح زغوني أستاذ العلوم السياسية: «أن ظاهرة الإسلاموفوبيا أصبحت واقعاً معاشاً في الغرب وفي أوروبا خاصة، من خلال خطاب سياسي وإعلامي، حيث أصبح مقبولاً ومشروعاً انتقاد المجموعات المسلمة من المهاجرين في الغرب تحت غطاء القيم الليبرالية كحرية التعبير. والمفارقة أن ذلك تم بتأييد واسع من الإعلام ليبدو خطاب العنصرية والعدائية ضد المسلمين وكأنه عادي ومقبول مجتمعياً وسياسياً، وليصبح التمييز ضد لمسلمين جزءاً غير خافٍ من المناخ السياسي السائد في أوروبا…».

وهكذا، فإن سقوط باريس وبرلين في أيدي اليمين المتطرف يعني تقويض أركان الاتحاد الأوروبي والعودة إلى زمن النازية والفاشية، وهذا ما دفع مراسل جريدة «لو باريزيان» كريستوف بوردوازو إلى التحذير مما يتهدد أوروبا بقوله: «تعاملوا مع اليمين الشعبوي بجدية، وإلا فستصبح ألمانيا مثل فرنسا. فقد تجاهلت فرنسا حزب الجبهة الوطنية لفترة طويلة، والآن أصبح هذا الحزب أقوى حزب في فرنسا. ولذلك لا يجوز لألمانيا أن تكرر ذات الخطأ في تعاملها مع حزب البديل من أجل ألمانيا».

وحتى لا يقع اللاجئون فريسةً لليمين المتطرف، لا بدَّ من تضافر جهود منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني واللوبيات السورية في تبني دورهم للدفاع عن قيم الديموقراطية والحريات الأساسية المكفولة في الدساتير، ومنها حرية المعتقد والتعبير. وربما يتوجب على مجموعات الضغط السورية القيام بدورها في مساعدة السوريين على الاندماج المجتمعي والثقافي ضمن المجتمعات الأوروبية المحلية التي يتواجدون فيها، مما يقلل من خطر شر محتمل قد يقع عليهم في حال واصل اليمين المتطرف صعوده نحو السلطة.

اللاجئون، شماعة الأزمات الاقتصادية

كان لفشل السياسات الأوروبية في الخروج السريع من مخلفات الأزمة الاقتصادية انعكاسٌ على مستوى معيشة فئات عريضة داخل الأوساط الأوروبية، ويعتبرُ بعض الباحثين أن هذه الفئات التي باتت تجد نفسها مهمشةً اقتصادياً وتعاني من نسبة بطالة متزايدة، أصبحت عاجزة عن مواكبة التحولات الاقتصادية في عالم ما بعد الصناعية، وفي ظل الانفتاح العولمي، ما دفعها للانحياز إلى خطابات اليمين المتطرف في ظل الطلب المتزايد من قبل اللاجئين للحصول على المساعدات من دول اللجوء، واستمرار التضخم والركود.

أجرى ثلاثة باحثين ألمان هم: مانويل فانكي وموريتز شولاريك وكريستوف تريبيش، دراسة في تشرين الأوّل 2015 لصالح صحيفة «سي إي أس آيفو» بالتعاون مع معهد ليبنيتز للدراسات الاقتصاديّة «آيفو» في ميونيخ، وقد بيّنت العلاقة الوثيقة بين الأزمات الماليّة وصعود اليمين المتطرّف في أوروبّا.

وترى الدراسة أنّ كلّ أزمة ماليّة تعني بالضرورة نٍسَبَ بطالة وفقر مرتفعة، وغالباً ما ينقلب المجتمع ضدّ السياسيّين التقليديّين الحاكمين، فيلجأ الى أحزاب تنتمي الى اليمين المتطرّف. وما يلفت الانتباه أكثر، هو إشارةُ الدراسة الى أنّ المناطق الفرنسيّة التي صوّتت لصالح الجبهة الوطنيّة هي المناطق التي تأثّرت بنسبة أكبر من غيرها بالبطالة والنموّ الاقتصاديّ السلبيّ.

ولكن على الرغم من اعتبار أن الأزمة المالية هي أحد المسببات التي تقف خلف صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية، فعلى النقيض من ذلك كان للأزمة المالية دورٌ في صعود شعبية اليسار في كل من اسبانيا واليونان، إذ حصد حزب سيريزا بقيادة أليكسيس تسيبراس في اليونان شعبيةً واسعةً بين الفئات المناهضة لسياسات تقشف الاتحاد الأوروبي. كذلك كان ظهور تحالف أونيدوس بوديموس اليساري كحزب مستحدث في اسبانيا بعد حصوله في الانتخابات الأخيرة على 71 مقعداً، وقد تكون حظوظه بالفوز كبيرة في حال لم تنجح الأحزاب المحافظة في احتواء الهزات المالية التي ما زالت تعصف باقتصاد اسبانيا.

وهكذا فإنه من غير الصائب اتخاذُ أزمة اللاجئين شماعةً تُعلَّقُ عليها الأزمات الاقتصادية، ومن غير الصائب تصوير اللاجئين على أنهم مزاحمون للأوروبيين على لقمة عيشهم. ولعل المفارقة الأخرى التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في هذا السياق، هي أنه على الرغم من عدم تأثر الاقتصاد الألماني بالأزمة المالية، فإن ألمانيا شهدت نمواً متزايداً لليمين المتطرف، وهذا يشير إلى أنه على الرغم من اعتبار أن الأزمات المالية التي تمر بها أوروبا أحد مسببات انحياز بعض الناخبين لليمين المتطرف، فإنها أيضاً ليست السبب الوحيد دون شك، بل لا بدَّ من التفتيش بشكل أعمق عن جذور المشكلة، التي قد يكون من بين أسبابها شعور فئات من المواطنين الأوروبيين بأن هويتهم مهددة، في ظل وجود بؤر اجتماعية للاجئين تشكل مجتمعاً موازياً للمجتمع الأوروبي، أو مجتمعاً داخل مجتمع.

التشريعات

في الوقت الذي أعلنت فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلغاء العمل باتفاقية دبلن، وفتحت الحدود على مصراعيها لاستقبال اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم الكارثة كخطوة إنسانية من جانب ألمانيا، وفي ظل تصاعد خطاب يميني متطرف رافضٍ لسياسات ميركل، أجرى البرلمان المجري استفتاءً يدعو لرفض حصص المجر المخصصة من قبل الاتحاد الأوروبي لاستقبال ألفي لاجئ، وأقرّ تشريعات مناهضة للمهاجرين غير الشرعيين، منها قانون يعزّز احتمالية انتشار الجيش على الحدود، ومعاقبة من يحاول الهجرة بطريقة غير الشرعية بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات.

من جهة أخرى ما زال الاتحاد الأوروبي عازماً في مساعيه لوقف موجات اللجوء من المهاجرين غير الشرعيين، حيث سبق وعرض على النيجر التي تعد من أهم محطات المهاجرين من أفريقيا نحو أوروبا، مبلغ 610 ملايين يورو للحد من محاولات الهجرة، كما عرض خططاً مشابهة على السنغال وإثيوبيا ومالي، بالإضافة إلى أفغانستان والأردن ولبنان وتركيا ودول أخرى.

كذلك اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوات منها مراقبة السفن في المياه الدولية، وإطلاق الطائرات والطائرات بدون طيار، لجمع المعلومات عن حاملات المهاجرين غير الشرعيين التي تبحر من دول إفريقيا إلى شواطئ الاتحاد الأوروبي، وزيادة ميزانية عملية «تريتون» البحرية الهادفة إلى الحدّ من عدد المهاجرين إلى أوروبا، بمقدار ثلاثة أضعاف. أما بشكل غير رسمي، فإن الإعانات التي يمنحها الاتحاد الأوروبي للدول غير الأعضاء المجاورة في إطار «سياسة الجوار الأوروبية» مشروطة بالمراقبة الفعّالة للحدود، والالتزام باستعادة المهاجرين غير الشرعيين.

ومن المثير للاهتمام هنا قبول الدول الأوروبية ببعض طلبات الهجرة المقدمة عبر سفارتها وقنصلياتها فقط، في حين رفضت إعطاء حق اللجوء لأغلب الطلبات وتركت أصحابها يخوضون غمار الموت كي يصلوا إلى سواحلها، وكأنها في الواقع تشجع بشكل غير مباشر على اتباع طرق الهجرة غير الشرعية.

وفي حين أن المناوشات السياسية ما زالت مستمرة داخل أروقة مراكز الاقتراع ما بين اليمين المتطرف والأحزاب التقليدية، لا يزال عدد من اللاجئين عالقين عند الحدود اليونانية، يعانون الأمرين وينتظرون مصيرهم المجهول، كما قامت تركيا بإغلاق حدودها البرية في وجه السوريين سعياً منها لتطبيق اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي، وتركتهم عرضةً لرصاص الجندرما. وما يدفع للدهشة هنا أنه كيف يمكن للدول الغربية التي تتغنى بمواثيق حقوق الإنسان أن تعتمد سياسة لا إنسانية، وتترك اللاجئين عرضةً للموت، سواء عبر الرحلات التي يخوضونها، أو مثلما يحدث اليوم في مخيمات اللجوء في صربيا واليونان، حيث يعاني اللاجئون من موجات بردٍ اكتسحت القارة العجوز، قد تودي بحياة بعضهم!

يتبادر إلى الأذهان هنا المقترح التركي الذي سبق وطُرِحَ في عهد الرئيس باراك أوباما، حول جدوى إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا تحمي اللاجئين من ويلات الحرب، وتغنيهم عن مذلة الشقاء وتحمل المخاطر في سبيل الحصول على عيشة كريمة، وذلك بدلاً من تركهم ينامون في العراء أو في خيم لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء.

يثير ما سبق التساؤلَ حول مصير اللاجئين في ظل اتخاذ إجراءات متشددة من قبل الاتحاد الأوروبي، وصعود اليمين المتطرف إلى السلطة؟ وفي هذا السياق يقول المحامي غزوان قرنفل رئيس تجمع المحامين الأحرار:

«لا تستطيع دولٌ مثل ألمانيا وفرنسا، التي تتميز بتراث ديموقراطي وبترسيخ قيم سيادة القانون وحقوق الإنسان أن تتجاوز التزاماتها الدولية والقانونية المترتبة عليها نتيجة تبنيها لاتفاقيات تتعلق بحقوق اللاجئين، والتي هي جزء من منظومة قانونية دولية صاغتها تلك الدول وألزمت نفسها بها، لكن بكل تأكيد فإن مشكلة الهجرة غير الشرعية والكتل البشرية الهائلة للاجئين ستدفع تلك الدول بالضرورة إلى مراجعة موقفها من تلك المسألة، ليس بطريقة التنصل مما التزمت به وإنما بالتضييق من سبل وصول هؤلاء اللاجئين إليها، وتشديد اجراءات منح الحق بالحماية أو اللجوء، وتخفيض بعض المزايا مما يجعلها دول غير مرغوبة من قبل طالبي اللجوء. وستلقى تلك التشريعات ترحيباً شعبياً نظراً للضغط الذي يمثله موضوع اللاجئين على الميزانيات العامة لتلك الدول من جهة، وأيضاً لترافق هذه المسألة مع ظاهرة الإرهاب الذي ضرب عدة دول كفرنسا وبلجيكا وألمانيا…».

على الرغم من دعوات اليمين المتطرف المتكررة لطرد اللاجئين، وكذلك محاولات الاتحاد الأوروبي الحثيثة لمنع تدفقهم، عبّر العديد من المواطنين الأوروبيين عن رغبتهم في استقبال اللاجئين، وخرج الآلاف منهم في مظاهرات شعبية، رافضين الإيديولوجية المتقوقعة على الذات، مثلما حدث في لندن ومدريد وبرلين وكوبنهاغن. كما عاد ونشر معهد فورسا استطلاعاً آخر بتاريخ 6 و7 تشرين الأول 2016، أظهر أنه بإمكان رئيسة الحكومة الألمانية الحالية ميركل التي تعتبر داعمة لوجود اللاجئين في بلادها الحصول على تأييد 45% من الناخبين في حال إجراء انتخابات هذا العام.

على أن ما حدث في النمسا خلال الانتخابات التي أجريت أواخر عام 2016، عندما خسر اليميني المتطرف نوربرت هوفر مرشح حزب الحرية الانتخابات أمام ألكسندر فان دير بيلين مرشح حزب الخضر، هو إشارةٌ على أن تيارات عريضةً في أوروبا ما زالت متمسكةً بالخيار الليبرالي كنسقٍ سياسي، وسائرةً على نهج الديموقراطية، ما يعطي إشارةً إلى أنه قد يكون للاجئين حظوظٌ في الحصول على حياة أفضل في أوروبا، في ظل تخوّفٍ من ازدياد التشديد الإجرائي كوقايةٍ ووسيلةٍ يتبعها الاتحاد الأوروبي للحد من توافد المزيد منهم، وأيضاً في ظل التخوّف من عمليات انتقامية قد تقع بحقهم.