طريقة الاستخدام: هذا الفهرس مخصص للشباب فقط، ولا يُنصح باستخدامه من قبل الأطفال أو الكهول أو كبار السن. يجب العودة إلى الفهرس عندما تلتقي بمثقف يخبرك بأحد الأمور التالية: العالم كله شرير، كونوا واقعيين، كونوا عقلانيين، لا تكونوا مثاليين، الوطن أكبر من كل شيء، كلنا أخطأنا، وأشياء من هذا القبيل.
في الأحوال العادية، لا حاجة إلى الفهرس. كل ما سيرد هنا هو بديهيات بسيطة، لا قيمة فكرية لها.
مواد الفهرس:
الواقعية
العقلانية
الموضوعية
الحياد
الوطنية
العلمانية
اليسار
المثالية
على مدى سنوات الثورات العربية، نشط جيش متكامل، حسن التخطيط، سريع التنفيذ، يتكوّن من روائيين وشعراء وقاصّين وصحفيين ومترجمين وإعلاميين ورسّامين ومخرجين وممثلين وسياسيين، عرب وأجانب، أكاديميين وهواة، محترفين ونص نص، في مهمة وحيدة: تثبيط الشباب العربي وإحباطهم لثنيهم عن المساهمة في عملية التغيير الهائلة التي انطلقت من تونس قبل ست سنوات. اليوم، مع تسارُع هزائمنا، يعود جيش المثقفين هذا إلى مهمته بحماسة شديدة، بذرائع مختلفة وبطرق مبتكرة: تارة، تحت عباءة المراجعات؛ وتارة أخرى، تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وطوراً، رحمة بالشعب الذي شبع بهدلة وتعتير، وهلم جراً.
بدايةً، يجب أن نميّز بين الموالين للأنظمة، وبين جيش المضللين: عادةً ما يبدأ المضلل كلامه بأنه ضد الفساد، وضد التجاوزات، وضد توريث الحكم، وضد التعذيب، بل، أحياناً، ضد النظام، لكنه يضيف: ولكن. لا يتخذ المضلل موقفاً على الإطلاق، ولكنه يصرّ دوماً على أنه مع الاستقرار وإيقاف شلال الدم وبناء وطن لكل السوريين، كأنك أنت المسؤول عن شلال الدم، وهذا بالضبط ما يريده المضلل: أن يقنعك بأنك المسؤول، لأنك عارضت النظام.
المضلل زئبقي، بلا رأي ولا لون علني، ولكنه جزء أساسي من ماكينة الأنظمة لقمع الثورات. لذا، سنطلق على المضللين لقب: «الأشباح الخفيّة».
أيضاً، يجب أن نميّز بين التعب الذي أصاب الناس العاديين، وبين الأشباح الخفية: حين تقول لك جدتك، أو جدك، أو أي شيخ في العائلة: «برضاي عليك يا ابني بلا مشاكل»، استمع لهم، وقبّل أيديهم، وتابع عملك. هذا ليس تضليلاً، بل هذا يشكل سبباً إضافياً للمساهمة في عملية التغيير: هذا الذل والاستسلام الذي أصاب الجيل الأكبر، ممن عانوا وقاسوا تحت ظل هذه الأنظمة، يجب أن يدفعنا إلى الانخراط في التغيير.
الهدف الرئيس للأشباح الخفية هو الفصل الكامل بين الشباب المتعلّم من الطبقات الوسطى وبين فقراء الأرياف والطبقات المسحوقة. لذا يستخدم الأشباحُ بكثرة الكلمات التالية التي سنعالجها في متن الفهرس: الواقعية والعقلانية والموضوعية والحيادية والوطنية واليسار والعلمانية والمثالية. وقد ساهمت عشرات الحملات في عملية التضليل هذه: لا أريد القول إن قناة الميادين افتتحت خصيصاً لتضليل الناس، أو أن هذا هو الدور الوحيد لجريدة الأخبار اللبنانية منذ اندلاع الثورة السورية، أو أن بعض تيارات المجتمع المدني وكل جماعات العدالة الانتقالية والأمم المتحدة والجامعة العربية والتيار الثالث و«المعارضة النظيفة»، كانت جزءً لا يتجزأ من عملية التضليل: لن أقول هذا، لأن هذا القول بحاجة إلى دراسة مفصّلة لما أنتجه هذا الجيش على مدى السنوات الماضية، ولكنني سأركّز على استخدام مصطلحات رئيسية ومحورية، يتلاعب بها الأشباح، بقصد تضليل الشباب.
ملاحظتان حول موضوع المصطلحات: أولاً، لا أريد القول إن للغة أهمية استثنائية. يرى بعض الفلاسفة والمفكرين، كمدرسة الوضعية المنطقية ومدرسة فلسفة اللغة العادية، وبعض فلاسفة ما بعد الحداثة، وغيرهم، أن استخدامنا للغة يحكم حياتنا كلها، والأخيرون يتكلمون باستمرار عن «الخطاب» و«السرديات» وأمور مشابهة، وعن أن استخدامك لغة السلطة يعني أنك ما زلت في داخل المنظومة الفكرية لهذه السلطة، وأشياء غريبة أخرى. أنا لا أتفق على الإطلاق مع هذا الرأي. على العكس، أرى مع نعوم تشومسكي وستيفن بينكر وصادق جلال العظم وديفيد هيوم وغيرهم، أن إشارتنا إلى التلاعب بالكلمات هو خطوة تمهيدية، أولية، فقط؛ وأن التغيير الحقيقي هو التغيير على الأرض على الطريقة القديمة الكلاسيكية: انتخابات، ومعارك قانونية، وثورات، وما إلى ذلك.
ثانياً، آلية التضليل المتبعة هي التالية: يتم التلاعب بمعاني الكلمات واستخدامها بطريقة ملتوية، ولكن بأسلوب متثاقف ومقنع، لتحقيق هدف واحد: إقناع الشباب بأن دورهم يجب أن يكون الوقوف على الحياد. بكلمات أخرى، ما يجري هو تقديم نصيحة لاأخلاقية، أي لا تشتركوا في التغيير، واتركوا الطبقات المسحوقة والفقيرة تعاني في ظل الأنظمة، ولكن بطريقة ملتوية متشاطرة.
لكشف هذه الآلية، سنحلل كل من الكلمات بالطريقة التالية: أولاً، سنعطي التعريف العادي المتعارف عليه للمصطلح. ثانياً، سنشرح كيف يتلاعب الأشباح بالمصطلح لتمرير رسالتهم اللاأخلاقية. في النهاية، سنشرح علاقة المصطلح الحقيقية مع الثورات القائمة.
كل من هذه الكلمات والمصطلحات بحاجة إلى معالجة أوفى؛ بعضها سنعالجه لاحقاً في مقالات مستقلة.
عنوان كل فقرة مأخوذ من تعاليم الأشباح الخفية المنتشرة في كل مكان.
كونوا واقعيين
الواقع هو الأشياء الموجودة حولنا: أشجار وأنهار وجبال وسهول وأبنية ونباتات وحيوانات وبشر؛ وهناك واقع اجتماعي: أنظمة مالية وسياسية ولغوية وغيرها.
يقول لنا الأشباح باستمرار: «كونوا واقعيين». ما الذي يعنيه هذا؟
لا شيء على الإطلاق: كل الناس واقعيون بالفطرة؛ حتى الفلاسفة الذين يشككون بوجود الواقع، يتابعون حياتهم اليومية في الواقع مثلنا: يأكلون ويشربون ويغنّون ويحبون ويعملون، ويموتون، في النهاية.
كلا، ما يقوله الأشباح لا صلة له بالواقع ولا بالواقعية.
ما يقصده الأشباح هو نصيحة لا أخلاقية، تتخذ الشكل التالي: الواقع السياسي شديد القسوة والشر، وكل محاولة لتغييره ستؤدي إلى ردود فعل همجية، لذا، نصيحتنا لكم: سلّموا لقوى الشر، ولا تقاوموها: كونوا جبناء وضيعين، واقبلوا هذا الواقع الحقير.
نستطيع، بالطبع، أن نأخذ الموضوع الأخلاقي بجدية، وأن نكون واقعيين جداً، بشكل أخلاقي ثوري:
الواقع أن النظام السوري ضرب الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية؛ أن الطائرات الروسية تدمّر الشمال السوري يومياً بشكل همجي؛ أن سوريا لم تشهد انتخابات ديموقراطية منذ 1963؛ أن التعذيب في أقسام الشرطة المصرية ممارسة منهجية؛ أن القوات السعودية اجتاحت البحرين وتقوم بقصفٍ لا هدف له لليمن؛ أن الحشد الشعبي الشيعي المدعوم من إيران يرتكب جرائم في العراق تعادل جرائم داعش… إلخ.
هذا هو الواقع: لا يوجد في بلادنا إلا مجموعات لصوص ومجرمين تتحكم بالعباد؛ السؤال الأخلاقي هو: هل نقبل بهذا الواقع، أم نسعى لتغييره؟
جواب الأشباح صريح: سلّموا بالواقع المنحط!
كونوا عقلانيين
العقل هبة من الطبيعة، تساعدنا على فهم العالم المحيط بنا، وعلى التغلب على الصعوبات التي تواجهنا. العقلانية تعني ألا نسلّم بالخرافات، وأن نبحث عن أدلة وحجج لدعم نظرياتنا وأفكارنا.
بعض الفلاسفة، خصوصاً جماعة ما بعد الحداثة، يهاجمون العقل: لاحظ أن هؤلاء يكتبون ويأتون بحجج عقلانية لإقناعنا بألا نستخدم العقل: تناقضٌ صارخٌ مضحك. اللاعقلاني، إن كان متسقاً مع نفسه، عليه أن يكون كالصوفي: يرقص ويغني ويكتب الشعر، ولا يستخدم عقله. على العموم، لا يوجد من يأخذ اللاعقلانية بجدية، حتى اللاعقلانيون أنفسهم.
مرة أخرى، نجد أن نصيحة الأشباح، لا صلة لها بالعقل: الأشباح يقصدون بنصيحتهم هذه ما قصدوه بنصيحتهم اللاأخلاقية حول الواقع: قوى الشر مخيفة وجبارة؛ لن تستطيعوا هزيمتها، لذا سلّموا لها وتجنّبوا الاعتقال والموت تحت التعذيب.
هذا، بالطبع، لا علاقة له بالعقلانية، بل بالجبن والشجاعة والغايات الأخلاقية التي نسعى إليها: بعض الناس تريد أن تحيا في ظل السيسي أو بشار أو القذافي؛ وبعضهم يريدون حياة أفضل، لا طغاة فيها.
العقلانية للطرف الثاني تعني البحث عن أفضل السبل للتخلص من الطغاة، فقط لا غير.
كونوا موضوعيين، كونوا حياديين
الموضوعية تقتضي أن ينظر المرء إلى الجوانب المختلفة للمسائل المطروحة عليه، دون الانحياز إلى أهوائه الشخصية أو إلى انتمائه الديني أو الثقافي أو الاجتماعي. سيخبرك جماعة ما بعد الحداثة وغيرهم من الفلاسفة أن هذا مستحيل. لا تستمعوا إليهم، هؤلاء ليسوا جديين: قولهم هذا نفسه إما أن يكون موضوعياً، وبالتالي هم يناقضون أنفسهم؛ أو أن يكون غير موضوعي، وبالتالي ليس ملزماً لنا.
ما الذي يعنيه الأشباح حين يقولون لنا كونوا موضوعيين؟ كالعادة، لا يقصد هؤلاء الموضوعية الواردة أعلاه والمتعارف عليها؛ بل يقصدون شيئاً آخر مختلفاً تماماً: يريدون أن نساوي بين طرفي الصراع في سوريا: بين الناس التي أُجبرت على ترك منازلها في ريف دمشق، وبين الميليشيات الشيعية التي أجبرتها على النزوح؛ بين الطيار الروسي الذي يقصف ريف إدلب، وبين الأب الذي فقد أولاده في هذ القصف؛ بين النازحين في المخيمات وبين الجيش السوري الذي أجبرهم على النزوح. هذا مطابق «لموضوعية» الأوروبيين بخصوص القضية الفلسطينية: المساواة بين الفلسطينيين المحاصرين في غزة وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي المسؤول عن هذا الحصار.
هذه ليست موضوعية على الإطلاق، بل كذب وتجنّي صارخ على الحقائق وعلى الموضوعية: الموضوعية تقتضي فقط أن ننظر إلى الأرقام: تدمير المدن السورية على يد الطيران السوري والروسي، وعدد المعتقلين، والشهداء تحت التعذيب، يجعل معارضتنا للنظام واجباً أخلاقياً. أيضاً، كما تفعل معظم المنظمات الحقوقية السورية والدولية، يجب الاعتراف بالانتهاكات التي ترتكبها قوى المعارضة المسلحة، والفساد والشلل الذي يصيب كافة الأجسام السياسية المعارضة: ويجب مقارنة الطرفين، كي نؤكد لأنفسنا مرة أخرى حجم التخريب الهائل الذي يرتكبه النظام. هذه هي الموضوعية.
الحياد مفهوم مختلف تماماً عن الموضوعية: الحياد هو أن تحصل على الأرقام والوقائع كلها، ثم تقرر أنك على الحياد في قضية أخلاقية: كالربيع العربي، والقضية الفلسطينية، والقضية الكردية في تركيا: في كل من هذه الأمور الانحياز إلى المستضعفين، ومعارضة السلطات هو الواجب الأخلاقي. الحياد الأخلاقي هو، في جوهره، انحياز للقتلة.
بكلمات أخرى: كونوا موضوعيين، بالطبع؛ لا تكونوا حياديين، أبداً!
كونوا وطنيين
قضية الوطنية معقدة قليلاً: لا أجد فيها الكثير مما يجذبني، وأفضّل دوماً الكلام عن الحرية والكرامة والمساواة بين الناس، لا عن الوطن، الذي هو، في النهاية، مفهوم وهمي، يُستخدَم، في أغلب الأحيان، لتبرير العنف والظلم.
هناك رأي فلسفي، ألماني بشكل رئيس، ويتبناه كل الوطنيين والقوميين بأشكال مختلفة، يقول إن الوطن فكرة سامية أعلى من الناس وفوقهم، وعلى الناس أن يخدموا الوطن ويضحوا لأجله، وأن يعملوا على إعلاء شأنه ورفعته. عادةً، النشيد الوطني لكل دولة يجسد بعض هذه الأفكار الغريبة.
الأشباح يتبنون هذا الرأي، ويبالغون في تعظيمه؛ لذا يكررون باستمرار: «كونوا وطنيين؛ الوطن أكبر من المعارضة والموالاة. نرجوكم، أحبوا الوطن».
فلنترجم هذا الكلام إلى معناه الحقيقي: تجاهلوا التعذيب في السجون وغياب الحريات والانتخابات والديموقراطية ومستويات الفساد الخيالية وانهيار قطاعات الصحة والتعليم؛ تجاهلوا كل هذا، وابقوا مع هذه الأنظمة: إن عارضتم النظام، سيقوم النظام بتدمير الوطن فوق رؤوسكم: لذا، اصمتوا.
لا حاجة إلى الكلام عن تهافت هذا المنطق. ولكن يجب الكلام عن تهافت المنطق الأعمق، منطق الوطن فوق المواطن.
بعض الأشباح، في الحقيقة، على قناعة بأن الوطن أهم من المواطن، وبأن سوريا، هذه الفكرة المجردة الفارغة، أهم من حياة السوريين اللذين ماتوا تحت التعذيب، وأهم من أطفال دير الزور الذين يموتون جوعاً، أو يُقتلون في قصف الروس والنظام وداعش.
أعتقد أن فكرة الوطن المجردة خطيرة جداً، فارغة، ومتناقضة: الأرض التي نعيش فوقها تتكون من المواطنين، وكرامة الوطن هي مجموع كرامة المواطنين: لا يوجد أي شيء أعلى من كرامة الناس: سوريا، بكل ما فيها، بكل تاريخها وبكل آثارها وطبيعتها ومستقبلها، ليست بأغلى من شابٍ في سجون الأسد أو داعش، أو من طفل قُتل في القصف الروسي.
كما أن الوطنية عادةً ما تزرع الأحقاد والكراهية تجاه الشعوب الأخرى. المطلوب هو التعاون مع الشعوب، وليس بالضرورة مع الأنظمة: في أي نظام أخلاقي حقيقي، محبة الجيران يجب أن تكون على رأس القائمة: الأتراك والفرس، اللبنانيون والأردنيون والعراقيون والفلسطينيون، وأهلنا في الخليج العربي وفي مصر المحروسة والمغرب العربي، والباكستانيون والصوماليون، والإنكليز، والروس والهنود والصينيين… إلخ. كلهم يعنون لنا ما يعنيه أي مواطن سوري، ونهتم بكرامتهم كما نهتم بكرامة أي مواطن سوري.
هذه هي الأخلاق التي تبني، لا تعصب وشوفينية الوطنيين.
كونوا علمانيين
(هذا ينطبق على جزء محدد من خطاب الأشباح، ويتوجه إلى العلمانيين السنة والأقليات بشكل رئيس)
العلمانية مفهوم لا يُستخدم في الفلسفة كثيراً؛ وأنا على العموم لا أجده مفيداً. ولكن يجب شرحه هنا: العلمانية تقتضي فصل الدين عن الدولة، ويتم هذا الأمر بأشكال مختلفة: هناك علمانية متشددة تحارب الدين، ونموذجها هو الاتحاد السوفييتي، وبشكل أخف، العلمانية الفرنسية؛ وهناك علمانية منفتحة على الدين، كما هو حال إنكلترا والدول الاسكندنافية وأمريكا، حيث ترعى الدولة الأديان المختلفة، دون أن تعاديها. في كل هذه الحالات، هناك تناقضات وإشكاليات في علاقة العلمانية مع الإسلام والمسيحية واليهودية.
بعض الأشباح يتمسكون بالعلمانية، ولكنها مختلفة عن المعنيين الواردين أعلاه: العلمانية عندهم تعني الكلام عن جرائم داعش وغيرها من التنظيمات السنية حصراً، وتجاهل جرائم الحشد الشعبي الشيعي أو الحوثيين أو حزب الله وغيرهم؛ أي بكلمات أخرى، العداء للطائفة السنية فقط، والتسامح مع الطوائف الأخرى.
لا نجد الكثير هنا مما يمكن قوله: هذا تحريف صارخ لمعنى العلمانية.
العلماني يستطيع أن يدعم أنظمة تسلطية تكره الأديان كلها، كما هو حال الاتحاد السوفييتي السابق، أو بعض الممارسات الفرنسية: لا أجد أي تناقض منطقي أو مفهومي بين العلمانية والتسلط؛ ولا يوجد ما يربط العلمانية، بالضرورة، بقيم الحرية: ولكن لا يستطيع حتى هذا العلماني أن يدعم أنظمة تعتمد على الدين وترتكب جرائم طائفية، كما هو حال أنظمتنا وأشباحنا.
باختصار، على المرء أن يكون علمانياً منفتحاً: علينا أن نعادي العلمانية التسلطية لأنها ضد الحرية؛ أما ما يقول به الأشباح فهو تشويه لشكلي العلمانية لتبرير جرائم طائفية.
كونوا يساريين
(هذا ينطبق على جزء محدد من خطاب الأشباح، ويتوجه إلى من له ميول يسارية فقط)
اليسار تيار فكري سياسي يقول إن عالمنا مليء بالظلم، والسبب الرئيس هو طبيعة النظام الاقتصادي القائم على الظلم: الرأسماليون يكدسون الأموال على حساب الناس، بطريقة غير عادلة وغير مستحقة.
اليمين يرى أن النظام الاقتصادي عادلٌ عموماً، ولا مشاكل عميقة فيه.
هناك من يقول إنه ليس في اليمين وليس في اليسار، ويكتب ليسخر من أي محاولة لتغيير العالم: يقول هؤلاء إنهم ليسوا يمينيين، أي إنهم لا يوافقون على النظام الاقتصادي؛ ولكنهم ليسوا يساريين أيضاً، أي لا يريدون تغيير هذا النظام نحو نظام أكثر عدلاً كما يريد اليسار. مما يجعلنا في حيرة دائمة: ما الذي تريدونه يا جماعة؟ لم يجد أحدٌ أي إجابة حتى الآن، ولن يجد!
الأشباح تحاول أن تتخفى في لبوس يساري، سائلة كل حين: «كيف تكون يسارياً وتقف مع أمريكا وثورات مدعومة أمريكياً؟».
يحاول الأشباح ان يشوّشوا على الناس، بالقول إن أمريكا هي الإمبريالية المتوحشة الهمجية: أي المطلوب ألا ترى الفساد الهائل في هذه الأنظمة العربية، والتي تقوم جميعها على ليبرالية اقتصادية متوحشة فاسدة. بالطبع، أمريكا هي البلد الرأسمالي الأول، واليساري سيكون ضد نظامها الاقتصادي. ولكنه، في الوقت نفسه، سيكون ضد الأنظمة الليبرالية الفاسدة هنا، كالنظام السوري والمصري والسعودي وغيرها.
لا تكونوا مثاليين
(هذا ينطبق على كل أنواع الأشباح الخفية، بلا استثناء)
مصطلح المثالية له ثلاثة معاني مختلفة في الفلسفة: الأول، هو المعنى المستمد من نظرية أفلاطون في المعرفة والوجود، ولا يعنينا هنا. الثاني مستمد من نظريات من لا يؤمن بوجود عالم خارجي عنه، وهو ما يدعونه المثالي، وأشهر الأمثلة القس بيركلي. المعنى الثالث، الذي يعنينا هنا، هو الأخلاقي: المثالية تعني البحث عن عالم مثالي، يتمتع فيه كل الناس بحريتهم، ويحصلون على ما يحتاجون إليه، لا قمع فيه ولا ظلم.
هنا حقيقةً يتلخّص كامل الموقف الأخلاقي للأشباح؛ هذا أهم وأصدق ما يقولون به: لا تكونوا مثاليين.
دعونا نترجم هذه النصيحة إلى ما تعنيه في الحقيقة: لا تكونوا مثاليين: كونوا سفلة، هل سمعتم بقصة تعذيب في السجون السورية أو المصرية؟ شككوا فيها: «كيف عرفتم بهذا التعذيب؟» منظمات حقوق الإنسان؟ كونوا أوباشاً: شككوا بهذه المنظمات وبتقاريرها؛ هل وصلتكم أخبار التجويع في حلب ودير الزور والغوطتين؟ كونوا منحطين: اتهموا المعارضة بهذا التجويع، المعارضة نفسها التي حوصرت، والتي ينتمي أهلها إلى الناس الجائعين! هل سمعتم بغياث مطر؟ كونوا خسيسين: اسألوا ما الذي يفعله السفير الأمريكي في عزاء الشهيد، ولا تسألوا عن مقتله تحت التعذيب؛ هل تذكرون حمزة الخطيب؟ كونوا وضيعين: لا تسألوا عن تفاصيل تسليم جثته لأهله وما عليها من آثار تعذيب، بل اتهموه بأنه ليس في الثالثة عشرة بل في السابعة عشرة، كأن هذا يبرر تعذيبه بهمجية! لا تكونوا مثاليين: اتبعوا المثل الشامي الشهير: «إزا شفت الاعمى طبّو، مانك أكرم من ربو»، أو المثل المصري الأصيل: «لو وقع بيت أبوك، خودلك منو طوبة»، أو المثل العربي العام: «كل مين أخد أمي، بصير قلّو عمّي».
لا تكونوا مثاليين: كونوا بلا أخلاق، مثل الأشباح الخفية!
أما التعاليم الأخلاقية فهي على العكس تماماً. تتلخص الأخلاق في كون المرء مثالياً ساذجاً، يسعى إلى تغيير هذا العالم البشع إلى عالم أفضل وأكثر عدلاً وحرية وكرامة.
التعاليم الأخلاقية هي التعاليم المثالية، وتقول ما يلي: كونوا مثاليين جداً، مثاليين وحالمين وضائعين في كل أنواع اليوتوبيا الممكنة والمستحيلة والفنتازية! كونوا حالمين كمراهقات ينتظرن تحررهن من سطوة العائلة؛ كجندي يحلم بالزنابق البيضاء؛ كطفل لا يعرف معنى الموت والكذب والمال؛ كمراهق نزل الشوارع متظاهراً في 2011، مؤمناً بان المستقبل رهن مشيئته وحده؛ كطالب جامعي في السنة الأولى، يعتقد بأنه سيتعلم الكثير، وسيجد عملاً يكفل له حياة كريمة؛ كقطة تموء بدلال، واثقة من أن صاحبتها ستطعمها ما لذّ وطاب؛ كجدّة تحمل حفيدها بيديها المتعبتين بعروقهما البارزة الوردية والزرقاء، لتقبله داعيةً الله ألا يصيبه مكروه؛ كالمعتقلين اللذين دخلوا السجون لتأمين حياة أفضل لنا؛ كالمفقودين اللذين اختفوا وهم يبحثون عن مستقبل آخر؛ كالشهداء اللذين قُتلوا وكلهم ثقة بأننا لن نخذلهم.
لا يوجد منطقة وسطى بين المثاليين والأشباح: إما أن تسعى إلى مستقبل أفضل، أو تقبل بكل هذا الانحطاط المحيط بنا.
قضية أخلاق
بالمحصلة، يتلاعب الأشباح بمعاني كل المصطلحات الرئيسية في الفلسفة السياسية، ويشوهونها، للوصول إلى حكم أخلاقي منحط: استسلموا للأنظمة، ولا تشاركوا في عملية التغيير.
اليوم، الثورات العربية تمرّ بمرحلة صعبة جداً: الاحتلال الروسي-الإيراني في سوريا، والغزو السعودي للبحرين وقصف اليمن، تربع عبد الفتاح السيسي وريث القذافي المرح على عرش مصر… إلخ.
لا أعرفُ ما هي السبل الممكنة اليوم لمتابعة عملية التغيير؛ هذا موضوع شديد التعقيد يحتاج إلى دراسة مفصّلة في كل بلد، وللإمكانيات المتوفرة اليوم لإعادة تنظيم أنفسنا. يرى البعض أن الثورات هُزمت، وقد يكون هذا صحيحاً. لكن حتى هذه الهزيمة لا تعني أن ننهزم أخلاقياً. الحد الأدنى من الواجب الأخلاقي يقتضي أن نكشف تلاعب الأنظمة ونفاقها، وألا نستسلم لحملة التثبيط والإحباط الكبيرة التي تقوم بها الأنظمة، مستخدمة جيش الأشباح الخفية.
نرجو الاحتفاظ بهذا الفهرس في متناول اليد عند الاستماع إلى نشرات الأخبار وقراءة الجرائد.
الآثار الجانبية: هذا الفهرس للاستخدام الشخصي. لا يجوز، بأي حال من الأحوال، أن تدخل في نقاش مع الأشباح الخفية.
صاحب هذا الفهرس يعلن أنه غير مسؤول عن آثار هكذا نقاش: إقياء حاد وصداع شديد وارتفاع في ضغط الدم وتسارع ضربات القلب؛ وفي بعض الحالات، الرغبة بالانتحار.
انتهى الفهرس