تنتشر عشرات المواقع الأثرية في محافظة دير الزور على جانبي الفرات، منها قرقيسيا وهي واحدة من أقدم مدن التاريخ، وآثار حضارة ماري، ودورا أوروبوس وحلبية وزلبية ورحبة مالك بن طوق، وغيرها كثيرٌ من المواقع الأثرية التي خلفتها الحضارات المتعاقبة، وهو ما جعل المنطقة قبلةً للمستكشفين، وتجار ومهربي الآثار أيضاً.
بدأت الكشوف الأثرية الكبرى منذ مطلع القرن العشرين، وظهرت للعيان العديد من المواقع الغنية بلقاها الأثرية، التي نُقِلَ كثيرٌ منها إلى متاحف دمشق، وقبلها إلى عشرات المتاحف حول العالم.
هذا الغنى والتعدد جعل العيون مفتوحة على تلك المناطق التي تشكل كنزاً لمن يعرف كيف يتعامل معها ويستخرجها، وخلال فترة حكم نظام الأسد كانت تلك المناطق تعاني إهمالاً كبيراً لقطاعها السياحي كغيره من قطاعات الخدمات والبنية التحتية، وفي الوقت ذاته شهدت تلك المواقع أعمال سطو كبيرة من قبل من يبحثون عن الثراء الفاحش، وذلك رغم وجود قوانين تمنع التنقيب عن الآثار وتجرم العمل بها، لكن هذه الأعمال لم تتوقف طيلة تلك الفترة بل كانت تجري بصورة مستمرة. كثيرون ممن عملوا في هذا المجال كانوا متفقين على أمر واحد، وهو أن هناك جهات كبرى في النظام كانت تدعم تلك العمليات، وتعمل على شراء القطع الأثرية ومن ثم بيعها وتسويقها خارج البلاد.
هؤلاء الأفراد الذين تمكنا من التحدث إليهم لا يعرفون الكثير من الأسرار عن الجهات التي تعمل على تسويق وبيع تلك اللقى والقطع الأثرية، لكنهم يبدون متأكدين من شيءٍ واحدٍ فقط، وهو أن هناك أشخاص في مناصب عليا في النظام كانوا يشرفون على تلك الأعمال، بل ويقدمون الحماية لبعض العاملين فيها.
أبو محمد، وهو اسم مستعار لشخص عمل كثيراً في هذا المجال يقول:
«كان العمل محفوفاً بالمخاطر، فأنت لا تعرف الجهة التي تتعامل معها، بل وربما كان الأشخاص الذين تتعامل معهم يحملون أسماء وهمية. العمل بمجمله كان يحمل طابع السرية والاستكشاف، ويمتاز بالمجازفة والمخاطرة، حيث تستمر عمليات البحث زمناً طويلاً وقد تكون نهايته مزعجة فلا تجد ما تبحث عنه.
كانت أعمال الحفر غالباً في الصيف، ودائماً في الليل في مناطق بعيدة عن السكن، وتكون في موقع معين من المواقع المعروفة سابقاً بتواجد لقى أثرية فيها، أو يتم تحديدها بعد البحث في الخرائط من قبل التجار والمهربين.
كان الاعتماد على معلومات قليلة من أشخاص أو خرائط قديمة ذات منشأ عثماني في الغالب، وفي السابق كان البحث مضنياً بسبب الاعتماد على معلومات منقولة وغير دقيقة، لكن ظهور الانترنت ووسائل التواصل خفف من هذه الأعباء، خاصة بوجود مواقع تهتم بمثل هكذا أعمال، وكذلك بتوفر أجهزة جديدة لكشف المعادن وغيرها من التجهيزات».
كما يتحدث أبو محمد عن مفردات خاصة يستخدمها الذين يعملون في هذا المجال، وعن سؤاله عن كيفية تصريف ما يجدونه، تحدث بأن هناك تجار يقدمون إلى المنطقة ويتم التواصل معهم، هم من يشترون تلك اللقى وبأسعار زهيدة مقارنة بأسعارها العالمية بسبب الخوف من الجهات الأمنية، والتي أكد أن لها دوراً كبيراً في هذه العمليات من خلال عملاء، كما أشار إلى أن هناك وسطاء يعملون على نقل هذه اللقى إلى من يخرجها خارج البلاد.
عند سؤاله عن تلك الشخصيات التي كانت تقف خلف تهريبها خارج البلاد، أجاب بأنه لا يعرف أسماء محددة: «فقد كان العمل أشبه بسلسة، فأنت تعرف من يتعامل معك بشكل مباشر، ولا تعرف من يشغّله، وهكذا، لكنها لا بد أن تكون شخصيات ذات نفوذ كبير بسبب صعوبة العملية وخطورتها، حيث يتم تسويقها وتظهر صورها على مواقع الإنترنت، ويظهر أنه يتم بيعها بأسعار خيالية».
يضيف أبو محمد: «هناك تجار يتواجدون في الغالب مع مجموعات البحث والحفر، وهم الذين يحددون الأمكنة، وإذا لم يكن التجار متواجدين، يتم إخفاء اللقى ريثما يتم التواصل مع سماسرة يتواصلون بدورهم مع تجار… أصحاب العمل الواحد يعرفون بعضهم بعضاً».
يبدو واضحاً من كلام أبي محمد أن الأشخاص الذين يقومون بأعمال الحفر، لا يستطيعون العمل بمفردهم ولا الاستفادة مما يعثرون عليه دون السماسرة والتجار، ولكن إذا كان هناك جهات تحمي هذه العمليات وتديرها، فهل كانت هذه الجهات تحمي العاملين في هذا المجال إذا وقعوا في يد السلطات؟ يجيب أبو محمد: «طبعاً هناك أشخاص متنفذون لا يمكن العمل دونهن، لكنهم لا يقدمون الحماية عندما يقع الحفارون في قبضة الشرطة، فقط يساعدون في بعض الأشياء لكنهم مثل باقي المافيات، عندما تقع فإنهم يديرون لك ظهورهم ويتبرؤون منك، وقد حصل ذلك مع كثيرين من الذين يعملون في البحث عن الآثار والحفر، ولكن ليس مع السماسرة الذين تكون حمايتهم أكبر. بعض الذين ألقي القبض عليهم تم التحقيق معهم ومن ثم عوقبوا بالسجن، وأفرج عن آخرين لعدم وجود أدلة».
*****
بعد انتقال الثورة السورية إلى الطور المسلح وما رافقه من فوضى في مناطق كثيرة، تعرض متحف دير الزور للنهب وفقدت مقتنياته في ظل تبادل التهم بين الفصائل التي سيطرت على المنطقة، والتي تتهم النظام بأنه نقل كل محتويات المتحف إلى دمشق أو قام بتصريفها بطريقة أو بأخرى، وبين النظام الذي يتهم تلك الفصائل بسرقتها، لكن المرجح أن المتحف تم إفراغه مبكراً.
علاء شابٌ لديه خبرة في القطع الأثرية وتجارتها من خلال عمله مع البعثات الأثرية الأجنبية، التي كانت تنقب في بعض المواقع في ريف دير الزور لعدة سنوات، يروي قصة قطع أثرية مهربة من متحف دير الزور القديم. يقول علاء: «كانت لدي قطعتان أثريتان على شكل أساور فضية عليها نقوش وأرقام تدل على أنها تعود لتاريخ 1200م، مصدر تلك القطع هو متحف دير الزور القديم في حي الحويقة في مدينة دير الزور. وصلتني عن طريق أشخاص في النظام، بعد فحص القطع من قبل خبراء الآثار تبين أن القطعتان مزيفتان، مما يرجِّحُ رواية أن جهات في النظام كانت تعبث في القطع الأثرية الموجودة في المتاحف السورية، وتتاجر بها عن طريق استبدالها بقطع مشابهة لها تماماً لكنها غير حقيقية».
الفوضى وصلت أيضاً إلى المواقع الأثرية، حيث لم يكن هناك رقابة عليها وأصبحت مباحة للجميع، وأصبح مشهد البحث فيها مشهداً طبيعياً. بعض الفصائل حاولت حماية المواقع التي تقع في مناطق نفوذها، ونجحت إلى حد ما، في حين نُهِبَت مواقع أخرى. كذلك كان لسيطرة بعض الفصائل التي أفتت بجواز البحث عن اللقى، مثل أحرار الشام وجبهة النصرة، أثر في التشجيع على هذا الأمر الذي أصبح عمل من لا عمل له.
في فترة سيطرة النصرة وأحرار الشام على بعض المناطق، حاول أحد مراسلي القنوات الفضائية العمل على تقرير عن موضوع الآثار في دير الزور، وقد فشل في إنجاز تقريره. يقول هذا المراسل الذي رفض الكشف عن اسمه: «حاولتُ الدخول إلى مناطق البحث والتنقيب لكنني لم أستطع، خاصة عندما شاهدني العاملون فيه أحمل الكاميرا والمايكرفون، إذ كانوا يهربون مني وتعرضت لمضايقات منهم. عندها توجهت إلى قائد إحدى المجموعات المقاتلة القريبة وكان يتبع لفصيل إسلامي وقتها، وقد حذرني من التعامل مع هؤلاء وقال إنهم مسلحون، كما أخبرني أنهم يشاهدون عمليات البحث العشوائي والتخريب لكنهم لا يمنعوها بسبب عدم وجود فتوى بمنعهم كذلك، فهم لا يرون مانعاً من البحث عنها طالما تعود بالنفع على الناس».
هكذا كان جواب القائد العسكري، وكانت نتيجته أن المراسل لم يستطع الدخول إلى مناطق البحث، لكنه شاهد الذين يبحثون وهم يحملون أدوات بدائية مثل الرفوش والفؤوس وغيرها بحثاً عما قد يجدونه في باطن الأرض.
*****
بعد سيطرة تنظيم الدولة شهدت الآثار والمواقع الأثرية في دير الزور انتهاكات شتى، وتعرضت القطع الأثرية للسرقة والتهريب إلى خارج سوريا، وقام التنظيم بإدراج المواقع الأثرية والآثار والثروات المدفونة في أملاك «الدولة الإسلامية»، وردها إلى ديوان ينظم آليات استخراجها وتسويقها والاستفادة منها أسماه ديوان الركاز. والركاز في الفقه الإسلامي هو ما دفنه أهل الجاهلية، أياً كان.
،مرر التنظيم من خلال هذا الديوان العديد من الفتاوى التي تخص التعامل مع الآثار، وحلل من خلال إحداها، حسب نشطاء مهنة التنقيب عن الآثار والإتجار بها معتبراً إياها لقية يحق الانتفاع بأثمانها، وقد حدد التنظيم آليات التنقيب عن الآثار عبر قوانين أصدرها ديوان الركاز، ونشرها ديوان الحسبة التابع للتنظيم.
من يريد التنقيب عليه أن يتقدم بطلب للديوان أو لأحد أمنيي الدولة، وبعد أخذ التصريح يحق له البدء بالحفر والتنقيب في المواقع واستخراج القطع الأثرية، شريطة أن يكون للتنظيم حصة من نتاج التنقيب قدرها خمس قيمة المادة المستخرجة.
أبو مأمون، أحد الذين عملوا في التنقيب عن الآثار في ريف دير الزور، والخارج حديثاً من المنطقة، يروي ما عايشه في عمله في المواقع الأثرية بدير الزور في ظل داعش.
يقول أبو مأمون: «لم يقف التنظيم عند منح الإذن بالتنقيب للأشخاص فقط، بل شكل ورش عمل مؤلفة من موظفين عنده ممن لديهم القليل من الخبرة في مجال التنقيب مع بعض عناصره، حيث تعمل هذه الورش لساعات عمل محددة وعلى شكل مناوبات، وليس لها أي ضوابط في عمليات التنقيب، إذ إنها تستخدم في بعض عمليات التنقيب الآليات الثقيلة (كالبلدوزر والحفارات الكبيرة) لحفر المواقع، كما حدث في قلعة الرحبة الأثرية في مدينة الميادين، حيث استخدم حفارة كبيرة متجاهلاً أي قيمة تاريخية للموقع، وغير آبه بالضرر الذي سيصيبه. وفي بلدة بقرص التي تبعد 10 كم عن مدينة الميادين، استُخدمت أيضاً الحفارات في التنقيب في المقبرة الداوودية في الموقع الأثري للبلدة، بعد أن وجد بعض الأشخاص جراراً فخارية مملوءة بالذهب».
الجدير بالذكر أن التنظيم تلاعب بالفتاوى التي تخص قضية الآثار، فتعامل مع القطع الأثرية الكبيرة التي يصعب تهريبها وبيعها على أنها إرث للكفار، وقاموا بتفجيرها مثل ما فعلوا بقبر الملك في موقع ماري الأثري في بلدة الصالحية بالريف الشرقي من محافظة دير الزور. بينما غضوا الطرف عن بعض التماثيل الصغيرة ذات القيمة المالية العالية، فأحلّوا بيعها والاستفادة من أموالها.
ويعدُّ ذلك محرماً شرعاً، إذ يتفق علماء المسلمين على أن ركاز الجاهلية المباح هو من الذهب والفضة والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة التي لا تكون على شكل تماثيل ذات أرواح، وذلك تأسيساً على الحديث النبوي المتفق عليه: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميته والخنزير والأصنام».
كشفت بعض القطع المهربة من دير الزور كذب التنظيم وتحايله على الشرع الإسلامي، فكانت من بين القطع المهربة تمثال أثري لرأس بوم، ومجسم ذهبي صغير لأسد، وتمثال أثري من الذهب على شكل سمكة، وكلها من وجهة نظر الشرع الإسلامي أصنامٌ يحرّم بيعها.
يفيد من تواصلنا معهم من مناطق سيطرة التنظيم أن الأخير يعتمد في تصريفه للقطع الأثرية المستخرجة على مهربين يتعامل معهم، يقومون بتهريب القطع وبيعها إما داخلياً في دمشق، أو تهريبها خارج سوريا عن طريق الحدود إلى تركيا. يسهّل التنظيم لهؤلاء المهربين العبور عن طريق إذن يخوّل حامله المرور من الحواجز دون تفتيش، وصولاً إلى النقاط الحدودية، لينتقل بعدها إلى دمشق أو الأردن أو تركيا لتصريف آثار الفرات المنهوبة.
تعرضت ضفاف الفرات وآثار الحضارات التي قامت قربها لعشرات أعمال الغزو والنهب والتخريب عبر التاريخ، ولعل السنوات الأخيرة تكون قد حملت أوسع أعمال تخريب ونهب للإرث الحضاري في تاريخ منطقة، وهو ما سيكون علينا أن ننتظر نهاية الحرب وقيام نظام حكم ذي شرعية وصدقية، كي نعرف حجمه ومدى إمكانية إصلاح بعض نتائجه.